حاول الإسلام ـــ في القرآن الكريم، أن يعطي اليأس مفهوماً دينيّاً يصل به إلى مستوى الكفر بالله.
فمعنى أن تؤمن بالله، أن يظلّ الأمل يبعث في نفسك اخضرار الحياة، ومعنى أن تيأس، أنّك تعيش الكفر بالله في أعماق ذاك، وإن كنت تعلن كلمة الإيمان بلسانك.
أمّا كيف يكون ذلك، فسنحاول التعرُّف إليه من خلال الآيات الكريمة:
{ يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }[يوسف: 87].
{ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ }[الحجر: 51 ـــ 56].
فنحن نلاحظ في البداية أنَّ الظروف التي أحاطت بالقضية التي تحدّثت عنها الآية الأولى، لا تشجِّع على الأمل من خلال الوقائع والأحداث التي تجسّدت فيها، انطلاقاً من الرواية التي مثّلها إخوة يوسف بشكل مسرحيّ مثير يبعث على الاطمئنان، إلى المدّة الطّويلة التي يُقدِّرها بعض المفسّرين بعشرين سنة دون أن يأتي عن يوسف أيّ خبر من قريب أو بعيد، الأمر الذي يجعل موضوع الأمل بوجوده وعودته فكرةً خياليّة تعيش في نطاق الآمال والأحلام اللّذيذة البعيدة.
ولكنَّ ذلك كلّه لم يمنع يعقوب أن يعيش الأمل في مثل الوحي الدّاخليّ الذي ينبع من إيمانه، حتّى ليحسّ معه بطعم الحقيقة في روحه وكيانه، فيبدأ في تذكّر يوسف في أكثر من مناسبة.
فنراه في بعض الحالات يقول: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى الله أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }[يوسف: 83]، الأمر الذي يدلّنا على أنَّ اليأس لم يتسرَّب إلى وجدانه، ولكن اللَّوعة لا تزال تثور في داخله كنتيجةٍ للإحساس ببعد الأمل وصعوبته، كما تشير إليه الآية الكريمة.
{ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ }[يوسف: 84 ـــ 86].
فهو يثير الحزن واللَّوعة في نفسه أمام الله ليهبه الطّمأنينة والسّلام الرّوحيّ، والإيحاء الذاتي بالفرج القريب، حتّى لكأنّه ينظر إلى المستقبل يشرق أمامه بعد ذلك، في إشراق روحيّ رائع يغمر قلبه، فتنطلق كلماته بالأمل القريب الّذي يستروح فيه روح الحياة من جديد، وكأنّه الحقيقة الماثلة أمامه في صدقٍ وإيمان.
{ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ }[يوسف: 94].
وكان يخاف من لومهم وتأنيبهم، لأنّهم لم يرتفعوا إلى مستوى الإيمان الّذي يرتفع إليه، ولم يعيشوا مع روح الله الذي يغذّيه بالأمل كما عاش. ولهذا، بادروه بهذه الكلمة اليائسة الخانقة: { قَالُواْ تَالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ }[يوسف: 95].
كيف حدث هذا كلّه؟
هل هناك تعليمات معيّنة ووحي خاصّ من الله ليعقوب كما يحاول بعض المفسّرين أن يفترضوا؟ أو أنّ القضيّة قضيّة الإيمان الذي يظلّ يزرع اخضرار الحياة في نفس الإنسان؟
إنَّنا نميل إلى الفرض الثاني، انطلاقاً من طبيعة القضيّة ومن أوضاع يعقوب، ومن تركيزه على رفض عنصر اليأس باعتباره عنصراً من عناصر الكفر والضّلال.
أمّا في الآيات الأخرى التي حدَّثتنا عن قصّة إبراهيم مع الملائكة الذين وفدوا إليه رسلاً مبشِّرين من قِبَل الله بغلامٍ حليم، فأنكر عليهم الفكرة في البداية على أساس القوانين الطبيعيّة التي تمنع حدوث الولادة لمن كان في مثل سنّ إبراهيم وعمر زوجته الّتي تجاوزت الحدّ الطبيعيّ الذي تحمل فيه المرأة، كما تشير إليه بعض الآيات الكريمة في سورة هود: { وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ }[هود: 71 ـــ 73].
فالقضيّة لا تشجِّع على الأمر، على الأقلّ من زاوية النظرة العاديّة التي تخضع للقوانين المألوفة للأشياء.
ولكنّنا نلاحظ أنَّ الملائكة أثاروا أمامه قضيّة اليأس والقنوط، وأوحوا إليه بأنَّ هذا الموقف يمثّل اليأس بعينه من رحمة الله، فلم تكن البشارة على أساس الوضع المألوف، بل هي خاضعة للقدرة الإلهيّة التي تتضاءل الحدود والقوانين المألوفة أمام قوّتها اللامتناهية.
وهكذا رأينا إبراهيم يرجع إلى القضيَّة في إطارها الإيمانيّ، فيقرّر بصورة لا تقبل الشّكّ بأنَّ الموضوع أصبح مختلفاً من خلال هذه النظرة التي تتجاوز القوانين الطبيعيّة إلى الآفاق الواسعة لقدرة الله تعالى، فأطلقها قاعدةً عامّة للحياة، توقظ الأمل في نفس الإنسان عندما يختنق باليأس أمام الواقع المنظور، لتربطه بالواقع غير المنظور الّذي تتحطَّم أمامه الحواجز وتتلاشى القوانين؛ قال: { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ }[الحجر: 56].
ففي كلا الموقفين، نجد اليأس يفرض نفسه على الإنسان في ظلّ الوقائع القاسية والقوانين المألوفة، ومع ذلك، يأتي الأمل من خلال الإيمان، ليجعل النفس تعيش في جوّ الانفتاح والطّمأنينة أمام رحمة الله.
كما نلمح الأساس الدّيني في رفض اليأس في حديث إبراهيم ويعقوب، اللّذين اعتبرا اليأس كفراً، والقنوط ضلالاً، وكلاهما ينطلقان من منطلقٍ واحدٍ ويرجعان إلى أساسٍ واحد...
أمّا كيف نعتبر اليأس كفراً وضلالاً، فهذا ما يشير إليه الفخر الرازي في تفسيره الكبير (ج18 ـــ ص199) بقوله: "واعلم أنَّ اليأس من رحمة الله لا يحصل إلّا إذا اعتقد الإنسان أنّ الإله غير قادر على الكمال، أو غير عالِم بجميع المعلومات، أو ليس بكريم بل هو بخيل، وكلّ واحد من هذه الثّلاثة يوجب الكفر، فإذا كان اليأس لا يحصل إلّا عند حصول أحد هذه الثّلاثة، وكلّ واحد منها كفر، يثبت أنَّ اليأس لا يحصل إلّا لمن كان كافراً".
ومن خلال ذلك كلّه، نعرف أنَّ القرآن الكريم أراد أن يقتلع جذور اليأس من نفس الإنسان، بإعادته إلى إيمانه، لينطلق معه في وعي ويقظة كبيرين، يجعلانه يشعر بالأمل يتفجَّر من ينابيع الإيمان، كمثل الشّعاع المنسكب من قلب الشّمس في روعة الشّروق...
* من كتاب "مفاهيم إسلاميّة عامّة".