كتابات
24/11/2020

هذا هو الاستقلال الّذي نريده

هذا هو الاستقلال الّذي نريده

أن يكون الإنسان حرّاً، أن يملك حاجاته، لأنَّ الكثيرين منّا تستعبدهم حاجاتهم فيخضعون...  وأن يكون البلد حرّاً، أن يملك قراره، وأن يملك البلد قراره، أن يملك إرادته وظروفه، وأن يحرّك كلّ طاقاته لكي تتفجّر من أجل مستقبل يغني إنسانيّته ويغني معناه.

أن نحتفل بمدرسة في يوم الاستقلال، يفرض علينا أن نتحسّس معنى المدرسة في معنى الاستقلال، ونتحسّس معنى الاستقلال في كلّ إنسانيّتنا التي تبحث عمّا يُغنيها وينمّيها ويقوّيها، ويفتح لها كلّ الآفاق التي تجعل منها روحاً تحلّق، وحركة تفتح، وانطلاقة من أجل حياة أفضل.

بدعة الانتداب

أيّها الأحبّة، عندما يخرج الأجنبيّ، تبتدئ مسؤوليّة جديدة. كنّا في هذا الشّرق وفي هذا العالم الثّالث، ننطلق من بدعة دوليّة تسمّى الانتداب، فالشّعوب لدى هؤلاء المستكبرين الذي منحوا أنفسهم الموقع الفوقيّ في العالم، والبدعة التي استحدثوها في "عصبة الأمم" وبعدها "هيئة الأمم"، هي الانتداب.

نحن قاصرون لا نعرف كيف ندير أمورنا الإداريّة العسكريّة والسياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة وما إلى ذلك.. ولهذا، كان القاصر يحتاج إلى وليّ! إنهم أرادوا أن يخفّفوا وقع هذه الفوقيّة وهذا الاستكبار على الواقع، فقالوا: إنّ الأمم المتحدة انتدبتهم لرعاية هذا البلد ولتأهيله، فإذا أثبتوا جدارتهم وبلغوا سنّ الرّشد، وشهد شاهد من هنا وهناك، فعند ذلك يكون الاستقلال.. لذلك، كان الاستقلال في أغلب حالات العالم الثّالث قرارهم. صحيح أنّ هناك شهداء يسقطون، ولكنّ المسألة كانت ترتيب مصالحهم في إدارة كلّ قضايا الاستقلال في عالم التجزئة، عندما يجزّئون بلداً عن بلد، وفي عالم الوحدة عندما يوحّدون بلداً مع بلد.. نحن لا نريد أن نقول إنّ الشّعوب التي تثور ضدّ المستعمر المستكبر ليس لها دور في حركة الاستقلال، ولكنّ المسألة - أيّها الأحبّة - في أغلب ما عشناه، أننا كنا نعيش ديكور الاستقلال، ولا نعيش عمقه.

ولذلك، نحن عندما ندرس مسألة استقلال هذا البلد، فإننا نشعر بأنّ هناك شيئاً قد يريح ذكرياتك، ولكنّه شيء لا يعني العمق في المعنى الّذي يتحرّك من خلاله الشّعب، لتكون هناك إرادة مستقلّة حرّة تقرّر وتنظّم وترتّب.. هم رتّبوا لنا ذلك، وهم من أوجدوا لنا هذا النظام الطائفيّ عرفاً، ثم تقدّمنا في الاستقلال فأصبح قانوناً. هذا التقدم التراجعي الذي يجعلك تنكفئ إلى الوراء وأنت يُخيّل إليك أنّك تتقدَّم إلى الأمام.

إرادتنا أم إرادة الدّول؟!

كلّ قصّة الواقع العربي في كلّ هذه الدّول، أنّ بريطانيا وفرنسا وشيئاً من إيطاليا في المغرب العربي، وشيئًا من هنا وهناك اجتمعوا فكنّا دولاً.. ويقول ذلك الشّاعر العراقيّ:

لو جُمّعت لم تكُ أوطاننا دويلة فكيف صارت دُول؟

دول على حجم أشخاص، ودول تُعطَى لعائلة، ولعشيرة، وما إلى ذلك...

إنَّ هذا الحديث قد لا يكون في مصلحة الزّهو والعنفوان.. ولعلّ مشكلتنا في هذا الشّرق أنّنا نطفو على السّطح، لأنه يفقدنا النفاذ إلى الأعماق والجذور. نحن نتعب في الجذور، ولذلك نترك للتّاريخ أن يبني جذورنا، ونتفيّأ ظلال أغصانه، ولكن من دون أن نصنع جذوراً جديدة.

إنّ الاستقلال حين انطلق بمعناه التقليدي، كان يعني أنَّ النّاس لا بدَّ لهم من أن يرتّبوا بلدهم على أساس حاجاتهم وتطلّعاتهم وأحلامهم وأوضاعهم، ولكنّ اللّبنانيّين استحدثوا لأنفسهم في السّابق من خلال حرّاس الطائفيّة في لبنان، ومن خلال حرّاس التخلّف في لبنان، استحدثوا لأنفسهم مقدّسات لا قداسة لها. ما هي؟ وضع لبنان الخاصّ لا تمسّوه! لكن، ما هو هذا الوضع الخاصّ؟ بلد تتنوّع فيه الطوائف، وتتنوّع فيه الحساسيات، وتتجذّر فيه الأحقاد! لذلك، أيّها اللّبنانيّون، لا تخاطبوا بعضكم بعضاً بصراحة، فالكذب هو الّذي يحفظ لكم لبنانكم! اكذبوا على بعضكم البعض، وانفتحوا على كلّ أساليب المجاملة، ولا بأس أن تستخدموا الاستعارة والكناية والمجاز، لأنَّ الكناية قد تكون أبلغ من التّصريح!! ألا يقولون لنا ذلك؟

وتكاذبنا، أيّها الأحبّة، وكانت المشاكل تنمو، وتفرض نفسها على أعصابنا تارةً، وتنساب في دمائنا أخرى، وتخلق في كلّ عضوٍ حيٍّ خليّةً سرطانيّة، وكنَّا نتحدَّث عن المسكّنات، وعندما يأتي الأقوياء ليفرضوا علينا قرارهم السياسيّ، ليكون قرار لبنان السياسيّ، حتّى في خصوصياته الداخليّة، في انتخاب رئيس جمهوريّة، أو انتخاب مجلس وزراء، أو انتخاب مجلس نيابيّ، فلبنان ينتظر الوحي.

اللّبنانيّون قد لا يؤمنون بوحي الأنبياء، ولكنّهم يخشعون لوحي الأقوياء! ويسألونك عن الوحي في كلّ انتخاب! ما هي إرادة الدّولة العليّة هنا وهناك وهنالك؟ لأنَّ اللّبنانيّين ممنوعون من أن يتحدَّثوا مع بعضهم البعض بصراحة، وممنوعون من أن يركّزوا قرارهم بقوّة! فهل هذا المنع نابع من أنه القضاء والقدر؟ ليس هو القضاء والقدر، فالقضاء والقدر هو الإنسان بإرادة الله في ما نظّم الكون.. لا تتصوّروا أننا عندما نُنكَب أو نهزَم أو نسقط أو نضعف، أنّ ذلك هو قضاؤنا وقدرنا الّذي لا بدَّ أن نسلّم به، على قاعدة المثل القائل: "المكتوب ليس منه مهروب"، فالله يكتب في علمه ما يعلم أنّنا نصنعه، وهو يقضي بما يعرف أنَّنا نفعله، فالله {لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}، {ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي النّاس ليذيقهم} في ضعفهم، وآلامهم، وهزائمهم، وأحزانهم {بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون}. ومما ينطبق على لبنان، ما جاء في قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ}، فتمزّقت وتوحّلت وبدأت تتحرّك بدون تخطيط أو قوّة أو إرادة {فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}.

هل ينتصر لبنان بضعفه؟!

لذلك، أيّها الأحبّة، اختير لنا أن نتحدَّث عن مقدَّسات: "قوّة لبنان في ضعفه"! "لا تعرضوا للدّستور فهو مقدَّس".. غيّروا الإنجيل أو التّوراة أو القرآن فلا مشكلة! لأنّ حسابكم مع الله، ولكن إيّاكم أن تغيّروا الدستور.. وهل الدستور كان دستوراً لبنانيّاً أو فرنسيّاً؟! وتقدّمت فرنسا وتحرّكت من دستور في التربية والاقتصاد وغيرهما، وبقينا نخشع للإرادة الفرنسيّة في صنع الموادّ القانونيّة لنا! حتى بعد أن "تأمركنا"، لأنّ الشّعوب الضّعيفة تختزن في لاوعيها معنى العبوديّة للسيّد الأوّل، حتى لو غيّرت أسيادها...

 لذلك، المشاكل المتراكمة ولا يتغيّر الدستور. وها هي إسرائيل تنمو وتنمو وتقوى، ونحن نضعف ونضعف ونضعف، لماذا؟ لأنَّ علينا أن نحصل على المزيد من القوّة بالمزيد من الضّعف! لأنّ قوّة لبنان في ضعفه! وأن نحصل على المزيد من التقدّم بالمزيد من التخلّف! لأنّ علينا أن نبقى في النقطة الأولى التي كنّا فيها ولا نتقدّم! وكانت كلّ هذه التراكمات تنفذ إلى العمق! وكانت كلّ هذه المشاكل تخلخل الجذور.

وقيل: لماذا هذه الفتنة؟ وقلنا: وهل يمكن أن لا تكون فتنة هيّأنا لها الأرض كلّها، وزرعنا لها كلّ الأشواك، وخطّطنا فيها لكلّ الهزائم، وانطلقنا - والدّين محبّة، وانطلقنا والدّين عدل وخير، وانطلقنا والدّين حركة في الإنسان ترتفع به - انطلقنا لتكون مساجدنا وكنائسنا مدخلاً للفتنة، لا من خلال الدين، بل من خلال عدم الدّين الذي يأخذ عنوان الدّين. كانوا يقولون: إنَّ مشكلة اللّبنانيّين هي الدّين، وكنّا نقول إنَّ مشكلة اللّبنانيّين هي عدم الدِّين. فالكثيرون من الطائفيّين من المسلمين والمسيحيّين؛ موارنة وكاثوليك وأرثوذكس وسنّة وشيعة ودروز، لا يؤمنون بالله، ومع ذلك، يحدّثونك عن مصالح الطائفة المسيحيّة أو الإسلاميّة، أو عن السيّد المسيح أو النبيّ محمّد (ص).

استعمار جديد

لذلك، لو أردنا أن ندخل إلى عمقنا، فهل هناك استقلال؟ لقد خرج الجيش الفرنسيّ من بلادنا، ولكنّ الاستعمار تبدّل. ألم تسمعوا بالاستعمار الجديد؟ استعمار يعطيك حريّة الحركة، ولكن في الدّائرة التي يرسمها لك؟! استعمار قد يعطيك العنفوان، ولكن في القضايا التي يقرّرها لك! اقتصادنا لا بدَّ أن تأتي البركة الأميركيّة لتوحي إلى المواقع العربيّة الغنيّة، وحتّى إلى المواقع الأوروبيَّة، أن ساعدوا لبنان! وعندها نسمع التّصفيق والتّهليل...

ولكن ما معنى ذلك؟ معناه أنَّ لبنان خرج من دائرة التنفّس الاصطناعي ليُعطَى مجال التنفّس الطبيعيّ! وحتّى الآن، يمكن أن يرسلوا إلينا في كلّ يوم ما يجعل لنا التهابًا يمنع التنفّس... لقد أفهمونا أنّ اقتصادنا هو اقتصادهم، وأنّه يجب ألا ننطلق لنكون واقعيّين في التّخطيط.. قالوا لنا أنتم العرب عندكم دواوين الحماسة، وأشعار الفخر والعنفوان، وأنتم تتحدّثون في الخيال عن أمجادكم، فإيَّاكم أن تخطّطوا تخطيطاً واقعيّاً يبدأ من نقطة الصّفر حتى الواحد والاثنين، لأنّكم إذا خطّطتم من نقطة الصّفر، ووقفتم أمام كلّ رقم يتحرّك من خلال إمكاناتكم وحاجاتكم وضغطتم حاجاتكم، فإنّكم تستطيعون أن تصلوا إلى النّتائج الكبرى، لكن فكّروا في الفضاء، وليس من الضّروريّ أن تحدّقوا بالأرض.

لقد أبعدونا عن أن نحدّق بأرضنا، ولذلك لم يبقَ لنا في الأرض ما نزرع، وأبعدونا أن نتعمَّق في أرضنا، ولذلك لم يبقَ في أرضنا ما نشرب! لأنّهم يريدون لنا دائمًا أن نفكّر في المستقبل بعيداً من الحاضر.. ونحن لا بدَّ أن نكون مستقبليّين، لأنَّ الإنسان الّذي لا يفكّر مستقبليّاً، لا يستطيع أن يصنع إنسانيّته، ولكن أن تنطلق في المستقبل من خلال الحاضر الّذي هو أساس المستقبل.. الأرض هي المنطلق لك إلى الفضاء، ولذلك بقينا في اللّا خطّة! لأنّ الخطط ليست واقعيّة.. وبقينا نحدّق بالآخرين ولا نحدّق بأنفسنا.

أيّ خطّة لمواجهة العدوّ؟!

وهكذا قالوا لنا إنّ سياستنا هي على هامش سياستهم، ولذلك، من منّا - وأتكلّم في حجم الظّاهرة لا حجم الشموليّة - يسمح لنفسه أن يفكّر سياسياً بعيداً من إرادة هذه الدولة أو تلك الدولة؟ إنّ بعضنا يخاف أن يضبط متلبّساً بأنّه يفكّر سياسياً بحريّة... أو يتحدّث عما يريد لا عمّا يريده الآخرون؟ فماذا تريد أميركا؟ ما هي التّوازنات الأمريكية - الفرنسية في لبنان؟ ماذا تريد هذه الدولة العربيّة أو تلك الدّولة العربيّة؟ أمّا ماذا نريد نحن في لبنان؟ ويأتي الجواب: إيّاكم أن تفكّروا في ذلك، لأنّ العقلاء من الناس يحترمون الخطوط الحمراء! أليس كذلك؟

ما هي سياستنا في البلد أمام الاحتلال الإسرائيلي؟  وأنا أتحدَّى بمحبّة؛ هل للبنان سياسة مدروسة في المسألة الإسرائيليّة منذ أن احتلّ اليهود فلسطين، ومنذ أن احتلّت إسرائيل جزءاً من لبنان؟ لقد فتَّشت كثيراً في كلّ العهود، فلم أجد أنَّ هناك خطّة لسياسة لبنانيّة في المسألة الإسرائيليَّة. وأكاد أقول إنَّه لم تكن لدينا سياسة عربيَّة في المسألة الإسرائيليَّة. ينقل عن بعض قادة العرب في الـ 67، قال له بعض الصحافيين: هل عندكم خطّة لتحرير فلسطين؟ فقال: ليس لدينا خطّة.

ونحن هنا بماذا نحرِّر؟ بالمقاومة؟ الحكومة اللّبنانيّة تقول لا نستطيع أن نقاوم بشكل رسميّ. بالمفاوضات؟ كيف؟ هل عرفتم ماذا تريد إسرائيل من لبنان، أم أنّكم تطوفون العالم شرقاً وغرباً لتتحدَّثوا عن القرار الدولي "425"؟ وهل بقي هناك في السياسة العربيّة الإسرائيلية شيء يُسمّى القرارات 242 و338 و425؟ إنّه للاستهلاك المحلّي، لأنه ليس عندنا ما نتحدّث به مع العالم، ولذلك أصبحت لنا عروسة شعر :

ألهى بنو تغلب عن كلّ مكرمةٍ     قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

وهكذا ألهانا القرار 425 عن كلّ تخطيط. فليس هناك شيء في هذه المرحلة ولا في ما يعقبها اسمه القرار 425، هناك شيء اسمه معاهدة السّلام، وإذا كانت المسألة متعلّقة بهذا، فإنّ إسرائيل تقول لكم: إنَّ عليكم أن تتحرّكوا تماماً على طريقة اتّفاق غزّة وأريحا؛ طريقة التّجزئة، جزّئوا الحلّ، وأثبتوا جدارتكم أنّكم تستطيعون أن تحموا بلدكم.. فليقف الجيش ستّة أشهر على مشارف المنطقة الحدوديّة، وليس على مشارف الحدود اللّبنانيّة! وبعدها نفكّر هل أنتم جديرون بأن تحفظوا الأمن، ولا بدّ من ترتيبات أمنيّة.. كعناوين واهية ضبابيّة، كما هي كلّ عناوين إسرائيل في كلّ تاريخها.. وليس هناك شيء اسمه القرار "425"، حتّى أمريكا لا تفكّر في ذلك، أصبح هذا القرار شيئاً من الماضي ومن التّاريخ..

لذلك، في عهد الاستقلال هذا، ليس هناك خطة اقتصاديّة بالمعنى الاقتصادي للحاجات الشعبيّة، أو خطّة سياسيّة بالمعنى السياسي للتطلّعات السياسيّة في قضيّة تحرير البلد.. وربما قد لا نجد سياسة تربوية، بل هناك مشاريع متناثرة، وخطّ هنا وآخر هناك.. قد يقولون إنّنا خرجنا من حرب، ولكن كيف كنّا قبل أن ندخل في الحرب؟ إنّ الأسلوب هو الأسلوب. وحديثنا ليس من باب توزيع الاتهامات، أو على قاعدة أنّ المعارضة تريد تسجيل نقاط على الحكم، بل إنّنا نطمح إلى أن تتساند المعارضة مع الموالاة، وإلى أن ينجح الحكم في إدارة أمور شعبه.

ولكنّ المسألة أنّنا عشنا بشيء من التوحّل السياسيّ، بحيث أصبحت عقولنا تعيش الوحل اليوميّ في كلّ الإعلام الذي يحدِّثك عن مشكلة بين هذا الرّئيس وذاك الرّئيس، وبين هذا الموقع السياسيّ والآخر السياسيّ هناك، بحيث إنّك عندما تقول أيّها النّاس، إنّ القضيّة هي: ما هي المشكلة بيننا وبين قوى الاحتلال؟ وما هي المشكلة بيننا وبين القوى التي تريد أن تسقط اقتصادنا؟ يقولون لك: إنّ هذه المشاكل تنتظر، ولكنّ مشكلة رئيس مع رئيس، فهذه مشكلة في اللّحم الحيّ، ولهذا نحتاج إلى أن نخرج منها، ولتتجمّد كل المشاكل..

اصنعوا جيشاً يحرِّر البلد

أيّها الأحبّة، شرّ البليّة ما يبكيك ويبعثك على الضّحك.. وشرّ البليّة أنّك نشعر بالدوّامة التي تحاول أن تجعلك تعيش كلّ يوم استهلاكية السياسات الصغيرة، واستهلاكيّة القضايا الصّغيرة، حتى عُدنا لا نفهم القضايا الكبيرة إلا من خلال القضايا الصّغيرة.

تلك هي قضيّتنا. هل تريدون الاحتفال بالاستقلال؟ اصنعوا جيشاً يستطيع أن يحرّر البلد! اصنعوا أمناً يستطيع أن يمنع الّذين يعيثون في البلد فساداً، من كلّ مخابرات العالم الّذي جعل من لبنان ساحةً لكلّ حركة المخابرات الدّولية والإقليميّة، والتي ليس لها عملها جمع المعلومات، بل أن تصنع الوقائع.

اِصنعوا لنا جيشاً نشعر معه بأنه يستطيع حمايتنا من كلّ القوى بحجمه وقدرته، وأن يجرّب حمايتنا.. ونحن نعرف أنّ الجيش لا قرار له في ذاته، ولكنَّ الذين يصنعون القرار، هم الذين يخطِّطون للجيش سياسته، تلك هي المسألة. والذين يخطّطون للجيش سياسته، ليس في حسابهم أن يكون هناك سياسة تحرير.

لقد تعلّمنا في لبنان أنّنا نحرّر لبنان من بعضنا البعض؛ فالمسيحيّون يحرّرون لبنان من المسلمين، والمسلمون يحرّرون لبنان من المسيحيّين.. عندما تكون هناك فتنة طائفيّة أو حزبيّة، بين طائفة وطائفة، وبين مذهبٍ ومذهبٍ، وبين أهل المذهب الواحد، فهناك الحريَّة في أن تطلق ما تشاء من صورايخ الغراد والكاتيوشا هنا وهناك، لكن عندما تكون المشكلة مع إسرائيل، كُن الإنسان المهذّب والمعتدل الذي يفهم الخطوط الحمراء والصّفراء والخضراء...!

لم تتحدَّث أميركا، ولم تتحدَّث إسرائيل عن صواريخ الكاتيوشا التي كانت تطلق على اليهود في مستوطناتهم، عندما كانوا يحرقون الجنوب كلّه والبقاع الغربيّ، وعندما كانوا يدمّرون أهلنا ويشرّدونهم.. كلّ القضيّة هي لا تطلقوا الكاتيوشا، حتى في الوقت الذي كان رئيس وزراء العدوّ يقول إنّ الكاتيوشا كانت رداًّ على قصفنا..

الأسواق التجارية ألم تكن نتيجة كلّ الصّواريخ التي أطلقت... الصواريخ التي تستعمل في الحرب الكبرى؟! في الحرب الكبرى لا نستعمل حتى الرّصاص، وفي الحروب الصغيرة نستعمل حتى المدافع المضادّة للطائرات!! {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}.

لذلك، يحدّثونك عن المقاومة أنها مشكلة، ولكن مشكلةٌ لا نستطيع أن نتخلّص منها، إنّها عبء يثقلنا، ويمكن للظروف أن تخلّصنا من هذا العبء! ويعتذرون لهذا الفريق وذاك الفريق، ولهذا المحور الدّوليّ وذاك المحور الدولي!

في فرنسا، عندما احتلّ النازيّ بعض فرنسا، كانت كلّ فرنسا مع المقاومة، ولكنّنا عندما احتلّت إسرائيل كثيراً من بلدنا بشكل مباشر، وكثيراً منه بشكلٍ غير مباشر، كان أكثرنا ضدّ المقاومة - ولا نزال - نتحدَّث عن المقاومة كميليشيا لا بدّ لنا من التخلّص منها!

أيّها الأحبّة، لم أكن أريد أن أثقل أسماعكم بكلّ هذا الكلام، ولكنّ الكلام يفرض نفسه من خلال قضيّة أنّ الواقع يفرض نفسه.

 فكّروا في استقلال المستقبل، فاستقلال الماضي دفن مع أبطال الاستقلال، ولا يزال ينتظر دفن بعضهم.

اصنعوا، أيّها الجيل الجديد من اللّبنانيّين؛ رجالا ًونساء، مسيحيّين ومسلمين، اصنعوا استقلالكم على مستوى قضاياكم، اصنعوا حرّيتكم على مستوى عزّتكم وعنفوانكم.

 قد لا تستطيعون أن تصنعوا الكثير، ولكن دعنا نبنِ لبنةً اليوم، ليبني أبناؤنا لبنةً أخرى، وهكذا تتكامل الأجيال في بناء الاستقلال كقاعدة قويّة للمستقبل.

لننطلق جميعاً، عندما تكون الدولة في معنى الدولة، ولا تكون في معنى طموحات الأشخاص، أن نكون دولةً وشعباً نؤسّس الاستقلال على العلم، فيكون لكلّ موقع مدرسة، ولا نجد هناك من يتحرّك في الشّوارع دون علم، ويكون لكلّ جائع لقمة خبز، ويكون لكلّ عامل موقع عمل، ويكون لكلّ أرض محتلّة حركة حريّة.

لا تجرّبوا أن تعيشوا في الماضي.. خمسون سنة من عمر الاستقلال أفقدتنا استقلالنا، أصبحنا بحاجة إلى استقلال جديد؛ استقلال لا تتحرَّك قوى الأمن لتضرب الّذين يحرّرون البلد ولتقتلهم، ولكن تتحرّك لتقتل الّذين يستعبدون البلد.. دولة تتطلّع إلى شعبها عندما تفكّر في الأمن، ولا تتطلّع إلى الآخرين كيف يفرضون عليها شكل الأمن.

أيّها الأحبَّة، في خطّ الاستقلال، نريد أن نتحرَّك، نمسك البندقيّة بيد لنحرّر الأرض والإنسان، ونمسك القلم بيد، ونمسك المعول بيد، ونمسك الآلة في المصنع بيد... الأيدي تتكامل، الطاقات تتعاون، الإنسان يضمّ إنسانيّته إلى إنسانيّة الآخر، عند ذلك، لن يكون لبنان أرزاً، ولن يكون سهلاً وجبلاً وبحراً، سيكون لبنان إنساناً يحترم إنسانيّته، وإنساناً يغني إنسانيّته، وإنساناً ينفتح على الله ليكون إيمانه بالله من أجل إنسانيّته في حاضره ومستقبله، وعند ذلك، يمكن أن تتحدَّثوا عن لبنان الحريّة والعنفوان والتجربة الّتي لا مثيل لها.. أن لا نسقط التّجربة، بل أن نحرّكها...

 ونحن في هذا الصّرح، نحاول أن نبني لبنة إلى جانب اللّبنات الأخرى، ونرجو أن تتكاثر اللّبنات في وقتٍ قريب، حتى ينشأ أولادنا في المستقبل، وعيونهم تبتسم فرحاً قبل تبتسم شفاههم.

 أيّها الأحبّة، إنَّ المشكلة أنّ الكثيرين منّا يبتسمون، ولكنّ عيونهم تبكي، تماماً كما يقول ذلك الشّاعر اللّبناني:

تالله كم شاعرٍ أخي حُرَقٍ يغصّ بالدّمع وهو يبتسم

وكما يقول الشّاعر الشّابي:

وإذا مــا اسْــتَخفّني عَبَـثُ النّـاس           تبسَّــمتُ فــي أسًــى وجُــمُودِ

بســـمةً مُــرّةً كــأنِّيَ أســتلُّ                    من الشّوك ذابلات الورود

نريد بسمةً للحريّة وللعدالة وللمعرفة، ولكلّ ما يبني لنا إنسانيّتنا.

     * محاضرة في افتتاح ثانوية الامام الحسن (ع) بيروت بتاريخ 28 جمادى1 1414 هـ 12-11-1993م .

أن يكون الإنسان حرّاً، أن يملك حاجاته، لأنَّ الكثيرين منّا تستعبدهم حاجاتهم فيخضعون...  وأن يكون البلد حرّاً، أن يملك قراره، وأن يملك البلد قراره، أن يملك إرادته وظروفه، وأن يحرّك كلّ طاقاته لكي تتفجّر من أجل مستقبل يغني إنسانيّته ويغني معناه.

أن نحتفل بمدرسة في يوم الاستقلال، يفرض علينا أن نتحسّس معنى المدرسة في معنى الاستقلال، ونتحسّس معنى الاستقلال في كلّ إنسانيّتنا التي تبحث عمّا يُغنيها وينمّيها ويقوّيها، ويفتح لها كلّ الآفاق التي تجعل منها روحاً تحلّق، وحركة تفتح، وانطلاقة من أجل حياة أفضل.

بدعة الانتداب

أيّها الأحبّة، عندما يخرج الأجنبيّ، تبتدئ مسؤوليّة جديدة. كنّا في هذا الشّرق وفي هذا العالم الثّالث، ننطلق من بدعة دوليّة تسمّى الانتداب، فالشّعوب لدى هؤلاء المستكبرين الذي منحوا أنفسهم الموقع الفوقيّ في العالم، والبدعة التي استحدثوها في "عصبة الأمم" وبعدها "هيئة الأمم"، هي الانتداب.

نحن قاصرون لا نعرف كيف ندير أمورنا الإداريّة العسكريّة والسياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة وما إلى ذلك.. ولهذا، كان القاصر يحتاج إلى وليّ! إنهم أرادوا أن يخفّفوا وقع هذه الفوقيّة وهذا الاستكبار على الواقع، فقالوا: إنّ الأمم المتحدة انتدبتهم لرعاية هذا البلد ولتأهيله، فإذا أثبتوا جدارتهم وبلغوا سنّ الرّشد، وشهد شاهد من هنا وهناك، فعند ذلك يكون الاستقلال.. لذلك، كان الاستقلال في أغلب حالات العالم الثّالث قرارهم. صحيح أنّ هناك شهداء يسقطون، ولكنّ المسألة كانت ترتيب مصالحهم في إدارة كلّ قضايا الاستقلال في عالم التجزئة، عندما يجزّئون بلداً عن بلد، وفي عالم الوحدة عندما يوحّدون بلداً مع بلد.. نحن لا نريد أن نقول إنّ الشّعوب التي تثور ضدّ المستعمر المستكبر ليس لها دور في حركة الاستقلال، ولكنّ المسألة - أيّها الأحبّة - في أغلب ما عشناه، أننا كنا نعيش ديكور الاستقلال، ولا نعيش عمقه.

ولذلك، نحن عندما ندرس مسألة استقلال هذا البلد، فإننا نشعر بأنّ هناك شيئاً قد يريح ذكرياتك، ولكنّه شيء لا يعني العمق في المعنى الّذي يتحرّك من خلاله الشّعب، لتكون هناك إرادة مستقلّة حرّة تقرّر وتنظّم وترتّب.. هم رتّبوا لنا ذلك، وهم من أوجدوا لنا هذا النظام الطائفيّ عرفاً، ثم تقدّمنا في الاستقلال فأصبح قانوناً. هذا التقدم التراجعي الذي يجعلك تنكفئ إلى الوراء وأنت يُخيّل إليك أنّك تتقدَّم إلى الأمام.

إرادتنا أم إرادة الدّول؟!

كلّ قصّة الواقع العربي في كلّ هذه الدّول، أنّ بريطانيا وفرنسا وشيئاً من إيطاليا في المغرب العربي، وشيئًا من هنا وهناك اجتمعوا فكنّا دولاً.. ويقول ذلك الشّاعر العراقيّ:

لو جُمّعت لم تكُ أوطاننا دويلة فكيف صارت دُول؟

دول على حجم أشخاص، ودول تُعطَى لعائلة، ولعشيرة، وما إلى ذلك...

إنَّ هذا الحديث قد لا يكون في مصلحة الزّهو والعنفوان.. ولعلّ مشكلتنا في هذا الشّرق أنّنا نطفو على السّطح، لأنه يفقدنا النفاذ إلى الأعماق والجذور. نحن نتعب في الجذور، ولذلك نترك للتّاريخ أن يبني جذورنا، ونتفيّأ ظلال أغصانه، ولكن من دون أن نصنع جذوراً جديدة.

إنّ الاستقلال حين انطلق بمعناه التقليدي، كان يعني أنَّ النّاس لا بدَّ لهم من أن يرتّبوا بلدهم على أساس حاجاتهم وتطلّعاتهم وأحلامهم وأوضاعهم، ولكنّ اللّبنانيّين استحدثوا لأنفسهم في السّابق من خلال حرّاس الطائفيّة في لبنان، ومن خلال حرّاس التخلّف في لبنان، استحدثوا لأنفسهم مقدّسات لا قداسة لها. ما هي؟ وضع لبنان الخاصّ لا تمسّوه! لكن، ما هو هذا الوضع الخاصّ؟ بلد تتنوّع فيه الطوائف، وتتنوّع فيه الحساسيات، وتتجذّر فيه الأحقاد! لذلك، أيّها اللّبنانيّون، لا تخاطبوا بعضكم بعضاً بصراحة، فالكذب هو الّذي يحفظ لكم لبنانكم! اكذبوا على بعضكم البعض، وانفتحوا على كلّ أساليب المجاملة، ولا بأس أن تستخدموا الاستعارة والكناية والمجاز، لأنَّ الكناية قد تكون أبلغ من التّصريح!! ألا يقولون لنا ذلك؟

وتكاذبنا، أيّها الأحبّة، وكانت المشاكل تنمو، وتفرض نفسها على أعصابنا تارةً، وتنساب في دمائنا أخرى، وتخلق في كلّ عضوٍ حيٍّ خليّةً سرطانيّة، وكنَّا نتحدَّث عن المسكّنات، وعندما يأتي الأقوياء ليفرضوا علينا قرارهم السياسيّ، ليكون قرار لبنان السياسيّ، حتّى في خصوصياته الداخليّة، في انتخاب رئيس جمهوريّة، أو انتخاب مجلس وزراء، أو انتخاب مجلس نيابيّ، فلبنان ينتظر الوحي.

اللّبنانيّون قد لا يؤمنون بوحي الأنبياء، ولكنّهم يخشعون لوحي الأقوياء! ويسألونك عن الوحي في كلّ انتخاب! ما هي إرادة الدّولة العليّة هنا وهناك وهنالك؟ لأنَّ اللّبنانيّين ممنوعون من أن يتحدَّثوا مع بعضهم البعض بصراحة، وممنوعون من أن يركّزوا قرارهم بقوّة! فهل هذا المنع نابع من أنه القضاء والقدر؟ ليس هو القضاء والقدر، فالقضاء والقدر هو الإنسان بإرادة الله في ما نظّم الكون.. لا تتصوّروا أننا عندما نُنكَب أو نهزَم أو نسقط أو نضعف، أنّ ذلك هو قضاؤنا وقدرنا الّذي لا بدَّ أن نسلّم به، على قاعدة المثل القائل: "المكتوب ليس منه مهروب"، فالله يكتب في علمه ما يعلم أنّنا نصنعه، وهو يقضي بما يعرف أنَّنا نفعله، فالله {لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}، {ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي النّاس ليذيقهم} في ضعفهم، وآلامهم، وهزائمهم، وأحزانهم {بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون}. ومما ينطبق على لبنان، ما جاء في قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ}، فتمزّقت وتوحّلت وبدأت تتحرّك بدون تخطيط أو قوّة أو إرادة {فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}.

هل ينتصر لبنان بضعفه؟!

لذلك، أيّها الأحبّة، اختير لنا أن نتحدَّث عن مقدَّسات: "قوّة لبنان في ضعفه"! "لا تعرضوا للدّستور فهو مقدَّس".. غيّروا الإنجيل أو التّوراة أو القرآن فلا مشكلة! لأنّ حسابكم مع الله، ولكن إيّاكم أن تغيّروا الدستور.. وهل الدستور كان دستوراً لبنانيّاً أو فرنسيّاً؟! وتقدّمت فرنسا وتحرّكت من دستور في التربية والاقتصاد وغيرهما، وبقينا نخشع للإرادة الفرنسيّة في صنع الموادّ القانونيّة لنا! حتى بعد أن "تأمركنا"، لأنّ الشّعوب الضّعيفة تختزن في لاوعيها معنى العبوديّة للسيّد الأوّل، حتى لو غيّرت أسيادها...

 لذلك، المشاكل المتراكمة ولا يتغيّر الدستور. وها هي إسرائيل تنمو وتنمو وتقوى، ونحن نضعف ونضعف ونضعف، لماذا؟ لأنَّ علينا أن نحصل على المزيد من القوّة بالمزيد من الضّعف! لأنّ قوّة لبنان في ضعفه! وأن نحصل على المزيد من التقدّم بالمزيد من التخلّف! لأنّ علينا أن نبقى في النقطة الأولى التي كنّا فيها ولا نتقدّم! وكانت كلّ هذه التراكمات تنفذ إلى العمق! وكانت كلّ هذه المشاكل تخلخل الجذور.

وقيل: لماذا هذه الفتنة؟ وقلنا: وهل يمكن أن لا تكون فتنة هيّأنا لها الأرض كلّها، وزرعنا لها كلّ الأشواك، وخطّطنا فيها لكلّ الهزائم، وانطلقنا - والدّين محبّة، وانطلقنا والدّين عدل وخير، وانطلقنا والدّين حركة في الإنسان ترتفع به - انطلقنا لتكون مساجدنا وكنائسنا مدخلاً للفتنة، لا من خلال الدين، بل من خلال عدم الدّين الذي يأخذ عنوان الدّين. كانوا يقولون: إنَّ مشكلة اللّبنانيّين هي الدّين، وكنّا نقول إنَّ مشكلة اللّبنانيّين هي عدم الدِّين. فالكثيرون من الطائفيّين من المسلمين والمسيحيّين؛ موارنة وكاثوليك وأرثوذكس وسنّة وشيعة ودروز، لا يؤمنون بالله، ومع ذلك، يحدّثونك عن مصالح الطائفة المسيحيّة أو الإسلاميّة، أو عن السيّد المسيح أو النبيّ محمّد (ص).

استعمار جديد

لذلك، لو أردنا أن ندخل إلى عمقنا، فهل هناك استقلال؟ لقد خرج الجيش الفرنسيّ من بلادنا، ولكنّ الاستعمار تبدّل. ألم تسمعوا بالاستعمار الجديد؟ استعمار يعطيك حريّة الحركة، ولكن في الدّائرة التي يرسمها لك؟! استعمار قد يعطيك العنفوان، ولكن في القضايا التي يقرّرها لك! اقتصادنا لا بدَّ أن تأتي البركة الأميركيّة لتوحي إلى المواقع العربيّة الغنيّة، وحتّى إلى المواقع الأوروبيَّة، أن ساعدوا لبنان! وعندها نسمع التّصفيق والتّهليل...

ولكن ما معنى ذلك؟ معناه أنَّ لبنان خرج من دائرة التنفّس الاصطناعي ليُعطَى مجال التنفّس الطبيعيّ! وحتّى الآن، يمكن أن يرسلوا إلينا في كلّ يوم ما يجعل لنا التهابًا يمنع التنفّس... لقد أفهمونا أنّ اقتصادنا هو اقتصادهم، وأنّه يجب ألا ننطلق لنكون واقعيّين في التّخطيط.. قالوا لنا أنتم العرب عندكم دواوين الحماسة، وأشعار الفخر والعنفوان، وأنتم تتحدّثون في الخيال عن أمجادكم، فإيَّاكم أن تخطّطوا تخطيطاً واقعيّاً يبدأ من نقطة الصّفر حتى الواحد والاثنين، لأنّكم إذا خطّطتم من نقطة الصّفر، ووقفتم أمام كلّ رقم يتحرّك من خلال إمكاناتكم وحاجاتكم وضغطتم حاجاتكم، فإنّكم تستطيعون أن تصلوا إلى النّتائج الكبرى، لكن فكّروا في الفضاء، وليس من الضّروريّ أن تحدّقوا بالأرض.

لقد أبعدونا عن أن نحدّق بأرضنا، ولذلك لم يبقَ لنا في الأرض ما نزرع، وأبعدونا أن نتعمَّق في أرضنا، ولذلك لم يبقَ في أرضنا ما نشرب! لأنّهم يريدون لنا دائمًا أن نفكّر في المستقبل بعيداً من الحاضر.. ونحن لا بدَّ أن نكون مستقبليّين، لأنَّ الإنسان الّذي لا يفكّر مستقبليّاً، لا يستطيع أن يصنع إنسانيّته، ولكن أن تنطلق في المستقبل من خلال الحاضر الّذي هو أساس المستقبل.. الأرض هي المنطلق لك إلى الفضاء، ولذلك بقينا في اللّا خطّة! لأنّ الخطط ليست واقعيّة.. وبقينا نحدّق بالآخرين ولا نحدّق بأنفسنا.

أيّ خطّة لمواجهة العدوّ؟!

وهكذا قالوا لنا إنّ سياستنا هي على هامش سياستهم، ولذلك، من منّا - وأتكلّم في حجم الظّاهرة لا حجم الشموليّة - يسمح لنفسه أن يفكّر سياسياً بعيداً من إرادة هذه الدولة أو تلك الدولة؟ إنّ بعضنا يخاف أن يضبط متلبّساً بأنّه يفكّر سياسياً بحريّة... أو يتحدّث عما يريد لا عمّا يريده الآخرون؟ فماذا تريد أميركا؟ ما هي التّوازنات الأمريكية - الفرنسية في لبنان؟ ماذا تريد هذه الدولة العربيّة أو تلك الدّولة العربيّة؟ أمّا ماذا نريد نحن في لبنان؟ ويأتي الجواب: إيّاكم أن تفكّروا في ذلك، لأنّ العقلاء من الناس يحترمون الخطوط الحمراء! أليس كذلك؟

ما هي سياستنا في البلد أمام الاحتلال الإسرائيلي؟  وأنا أتحدَّى بمحبّة؛ هل للبنان سياسة مدروسة في المسألة الإسرائيليّة منذ أن احتلّ اليهود فلسطين، ومنذ أن احتلّت إسرائيل جزءاً من لبنان؟ لقد فتَّشت كثيراً في كلّ العهود، فلم أجد أنَّ هناك خطّة لسياسة لبنانيّة في المسألة الإسرائيليَّة. وأكاد أقول إنَّه لم تكن لدينا سياسة عربيَّة في المسألة الإسرائيليَّة. ينقل عن بعض قادة العرب في الـ 67، قال له بعض الصحافيين: هل عندكم خطّة لتحرير فلسطين؟ فقال: ليس لدينا خطّة.

ونحن هنا بماذا نحرِّر؟ بالمقاومة؟ الحكومة اللّبنانيّة تقول لا نستطيع أن نقاوم بشكل رسميّ. بالمفاوضات؟ كيف؟ هل عرفتم ماذا تريد إسرائيل من لبنان، أم أنّكم تطوفون العالم شرقاً وغرباً لتتحدَّثوا عن القرار الدولي "425"؟ وهل بقي هناك في السياسة العربيّة الإسرائيلية شيء يُسمّى القرارات 242 و338 و425؟ إنّه للاستهلاك المحلّي، لأنه ليس عندنا ما نتحدّث به مع العالم، ولذلك أصبحت لنا عروسة شعر :

ألهى بنو تغلب عن كلّ مكرمةٍ     قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

وهكذا ألهانا القرار 425 عن كلّ تخطيط. فليس هناك شيء في هذه المرحلة ولا في ما يعقبها اسمه القرار 425، هناك شيء اسمه معاهدة السّلام، وإذا كانت المسألة متعلّقة بهذا، فإنّ إسرائيل تقول لكم: إنَّ عليكم أن تتحرّكوا تماماً على طريقة اتّفاق غزّة وأريحا؛ طريقة التّجزئة، جزّئوا الحلّ، وأثبتوا جدارتكم أنّكم تستطيعون أن تحموا بلدكم.. فليقف الجيش ستّة أشهر على مشارف المنطقة الحدوديّة، وليس على مشارف الحدود اللّبنانيّة! وبعدها نفكّر هل أنتم جديرون بأن تحفظوا الأمن، ولا بدّ من ترتيبات أمنيّة.. كعناوين واهية ضبابيّة، كما هي كلّ عناوين إسرائيل في كلّ تاريخها.. وليس هناك شيء اسمه القرار "425"، حتّى أمريكا لا تفكّر في ذلك، أصبح هذا القرار شيئاً من الماضي ومن التّاريخ..

لذلك، في عهد الاستقلال هذا، ليس هناك خطة اقتصاديّة بالمعنى الاقتصادي للحاجات الشعبيّة، أو خطّة سياسيّة بالمعنى السياسي للتطلّعات السياسيّة في قضيّة تحرير البلد.. وربما قد لا نجد سياسة تربوية، بل هناك مشاريع متناثرة، وخطّ هنا وآخر هناك.. قد يقولون إنّنا خرجنا من حرب، ولكن كيف كنّا قبل أن ندخل في الحرب؟ إنّ الأسلوب هو الأسلوب. وحديثنا ليس من باب توزيع الاتهامات، أو على قاعدة أنّ المعارضة تريد تسجيل نقاط على الحكم، بل إنّنا نطمح إلى أن تتساند المعارضة مع الموالاة، وإلى أن ينجح الحكم في إدارة أمور شعبه.

ولكنّ المسألة أنّنا عشنا بشيء من التوحّل السياسيّ، بحيث أصبحت عقولنا تعيش الوحل اليوميّ في كلّ الإعلام الذي يحدِّثك عن مشكلة بين هذا الرّئيس وذاك الرّئيس، وبين هذا الموقع السياسيّ والآخر السياسيّ هناك، بحيث إنّك عندما تقول أيّها النّاس، إنّ القضيّة هي: ما هي المشكلة بيننا وبين قوى الاحتلال؟ وما هي المشكلة بيننا وبين القوى التي تريد أن تسقط اقتصادنا؟ يقولون لك: إنّ هذه المشاكل تنتظر، ولكنّ مشكلة رئيس مع رئيس، فهذه مشكلة في اللّحم الحيّ، ولهذا نحتاج إلى أن نخرج منها، ولتتجمّد كل المشاكل..

اصنعوا جيشاً يحرِّر البلد

أيّها الأحبّة، شرّ البليّة ما يبكيك ويبعثك على الضّحك.. وشرّ البليّة أنّك نشعر بالدوّامة التي تحاول أن تجعلك تعيش كلّ يوم استهلاكية السياسات الصغيرة، واستهلاكيّة القضايا الصّغيرة، حتى عُدنا لا نفهم القضايا الكبيرة إلا من خلال القضايا الصّغيرة.

تلك هي قضيّتنا. هل تريدون الاحتفال بالاستقلال؟ اصنعوا جيشاً يستطيع أن يحرّر البلد! اصنعوا أمناً يستطيع أن يمنع الّذين يعيثون في البلد فساداً، من كلّ مخابرات العالم الّذي جعل من لبنان ساحةً لكلّ حركة المخابرات الدّولية والإقليميّة، والتي ليس لها عملها جمع المعلومات، بل أن تصنع الوقائع.

اِصنعوا لنا جيشاً نشعر معه بأنه يستطيع حمايتنا من كلّ القوى بحجمه وقدرته، وأن يجرّب حمايتنا.. ونحن نعرف أنّ الجيش لا قرار له في ذاته، ولكنَّ الذين يصنعون القرار، هم الذين يخطِّطون للجيش سياسته، تلك هي المسألة. والذين يخطّطون للجيش سياسته، ليس في حسابهم أن يكون هناك سياسة تحرير.

لقد تعلّمنا في لبنان أنّنا نحرّر لبنان من بعضنا البعض؛ فالمسيحيّون يحرّرون لبنان من المسلمين، والمسلمون يحرّرون لبنان من المسيحيّين.. عندما تكون هناك فتنة طائفيّة أو حزبيّة، بين طائفة وطائفة، وبين مذهبٍ ومذهبٍ، وبين أهل المذهب الواحد، فهناك الحريَّة في أن تطلق ما تشاء من صورايخ الغراد والكاتيوشا هنا وهناك، لكن عندما تكون المشكلة مع إسرائيل، كُن الإنسان المهذّب والمعتدل الذي يفهم الخطوط الحمراء والصّفراء والخضراء...!

لم تتحدَّث أميركا، ولم تتحدَّث إسرائيل عن صواريخ الكاتيوشا التي كانت تطلق على اليهود في مستوطناتهم، عندما كانوا يحرقون الجنوب كلّه والبقاع الغربيّ، وعندما كانوا يدمّرون أهلنا ويشرّدونهم.. كلّ القضيّة هي لا تطلقوا الكاتيوشا، حتى في الوقت الذي كان رئيس وزراء العدوّ يقول إنّ الكاتيوشا كانت رداًّ على قصفنا..

الأسواق التجارية ألم تكن نتيجة كلّ الصّواريخ التي أطلقت... الصواريخ التي تستعمل في الحرب الكبرى؟! في الحرب الكبرى لا نستعمل حتى الرّصاص، وفي الحروب الصغيرة نستعمل حتى المدافع المضادّة للطائرات!! {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}.

لذلك، يحدّثونك عن المقاومة أنها مشكلة، ولكن مشكلةٌ لا نستطيع أن نتخلّص منها، إنّها عبء يثقلنا، ويمكن للظروف أن تخلّصنا من هذا العبء! ويعتذرون لهذا الفريق وذاك الفريق، ولهذا المحور الدّوليّ وذاك المحور الدولي!

في فرنسا، عندما احتلّ النازيّ بعض فرنسا، كانت كلّ فرنسا مع المقاومة، ولكنّنا عندما احتلّت إسرائيل كثيراً من بلدنا بشكل مباشر، وكثيراً منه بشكلٍ غير مباشر، كان أكثرنا ضدّ المقاومة - ولا نزال - نتحدَّث عن المقاومة كميليشيا لا بدّ لنا من التخلّص منها!

أيّها الأحبّة، لم أكن أريد أن أثقل أسماعكم بكلّ هذا الكلام، ولكنّ الكلام يفرض نفسه من خلال قضيّة أنّ الواقع يفرض نفسه.

 فكّروا في استقلال المستقبل، فاستقلال الماضي دفن مع أبطال الاستقلال، ولا يزال ينتظر دفن بعضهم.

اصنعوا، أيّها الجيل الجديد من اللّبنانيّين؛ رجالا ًونساء، مسيحيّين ومسلمين، اصنعوا استقلالكم على مستوى قضاياكم، اصنعوا حرّيتكم على مستوى عزّتكم وعنفوانكم.

 قد لا تستطيعون أن تصنعوا الكثير، ولكن دعنا نبنِ لبنةً اليوم، ليبني أبناؤنا لبنةً أخرى، وهكذا تتكامل الأجيال في بناء الاستقلال كقاعدة قويّة للمستقبل.

لننطلق جميعاً، عندما تكون الدولة في معنى الدولة، ولا تكون في معنى طموحات الأشخاص، أن نكون دولةً وشعباً نؤسّس الاستقلال على العلم، فيكون لكلّ موقع مدرسة، ولا نجد هناك من يتحرّك في الشّوارع دون علم، ويكون لكلّ جائع لقمة خبز، ويكون لكلّ عامل موقع عمل، ويكون لكلّ أرض محتلّة حركة حريّة.

لا تجرّبوا أن تعيشوا في الماضي.. خمسون سنة من عمر الاستقلال أفقدتنا استقلالنا، أصبحنا بحاجة إلى استقلال جديد؛ استقلال لا تتحرَّك قوى الأمن لتضرب الّذين يحرّرون البلد ولتقتلهم، ولكن تتحرّك لتقتل الّذين يستعبدون البلد.. دولة تتطلّع إلى شعبها عندما تفكّر في الأمن، ولا تتطلّع إلى الآخرين كيف يفرضون عليها شكل الأمن.

أيّها الأحبَّة، في خطّ الاستقلال، نريد أن نتحرَّك، نمسك البندقيّة بيد لنحرّر الأرض والإنسان، ونمسك القلم بيد، ونمسك المعول بيد، ونمسك الآلة في المصنع بيد... الأيدي تتكامل، الطاقات تتعاون، الإنسان يضمّ إنسانيّته إلى إنسانيّة الآخر، عند ذلك، لن يكون لبنان أرزاً، ولن يكون سهلاً وجبلاً وبحراً، سيكون لبنان إنساناً يحترم إنسانيّته، وإنساناً يغني إنسانيّته، وإنساناً ينفتح على الله ليكون إيمانه بالله من أجل إنسانيّته في حاضره ومستقبله، وعند ذلك، يمكن أن تتحدَّثوا عن لبنان الحريّة والعنفوان والتجربة الّتي لا مثيل لها.. أن لا نسقط التّجربة، بل أن نحرّكها...

 ونحن في هذا الصّرح، نحاول أن نبني لبنة إلى جانب اللّبنات الأخرى، ونرجو أن تتكاثر اللّبنات في وقتٍ قريب، حتى ينشأ أولادنا في المستقبل، وعيونهم تبتسم فرحاً قبل تبتسم شفاههم.

 أيّها الأحبّة، إنَّ المشكلة أنّ الكثيرين منّا يبتسمون، ولكنّ عيونهم تبكي، تماماً كما يقول ذلك الشّاعر اللّبناني:

تالله كم شاعرٍ أخي حُرَقٍ يغصّ بالدّمع وهو يبتسم

وكما يقول الشّاعر الشّابي:

وإذا مــا اسْــتَخفّني عَبَـثُ النّـاس           تبسَّــمتُ فــي أسًــى وجُــمُودِ

بســـمةً مُــرّةً كــأنِّيَ أســتلُّ                    من الشّوك ذابلات الورود

نريد بسمةً للحريّة وللعدالة وللمعرفة، ولكلّ ما يبني لنا إنسانيّتنا.

     * محاضرة في افتتاح ثانوية الامام الحسن (ع) بيروت بتاريخ 28 جمادى1 1414 هـ 12-11-1993م .

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية