وهذه قاعدة أخرى من قواعد التهذيب الاجتماعي في الإسلام، حاول الإسلام فيها أن يبعد المسلمين عن التعقيد في قواعد السلوك في الأماكن التي يختارها الإنسان في المجلس.
فمن الملاحظ أنّ العرف الاجتماعي الرسمي يعتبر أنّ لكلّ إنسان مركزاً معيّناً في المجلس يختلف حسب اختلاف شخصيّته الاجتماعية ومكانته الرسمية، فلا يجوز للموظّف الصغير أن يجلس إلى جانب الموظّف الكبير، ولا يمكن للشخص الذي لا يملك مكانة اجتماعيّة مرموقة أن يحتلّ مركز الوجيه الخطير.
وهكذا، نجد الطبقيّة الاجتماعيّة تتمثّل في الحفلات والاجتماعات الرسميّة بأوضح صورة، حتّى لتستطيع أن تعرف مراكز الأشخاص من خلال الأمكنة التي يجلسون فيها وموقعها من المجلس.
وقد أصبح للأشخاص الذين يشرفون على هذا الوضع صفة رسميّة لا ينالونها إلّا بالتدريب والدراسة الواسعة والتخصُّص الطويل، فيُعتبَرون مرجعاً للآخرين في تنظيم الاستقبال والجلوس وغير ذلك، ويطلقون عليهم اسم رجال البروتوكول.
هذا هو الواقع الاجتماعي أو الرسمي الذي عاش ويعيش فيه كثر من النّاس في الماضي وفي الحاضر.
وقد حاول الإسلام ـــ من خلال سلوك النبيّ وأحاديثه وبعض التّشريعات الإسلاميّة في كثير من الحالات ـــ أن يوحي إلى النّاس بأنّ طبيعة الأمكنة التي يجلس فيها الإنسان، لا تمثّل قيمة حقيقيّة من قِيَم الحياة، ولا تعبّر عن مستوى معيّن للإنسان، فإنَّ التقدُّم والتأخُّر في المكان يخضع لأوضاع زمنيّة ونفسيّة، دون أن يكون للمستوى الاجتماعيّ دخل فيها من ناحية أساسيّة. وعلى ضوء ذلك، أطلق القاعدة المأثورة في الحديث الشّريف: "إذا جاءَ أحدكم مجلساً، فليجلس حيث ينتهي به المجلس".
فالمهمّ أن تجد المكان الفارغ الّذي تجلس فيه، من دون فرق بين أن يكون في الصفّ الأوّل أو الصفّ الأخير.
ولهذا، كان النبيّ محمّد (ص) يجلس مع أصحابه، حتّى لا يستطيع القادمون ـــ ممّن لا يعرفونه ـــ أنْ يتعرَّفوا إليه، لأنّه لم يكن يتميَّز بمكان معيّن أو بوضعٍ خاصّ، حتّى طلب أصحابه منه أخيراً أنْ يصنعوا له حجراً يجلس عليه، ليعرفه القادم فلا يشتبه بغيره، ليس إلّا. وفي بعض الأحاديث: كان رسول الله إذا دخل منزلاً، قعد في أدنى المجلس.
وفي حديث الإمام الحسين بن عليّ عن أبيه في صفة النبيّ محمّد (ص): "كان إذا انتهى إلى قوم، جَلَسَ حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك".
ومن الممكن أن يكون نظر الإسلام في ذلك، أن يعيش النّاس البساطة في حياتهم، والعفويّة في سلوكهم، دون تكلُّف أو تعقيد.
وقد يكون من فوائد ذلك، أنْ نتخلَّص من الفوضى والارتباك اللّذين يحدثان من المحافظة على واقع الطبقيّة الاجتماعيّة في المجلس، وشعور القادم بضرورة تكريمه بجلوسه في المكان الذي يتناسب مع مركزه، مضافاً إلى شعور أصحاب المجلس بذلك، الأمر الذي يحدث الارتباك والضّوضاء في المكان، ما يسيء إلى طبيعة المجلس، أو إلى المناسبة التي انعقد لها، أو إلى الأشخاص الذين يحضرون فيه.
وربّما نجد بعض فوائده في المحافظة على شعور النّاس الطيّبين الذين يملكون كفاءات كبيرة ومواهب عالية، ولكنّهم لا يملكون المراكز الاجتماعيّة التي يملكها مَن هم دونهم كفاءة ومواهب.
فنحن عندما نرفض اعتبار المراكز الأماميّة في المجلس ذات قيمة حقيقيّة، تفقد أثرها، وبالتّالي، تفقد تأثيرها في إحساس البسطاء بالغبن والحرمان، عندما يجدون أنفسهم في الصفوف الأخيرة من المجلس.
وربّما نلمح التركيز على هذه الفكرة الإسلاميّة في الأماكن العامّة التي يتساوى فيها النّاس من حيث الانتفاع، كالمساجد وغيرها، حيث انطلقت القاعدة الشرعيّة لتقول: "مَن سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد، فهو أحقّ به".
فلم تفرِّق بين إنسان وإنسان، فقد يكون الشّخص الخامل اجتماعياً في الصفّ الأوّل من صلاة الجماعة مثلاً، بينما يكون الوجيه الكبير في آخر الصفّ، دون أن يملك حقّ إزالته من مكانه، مهما كلَّف الأمر، إلَّا برضاه.
*من كتاب "مفاهيم إسلاميّة عامّة".