كلّنا في هذه الدنيا نبحث عن الخسارة والرّبح، بحيث يدفع هاجس الخسارة والرّبح الناس في كلّ مجالاتهم إلى الحركة، فالخوف من الخسارة والرّغبة في الرّبح هما ما يجعل الناس يتعلّمون كيف يحصّلون ما يربحون ويتاجرون به، ولأجله يحاربون ويسالمون، بحيث يمكن أن نقول إنَّ هذين العنوانين يمثّلان الاختصار لكلّ حركة الإنسان، إن على مستوى الدّين، أو على مستوى حركة الحياة.
ولكنّ الإنسان قد يفقد في تصوّراته أو في حركته، الدقّة في التّمييز بين عنصر الربح وعنصر الخسارة، لأنّه ينظر إلى المسألة من جانب معيّن، فقد يرى في بعض الأشياء ربحاً، ويراها في جانب آخر خسارة.
وهذا ما نلاحظه في حركة الإنسان بين الدّنيا والآخرة. فنحن نلاحظ ـ مثلاً ـ أنَّ فريقاً من الناس قد يرى الرّبح في أن يحصل على فرص الدّنيا بكلّ أشكالها الماديّة، ولا يرى في الآخرة أيّ فرصة لمسألة الرّبح، بل يترك الآخرة ليوم الآخرة، حيث يقول القائل: "ليوم الله يدبّرها الله"، أي أنّ قضيّة الآخرة التي أراد الله أن نعمل لها، نتركها لله سبحانه وتعالى، وقضيّة الدنيا التي تكفّل بالكثير منها مع الشّروط، نحاول أن نهتمّ بها اهتماماً فوق العادة.
الخسارة في النّموذج
هنا نلاحظ أنَّ القرآن الكريم يتحدَّث عن الخسارة في النموذج، ويتحدَّث عن الخسارة في الخطّ، وكلّها تجتمع في نطاق حركة الإنسان في الدّنيا والآخرة.
فلنقرأ بعض آيات الله في هذا المجال: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}[الأنعام: 20]. هؤلاء النّاس الذين لا يؤمنون بالله وبرسله وبرسالاته، قد خسروا أنفسهم لأنّهم لم يرتبطوا بالله بأيّ رابطة، ولذلك فإنهم لا يملكون أيّ شيء يمكن أن يجعل لهم فرصة لرضوان الله سبحانه وتعالى، بعد أن انقطعت العلاقات ـ بما فيها العلاقات الفكريّة ـ بينهم وبين الله.. وإنّ الإنسان ربما ينفتح على الله بعقله، فيدخل الله في عقله، وإن كان يبتعد عنه بعمله، إذ يمكن أن يتّصل بالله من خلال هذه القاعدة الفكريّة التي يملكها في داخل شخصيّته، وربما تأتيه المغفرة فيما يقتصر به من عمله، أمّا الذي لا يؤمن بالله، فقد خسر كلّ نفسه، لأنّه خسر كلّ مصيره {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَ?ئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}[المؤمنون: 103]، لأنَّ لله سبحانه وتعالى في يوم القيامة موازين قد لا تكون موازين ماديّة كما يتصوّرها الناس، ولكنّها موازين العمل، وموازين القيمة، وموازين الخطّ والإيمان. ولذلك، فإنّ الرابحين هم الذين امتلأت موازينهم بالإيمان وبالعمل الصّالح، بينما الذين خفّت موازينهم، إنّما خفّت لأنّهم لم يأخذوا بالأسباب التي تقرّبهم إلى الله سبحانه وتعالى، ولهذا يقول الله إنهّم خسروا أنفسهم.
قمَّة الخسران
وهكذا، يتحدَّث الله سبحانه وتعالى عن قمّة الخسران بالنّسبة إلى الإنسان الذي يهمل نفسه، فلا يربّيها على الإيمان والعمل الصّالح، ويهمل أهله، فلا يربّيهم على الإيمان والعمل الصّالح، فيخسر نفسه وأهله، وذلك عندما يأتي يوم القيامة ومعه عائلته (زوجه وأولاده وأهله)، فلا يجدون لهم موقعاً في ظلّ رحمة الله سبحانه وتعالى.
إنَّ الله يعبِّر بأنَّ الخسارة التي خسرها هؤلاء هي الخسارة البيّنة الواضحة، لأنَّ قمَّة الخسارة هي أن تخسر نفسك وأهلك، لأنّك لو ربحت في الجانب الآخر نفسك وربحت أهلك، انطلاقاً من قول الرّسول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التحريم: 6]، فإنّ الله يحدّثك عن عائلتك وعن أهلك يوم القيامة بهذه الصّورة {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}[الرّعد: 23].
إذاً، فالخسارة الكبرى التي يعبّر عنها القرآن هي {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الزمر: 15].
الخطّ العام للخسران
ويحدّثنا الله في أكثر من آية من هم الخاسرون. والخطّ العام للخسران، هو أن يفقد الإنسان صلته بالله من خلال ابتعاده عن خطّ الإسلام المطلق، لأنّ الدين عند الله الإسلام، فلكلّ زمن إسلامه، ففي زمن نوح وإبراهيم (ع)، كان الإسلام هو إسلام نوحٍ وإبراهيم، وهو ما جاء به من عند الله، والإسلام في زمن موسى (ع) يتمثّل في شريعة موسى، وفي زمن عيسى (ع) يتمثّل في شريعة عيسى، والإسلام في زمن محمّد (ص) يتمثّل في هذا الدّين الذي هو خلاصة كلّ الرّسالات. ولذلك، فإنّ هذا الدين هو دين الحياة الّذي يمتدّ بامتداد الحياة، لأنّه يجمع كلّ العناصر الأصيلة في كلّ الرّسالات، لأنّه جاء مصدِّقاً لما بين يديه {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}[البقرة: 285]، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}[آل عمران: 85].
فكلّ من ابتغى لنفسه خطّاً في الحياة غير خطّ الدّين، سواء كان خطّ دين انتهى دوره، أو كان خطّاً لا يتَّصل بالقاعدة الدينيّة من قريب أو بعيد، فلن يُقبل منه، ذلك بأنَّ هناك خياراً واحداً للإنسان، وهو خيار أن تسلم كلّك لربِّك، كما جاء في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الأنعام: 162]، وكما عبَّر عن ذلك الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع): "اللّهمّ إنّي أخلصت بانقطاعي إليك، وأقبلت بكلّي عليك"[1]، أن يكون كلّك لله؛ عقلك، وقلبك، وإحساسك، وشعورك، وحركتك، وعلاقتك. وبتعبير آخر، أن يكون الله هو النّور الّذي يشرق في كلّ ذاتك وكيانك.
نتيجة نقض العهد
وهكذا نقرأ في خطّ حركة الإنسان في الحياة {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَ?ئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[البقرة: 27] هؤلاء الّذين يتحرّكون في الحياة بأنانيَّاتهم، بحيث يختصرون العالم في ذواتهم، فلا ينظرون إلى أيّ شيء خارج ذاتهم، ولذلك يعطون عهد الله وميثاقه، من أجل أن يتوصَّلوا من خلاله إلى مآربهم، ثم ينقضونه، ولا يفون للنّاس الذين أعطوهم العهد بأيّ معطيات لهذا العهد، {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ}. لقد أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يتواصل مع الإنسان الآخر؛ بأن يصل رحمه، أن يصل أخاه في الإيمان، أن يصل عياله الذين يتحمّل مسؤوليّتهم.
وهناك عناوين للتّواصل الإنساني في كثير من الحالات، كما ورد في كلام عليّ (ع) في عهده لمالك الأشتر: "فإنهم صنفان؛ إمّا أخ لك في الدّين، وإمّا نظيرك في الخلق"[2]، حتى العنصر الإنساني يمكن أن يكون خطاً للتّواصل.
أمّا هؤلاء، فهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل؛ يقطعون الصّلة بأرحامهم، ويقطعون الصّلة بالمؤمنين، وبكلّ الذين أراد الله سبحانه وتعالى للنّاس أن يصلوهم، من الفقراء والمساكين واليتامى وكلّ الفئات المحرومة في الحياة {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[البقرة: 121]، وقد بيّنّا ذلك {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}[الأعراف: 99]. المكر هو التَّدبير بخفاء، وقد يطلق في أغلب الكلمات في الجانب السلبي، ولكنّه ربما ينطلق في الجانب الإيجابي، ولذلك نسب المكر إلى الله، لأنّه المكر الذي يمثّل التّدبير بخفاء، فالتربية الإسلاميّة تقول للإنسان إنّ عليك أن لا تأمن التّدبير الخفيّ لله، لأنّ الله ربما يملي لك وربما يختبرك وربما يمتحنك {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}[الفجر: 15- 16]، فهو يتصوّر أنّ النعمة والتوسعة في الرّزق إكرام له، ويتصوّر التقتير في الرّزق إهانة له، والله يقول (كلا)، فهذا ابتلاء؛ هل يشكر أم يكفر؟ وهل يسخّر نعمة الله فيما أحبّ الله؟ كما يختبر الفقير؛ هل يصبر، أم يسقط تحت تأثير هذا الفقر فيبتعد عن خطّ إيمانه؟!
من هم الخاسرون؟!
وهكذا نجد {مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[الأعراف: 178]. إنَّ الله لا يضلّك بشكل مباشر، فإنَّ الله هداك النجدين {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:10]، نجد الخير ونجد الشرّ {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان؛ 3]، {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف: 29]. ولكنّ الله إذا رآك وأنت تترك ما هيّأه لك من أسباب الهدى، فإنّه يتركك لنفسك، ومن تركه الله لنفسه فإنّه يضلّ، لأنّ الإنسان إنمّا يهتدي من خلال ألطاف الله في الهداية، مع اختياره فيما ينطلق فيه من اختيار.
وهكذا { كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا}، يعني أن لا تعتبروا أنفسكم أنّكم في موقع القوّة لأنّكم تملكون المال الكثير، أو تملكون الأولاد الكثيرين، ذلك لأنَّ من سبقكم كانوا ـ بلحاظ بعض الاعتبارات ـ أكثر قوّة وأولاداً {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} بنصيبهم {فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} خضتم في الفساد وفي الفتن وفيما يغضب الله {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}، فلم يحصلوا منها على شيء {وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[التوبة: 69].
مصير حزب الشّيطان
وهكذا، تتحدّث الآيات الكريمة عن الّذين ساروا مع الشيطان، فاستحوذ عليهم لأنهّم استسلموا له وانقادوا إليه، فلم يعتبروه عدوّاً، ولم يواجهوا خطواته بخطوات الرّحمن، وانفتحوا على وسوساته وعلى حبائله وخدعه وأمانيه {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[المجادلة: 19]. وقد حدَّثنا الله عن حزب الشّيطان عندما قال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر: 6].
المسؤوليَّة عن المال والأولاد
وهكذا، يقول الله وهو يوجِّهنا أن لا نستغرق في أموالنا لتكون أموالنا كلّ فكرنا وكلَّ اهتمامنا، وأن لا نستغرق في أولادنا ليكون أولادنا كلّ اهتمامنا، بل إنَّ على الإنسان أن يهتمّ بماله ليصلح ماله وينتج ماله من حلال. ولكن وأنت تشتغل في مالك، اذكر ربَّك، وعندما تهتمّ بأولادك، تذكّر مسؤوليَّتك عنهم تجاه ربّك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَ?ئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[المنافقون: 9].
خطورة اتّباع الكافرين
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا...}. وراقبوا هذه الآية، لأنهّا تتحرّك في مواقع المسلمين المؤمنين بحجم العالم، عندما يقف المسلمون أمام الحضارة الغربيّة المنطلقة من قاعدة ماديّة، وعندما يستغرق المسلمون في أجواء الاستكبار العالميّ والكفر العالميّ، ليطيعوهم في قضاياهم الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، ليبتعدوا عن الخطّ المستقيم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[آل عمران: 149]، لأنهّم مهما تقرّبوا لكم، ومهما خدعوكم، فإنّ القضيّة عندهم هي أن يكون برنامجهم برنامجكم، وأن يكون فكرهم فكركم، وأن تكون تقاليدهم وعاداتهم تقاليدكم وعاداتكم! هذا هو ما نلاحظه في كلّ الواقع الإسلامي {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[البقرة: 120]، فقد يتقرّب المسلم للكافرين ويتقرّب للمستكبرين، لعلّه يحصل على شيء من امتيازاتهم، أو لعلّهم يرضون عنه عندما يبرز أمامهم كشخصٍ متحرّرٍ يريد أن يتمرَّد على الماضي وعلى دينه.
نحن نريد أن نتقدَّم، ولكن من قاعدة التقدّم التي رسمها الله ورسوله، ونريد التّنمية، ولكن على أساس الخطّ الذي أراده الله ورسوله، وذلك بأن ننمّي قدراتنا الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، لأنهّم قد يقنعون بعض النّاس عندنا بأنّ هذا تقدّمي متحضّر، وهذا منفتح، ولكنّ هذه الكلمات قد تكون "كلمة حقّ يراد بها باطل"، تكون كلمة باطل يراد لها أن تكون بصورة الحقّ.
العبادة على حرف!
وهكذا، ننطلق في خطّ القرآن الكريم، لنجد أيضاً بعض النماذج الخاسرة، كما في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ}.
هنا، في معنى كلمة الحرف، هناك تفسيران؛ تفسير يصوّر الإنسان الواقف على حافة الجبل، بحيث ليس بينه وبين الهاوية أيّ حاجز، أي بمجرّد أن يأتيه أيّ هواء شديد، فإنّه سوف ينقلب. وتفسير آخر يعني على ثقافة ناقصة، أي ليس له من الثّقافة والمعرفة بالله نصيب، مثله كمثل الإنسان الذي لا يعرف من اللّغة إلّا حرفاً واحداً. يقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ}، كناية عن أنّ عبادته لم تكن منطلقة من عمق وعيه ومن عمق تفكيره، ولذلك، فإنّ أيّ هزّة يمكن أن تسقطه {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}، بحيث يترك كلّ الإيمان وكلّ العبادة {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الحجّ: 11]. خسر الدّنيا، لأنّ كلّ ما يأمر الله به وما ينهى عنه هو في صلاح الدّنيا، وكذلك خسر الآخرة لأنَّ الصّلاح هو في الآخرة.
وقد ورد في بعض الأحاديث عن أئمّة أهل البيت (ع)، أنهّم يقولون في تصوير هذا الجانب، كما في الحديث عن الإمام زين العابدين (ع): "إنّ في الناس من خسر الدّنيا والآخرة، يترك الدنيا للدنيا، ويرى أنّ لذّة الرياسة الباطلة أفضل من لذّة الأموال والنّعم المباحة المحلّلة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرّياسة"[3]، فهو يترك الحلال كلّه طلباً للرّئاسة، بحيث إنَّ المال قد لا يشكّل اختباراً لبعض النّاس، في حين أنّ الجاه يمكن أن يشكّل اختباراً لهم.
ولقد سئل أمير المؤمنين (ع): "من العظيم الشّقاء؟"، أي من هو العظيم في شقائه؟ قال: "رجل ترك الدنيا للدنيا ففاتته الدنيا ـ أي أنّه ترك اللّذّة، كما يترك البعض الدّنيا للدّنيا، فلا يأكل جيّداً، بل يحبّ أن يجمع الأموال، ولكن من دون أن يستفيد منها شيئاً {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ}[محمد: 38]. بعض النّاس يعتبر غنيّاً، ولكنّه يعيش عيشة الفقر، أو هناك شخص يترك الدّنيا ليحصل على لذّة الجاه مثلاً ـ وخسر الآخرة"[4]، لأنه لم يأخذ الدنيا من منطلق أنها مزرعة للآخرة، كما قال قوم قارون لقارون: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ...}[القصص: 76- 77]، فالله يريدنا أن نعيش الدّنيا، ولكن أن نجعل الآخرة هدف كلّ نشاطاتنا في الدّنيا.
عن عليّ (ع): "معاشر الناس، اتّقوا الله، فكم من مؤمل ما لا يبلغه، وبانٍ ما لا يسكنه، وجامع ما سوف يتركه، ولعلّه من باطل جمعه، ومن حقّ منعه، أصابه حراماً، واحتمل به آثاماً، فناء بوزره، وقدم على ربّه آسفاً لاهفاً، قد خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين"[5].
أشدّ النّاس خسارة
وهناك عنوان آخر يطرحه القرآن، وهو الأخسرون أعمالاً الّذين هم أشدّ الناس خسارة، لأنهّم يتحرّكون على أساس أن يفقدوا في أنفسهم ما يتصوّرونه في أنفسهم، أن يقطعوا المسافة وهم يرون أنهّا توصلهم إلى الهدف، وعندما يقطعون آلاف الكيلومترات، وإذا بهم يصلون إلى ضدّ الهدف، فأيّ خسارة هي هذه؟! {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[الكهف: 103- 104] الذين ساروا في الاتجاه المضادّ، الاتجاه الضالّ، فضاعوا في الصّحراء، ولم يسيروا في الطّريق المستقيم.
فأيّ حسرة أكثر من أن تتصوَّر نفسك وبيدها مفتاح الجنَّة، لكن لا تلبث أن تكتشف أنَّ أسنان المفتاح لا تنطبق على مفتاح الجنّة، بل على مفتاح النَّار، بحيث يشعر الإنسان بأنَّ أحلامه التي بناها في نفسه وفي كلّ عمره قد سقطت ولم يحصل عليها، فأيّ حسرة أعظم من هذه الحسرة؟! {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.
الخسارة بمفهوم أهل البيت (ع)
وهنا نأتي إلى كلمات أئمّة أهل البيت (ع)، الذين هم الثّقل الآخر للكتاب، لأنّهم هم الّذين يفسِّرون لنا الكتاب.
فالإمام (ع) يقول في هذه المسألة، مؤشّراً على بعض النماذج: "أخسر النّاس، من قدر على أن يقول الحقّ ولم يقل"[6]، أي عندما يخفي الإنسان في المجتمع أيّ حقّ، سواء كان حقّ العقيدة أو حقّ الشّريعة أو حقّ السياسة أو حقّ الاجتماع، أو أيّ نوع من أنواع الحقّ الذي أرسله الله، كما لو كان قادراً على أن يقول كلمة الحقّ والظروف ملائمة لقولها، وليست هناك أيّ ضغوط فوق العادة تبرّر له السكوت، وسكت لأنّه لا يريد أن يتعب رأسه، ولأنّه لا يريد أن ينزعج النّاس منه وما إلى ذلك، فسوف يكون أخسر النّاس، وذلك لسبب بسيط، وهو أنَّ قول الحقّ هو الّذي يرفع الإنسان عند الله، بحيث إذا كان قول الحقّ آخر فرصته ولم يقله، فيخسر بذلك فرصة العمر التي تجعله قريباً إلى ربّه.
لقد كانت عظمة عليّ (ع) أنّه كان في كلّ حياته مع الحقّ: "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ، يدور معه حيثما دار"[7]، وقال: "قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأى عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين"[8]. تلك هي المسألة.
الحقّ مسؤوليّتنا جميعاً
لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ فإنّ مسؤوليّتنا في الحياة كأمّة وكأفراد وكمجتمع، أن نتعلّم الحقّ، وأن نقول كلمة الحقّ، وقد تكون لك أعذارك الّتي تفرض عليك التقيّة، ولكن الإنسان الّذي يؤمن بالحقّ، يشعر بأنّ الحقّ مسؤوليّته، فإذا كانت هناك فرصة لكلمة الحقّ، فعليه أن يقولها، في أيّ جانب من الجوانب كانت، لأنَّ الذين يسقطون هم الحياديّون بين الحقّ والباطل.
لقد ورد في حديث الإمام الكاظم (ع): "أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمّعة". قال: وما الإمَّعة؟ قال: "أن لا تقول أنا مع النّاس وأنا كواحد من الناس. إنَّ رسول الله (ص) قال: يا أيّها النّاس، إنمّا هما نجدان؛ نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير"[9]. ففي موقع الحقّ، عليك أن تقول كلمة الحقّ {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف: 29].
وأحبّ أن أقول لنفسي ولكم، إنَّ عليّاً كان في ضربته لعمرو بن ودّ ولمرحب عظيماً، وفي جهاده عظيماً، ولكن فكر عليّ هو الأعظم، فما يبقى لنا من عليّ (ع) هو هذا الفكر، فلقد انطوت السنون وبقي جديداً، لأنّه فكر الحياة، إذ لم يفكّر عليّ (ع) بحجم مرحلته، ولكنّه كان يفكّر بحجم رسالته، ورسالة عليّ هي رسالة الإسلام ورسالة الحياة: "إنّ أخسر النّاس صفقةً وأخيبهم سعياً، رجل أخلق بدنه في طلب ماله، ولم تساعده المقادير على إدارته ـ أمواله غير الشرعيّة ـ فخرج من الدّنيا بحسرته، وقدم على الآخرة بتبعته"[10].
وهكذا، فإنّ أخسر النّاس هو الّذي باع آخرته بدنياه، وليس له في الآخرة نصيب. يقول الإمام عليّ (ع): "أخسركم أظلمكم"[11]، وأكثركم ظلماً لنفسه ولعياله وللنّاس من حوله". هذا هو أخسركم، لأنّ الله لا يجعل للظالمين أيّ فرصة لرحمته، بل يجعلهم في دار عذابه.
ومن كتاب لأمير المؤمنين (ع) إلى عامله مصقلة بن هبيرة الشيباني: "بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك وعصيت إمامك؛ أنّك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم، وأريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من أعراب قومك. فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لئن كان ذلك حقّاً، لتجدنّ بك عليّ هواناً، ولتخفّنّ عندي ميزاناً. فلا تستهن بحقّ ربّك، ولا تصلح دنياك بمحق دينك، فتكون من الأخسرين أعمالاً"[12]. وذلك عندما يوجّه مال المسلمين في غير مصلحة المسلمين، وعندما ينفق مال الله ويعطي من لا يتّقي الله، طلباً للجاه، وطلباً للسمعة وما إلى ذلك.
نحن عمّال الله
أيّها الأحبّة: نحن في هذه الدنيا عمّال الله: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}[الانشقاق: 6]، وكلّ إنسان يأخذ حجم عمله {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزلزله: 7 - 8 ]. نحن سائرون إلى الله، ونحن تحت رقابة الله ورسوله والمؤمنين {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[التّوبة: 105]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}[الحشر: 18]، وليفحص كلّ واحد كتابه قبل أن يقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء: 14]. وبعد ذلك، عندما تعرفون حجم رصيدكم في الآخرة، اتقوا الله فيما تستقبلون من عمركم {إنّ الله خبير بما تعملون}[الحشر: 18] {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ} نسوه في لسانهم، في عقولهم، في قلوبهم، في علاقاتهم، في معاملاتهم وفي كلّ أوضاعهم، وكانوا بذلك فاسقين، {فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَ?ئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر: 18].
ماذا تريدون؟ هل تريدون الجنّة؟ تذكّروا أنَّ للجنّة شروطها، وهل تريدون الابتعاد عن النّار؟ تذكّروا أنّ للنّار حذرها {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 20]، {وَفِي ذَ?لِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[المطفّفين: 26].
والحمد لله ربِّ العالمين.
* فكر وثقافة، العدد 95، بتاريخ: 8 ربيع الثّاني 1419هـ/ الموافق: 1 - 8 - 1998م.
[1] الصحيفة السجادية، دعاؤه (ع) متفزّعًا إلى الله.
[2] نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ (ع).
[3] بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج71، ص 185.
[4] بحار الأنوار، ج89، ص 251.
[5] نهج البلاغة، خطب الإمام (ع).
[6] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج1، ص 742.
[7] بحار الأنوار، ج10، ص 432.
[8] نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع).
[9] ميزان الحكمة، الريشهري، ج4، ص 3402.
[10] نهج ابلاغة، خطب الإمام علي (ع).
[11] ميزان الحكمة، ج1، ص 742.
[12] ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص 742.