يتناول القرآن الكريم طبيعة القلق الإنسانيّ الذي يعيشه الإنسان أمام البلاء، فهو عندما يواجه المصائب في حياته، فإنَّه يتحوَّل إلى إنسانٍ خائفٍ حائرٍ مستجير، يحاول أن يتخلّص ممّا هو فيه بأيّ طريقة كانت. وبذلك، يكتشف الله في وعيه عندما يضيق به الأمر، وتشتدّ عليه الظروف وتحاصره الآلام، وخصوصاً عندما يدرك أن ليس هناك أحدٌ يمكن أن يُخرِجه من هذه المصاعب، فيلجأ إلى الله، ويستعيد ما أسلف في ماضيه من الخطايا والذّنوب والكفر بالله ونعمه، ويخاطب الله نادماً مستغفراً: يا ربّنا، لئن أنجيتنا من هذه الشّدّة، وخرجنا منها إلى العافية والسّلامة، فإنّنا سنعبدك ونطيعك ولن نخالف أمرك.
وهذا ما جاء في كتاب الله، حيث يقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ* وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}[لقمان: 31 ـ 32].
ويرفع الله عنهم البلاء، ثمّ بعد ذلك يعودون إلى ما كانوا عليه، وإنْ بقي منهم البعض في خطِّ الاعتدال والاستقامة، ولكنّ الكثيرين في هذه الحالة يغدرون بمواثيقهم وعهودهم وينقضونها.. وهذه حالة عامّةٌ نعيشها في كلّ وضع يشتدّ بنا فيحاصرنا، حتّى إذا فرّج الله عنّا ذلك، فإنَّ بعضنا ينسى الله.
ولذا، فإنّ الله سبحانه يريد من الإنسان أن يعمِّق إيمانه بالله في نفسه في حال الرّخاء كما في حال الشّدَّة، لأنَّ الإنسان إذا كان في حالة الأمن والرّخاء والصحّة، فمن الذي يُؤمنه من مكر الله الّذي يزيل عنه كلَّ ذلك في لحظة واحدة لو أراد بها، فكما أنَّه محتاجٌ إلى الله في حال الشدّة ليزيلها عنه، كذلك هو في حال النّعمة محتاجٌ إليه حتّى يحفظها له. فبعض الناس يغفلون، ويُخَيّل إليهم أنّهم ما داموا في عافية وأمن ورفاه، فإنَّ الأقدار لن تقترب منهم، والبلايا لن تزحف إليهم، وأنّهم يملكون القدرة على البقاء والاستمرار في النِّعَم والعافية. ولكنَّ التجربة التي عاشها الإنسان في كلِّ مراحل حياته، تثبت له أنَّ العسر يأتي بعد اليسر، تماماً كما هو اليسر يأتي بعد العسر، وأنَّ الأيّام بيد الله تعالى يداولها بين الناس، فيومٌ لك ويومٌ عليك، ويومٌ يُسعد فيه الإنسان ويومٌ يشقى فيه.
لذلك، يريد الله للإنسان ألَّا يغترَّ بِنِعَم الله عليه، فيأمن من مكره وبلائه {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ}[الانفطار: 6 ـ 8]، فكما أنَّ الله أوجدك من نطفة فتحوَّلت إلى عَلَقة ثمّ مضغة، ثمّ خلق الله العظام فكساها لحماً، فصرت خلقاً آخر، تنقَّلتَ من الطفولة إلى الشّباب ثمّ الشّيخوخة والكهولة، وكما أنّه يركّبك في أيّ حالة حسب مشيئته، فإنّه كذلك يضعك في يومٍ تغنى فيه، وفي آخر تفتقر، أو في يوم تمرض وفي آخر تشفى. فالإنسان في كلِّ هذه الحالات، يبقى في حياته معلَّقاً بإرادة الله، فالنِّعمة بيد الله، والشِّدّة بيد الله.
ومن هنا، على الإنسان أن يربّيَ إيمانه في عقله، ويربّيَ وعيه لآخرته ولمسؤوليّته، بحيث يثبت الإيمان عنده كثبات الحياة في جسده، فالحياة في مدى العمر المحدود للإنسان، تبقى موجودةً في حال الصحّة وفي حال المرض، كذلك الإيمان ينبغي أن يبقى في عقل الإنسان ووجدانه في حال الشدّة والرّخاء.
وفي هذا، يقول الإمام زين العابدين (ع) في بعض أدعيته: "واجعلني ممّن يدعونك مخلصاً في الرّخاء دعاءَ المخلصينَ المضطرّين لكَ في الدّعاء". فإنّي أدعوك في حال الرّخاء، حال الصحّة والسِّعة والأمن والغنى، مثلما أدعوك في حال الفقر والخوف والبلاء. وهذه الحالة تنمو في نفس الإنسان من خلال التّفكير الدّائم في الله، والجلوس بين يديه في الصّلاة والخشوع والابتهال، وذلك حتَّى لا يكون الإيمان لدى الإنسان إيماناً طارئاً {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ}، فحال هذه العبادة المهتزّة والطارئة، حال مَنْ يقف على حافة الجبل أو الحائط، فإذا ما مرَّت الرّيح، فإنّها ترميه إلى الهاوية {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} مشت الدّنيا معه وأقبلت عليه وحصل على الخير الوفير، {اطْمَأَنَّ بِهِ} اطمأنّت نفسه وارتاحت، فنسي الله، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} أي بلاء وشدّة {انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الحجّ: 11] قد يبتلينا الله بأنفسنا، فيحرمنا من بعض ما نحن فيه، أو بأولادنا، فيسلبنا ما نحبّه منهم، أو يبتلينا بأوضاعنا، فيحجب عنّا الجاه والأمن، أو يبتلينا أيضاً فيوسّع علينا في الرّزق والنِّعَم والأولاد والجاه الكبير، وفي كلتا الحالتين، يحتاج الأمر إلى دقّة في الملاحظة، وإلى وعي في التجربة، حتّى لا يسقط الإنسان في امتحان الغنى، كما لا يسقط في امتحان الفقر. فالله يطلب من الغنيّ أن ينضبط فلا يسرف، بل أن يشكر ويعطي ممّا أعطاه الله، ويطلب من الفقير ألّا ييأس وينحرف بسبب فقره، بل أن يصبر، فلعلّ الله يبدّل حاله بأحسن منها. ولذلك، أن تنجح في بلاء الفقر، أن تصبر فلا تعصي الله نتيجة فقرك، وأن تنجح في بلاء الغنى، أن تشكر الله فتصبر على غناك، فلا يجرّك غناك إلى معصية الله، بل أن تطيعه سبحانه فيما أعطاك.
* من كتاب "من عرفان القرآن".
يتناول القرآن الكريم طبيعة القلق الإنسانيّ الذي يعيشه الإنسان أمام البلاء، فهو عندما يواجه المصائب في حياته، فإنَّه يتحوَّل إلى إنسانٍ خائفٍ حائرٍ مستجير، يحاول أن يتخلّص ممّا هو فيه بأيّ طريقة كانت. وبذلك، يكتشف الله في وعيه عندما يضيق به الأمر، وتشتدّ عليه الظروف وتحاصره الآلام، وخصوصاً عندما يدرك أن ليس هناك أحدٌ يمكن أن يُخرِجه من هذه المصاعب، فيلجأ إلى الله، ويستعيد ما أسلف في ماضيه من الخطايا والذّنوب والكفر بالله ونعمه، ويخاطب الله نادماً مستغفراً: يا ربّنا، لئن أنجيتنا من هذه الشّدّة، وخرجنا منها إلى العافية والسّلامة، فإنّنا سنعبدك ونطيعك ولن نخالف أمرك.
وهذا ما جاء في كتاب الله، حيث يقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ* وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}[لقمان: 31 ـ 32].
ويرفع الله عنهم البلاء، ثمّ بعد ذلك يعودون إلى ما كانوا عليه، وإنْ بقي منهم البعض في خطِّ الاعتدال والاستقامة، ولكنّ الكثيرين في هذه الحالة يغدرون بمواثيقهم وعهودهم وينقضونها.. وهذه حالة عامّةٌ نعيشها في كلّ وضع يشتدّ بنا فيحاصرنا، حتّى إذا فرّج الله عنّا ذلك، فإنَّ بعضنا ينسى الله.
ولذا، فإنّ الله سبحانه يريد من الإنسان أن يعمِّق إيمانه بالله في نفسه في حال الرّخاء كما في حال الشّدَّة، لأنَّ الإنسان إذا كان في حالة الأمن والرّخاء والصحّة، فمن الذي يُؤمنه من مكر الله الّذي يزيل عنه كلَّ ذلك في لحظة واحدة لو أراد بها، فكما أنَّه محتاجٌ إلى الله في حال الشدّة ليزيلها عنه، كذلك هو في حال النّعمة محتاجٌ إليه حتّى يحفظها له. فبعض الناس يغفلون، ويُخَيّل إليهم أنّهم ما داموا في عافية وأمن ورفاه، فإنَّ الأقدار لن تقترب منهم، والبلايا لن تزحف إليهم، وأنّهم يملكون القدرة على البقاء والاستمرار في النِّعَم والعافية. ولكنَّ التجربة التي عاشها الإنسان في كلِّ مراحل حياته، تثبت له أنَّ العسر يأتي بعد اليسر، تماماً كما هو اليسر يأتي بعد العسر، وأنَّ الأيّام بيد الله تعالى يداولها بين الناس، فيومٌ لك ويومٌ عليك، ويومٌ يُسعد فيه الإنسان ويومٌ يشقى فيه.
لذلك، يريد الله للإنسان ألَّا يغترَّ بِنِعَم الله عليه، فيأمن من مكره وبلائه {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ}[الانفطار: 6 ـ 8]، فكما أنَّ الله أوجدك من نطفة فتحوَّلت إلى عَلَقة ثمّ مضغة، ثمّ خلق الله العظام فكساها لحماً، فصرت خلقاً آخر، تنقَّلتَ من الطفولة إلى الشّباب ثمّ الشّيخوخة والكهولة، وكما أنّه يركّبك في أيّ حالة حسب مشيئته، فإنّه كذلك يضعك في يومٍ تغنى فيه، وفي آخر تفتقر، أو في يوم تمرض وفي آخر تشفى. فالإنسان في كلِّ هذه الحالات، يبقى في حياته معلَّقاً بإرادة الله، فالنِّعمة بيد الله، والشِّدّة بيد الله.
ومن هنا، على الإنسان أن يربّيَ إيمانه في عقله، ويربّيَ وعيه لآخرته ولمسؤوليّته، بحيث يثبت الإيمان عنده كثبات الحياة في جسده، فالحياة في مدى العمر المحدود للإنسان، تبقى موجودةً في حال الصحّة وفي حال المرض، كذلك الإيمان ينبغي أن يبقى في عقل الإنسان ووجدانه في حال الشدّة والرّخاء.
وفي هذا، يقول الإمام زين العابدين (ع) في بعض أدعيته: "واجعلني ممّن يدعونك مخلصاً في الرّخاء دعاءَ المخلصينَ المضطرّين لكَ في الدّعاء". فإنّي أدعوك في حال الرّخاء، حال الصحّة والسِّعة والأمن والغنى، مثلما أدعوك في حال الفقر والخوف والبلاء. وهذه الحالة تنمو في نفس الإنسان من خلال التّفكير الدّائم في الله، والجلوس بين يديه في الصّلاة والخشوع والابتهال، وذلك حتَّى لا يكون الإيمان لدى الإنسان إيماناً طارئاً {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ}، فحال هذه العبادة المهتزّة والطارئة، حال مَنْ يقف على حافة الجبل أو الحائط، فإذا ما مرَّت الرّيح، فإنّها ترميه إلى الهاوية {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} مشت الدّنيا معه وأقبلت عليه وحصل على الخير الوفير، {اطْمَأَنَّ بِهِ} اطمأنّت نفسه وارتاحت، فنسي الله، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} أي بلاء وشدّة {انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الحجّ: 11] قد يبتلينا الله بأنفسنا، فيحرمنا من بعض ما نحن فيه، أو بأولادنا، فيسلبنا ما نحبّه منهم، أو يبتلينا بأوضاعنا، فيحجب عنّا الجاه والأمن، أو يبتلينا أيضاً فيوسّع علينا في الرّزق والنِّعَم والأولاد والجاه الكبير، وفي كلتا الحالتين، يحتاج الأمر إلى دقّة في الملاحظة، وإلى وعي في التجربة، حتّى لا يسقط الإنسان في امتحان الغنى، كما لا يسقط في امتحان الفقر. فالله يطلب من الغنيّ أن ينضبط فلا يسرف، بل أن يشكر ويعطي ممّا أعطاه الله، ويطلب من الفقير ألّا ييأس وينحرف بسبب فقره، بل أن يصبر، فلعلّ الله يبدّل حاله بأحسن منها. ولذلك، أن تنجح في بلاء الفقر، أن تصبر فلا تعصي الله نتيجة فقرك، وأن تنجح في بلاء الغنى، أن تشكر الله فتصبر على غناك، فلا يجرّك غناك إلى معصية الله، بل أن تطيعه سبحانه فيما أعطاك.
* من كتاب "من عرفان القرآن".