كتابات
27/07/2020

الحوار في خطّ القرآن والدّعوة

الحوار في خطّ القرآن والدّعوة

وكان القرآن الكريم خاتمة الكتب السماوية التي جاءت لتعلّم الإنسان كيف يكون الحوار طريقاً للفكر والعقيدة والعمل.

وجاء الإسلام ـ من خلال القرآن الكريم ـ ليكون دين الحوار، الذي يطلق للعقل أن يفكّر في كلّ شيء، ليتحدّث عن كلّ شيء، وليحاور الآخرين على أساس الحجّة والبرهان والدّليل، ليعلِّمهم كيف يصلون إلى قناعاته وآفاقه بالكلمة الحلوة، والأسلوب الطيّب، والموعظة الحسنة، والجدال بالّتي هي أحسن..

وتقدّم الإسلام، وتقدّمت معه تجارب الحوار، وعرف المسلمون كيف ينفتحون على العالم من خلال ذلك، وكيف ينطلقون إليه في رسالتهم في أجواء الحوار التي تحترم الإنسان الذي يختلف معها، لتقوده إلى أفكارها من موقع احترام الفكر والكلمة والموقف.

ومرّت الأيام، وجاء عصر التخلّف، وانكمشت آفاق الحوار، وانعكست هذه الأوضاع على الإسلام كدين في نظر الآخرين، فحاولوا أن يصوّروه بصورة الدّين الذي لا يسمح لوجهات النظر الأخرى بأن تعبّر عن نفسها في حضوره، وتأثّر المسلمون بذلك في بعض مجتمعاتهم، فضاقت نفوسهم بالحوار، وابتعدوا عن القرآن، فلم يرتكزوا عليه في وعيهم لقضايا العقيدة والحياة.. وجاء الكفر في ثوب الاستعمار، ليجمِّد القرآن في نفوسنا وحياتنا، وليوحي إلينا بأنّ طريق الخلاص يتمثّل في ما استحدثه من مبادئ، وفي ما أثاره من فلسفات.

ووجدت هذه المبادئ والفلسفات مجالها الرّحب في أفكار الجيل وتطلّعاته، من خلال الإطار الفكري الذي صنعته أساليب التربية الغربيّة، وغذّته مفاهيمها الحضارية، وركّزته القوى المادية الضخمة التي يملكها الاستعمار، من أدوات الحرب والدّمار ووسائل الصناعة الحديثة... وتحوّل ذلك كلّه إلى إرهاب فكريّ يشلّ قدرة الإنسان المسلم على المناقشة في الأسس والتفاصيل، فضلاً عن المعارضة.

فقد استطاعت كلّ تلك العوامل أن تثير في شخصيّته الشعور بضعف الأصالة الفكريّة المرتبطة بجذور العقيدة والتّاريخ؛ وتخلق في داخله "عقدة الاستغراب"، باعتبارها الطّريق الوحيد للدّخول في أجواء العصر والارتفاع إلى مستواه، حتى أغلق على نفسه أبواب الحوار، لأنَّ الموضوع لا يحتمل المناقشة؛ فقد استطاع الفكر الأوروبي أن يفرض نفسه على الحياة، من خلال نجاحه في دفع الحياة نحو التقدّم على صورته، ما يجعل من قضية سلامتها من الخطأ قضيّةً لا تحتاج إلى إثبات، لأنّ التجربة تؤكّد ذلك.. وما زالت القصّة تتفاعل على مستوى الفكر والحياة والمصير، في دائرة تؤكّد الإيجابيات بعيداً عن كلّ السلبيات الروحية والعملية والمصيريّة.

وعادت قضية الحوار من جديد، لتكون أحد الهموم الكبيرة للعاملين في سبيل الدّعوة الإسلاميّة، لتحارب في اتجاهين:

أحدهما: تحطيم الحواجز النفسية التي تحول بين الجيل المفتون بأجواء الحضارة الأوروبيّة وبين الحوار، فتقوده إلى الشكّ والتساؤل، وتثير في نفسه مشاعر القلق تجاه مصيره، وذلك بتوجيهه إلى التّفكير في السلبيات التي بدأت تتحرّك في داخل حياته المضطربة المرتبكة في أكثر من اتجاه، وعلى أكثر من صعيد، ومحاولة دفعه إلى التفكير في إيجابيات الفكر الإسلامي في العقيدة والتّشريع، من خلال إثارة المفاهيم العامة التي تعالج مشكلات الحياة في جوانبها المختلفة المتنوّعة، ليوازن بين الإيجابيات والسلبيات في عملية مقارنةٍ منفتحة واعية.

ثانيهما: إثارة روح الحوار في داخل المسلمين، الّذين يعتبرون أنفسهم من العاملين على دعوة الناس إلى الإسلام، ليشعروا بأنَّ قضية الدخول في الحوار مع الآخرين ليست قضيّة مزاج منفتح أو منغلق يمارس من خلاله الإنسان عمله، بل هي قضية الرسالة في خطواتها القرآنيّة في الوحي، وفي خطواتها النبويّة في العمل النبوي.

ولذلك، فإنَّ عليهم أن يستثيروا كلّ ما في داخلهم من طاقات روحيّة وشعوريّة وفكريّة، فيدفعوا بها إلى أجواء الحوار، ليجعلوا منها مجالاً منتجاً في رحابته الروحيّة وفي عمقه الفكري.

وفي الوقت نفسه، لا بدّ لهم من التوفر على التعمق في الدراسة والبحث والتأمّل، لأنّ الحوار الدّائر الآن، يفرض على أطرافه أن يبلغوا مستوى عالياً من الثقافة تتحرّك في أكثر من اتجاه، لأنَّ المشاكل المطروحة على الساحة لا تنحصر في أفق واحد، بل تتنوّع آفاقها ومنطلقاتها حسب تنوّع الساحة التي تتحرّك فيها.

ومن الطبيعي أن يطرح هذا الاتجاه ـ في معالجة المواقف الرساليّة في طريق الدعوة إلى الله ـ قضايا جديدة وروحاً جديدة وأسلوباً جديداً في العمل، لم يعرفها العاملون في مراحل الاسترخاء الروحي أو الفكري الذي عاشوه في قناعةٍ كسولة عجيبة لا تتوجه إلى الحياة، إلا من خلال الأفق الضيّق في الفكرة والأسلوب، من دون التفات إلى الواقع الذي يركض بسرعة قياسيّة مذهلة، ليجتاز كلّ المتاهات في كلّ الاتجاهات.

وعاد الحوار إلى السّاحة في النّدوات والمؤلّفات والمحاضرات، وعدنا إلى القرآن من جديد، لنتعلّم منه كيف نبدأ الحوار من موقع الأساليب الرساليّة، وكيف نتحرّك في مجالاته لتنسجم العقيدة مع أسلوبها، لأنَّ أجواء الرّسالة عندما تطبع الأساليب بطابعها، تعطي العمل قوّة دفع جديدة في روحيّة واقعيّة هادفة.

*من كتاب "الحوار في القرآن".

وكان القرآن الكريم خاتمة الكتب السماوية التي جاءت لتعلّم الإنسان كيف يكون الحوار طريقاً للفكر والعقيدة والعمل.

وجاء الإسلام ـ من خلال القرآن الكريم ـ ليكون دين الحوار، الذي يطلق للعقل أن يفكّر في كلّ شيء، ليتحدّث عن كلّ شيء، وليحاور الآخرين على أساس الحجّة والبرهان والدّليل، ليعلِّمهم كيف يصلون إلى قناعاته وآفاقه بالكلمة الحلوة، والأسلوب الطيّب، والموعظة الحسنة، والجدال بالّتي هي أحسن..

وتقدّم الإسلام، وتقدّمت معه تجارب الحوار، وعرف المسلمون كيف ينفتحون على العالم من خلال ذلك، وكيف ينطلقون إليه في رسالتهم في أجواء الحوار التي تحترم الإنسان الذي يختلف معها، لتقوده إلى أفكارها من موقع احترام الفكر والكلمة والموقف.

ومرّت الأيام، وجاء عصر التخلّف، وانكمشت آفاق الحوار، وانعكست هذه الأوضاع على الإسلام كدين في نظر الآخرين، فحاولوا أن يصوّروه بصورة الدّين الذي لا يسمح لوجهات النظر الأخرى بأن تعبّر عن نفسها في حضوره، وتأثّر المسلمون بذلك في بعض مجتمعاتهم، فضاقت نفوسهم بالحوار، وابتعدوا عن القرآن، فلم يرتكزوا عليه في وعيهم لقضايا العقيدة والحياة.. وجاء الكفر في ثوب الاستعمار، ليجمِّد القرآن في نفوسنا وحياتنا، وليوحي إلينا بأنّ طريق الخلاص يتمثّل في ما استحدثه من مبادئ، وفي ما أثاره من فلسفات.

ووجدت هذه المبادئ والفلسفات مجالها الرّحب في أفكار الجيل وتطلّعاته، من خلال الإطار الفكري الذي صنعته أساليب التربية الغربيّة، وغذّته مفاهيمها الحضارية، وركّزته القوى المادية الضخمة التي يملكها الاستعمار، من أدوات الحرب والدّمار ووسائل الصناعة الحديثة... وتحوّل ذلك كلّه إلى إرهاب فكريّ يشلّ قدرة الإنسان المسلم على المناقشة في الأسس والتفاصيل، فضلاً عن المعارضة.

فقد استطاعت كلّ تلك العوامل أن تثير في شخصيّته الشعور بضعف الأصالة الفكريّة المرتبطة بجذور العقيدة والتّاريخ؛ وتخلق في داخله "عقدة الاستغراب"، باعتبارها الطّريق الوحيد للدّخول في أجواء العصر والارتفاع إلى مستواه، حتى أغلق على نفسه أبواب الحوار، لأنَّ الموضوع لا يحتمل المناقشة؛ فقد استطاع الفكر الأوروبي أن يفرض نفسه على الحياة، من خلال نجاحه في دفع الحياة نحو التقدّم على صورته، ما يجعل من قضية سلامتها من الخطأ قضيّةً لا تحتاج إلى إثبات، لأنّ التجربة تؤكّد ذلك.. وما زالت القصّة تتفاعل على مستوى الفكر والحياة والمصير، في دائرة تؤكّد الإيجابيات بعيداً عن كلّ السلبيات الروحية والعملية والمصيريّة.

وعادت قضية الحوار من جديد، لتكون أحد الهموم الكبيرة للعاملين في سبيل الدّعوة الإسلاميّة، لتحارب في اتجاهين:

أحدهما: تحطيم الحواجز النفسية التي تحول بين الجيل المفتون بأجواء الحضارة الأوروبيّة وبين الحوار، فتقوده إلى الشكّ والتساؤل، وتثير في نفسه مشاعر القلق تجاه مصيره، وذلك بتوجيهه إلى التّفكير في السلبيات التي بدأت تتحرّك في داخل حياته المضطربة المرتبكة في أكثر من اتجاه، وعلى أكثر من صعيد، ومحاولة دفعه إلى التفكير في إيجابيات الفكر الإسلامي في العقيدة والتّشريع، من خلال إثارة المفاهيم العامة التي تعالج مشكلات الحياة في جوانبها المختلفة المتنوّعة، ليوازن بين الإيجابيات والسلبيات في عملية مقارنةٍ منفتحة واعية.

ثانيهما: إثارة روح الحوار في داخل المسلمين، الّذين يعتبرون أنفسهم من العاملين على دعوة الناس إلى الإسلام، ليشعروا بأنَّ قضية الدخول في الحوار مع الآخرين ليست قضيّة مزاج منفتح أو منغلق يمارس من خلاله الإنسان عمله، بل هي قضية الرسالة في خطواتها القرآنيّة في الوحي، وفي خطواتها النبويّة في العمل النبوي.

ولذلك، فإنَّ عليهم أن يستثيروا كلّ ما في داخلهم من طاقات روحيّة وشعوريّة وفكريّة، فيدفعوا بها إلى أجواء الحوار، ليجعلوا منها مجالاً منتجاً في رحابته الروحيّة وفي عمقه الفكري.

وفي الوقت نفسه، لا بدّ لهم من التوفر على التعمق في الدراسة والبحث والتأمّل، لأنّ الحوار الدّائر الآن، يفرض على أطرافه أن يبلغوا مستوى عالياً من الثقافة تتحرّك في أكثر من اتجاه، لأنَّ المشاكل المطروحة على الساحة لا تنحصر في أفق واحد، بل تتنوّع آفاقها ومنطلقاتها حسب تنوّع الساحة التي تتحرّك فيها.

ومن الطبيعي أن يطرح هذا الاتجاه ـ في معالجة المواقف الرساليّة في طريق الدعوة إلى الله ـ قضايا جديدة وروحاً جديدة وأسلوباً جديداً في العمل، لم يعرفها العاملون في مراحل الاسترخاء الروحي أو الفكري الذي عاشوه في قناعةٍ كسولة عجيبة لا تتوجه إلى الحياة، إلا من خلال الأفق الضيّق في الفكرة والأسلوب، من دون التفات إلى الواقع الذي يركض بسرعة قياسيّة مذهلة، ليجتاز كلّ المتاهات في كلّ الاتجاهات.

وعاد الحوار إلى السّاحة في النّدوات والمؤلّفات والمحاضرات، وعدنا إلى القرآن من جديد، لنتعلّم منه كيف نبدأ الحوار من موقع الأساليب الرساليّة، وكيف نتحرّك في مجالاته لتنسجم العقيدة مع أسلوبها، لأنَّ أجواء الرّسالة عندما تطبع الأساليب بطابعها، تعطي العمل قوّة دفع جديدة في روحيّة واقعيّة هادفة.

*من كتاب "الحوار في القرآن".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية