أنا لم أكن في وارد أن أحمّل الغرب كلّ المسؤوليّة عما نعيشه من حالات تمزّق وضعف وإحباط وانهيار، ولكن ما أردت الإشارة إليه، هو أننا عشنا في فترة من القرن الماضي، وهي فترة الخمسينات والستينات، كان العالم العربي يعدّ نفسه لحركة عقلانيّة تتمحور حول حركة الصّراع بين الاتجاهات العقائدية، سواء العلمانية، كالرأسمالية والماركسية، أو الإسلامية، أو الحركات القوميّة، وقد مهّد ذلك لخلق حوارات ثقافية عقلانية، كنا نلحظها في حركة السجالات والحوارات التي كانت تدور على أرصفة شارع الحمراء والمقاهي بين المثقفين من كل الاتجاهات، وكان من الممكن لهذه التوجهات أن تأخذ دورها، ولكن تدخل الاستعمار وسيطرته على العالم العربي من جهة، وزرع إسرائيل في قلب هذا العالم العربي من جهة ثانية، كلّ ذلك شغل العالم العربي.
كما أنّ مخططات إسرائيل ومحاولاتها تقسيم هذا العالم إلى دول مذهبيّة ودينيّة لتبرير وجودها كدولة دينيّة ويهوديّة، أضافت إلى الواقع العربي الكثير من المشاكل الكبيرة والخطيرة. ثم امتدّت المسألة إلى لبنان عبر البوابة الطائفيّة، بحيث أصبح اللّبناني ينفتح على النظام الطائفي ويبتعد عن فكرة المواطنة، وتحوّل إلى شخصية طائفية في كل قضاياه.
وهكذا بدأت الفوضى تتحرّك بين الحركة الوطنية وبعض البلدان العربية، وبين هذه البلدان والتنظيمات الفلسطينيّة، ومن ثم تحوّل الصراع إلى صراع طائفي إسلامي ـ مسيحي، ما أثقل العالم العربي وشحنه بمفردات الخلاف والمخاوف الداخليّة السياسيّة والأمنيّة والطائفيّة والمذهبيّة، بشكل شغل الجميع عن المسائل الفكرية والثقافية الأساسية.
وأذكر أننا في الخمسينات كنا نتابع مجلّة "الآداب" التي كان يصدرها المرحوم سهيل إدريس، وكانت تمثّل منبراً يتحرّك فيه النقاش العربي ـ العربي، الفكري والثقافي، ومنها حوارات بين طه حسين ورئيف خوري، وحوارات حول قضايا الشعر الحرّ، ومسائل القوميّة؛ هل هي قوميّة إنسانيّة أم لا؟ وهذا ما كان يتحرك به عبدالله عبد الدائم وفريقه... إلخ.
إذاً، كانت هناك حركة ثقافية تدير الصراع بطريقة علمية وموضوعية، وقد ظهر في ذلك الوقت أيضاً، فريق من الشّعراء الكبار جداً، كنازك الملائكة، وبدر شاكر السيَّاب، وصلاح الدين عبد الصبور الفيتوري، وعبد الوهاب البياتي، وغيرهم.
وقد شكّل ذلك حركة ثقافية كانت تشغل العالم العربي وتتّجه به إلى قضايا الحرية بالمعنى الواسع، وليس بالمعنى الاستهلاكي الذي يُثيره الكثير من الناس الذين يعتبرون أنّ الحرية هي الالتزام بالسياسة الأميركيّة! ولكن الاستكبار العالمي استطاع أن يشغل العالم العربي عن نفسه وعن قراءة أوضاعه قراءةً علميةً وموضوعيةً.
وهكذا استمرّينا نحتكم إلى نقاط الضعف التاريخيّة، من التخلّف والخرافة وتفسير كلّ القضايا بالغيب، وأخذ الغرب بنتيجة القوّة التي عنده، وبنتيجة تفكيره في أنّ رخاءه متوقف على استغلال ثرواتنا الطبيعيّة، ولا سيما البترول، أخذ يستغلّ مواقعنا الاستراتيجيّة في صراعه مع الاتحاد السوفياتي من خلال نقاط ضعفنا.
فنحن لا نريد تحميل الغرب، بشكل خاصّ، مسؤوليّة مشاكلنا، ولكنّنا نقول إنّه استغلّ نقاط ضعفنا، واستطاع أن يشغلنا عمّا نحن فيه، بحيث أصبحنا نفكّر في قراراته أكثر مما نفكّر في أنفسنا، كما قال لي بعض السّفراء الفرنسيّين: "إنّ مشكلتنا مع اللّبنانيّين، أنهم يحدّثوننا عما نريد، ولا يحدّثوننا عما يريدون"، فنحن نفكر في ما تريد أميركا أو أوروبّا، وليس في ما نريده نحن.
وهذا ما نلاحظه في الأزمة الماليّة العالمية الكبرى، فنحن نفكّر كيف يمكن لأمريكا وأوروبّا أن تعالجا أزمتهما؟ وكيف تخطّط روسيا لإنقاذ نفسها؟ بينما لا نتحدّث في العالم العربي إلا عن خسائرنا، أمّا كيف يمكن أن نخطّط لتفادي تأثيرات الأزمة؟ فهذا ما لا نجد أحداً يفكّر فيه بشكل فاعل.
*من حوار مع مجلّة الشراع اللّبنانيّة، بتاريخ 20-10-2008.
أنا لم أكن في وارد أن أحمّل الغرب كلّ المسؤوليّة عما نعيشه من حالات تمزّق وضعف وإحباط وانهيار، ولكن ما أردت الإشارة إليه، هو أننا عشنا في فترة من القرن الماضي، وهي فترة الخمسينات والستينات، كان العالم العربي يعدّ نفسه لحركة عقلانيّة تتمحور حول حركة الصّراع بين الاتجاهات العقائدية، سواء العلمانية، كالرأسمالية والماركسية، أو الإسلامية، أو الحركات القوميّة، وقد مهّد ذلك لخلق حوارات ثقافية عقلانية، كنا نلحظها في حركة السجالات والحوارات التي كانت تدور على أرصفة شارع الحمراء والمقاهي بين المثقفين من كل الاتجاهات، وكان من الممكن لهذه التوجهات أن تأخذ دورها، ولكن تدخل الاستعمار وسيطرته على العالم العربي من جهة، وزرع إسرائيل في قلب هذا العالم العربي من جهة ثانية، كلّ ذلك شغل العالم العربي.
كما أنّ مخططات إسرائيل ومحاولاتها تقسيم هذا العالم إلى دول مذهبيّة ودينيّة لتبرير وجودها كدولة دينيّة ويهوديّة، أضافت إلى الواقع العربي الكثير من المشاكل الكبيرة والخطيرة. ثم امتدّت المسألة إلى لبنان عبر البوابة الطائفيّة، بحيث أصبح اللّبناني ينفتح على النظام الطائفي ويبتعد عن فكرة المواطنة، وتحوّل إلى شخصية طائفية في كل قضاياه.
وهكذا بدأت الفوضى تتحرّك بين الحركة الوطنية وبعض البلدان العربية، وبين هذه البلدان والتنظيمات الفلسطينيّة، ومن ثم تحوّل الصراع إلى صراع طائفي إسلامي ـ مسيحي، ما أثقل العالم العربي وشحنه بمفردات الخلاف والمخاوف الداخليّة السياسيّة والأمنيّة والطائفيّة والمذهبيّة، بشكل شغل الجميع عن المسائل الفكرية والثقافية الأساسية.
وأذكر أننا في الخمسينات كنا نتابع مجلّة "الآداب" التي كان يصدرها المرحوم سهيل إدريس، وكانت تمثّل منبراً يتحرّك فيه النقاش العربي ـ العربي، الفكري والثقافي، ومنها حوارات بين طه حسين ورئيف خوري، وحوارات حول قضايا الشعر الحرّ، ومسائل القوميّة؛ هل هي قوميّة إنسانيّة أم لا؟ وهذا ما كان يتحرك به عبدالله عبد الدائم وفريقه... إلخ.
إذاً، كانت هناك حركة ثقافية تدير الصراع بطريقة علمية وموضوعية، وقد ظهر في ذلك الوقت أيضاً، فريق من الشّعراء الكبار جداً، كنازك الملائكة، وبدر شاكر السيَّاب، وصلاح الدين عبد الصبور الفيتوري، وعبد الوهاب البياتي، وغيرهم.
وقد شكّل ذلك حركة ثقافية كانت تشغل العالم العربي وتتّجه به إلى قضايا الحرية بالمعنى الواسع، وليس بالمعنى الاستهلاكي الذي يُثيره الكثير من الناس الذين يعتبرون أنّ الحرية هي الالتزام بالسياسة الأميركيّة! ولكن الاستكبار العالمي استطاع أن يشغل العالم العربي عن نفسه وعن قراءة أوضاعه قراءةً علميةً وموضوعيةً.
وهكذا استمرّينا نحتكم إلى نقاط الضعف التاريخيّة، من التخلّف والخرافة وتفسير كلّ القضايا بالغيب، وأخذ الغرب بنتيجة القوّة التي عنده، وبنتيجة تفكيره في أنّ رخاءه متوقف على استغلال ثرواتنا الطبيعيّة، ولا سيما البترول، أخذ يستغلّ مواقعنا الاستراتيجيّة في صراعه مع الاتحاد السوفياتي من خلال نقاط ضعفنا.
فنحن لا نريد تحميل الغرب، بشكل خاصّ، مسؤوليّة مشاكلنا، ولكنّنا نقول إنّه استغلّ نقاط ضعفنا، واستطاع أن يشغلنا عمّا نحن فيه، بحيث أصبحنا نفكّر في قراراته أكثر مما نفكّر في أنفسنا، كما قال لي بعض السّفراء الفرنسيّين: "إنّ مشكلتنا مع اللّبنانيّين، أنهم يحدّثوننا عما نريد، ولا يحدّثوننا عما يريدون"، فنحن نفكر في ما تريد أميركا أو أوروبّا، وليس في ما نريده نحن.
وهذا ما نلاحظه في الأزمة الماليّة العالمية الكبرى، فنحن نفكّر كيف يمكن لأمريكا وأوروبّا أن تعالجا أزمتهما؟ وكيف تخطّط روسيا لإنقاذ نفسها؟ بينما لا نتحدّث في العالم العربي إلا عن خسائرنا، أمّا كيف يمكن أن نخطّط لتفادي تأثيرات الأزمة؟ فهذا ما لا نجد أحداً يفكّر فيه بشكل فاعل.
*من حوار مع مجلّة الشراع اللّبنانيّة، بتاريخ 20-10-2008.