نقل لنا التاريخ الإسلامي الكثير من مجالس الحوار بين علماء المسلمين وعلماء الأديان وأصحاب الأفكار المضادّة للإسلام، تحت سمع الحكم وبصره، في جوّ رائع من أجواء الحرية الفكرية.
ومن ذلك، ما روي عن المؤتمر الذي عقده الخليفة العباسي المأمون، للإمام الثامن من أئمة أهل البيت (ع)، عليّ بن موسى الرّضا. فقد اجتمع فيه علماء النصارى والمجوس وغيرهم من أهل الملل والنّحل، حيث كان الحوار المتبادل يمثّل وثيقة تاريخيّة تدلّ على مدى ما يمثله الإسلام من سعة أفق ورحابة صدر في مجال الدّعوة والإيمان.
ونجد ـ إلى جانب ذلك ـ الحلقات الفكريّة التي كان يعقدها الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) ـ الإمام السادس من أئمة أهل البيت (ع) ـ في المسجد الحرام إلى جانب الكعبة المشرّفة، فيجتمع إليه فيها زنادقة ذلك العصر وملاحدته، كابن المقفّع وابن أبي العوجاء وأبي شاكر الدّيصاني، فيناقشونه، في وجود الله وفي حكمته، وفي غير ذلك، بأسلوب يغلب عليه طابع التحدّي، فيواجههم بالحجّة القويّة والبرهان القاطع والكلمة الطيّبة الحلوة، حتى لا يترك لهم مجالاً للكلام ولا موضعاً للجدال.
وينقل إلينا ـ بعض هؤلاء ـ ملامح الجوّ الذي كان يسود تلك الحلقات، والروح التي تهيمن عليها، في ما يقصّه علينا المفضل بن عمر، الذي استمع إلى هذا الملحد الّذي يناظره في قضيّة وجود الله، فقد حدّثنا المفضل عن نفسه ومشاعره إزاء إلحاده:
"...فلم أملك نفسي غضباً وحنقاً، فقلت يا عدوّ الله، ألحدت في دين الله، وأنكرت الباري الّذي خلقك في أحسن تقويم، وصوّرك في أتمّ صورة، ونقلك في أحوالك، حتى بلغت إلى حيث انتهيت؛ فلو فكَّرت في نفسك، وصدَقَكَ لطيف حسّك، لوجدت دلائل الربوبيّة وآثار الصنعة فيك قائمة، وشواهده في خلقك واضحة، وبراهينه لك لائحة.
فقال: يا هذا، إن كنت من أهل الكلام كلّمناك، فإن ثبتت لك حجّة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد، فما كان هكذا يخاطبنا، ولا بمثل دليلك يجادل فينا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش في خطابنا، ولا تعدّى في جوابنا.
وإنّه الحليم الرّزين، العاقل الرّصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق، يسمع كلامنا ويصغي إلينا، ويتعرّف حجتنا، حتى إذا استفرغنا ما عندنا، وظننّا أنّنا قطعناه، أدحض حجّتنا في كلام يسير وخطاب قصير، يُلزمنا به الحجّة، ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه ردّاً؛ فإن كنت من أصحابه، فخاطبنا بمثل خطابه."
ومهما يكن من أمر التّاريخ الإسلامي في هذا المجال، فإنّ القضيّة لا تخضع للتّاريخ ولممارساته، وإن كان له الأثر الكبير في الدّلالة على طبيعة الفكرة التي تحكم التّاريخ وتتحكّم في حركته؛ لكن لا بدَّ لنا من أن نتلمّس الفكرة الأصيلة في مصادر الرّسالة فكراً وشريعة، لتكون هي المقياس لطبيعة ما نواجهه من ممارسات تاريخيّة يتحدّانا بها الآخرون، أو ممارسات حاضرة نتحدّاهم نحن بها، ولنوعيّة ما نفكّر فيه من خطوات مستقبليّة على هدى هذا الفكر.
*من كتاب "الحوار في القرآن".
نقل لنا التاريخ الإسلامي الكثير من مجالس الحوار بين علماء المسلمين وعلماء الأديان وأصحاب الأفكار المضادّة للإسلام، تحت سمع الحكم وبصره، في جوّ رائع من أجواء الحرية الفكرية.
ومن ذلك، ما روي عن المؤتمر الذي عقده الخليفة العباسي المأمون، للإمام الثامن من أئمة أهل البيت (ع)، عليّ بن موسى الرّضا. فقد اجتمع فيه علماء النصارى والمجوس وغيرهم من أهل الملل والنّحل، حيث كان الحوار المتبادل يمثّل وثيقة تاريخيّة تدلّ على مدى ما يمثله الإسلام من سعة أفق ورحابة صدر في مجال الدّعوة والإيمان.
ونجد ـ إلى جانب ذلك ـ الحلقات الفكريّة التي كان يعقدها الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) ـ الإمام السادس من أئمة أهل البيت (ع) ـ في المسجد الحرام إلى جانب الكعبة المشرّفة، فيجتمع إليه فيها زنادقة ذلك العصر وملاحدته، كابن المقفّع وابن أبي العوجاء وأبي شاكر الدّيصاني، فيناقشونه، في وجود الله وفي حكمته، وفي غير ذلك، بأسلوب يغلب عليه طابع التحدّي، فيواجههم بالحجّة القويّة والبرهان القاطع والكلمة الطيّبة الحلوة، حتى لا يترك لهم مجالاً للكلام ولا موضعاً للجدال.
وينقل إلينا ـ بعض هؤلاء ـ ملامح الجوّ الذي كان يسود تلك الحلقات، والروح التي تهيمن عليها، في ما يقصّه علينا المفضل بن عمر، الذي استمع إلى هذا الملحد الّذي يناظره في قضيّة وجود الله، فقد حدّثنا المفضل عن نفسه ومشاعره إزاء إلحاده:
"...فلم أملك نفسي غضباً وحنقاً، فقلت يا عدوّ الله، ألحدت في دين الله، وأنكرت الباري الّذي خلقك في أحسن تقويم، وصوّرك في أتمّ صورة، ونقلك في أحوالك، حتى بلغت إلى حيث انتهيت؛ فلو فكَّرت في نفسك، وصدَقَكَ لطيف حسّك، لوجدت دلائل الربوبيّة وآثار الصنعة فيك قائمة، وشواهده في خلقك واضحة، وبراهينه لك لائحة.
فقال: يا هذا، إن كنت من أهل الكلام كلّمناك، فإن ثبتت لك حجّة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد، فما كان هكذا يخاطبنا، ولا بمثل دليلك يجادل فينا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش في خطابنا، ولا تعدّى في جوابنا.
وإنّه الحليم الرّزين، العاقل الرّصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق، يسمع كلامنا ويصغي إلينا، ويتعرّف حجتنا، حتى إذا استفرغنا ما عندنا، وظننّا أنّنا قطعناه، أدحض حجّتنا في كلام يسير وخطاب قصير، يُلزمنا به الحجّة، ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه ردّاً؛ فإن كنت من أصحابه، فخاطبنا بمثل خطابه."
ومهما يكن من أمر التّاريخ الإسلامي في هذا المجال، فإنّ القضيّة لا تخضع للتّاريخ ولممارساته، وإن كان له الأثر الكبير في الدّلالة على طبيعة الفكرة التي تحكم التّاريخ وتتحكّم في حركته؛ لكن لا بدَّ لنا من أن نتلمّس الفكرة الأصيلة في مصادر الرّسالة فكراً وشريعة، لتكون هي المقياس لطبيعة ما نواجهه من ممارسات تاريخيّة يتحدّانا بها الآخرون، أو ممارسات حاضرة نتحدّاهم نحن بها، ولنوعيّة ما نفكّر فيه من خطوات مستقبليّة على هدى هذا الفكر.
*من كتاب "الحوار في القرآن".