من الطبيعيّ أنّ العقيدة الإسلاميّة تنطلق من مفهومين: مفهوم يتّصل بالعقيدة، وآخر يتحرّك في الشّريعة. أمّا المفهوم الذي يتصل بالعقيدة، فهو أنّ الملك لله، ولذلك فإنّ الحكم لله من موقع أنّه خالق، فهو الذي يملك منا ما لا نملك من أنفسنا، وهو الذي يهيمن على الأمر كلّه في كلّ وجودنا، وهو الذي يعلم من نفوسنا ومن كلّ ما يصلحنا وما يفسدنا أكثر مما نعلمه {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.
وعلى هذا الأساس، فإن الحكم عندما يكون حركة في تسيير المحكوم بكلّ مواقعه، فإن من الطبيعي أن يكون الله هو المهيمن على ذلك كلّه، لأنّه إلهنا وربّنا ونحن عباده، ولا يملك العبد، فيما هو مفهوم العبوديّة الحقّة، أيّ موقف أمام سيّده، فكيف إذا كان ذلك السيّد هو الله؟
لذلك، فإنّ الحاكميّة بالمعنى التّكويني الذي يعني خضوع وجودنا لإرادة الله، وبالمعنى الحركيّ الذي يقتضي انفتاح تحرّكنا على إرادة الله سبحانه وتعالى فيما يريدنا من ذلك، إنّ ذلك يوحي بمفهوم الحاكميَّة لله من خلال العقيدة، وهذا هو الّذي يرتبط بمعنى التَّوحيد ونفي الشّرك، فلا يملك أحد غير الله أن يتصرَّف في وجودنا، ومن ثم في شؤوننا.
أمّا المفهوم الذي يتحرّك في خطّ الشّريعة، فإنه ينطلق من الآية الكريمة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}، وقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وقوله تعالى: {ثُمَّجَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}... إلى غير ذلك من الآيات التي تتحدّث عن الحكم لله، وعن الكفر والفسق والظلم، كصفات حركيّة في الجانب السّلبي لمن لا يحكم بما أنزل الله.
إنّ ذلك يعني أنّ الله أرادنا أن نتحرّك في خطّ شريعته من موقع طاعته وتجسيد معنى العبوديّة في الحياة أمامه، لأنّ الله يريد للحياة الإنسانيّة أن تنسجم مع الحياة الكونيّة، لتتحرّك تلك بإرادة الله في التّكوين، وتتحرّك هذه بإرادة الله في التّشريع، ليكون هناك تكامل بين الإنسان الذي يطيع الله في أوامره ونواهيه، وبين الكون الذي يعيش الإنسان في داخله ويخضع في وجوده التكويني لقوانينه، ليطيع الله في حركة السنن الكونيّة.. فليس لأحد أن يشرّع في مقابل شريعة الله، وليس لأحد أن يتجاوز الخطوط التي وضعها الله تعال في مسألة الحكم والحاكم، وفي تفاصيل القانون الذي ثبت أنّه وحي من الله.
ولكن ليس معنى ذلك أن لا حكم للإنسان، أو أنّه لا يستطيع، في الدائرة الواسعة التي أوكل الله أمرها إليه ضمن ضوابط معيّنة، أو التي أباح الله له أمر التحرّك فيها وتحديد تفاصيلها.. ليس معنى ذلك أنَّ الإنسان يتجمّد، وأننا نطلق كلمة الحاكميّة لله، لنظلّ نحدّق في البعيد دون أن ننطلق في حياتنا من خلال أصولها العمليّة التي تمثل التفاصيل الحياتية للإنسان.. إنّ الله تعالى يحكم من خلال الإنسان، فقد حكم الله من خلال أنبيائه وأوليائه، ومن خلال كلّ الناس الذين ينسجمون مع الخطّ العريض للإسلام.. ولذلك، فإنه لا بدّ للناس أن يحكمهم الناس، ولكن القضيّة هي أن الناس الذين يحكمون أو الذين يحكّمهم الناس في أنفسهم وفي الواقع، لا بد أن تكون لهم الصفات التي يرضاها الله سبحانه وتعالى للّذين يتولّون مسؤوليّة الحياة ومسؤوليّة الناس.
ومن هنا، فإننا عندما ندرس نظريّة الحكم في الإسلام، سواء كان ذلك على مستوى نظريّة الإمامة أو نظريّة الخلافة أو نظريّة الشّورى التي ربما تتحرّك في إطار أوسع من شروط الإمامة والخلافة، بحسب الضّوابط الموجودة لدى الفقهاء أو المفكّرين المسلمين، عندما ندرس ذلك، نجد أن مسألة حاكميّة الله لا تعني أنّ الحكم في الحياة يكون إلهيّاً، بمعنى أن يكون الحاكم ظلّ الله في الأرض من دون أيّ ضوابط وحدود، بحيث تكون المسألة هي ذاتيّة الحاكم في موقعه لا موضوعيّة الخطّ الذي جعله الله له في حركته.
إنّنا نجد أنّ الله حدّد للنبيّ، وهو النموذج الأعلى للإنسان الذي جعله الله نبيّاً وخليفةً للناس، حدَّد له الحدود وقنَّن له القوانين، فلا يستطيع النبيّ أن يحكم بمزاجه، وإن كنّا نفترض أن مزاجه لا ينفصل عن إرادة الله فيما أودعه الله في نفسه من القداسة ومن العصمة ومن الانفتاح على كلّ مواقع رضاه، ولكنّ الله لم يجعل ذلك منطلقاً من الذّات، بل من الخطّ. ومن هنا، رأينا الله يتحدّث معه كما يتحدّث مع أيّ مسلم، ويتحدّث مع الأنبياء كما يتحدّث مع أيّ إنسان {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} و{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}.
ومن هنا، فإنَّ مسألة الحكم ليست إلهيّة، بالمعنى الذي يفهم بعض النّاس فيه الحكم الإلهيّ، أي الإنسان الذي لا يسمح لأحد بأن يناقش أو يسأل، والإنسان الذي يتحرّك بمزاجه وبإرادته الذاتيّة، بعيداً من الضّوابط التي تحمي الناس منه أو تحميه من نفسه.. ولذلك، فإن الله أمر نبيَّه أن يشاور النّاس، مع أنّ النبيّ مرتبط بالوحي، فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ}..
لذلك، إنّ الحكم في الإسلام ينطلق من حالة موضوعيّة تتحرّك فيها الذات القائدة بالضّوابط التي يمكن للنّاس أن يرصدوا من خلالها حركة الحكم في انسجامها مع هذه الضّوابط أو عدم انسجامها، فهو ليس الحكم الإلهيّ المطلق، ولكنّه الحكم الإنساني الذي يستمدّ شرعيّته من الخطوط التي جعلها الله تعالى للحكم ولحركيته.
ولهذا، لاحظنا أنّ النبيّ محمّداً (ص) ـ وهو المعصوم من قِبَل الله في التّبليغ وفي حركته في الواقع، ولذلك نرى أنّ السنّة هي قوله وفعله وتقريره ـ أنّ النبيّ (ص) يقف، فيما ترويه كتب السّيرة أمام المسلمين في آخر لحظات حياته، ليقول لهم: "إنّكم لا تمسكون عليّ بشيء، وإنّني ما أحللت إلّا ما أحلّ القرآن، وما حرّمت إلا ما حرّم القرآن".. وفي رواية: "إني ما أحللت إلا ما أحلّ الله، وما حرمت إلا ما حرّم الله".. كأنه يريد أن يقول لهم: ادرسوا كلّ تاريخي معكم في حركة الدّعوة والممارسة والحكم، واعرضوا ذلك على شريعة الله التي بلّغتكم إيّاها، لتجدوا أنّ أقوالي وأفعالي وعلاقاتي منسجمة مع هذا الخطّ، وهذا ما نقرأه في بعض كلمات الأنبياء: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}.
إننا نفهم من ذلك، أنّ الحكم في الإسلام هو حكم إنسانيّ يستمدّ شرعيّته من الله في حدود الضَّوابط التي جعلها الله للحكم وللحاكم.
*من كتاب "خطاب الإسلاميّين والمستقبل".