كتابات
10/06/2020

كيف نكون الأمّة المسؤولة البعيدة من اللّغو؟!

كيف نكون الأمّة المسؤولة البعيدة من اللّغو؟!

عندما ندرس الخطّ الإسلامي في صناعة الشخصيّة الإنسانيّة، فإنّنا نجد أنّ الله سبحانه وتعالى أراد للإنسان أن يؤمن بأنّ وجوده في الحياة ليس وجوداً عبثيّاً، بحيث يكون هذا الوجود كفقاعة تنتفخ في الماء، ثم تنفجر فلا تترك وراءها شيئاً، بل إنّ على الإنسان أن يعرف أنّ الله سبحانه وتعالى عندما أعطاه كلّ طاقاته، فإنّه أراد له أن يحرّك هذه الطاقات في تحقيق الأهداف الكبرى التي أرادها سبحانه وتعالى للحياة وللإنسان، بحيث عندما يتمثّل الإنسان هذه الطاقات، فإنّ عليه أن يدرس عناصرها، وماذا يمكن أن يقدّمه لنفسه وللحياة وللإنسان من خلالها، وأنّ عليه أن لا يضيّع هذه الطاقات أو يهدرها في الفراغ، فالله يريد للإنسان في فراغه من عمله الطّبيعي، أن يكون فراغاً منتجاً يجدّد له نشاطه ولا يبتعد به عن خطّه، وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) في بعض أدعيته في الصحيفة: «فإن قدّرت لنا فراغاً من شغل، فاجعله فراغ سلامة، لا تدركنا فيه تبعة، ولا تلحقنا فيه سآمة»[1].

وفي ضوء ذلك، يؤكّد الله في آياته القرآنيّة هذا الخطّ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون؛ 115]، {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}[الانشقاق؛ 6]. فنحن عمّال الله في هذا المصنع الكبير الّذي نصنع فيه كلّ ما يحقّق للحياة قوَّتها، ويحقّق للإنسان نموَّه في اتجاه الكمال، ويحقّق إرادة الله سبحانه وتعالى في السّير إليه في الخطّ المستقيم {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص؛ 77].

مسؤوليّتك عن طاقاتك

من خلال ذلك، ندخل في بعض المفردات التي تعطي المعنى الإيجابي من جهة، وترفض المعنى السّلبي من جهة أخرى، فنحن، مثلاً، نقرأ في حديث الإمام جعفر الصّادق (ع)، وهو يحدّثنا عن نعم الله علينا، وهي الطاقات التي أودعها فينا أو هيّأها الله لنا باعتبار أنهّا مسؤوليّاتنا: »إنّ الله لم ينعم على عبد نعمة إلّا وقد ألزمه فيها الحجّة من الله، فمن منَّ الله عليه فجعله قويّاً، فحجّته عليه القيام بما كلّفه، واحتمال من هو دونه ممن هو أضعف منه، ومن منَّ الله عليه فجعله موسعاً عليه، فحجّته عليه ماله، ثم تعاهده الفقراء بعد بنوافله، ومن منَّ الله عليه فجعله شريفاً في بيته، جميلاً في صورته، فحجّته عليه أن يحمد الله تعالى على ذلك، وأن لا يتطاول على غيره، فيمنع حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله«[2].

فطاقاتك التي هي نعم الله عليك، هي مسؤوليّتك، وسيحاسبك الله عليها يوم القيامة على أساس وجودها عندك وامتلاكك لها؛ كيف حرّكتها وسخرّتها، وكيف انطلقت بها للقيام بكلّ مسؤوليّاتك تجاه نفسك وربّك والنّاس من حولك.

عنوان اللّغو في القرآن

في الجانب السلبي، نقرأ عنواناً متحرّكاً في أكثر من آية، فنحن نقرأ، مثلاً، في حديث الله عن المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون؛ 1ـ 3] ، وقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}[الفرقان؛ 63]، إلى أن يقول: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}[الفرقان؛ 72].

وهكذا، تتنوّع الآيات التي تتحدّث عن اللّغو، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}[القصص: 55].

وهناك آيات أخرى تتحدّث في هذا الجوّ: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}[المدثّر؛ 45]، يعني نتحدّث الحديث الذي يتحدّث به الناس من دون مسؤوليّة، ومن دون أيّ معنى.

وهكذا، يحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن الجنّة: {لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا} [النبأ؛ 35]، {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا}[ مريم؛ 62]. فهنا تتكرَّر هذه المفردة القرآنيّة كثيراً (اللّغو)، والله يرفض أن يصدر اللّغو عن المؤمن، ويرفض أن يلقي اهتمامه الفكريّ والعلميّ في اللّغو. فاللّغو، بحسب اللّغة، هو كلّ قول لا تفعل به وكأنّه ملغى، لأنَّ الشَّيء إنمّا يكون معبّراً إذا كان فيه ما ينفع الإنسان، فنحن نحتفظ بما ينفعنا غالباً، أمَّا ما تنتهي منفعته، أو لا منفعة لنا فيه، فإنّنا عادةً نرميه في الشَّارع.

فاللّغو هو ما لا نفع للإنسان فيه، واللّغو في القول هو الكلام الذي لا نفع للإنسان فيه، وأمّا اللّغو في الفعل، فهو الفعل الذي لا غنى للإنسان فيه، كما يعبّر بعض النّاس عما لا نفع فيه ولا شخصيّة له في واقع المعنى، فيقول: لا لون له ولا طعم ولا رائحة.

هنا، نجد أنّ المفسّرين قد اختلف رأيُهم أو قد تنوّع تعبيرهم عن اللّغو، فكلٌّ منهم فسَّره بتفسير، ففي (تفسير مجمع البيان)، يقول الشيخ الطبرسي: «اللّغو في الحقيقة هو كلّ قول أو فعل لا فائدة فيه ولا يعتدّ به، فذلك قبيح محظور يجب الإعراض عنه»[3]، مما يستوحيه من كلام الله سبحانه وتعالى في الإعراض عن اللّغو. وقال (مقاتل): هو الشَّتم، فإنّ كفّار مكّة كان يشتمون النبيّ (ص) وأصحابه، فنهوا عن إجابتهم. وروي عن أبي عبد الله الإمام جعفر الصادق (ع) أنّه قال: "أن يتقوّل الرّجل عليك بالباطل، أو يأتيك بما ليس فيك، فتعرض عنه لله". وفي رواية أخرى، أنّه الغناء والملاهي[4].

وعندما ندرس هذه الكلمات، فإنّنا نجد أنّها تلتقي في معنى واحد، وهو الكلام الذي لا منفعة فيه، وقد يكون فيه مضرّة؛ فالباطل لا نفع فيه لأنّه خلاف الحقّ، والكذب لا نفع فيه للإنسان باعتبار أنّه خلاف الصّدق والحقيقة وضدّ الواقع، ولأنّ جميع المعاصي أيضاً لا نفع فيها للإنسان، بل هي ضدّ مستقبل الإنسان عند الله سبحانه وتعالى.                                       

وأمّا بالنسبة إلى الغناء والملاهي المحرَّمة، فباعتبار أنّها من المعاصي، والشّتم والسّباب أيضاً لا نفع فيه للإنسان، ولا سيَّما إذا كان شتماً للحقّ ولأهل الحقّ، فهي تلتقي عند معنى واحد، وهو الفعل أو القول الّذي لا غنى فيه للإنسان ولا نفع. فالله يؤكِّد الابتعاد عن اللّغو، لأنّه يريد للإنسان فيما أعطاه من طاقة النطق، وفيما أعطاه من طاقة الحركة، أن يسخّر هذه الطاقات كلّها فيما ينفع نفسه وينفع النّاس وينفع الحياة، لأنّ ذلك هو الذي يبقى، أمَّا اللّغو وما لا ينفع النّاس، فإنّه يتبخَّر ويذهب دون أن يخلّف وراءه شيئاً، وهذا هو المثل الذي ضربه الله للحقّ والباطل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}[الرّعد؛ 17].

ولذلك، أراد الله لنا أن نبتعد عن اللّغو، لأنّنا عندما نصرف وقتنا في قول اللّغو أو في فعله، فإنَّ معنى ذلك أنّنا ضيّعنا هذه الطاقة، وهي الزّمن الذي هو جزء من عمرنا، وضيّعنا هذه الطاقة، وهي طاقة النّطق إن كان اللّغو كلاماً، أو طاقة القوّة التي جعلها الله في جسدنا، فكان اللّغو فعلاً لأنّنا ضيَّعناه، ولم نستطع أن نبقي لأنفسنا منها شيئاً في الدّنيا ممّا ينفعنا في الدّنيا، وفي الآخرة ممّا نقبل عليه في الآخرة. والله لا يريد لك أن تكون هباءً، وأن تكون اللاشيء واللانفع، بل يريد لك أن تعيش القول الذي يغني عقلك أو يغني عقول الآخرين { فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}[الزمر؛ 17/18]، {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء؛ 53]، أن تنطلق طاقتك وحركتك باتجاه الأحسن.

كيف نواجه اللّغو؟!

وفي وحي كلام الإمام الصّادق (ع) حول مسألة الإعراض عن لغو الآخر ـ أن يتقوَّل عليك إنسان بكلامٍ غير صحيح، أو ينسب إليك شيئاً باطلاً ـ يقول لك الإمام (ع) ـ حسب الرّواية ـ فيما يستوحيه من كلام الله سبحانه وتعالى، أعرض عنه، أي اللّغو الباطل، فإنّه سيموت تلقائيّاً، اترك الباطل يتآكل ويموت لأنّه لا يبقى، اترك الكلام المضادّ لك الّذي لم تأته، اتركه لأنَّ الكذب سوف يموت، فـ«جولة الباطل ساعة، وجولة الحقّ إلى قيام الساعة». إنّ الآيات الكريمة تقول لك: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}[الفرقان؛ 63]. إنّ عليك أن تجعل هذا الجهل الذي خاطبك به يأكل نفسه، لا تدخل معه في معركة، لأنّه سوف يميت نفسه بنفسه، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف؛ 199].

ويقال إنّ هناك شخصاً شتم الإمام السجّاد (ع)، فتابع الإمام سيره، فوقف وقال: «إيّاك أعني»، أي بالسباب، فقال الإمام (ع): «وعنك أعرض»، لأنّ على الإنسان أن يجعل كلمة الجهل في داخلها، فلا تفسح المجال لأن تقابله بجهل ضدّ جهل، وقد قال الشّاعر وهو يصوّر هذا المعنى:

يخاطبني السّفيه بكلّ قبح           وأكره أن أكون له مجيبا

يزيد قباحةً وأزيد حلماً            كعودٍ شفّة الإحراق طيبا

أن تكون بهذا الشكل وهذا المعنى في الواقع، لأنّ كثيراً من الناس قد يكونون معنيّين من خلال حقدهم الذاتي، أو موظّفين من خلال أجهزة مخابرات محلية أو إقليمية أو دولية، أن يصنعوا معارك، وأن ينسبوا إلى شخصيّة معيّنة كلاماً لم تقله، أو يتّهموا إنساناً بشيء لم يفعله، ويثيروا مشكلة تخلق فتنة في المجتمع، أو تحرك الفتنة في الأمّة، لأنّهم يعتمدون على أنّ الفعل سوف يقابله ردّ فعل، أن يسبّك لتسبّه، وأن يتّهمك لتردّ عليه.. وهكذا يخلق المشكلة لك أو للمجتمع، أو يشغل الأمّة كلّها، فتنسى القضايا الحيويّة.

وهذا ما نعيشه في العالم الثَّالث، وفي الواقع الإسلاميّ، وفي الشَّرق العربي بالذّات، فنحن نجد أنَّ أجهزة المخابرات الدوليَّة لم تكن مهمّتها فقط أن ترصد ماذا يقول الناس ويفعلون، بل أن تنتج الفتنة والخلافات، وأن تشغل الناس بخلافات عائلية وإقليمية وطائفية ومذهبية وشخصية في داخل المذهب الواحد، حتى تتفرّغ لسرقة أموال المسلمين، ولاستثمار ثرواتهم، ولمصادرة سياساتهم، وللإطباق على أمنهم، لأنّهم مشغولون بالقضايا المذهبيّة بين مسلم ومسلم، بين سنّة وشيعة؛ هذا يكفّر ذاك، وذاك يكفّر ذلك، إنهم مشغولون بالقضايا الطائفية بين المسيحيّة والإسلام، وبالقضايا الإقليميّة بين هذا البلد وذاك البلد في حدود هنا وحدود هناك، أو في بعض القضايا التاريخيّة التي يمكن أن تثير الأحقاد هنا أو تثير الأحقاد هناك.

وينشغل الناس بكلّ هذا اللّغو الذي قد لا يحمل الكثير من الحقّ، بل يحمل الكثير من الباطل، في ردود وفي خطابات وفي إثارات وفي منازعات وما إلى ذلك.

وربما نجد أنَّ بعض المشاهد تدخل في المذهب الواحد، سواء في داخل الواقع الإسلامي السني فيما تثور فيه من مشاكل داخليّة، أو في الواقع الإسلامي الشيعي فيما تثور فيه من مشاكل، وخصوصاً في عالم المرجعيّات وصراعها وما أشبه ذلك، والخلافات الشخصيّة التي تتحرّك هنا وهناك، من خلال كلام ينسب إلى هذا وذاك، أو تهمة تلصق بهذا أو بذاك.. وتمرّ القضايا الكبرى كما يريد المستكبرون، في حين أنّ الله يريدنا أن نقول: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}[القصص؛ 55]. فنحن لا نريد أن ندخل في معركة الجهل، فقد يقول البعض ربما تثار بعض القضايا التي قد يكون لها دور فيما نفكّر فيه، فهل تريدنا أن نسكت؟ وقد تثار بعض القضايا التي تتّصل بالمذهب أو تتّصل بالدين، وقد يسبّ إنسانٌ شخصيّة كبيرة عندنا، وقد يتعرّض الإنسان لبعض القضايا الحسّاسة في أوضاعه، فهل تريدون أن نسكت؟! نحن لا نقول ذلك، ولكنك عندما تريد أن تناقش المسألة، ادرس خلفيّة هذه الإثارة، فلعلّ الذي أثارها إنسان يريد أن يخلق مشكلة من خلال ذلك، وقد لا يكون الموقف موقف إثارة مشكلة في القضايا، حتّى لو كانت القضيّة حقّك.

وتجربة عليّ (ع) هي سيّدة التّجارب وأجلاها، فلقد كان صاحب الحقّ، ولا نزال نرى أنّه صاحب حقّ، ولكنّه قال: «حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد (ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم، الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السّراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه»[5]. لم يدخل في جدل ولا في نقاش، وهو صاحب الحجّة الواضحة، وقال: «لأسالمنَّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصّة»[6].

حادثة ذات دلالة

أيّها الأحبّة: أذكر في الخمسينات، أنّ شخصاً مسيحيّاً عندنا في لبنان سبّ النبيّ (ص)، وثار المسلمون، وخصوصاً في لبنان الّذي يعيش الواقع السياسي والطائفي فيه حساسيات بين المسلمين والمسيحيّين، وانتبه الجميع بعد ذلك إلى أنَّ هذا الرّجل موظَّف في المخابرات، وأراد أن يثير فتنة، معتمداً على هذه الحساسيّة الإسلاميّة المسيحيّة.

وأنقل لكم قصّة عشناها كتجربة في ذلك الوقت، فلقد كنّا في النجف إلى جانب المرجع الدّيني الكبير المرحوم السيّد محسن الحكيم (رحمة الله عليه)، حيث نُشِر في بعض الجرائد المصريّة رواية عن (عمر) فيها مساس بالإمام (ع).. وكانت مسألة عبد النّاصر بدأت تمتدّ أيّامها، وكان هناك مشاكل سياسيّة بين نوري السّعيد حاكم  العراق وبين عبد الناصر حاكم مصر، وثار الوضع في لبنان بشكل فوق العادة ـ انتصاراً لأهل البيت (ع) ـ بين السنّة والشيعة، وقرّروا إرسال وفد إلى المرجعيّة العليا في النجف، إلى السيّد محسن الحكيم (ره)، باعتبار أنّه مرجع الشيعة، حتى يثار السيّد وتكبر المسألة وتصبح على مستوى كلّ العالم، فجاء الوفد اللّبناني، وكنّا جالسين في ديوان السيّد الحكيم، وإذا بأشدّ المتحمّسين يندفع بالقول إنّنا لا نقبل أن يتكلّموا عن أهل البيت، حتى يثير السيّد، وكان السيّد حكيماً كاسمه، وكان يدرس القضايا بعقل واع واسع جداً، فلم يستجب لهم، لأنّه كان يعرف أنّ للقضيّة هدفاً سياسياً، وإذا بهذا الشخص الذي كان أشدّهم حماسةً لأهل البيت، نراه يلبس الصّليب، فلقد كان مسيحياً وليس مسلماً، فالقضيّة إنمّا أثارت الجوّ بين السنّة والشيعة حتى تتوجّه ضدّ السياسة المصريّة.

فتّشوا عن الخلفيّات

 لذلك أيّها الأحبّة: عندما تسمعون كلمة، فتّشوا عن خلفيّاتها. فللإمام عليّ (ع) كلمة في "نهج البلاغة" يقول فيها: «إذا استولى الصّلاح على الزّمان وأهله، ثم أساء رجل الظنّ برجل لم تظهر منه حوبة، فقد ظلم، وإذا استولى الفساد على الزّمان وأهله، فأحسن رجل الظنّ برجل، فقد غرّر»[7]. نحن  لا نريد أن نسيء الظّنّ بكلّ الناس، ولكن علينا أن نكون حذرين في هذا المجال. لذلك {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}[القصص؛ 55] أن نكون الأمَّة التي تفجِّر كلّ طاقاتها في الخير وفيما ينفع النَّاس، وفيما يقرّبها إلى الله سبحانه وتعالى، وبما يجمعها على الحقّ، وبما يجعلها واعية لكلّ الخطط التي تخطَّط لها من أجل أن تتبعثر قواها، وأن تموت طاقاتها في الفراغ.

{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون؛ 1ـ3]. علينا أن نعرف كيف نعرض عن اللّغو السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني، وحتى اللّغو فيما يتصل بالمعاني الدّينية، عندما لا يكون هناك دين، ولكنّه لغو باسم الدّين.

والحمد لله ربّ العالمين.


[1] الصحيفة السجادية، دعاؤه (ع) بخواتم الخير.

[2] الكافي، الكليني، ج1، ص 163.

[3] تفسير مجمع البيان، الطبرسي، ج7، ص 177.

[4] بحار الأنوار، ج 64، ص 264.

[5] نهج البلاغة، ج3، ص119.

[6] نهج البلاغة، ج1، ص124.

[7] ميزان الحكمة، محمّد الريشهري، ج 2، ص 1787.

عندما ندرس الخطّ الإسلامي في صناعة الشخصيّة الإنسانيّة، فإنّنا نجد أنّ الله سبحانه وتعالى أراد للإنسان أن يؤمن بأنّ وجوده في الحياة ليس وجوداً عبثيّاً، بحيث يكون هذا الوجود كفقاعة تنتفخ في الماء، ثم تنفجر فلا تترك وراءها شيئاً، بل إنّ على الإنسان أن يعرف أنّ الله سبحانه وتعالى عندما أعطاه كلّ طاقاته، فإنّه أراد له أن يحرّك هذه الطاقات في تحقيق الأهداف الكبرى التي أرادها سبحانه وتعالى للحياة وللإنسان، بحيث عندما يتمثّل الإنسان هذه الطاقات، فإنّ عليه أن يدرس عناصرها، وماذا يمكن أن يقدّمه لنفسه وللحياة وللإنسان من خلالها، وأنّ عليه أن لا يضيّع هذه الطاقات أو يهدرها في الفراغ، فالله يريد للإنسان في فراغه من عمله الطّبيعي، أن يكون فراغاً منتجاً يجدّد له نشاطه ولا يبتعد به عن خطّه، وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) في بعض أدعيته في الصحيفة: «فإن قدّرت لنا فراغاً من شغل، فاجعله فراغ سلامة، لا تدركنا فيه تبعة، ولا تلحقنا فيه سآمة»[1].

وفي ضوء ذلك، يؤكّد الله في آياته القرآنيّة هذا الخطّ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون؛ 115]، {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}[الانشقاق؛ 6]. فنحن عمّال الله في هذا المصنع الكبير الّذي نصنع فيه كلّ ما يحقّق للحياة قوَّتها، ويحقّق للإنسان نموَّه في اتجاه الكمال، ويحقّق إرادة الله سبحانه وتعالى في السّير إليه في الخطّ المستقيم {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص؛ 77].

مسؤوليّتك عن طاقاتك

من خلال ذلك، ندخل في بعض المفردات التي تعطي المعنى الإيجابي من جهة، وترفض المعنى السّلبي من جهة أخرى، فنحن، مثلاً، نقرأ في حديث الإمام جعفر الصّادق (ع)، وهو يحدّثنا عن نعم الله علينا، وهي الطاقات التي أودعها فينا أو هيّأها الله لنا باعتبار أنهّا مسؤوليّاتنا: »إنّ الله لم ينعم على عبد نعمة إلّا وقد ألزمه فيها الحجّة من الله، فمن منَّ الله عليه فجعله قويّاً، فحجّته عليه القيام بما كلّفه، واحتمال من هو دونه ممن هو أضعف منه، ومن منَّ الله عليه فجعله موسعاً عليه، فحجّته عليه ماله، ثم تعاهده الفقراء بعد بنوافله، ومن منَّ الله عليه فجعله شريفاً في بيته، جميلاً في صورته، فحجّته عليه أن يحمد الله تعالى على ذلك، وأن لا يتطاول على غيره، فيمنع حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله«[2].

فطاقاتك التي هي نعم الله عليك، هي مسؤوليّتك، وسيحاسبك الله عليها يوم القيامة على أساس وجودها عندك وامتلاكك لها؛ كيف حرّكتها وسخرّتها، وكيف انطلقت بها للقيام بكلّ مسؤوليّاتك تجاه نفسك وربّك والنّاس من حولك.

عنوان اللّغو في القرآن

في الجانب السلبي، نقرأ عنواناً متحرّكاً في أكثر من آية، فنحن نقرأ، مثلاً، في حديث الله عن المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون؛ 1ـ 3] ، وقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}[الفرقان؛ 63]، إلى أن يقول: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}[الفرقان؛ 72].

وهكذا، تتنوّع الآيات التي تتحدّث عن اللّغو، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}[القصص: 55].

وهناك آيات أخرى تتحدّث في هذا الجوّ: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}[المدثّر؛ 45]، يعني نتحدّث الحديث الذي يتحدّث به الناس من دون مسؤوليّة، ومن دون أيّ معنى.

وهكذا، يحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن الجنّة: {لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا} [النبأ؛ 35]، {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا}[ مريم؛ 62]. فهنا تتكرَّر هذه المفردة القرآنيّة كثيراً (اللّغو)، والله يرفض أن يصدر اللّغو عن المؤمن، ويرفض أن يلقي اهتمامه الفكريّ والعلميّ في اللّغو. فاللّغو، بحسب اللّغة، هو كلّ قول لا تفعل به وكأنّه ملغى، لأنَّ الشَّيء إنمّا يكون معبّراً إذا كان فيه ما ينفع الإنسان، فنحن نحتفظ بما ينفعنا غالباً، أمَّا ما تنتهي منفعته، أو لا منفعة لنا فيه، فإنّنا عادةً نرميه في الشَّارع.

فاللّغو هو ما لا نفع للإنسان فيه، واللّغو في القول هو الكلام الذي لا نفع للإنسان فيه، وأمّا اللّغو في الفعل، فهو الفعل الذي لا غنى للإنسان فيه، كما يعبّر بعض النّاس عما لا نفع فيه ولا شخصيّة له في واقع المعنى، فيقول: لا لون له ولا طعم ولا رائحة.

هنا، نجد أنّ المفسّرين قد اختلف رأيُهم أو قد تنوّع تعبيرهم عن اللّغو، فكلٌّ منهم فسَّره بتفسير، ففي (تفسير مجمع البيان)، يقول الشيخ الطبرسي: «اللّغو في الحقيقة هو كلّ قول أو فعل لا فائدة فيه ولا يعتدّ به، فذلك قبيح محظور يجب الإعراض عنه»[3]، مما يستوحيه من كلام الله سبحانه وتعالى في الإعراض عن اللّغو. وقال (مقاتل): هو الشَّتم، فإنّ كفّار مكّة كان يشتمون النبيّ (ص) وأصحابه، فنهوا عن إجابتهم. وروي عن أبي عبد الله الإمام جعفر الصادق (ع) أنّه قال: "أن يتقوّل الرّجل عليك بالباطل، أو يأتيك بما ليس فيك، فتعرض عنه لله". وفي رواية أخرى، أنّه الغناء والملاهي[4].

وعندما ندرس هذه الكلمات، فإنّنا نجد أنّها تلتقي في معنى واحد، وهو الكلام الذي لا منفعة فيه، وقد يكون فيه مضرّة؛ فالباطل لا نفع فيه لأنّه خلاف الحقّ، والكذب لا نفع فيه للإنسان باعتبار أنّه خلاف الصّدق والحقيقة وضدّ الواقع، ولأنّ جميع المعاصي أيضاً لا نفع فيها للإنسان، بل هي ضدّ مستقبل الإنسان عند الله سبحانه وتعالى.                                       

وأمّا بالنسبة إلى الغناء والملاهي المحرَّمة، فباعتبار أنّها من المعاصي، والشّتم والسّباب أيضاً لا نفع فيه للإنسان، ولا سيَّما إذا كان شتماً للحقّ ولأهل الحقّ، فهي تلتقي عند معنى واحد، وهو الفعل أو القول الّذي لا غنى فيه للإنسان ولا نفع. فالله يؤكِّد الابتعاد عن اللّغو، لأنّه يريد للإنسان فيما أعطاه من طاقة النطق، وفيما أعطاه من طاقة الحركة، أن يسخّر هذه الطاقات كلّها فيما ينفع نفسه وينفع النّاس وينفع الحياة، لأنّ ذلك هو الذي يبقى، أمَّا اللّغو وما لا ينفع النّاس، فإنّه يتبخَّر ويذهب دون أن يخلّف وراءه شيئاً، وهذا هو المثل الذي ضربه الله للحقّ والباطل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}[الرّعد؛ 17].

ولذلك، أراد الله لنا أن نبتعد عن اللّغو، لأنّنا عندما نصرف وقتنا في قول اللّغو أو في فعله، فإنَّ معنى ذلك أنّنا ضيّعنا هذه الطاقة، وهي الزّمن الذي هو جزء من عمرنا، وضيّعنا هذه الطاقة، وهي طاقة النّطق إن كان اللّغو كلاماً، أو طاقة القوّة التي جعلها الله في جسدنا، فكان اللّغو فعلاً لأنّنا ضيَّعناه، ولم نستطع أن نبقي لأنفسنا منها شيئاً في الدّنيا ممّا ينفعنا في الدّنيا، وفي الآخرة ممّا نقبل عليه في الآخرة. والله لا يريد لك أن تكون هباءً، وأن تكون اللاشيء واللانفع، بل يريد لك أن تعيش القول الذي يغني عقلك أو يغني عقول الآخرين { فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}[الزمر؛ 17/18]، {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء؛ 53]، أن تنطلق طاقتك وحركتك باتجاه الأحسن.

كيف نواجه اللّغو؟!

وفي وحي كلام الإمام الصّادق (ع) حول مسألة الإعراض عن لغو الآخر ـ أن يتقوَّل عليك إنسان بكلامٍ غير صحيح، أو ينسب إليك شيئاً باطلاً ـ يقول لك الإمام (ع) ـ حسب الرّواية ـ فيما يستوحيه من كلام الله سبحانه وتعالى، أعرض عنه، أي اللّغو الباطل، فإنّه سيموت تلقائيّاً، اترك الباطل يتآكل ويموت لأنّه لا يبقى، اترك الكلام المضادّ لك الّذي لم تأته، اتركه لأنَّ الكذب سوف يموت، فـ«جولة الباطل ساعة، وجولة الحقّ إلى قيام الساعة». إنّ الآيات الكريمة تقول لك: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}[الفرقان؛ 63]. إنّ عليك أن تجعل هذا الجهل الذي خاطبك به يأكل نفسه، لا تدخل معه في معركة، لأنّه سوف يميت نفسه بنفسه، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف؛ 199].

ويقال إنّ هناك شخصاً شتم الإمام السجّاد (ع)، فتابع الإمام سيره، فوقف وقال: «إيّاك أعني»، أي بالسباب، فقال الإمام (ع): «وعنك أعرض»، لأنّ على الإنسان أن يجعل كلمة الجهل في داخلها، فلا تفسح المجال لأن تقابله بجهل ضدّ جهل، وقد قال الشّاعر وهو يصوّر هذا المعنى:

يخاطبني السّفيه بكلّ قبح           وأكره أن أكون له مجيبا

يزيد قباحةً وأزيد حلماً            كعودٍ شفّة الإحراق طيبا

أن تكون بهذا الشكل وهذا المعنى في الواقع، لأنّ كثيراً من الناس قد يكونون معنيّين من خلال حقدهم الذاتي، أو موظّفين من خلال أجهزة مخابرات محلية أو إقليمية أو دولية، أن يصنعوا معارك، وأن ينسبوا إلى شخصيّة معيّنة كلاماً لم تقله، أو يتّهموا إنساناً بشيء لم يفعله، ويثيروا مشكلة تخلق فتنة في المجتمع، أو تحرك الفتنة في الأمّة، لأنّهم يعتمدون على أنّ الفعل سوف يقابله ردّ فعل، أن يسبّك لتسبّه، وأن يتّهمك لتردّ عليه.. وهكذا يخلق المشكلة لك أو للمجتمع، أو يشغل الأمّة كلّها، فتنسى القضايا الحيويّة.

وهذا ما نعيشه في العالم الثَّالث، وفي الواقع الإسلاميّ، وفي الشَّرق العربي بالذّات، فنحن نجد أنَّ أجهزة المخابرات الدوليَّة لم تكن مهمّتها فقط أن ترصد ماذا يقول الناس ويفعلون، بل أن تنتج الفتنة والخلافات، وأن تشغل الناس بخلافات عائلية وإقليمية وطائفية ومذهبية وشخصية في داخل المذهب الواحد، حتى تتفرّغ لسرقة أموال المسلمين، ولاستثمار ثرواتهم، ولمصادرة سياساتهم، وللإطباق على أمنهم، لأنّهم مشغولون بالقضايا المذهبيّة بين مسلم ومسلم، بين سنّة وشيعة؛ هذا يكفّر ذاك، وذاك يكفّر ذلك، إنهم مشغولون بالقضايا الطائفية بين المسيحيّة والإسلام، وبالقضايا الإقليميّة بين هذا البلد وذاك البلد في حدود هنا وحدود هناك، أو في بعض القضايا التاريخيّة التي يمكن أن تثير الأحقاد هنا أو تثير الأحقاد هناك.

وينشغل الناس بكلّ هذا اللّغو الذي قد لا يحمل الكثير من الحقّ، بل يحمل الكثير من الباطل، في ردود وفي خطابات وفي إثارات وفي منازعات وما إلى ذلك.

وربما نجد أنَّ بعض المشاهد تدخل في المذهب الواحد، سواء في داخل الواقع الإسلامي السني فيما تثور فيه من مشاكل داخليّة، أو في الواقع الإسلامي الشيعي فيما تثور فيه من مشاكل، وخصوصاً في عالم المرجعيّات وصراعها وما أشبه ذلك، والخلافات الشخصيّة التي تتحرّك هنا وهناك، من خلال كلام ينسب إلى هذا وذاك، أو تهمة تلصق بهذا أو بذاك.. وتمرّ القضايا الكبرى كما يريد المستكبرون، في حين أنّ الله يريدنا أن نقول: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}[القصص؛ 55]. فنحن لا نريد أن ندخل في معركة الجهل، فقد يقول البعض ربما تثار بعض القضايا التي قد يكون لها دور فيما نفكّر فيه، فهل تريدنا أن نسكت؟ وقد تثار بعض القضايا التي تتّصل بالمذهب أو تتّصل بالدين، وقد يسبّ إنسانٌ شخصيّة كبيرة عندنا، وقد يتعرّض الإنسان لبعض القضايا الحسّاسة في أوضاعه، فهل تريدون أن نسكت؟! نحن لا نقول ذلك، ولكنك عندما تريد أن تناقش المسألة، ادرس خلفيّة هذه الإثارة، فلعلّ الذي أثارها إنسان يريد أن يخلق مشكلة من خلال ذلك، وقد لا يكون الموقف موقف إثارة مشكلة في القضايا، حتّى لو كانت القضيّة حقّك.

وتجربة عليّ (ع) هي سيّدة التّجارب وأجلاها، فلقد كان صاحب الحقّ، ولا نزال نرى أنّه صاحب حقّ، ولكنّه قال: «حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد (ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم، الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السّراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه»[5]. لم يدخل في جدل ولا في نقاش، وهو صاحب الحجّة الواضحة، وقال: «لأسالمنَّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصّة»[6].

حادثة ذات دلالة

أيّها الأحبّة: أذكر في الخمسينات، أنّ شخصاً مسيحيّاً عندنا في لبنان سبّ النبيّ (ص)، وثار المسلمون، وخصوصاً في لبنان الّذي يعيش الواقع السياسي والطائفي فيه حساسيات بين المسلمين والمسيحيّين، وانتبه الجميع بعد ذلك إلى أنَّ هذا الرّجل موظَّف في المخابرات، وأراد أن يثير فتنة، معتمداً على هذه الحساسيّة الإسلاميّة المسيحيّة.

وأنقل لكم قصّة عشناها كتجربة في ذلك الوقت، فلقد كنّا في النجف إلى جانب المرجع الدّيني الكبير المرحوم السيّد محسن الحكيم (رحمة الله عليه)، حيث نُشِر في بعض الجرائد المصريّة رواية عن (عمر) فيها مساس بالإمام (ع).. وكانت مسألة عبد النّاصر بدأت تمتدّ أيّامها، وكان هناك مشاكل سياسيّة بين نوري السّعيد حاكم  العراق وبين عبد الناصر حاكم مصر، وثار الوضع في لبنان بشكل فوق العادة ـ انتصاراً لأهل البيت (ع) ـ بين السنّة والشيعة، وقرّروا إرسال وفد إلى المرجعيّة العليا في النجف، إلى السيّد محسن الحكيم (ره)، باعتبار أنّه مرجع الشيعة، حتى يثار السيّد وتكبر المسألة وتصبح على مستوى كلّ العالم، فجاء الوفد اللّبناني، وكنّا جالسين في ديوان السيّد الحكيم، وإذا بأشدّ المتحمّسين يندفع بالقول إنّنا لا نقبل أن يتكلّموا عن أهل البيت، حتى يثير السيّد، وكان السيّد حكيماً كاسمه، وكان يدرس القضايا بعقل واع واسع جداً، فلم يستجب لهم، لأنّه كان يعرف أنّ للقضيّة هدفاً سياسياً، وإذا بهذا الشخص الذي كان أشدّهم حماسةً لأهل البيت، نراه يلبس الصّليب، فلقد كان مسيحياً وليس مسلماً، فالقضيّة إنمّا أثارت الجوّ بين السنّة والشيعة حتى تتوجّه ضدّ السياسة المصريّة.

فتّشوا عن الخلفيّات

 لذلك أيّها الأحبّة: عندما تسمعون كلمة، فتّشوا عن خلفيّاتها. فللإمام عليّ (ع) كلمة في "نهج البلاغة" يقول فيها: «إذا استولى الصّلاح على الزّمان وأهله، ثم أساء رجل الظنّ برجل لم تظهر منه حوبة، فقد ظلم، وإذا استولى الفساد على الزّمان وأهله، فأحسن رجل الظنّ برجل، فقد غرّر»[7]. نحن  لا نريد أن نسيء الظّنّ بكلّ الناس، ولكن علينا أن نكون حذرين في هذا المجال. لذلك {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}[القصص؛ 55] أن نكون الأمَّة التي تفجِّر كلّ طاقاتها في الخير وفيما ينفع النَّاس، وفيما يقرّبها إلى الله سبحانه وتعالى، وبما يجمعها على الحقّ، وبما يجعلها واعية لكلّ الخطط التي تخطَّط لها من أجل أن تتبعثر قواها، وأن تموت طاقاتها في الفراغ.

{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون؛ 1ـ3]. علينا أن نعرف كيف نعرض عن اللّغو السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني، وحتى اللّغو فيما يتصل بالمعاني الدّينية، عندما لا يكون هناك دين، ولكنّه لغو باسم الدّين.

والحمد لله ربّ العالمين.


[1] الصحيفة السجادية، دعاؤه (ع) بخواتم الخير.

[2] الكافي، الكليني، ج1، ص 163.

[3] تفسير مجمع البيان، الطبرسي، ج7، ص 177.

[4] بحار الأنوار، ج 64، ص 264.

[5] نهج البلاغة، ج3، ص119.

[6] نهج البلاغة، ج1، ص124.

[7] ميزان الحكمة، محمّد الريشهري، ج 2، ص 1787.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية