كتابات
19/09/2019

المال وسيلة أم هدف؟

المال وسيلة أم هدف؟

في عددٍ من آيات القرآن الكريم، تُطرَح بعض الأفكار للنّاس من خلال حوارٍ معيَّن تظهر فيه الفكرة التي يريد الله تعالى للنّاس أن يعوها ويأخذوا العِبرة منها، فيقول سبحانه وتعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً*كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً}[الكهف: 32 ــ 33].

ذهنيّتان مختلفتان:

قبل أن ندخل في شرح معالِم الحوار، نشير إلى المثل الذي يضربه الله تعالى عن هذين الرجلين، حيث لكلّ واحدٍ منهما طريقته الخاصّة في الحياة، فرجلٌ يعتبر المال كلّ شيءٍ في معنى القيمة التي ترتفع بمستوى الإنسان، فالذي يملك المال ـــ حسب زعمه ـــ يملك كلَّ شيء، ويستحقّ من الله ـــ هذا إذا كان سبحانه موجوداً في وعيه ـــ كلَّ كرامة، أمّا مَنْ لا يحوز على المال، فليس له قيمة، لا في الدّنيا ولا في الآخرة. والآخر يرى في المال وسيلة يقضي بها حاجاته، لأنَّ القرب من الله تعالى لا يخضع لامتلاك الإنسان للمال، بل للعلم والإيمان والتقوى والجهاد.

إنَّ التفكير الأوّل بعيدٌ عن الصحّة، لأنّ الذي يفكِّر بهذه الطريقة، يعيش الغفلة عن عالَم الزوال والفناء، ولا يفكّر في الأحداث التي يمكن أن تطرأ لتأخذ منه كلّ شيء، فيبقى صِفر اليدين. ومع ذلك، فإنَّه يظنّ أنّه خالدٌ في ماله ومواقعه، وينظر إلى النّاس من عليائه، حيث يعتبر قيمة الناس بما يملكون من مال وثروة. وأمَّا صاحب التفكير الثاني، فإنَّه يحدِّد قيمة النّاس بقدر علمهم ووعيهم وإيمانهم، لأنّ المال ليس قيمة ترتفع بالإنسان لتعطيه المكانة المتقدّمة. وعلى هذا، فإنَّ المال لا يمنح الإنسان إنسانيّته، بل إنَّ إنسانيّته تغتني بالعقل والمعرفة والإيمان وبالتوجّه إلى الله سبحانه والانفتاح عليه.

الاعتزاز بغير الله:

والله سبحانه يضرب لنا هذا المثل لنعرف قيمة المال، وأنَّ الإنسان لا يستطيع أن يجعل المال أساساً في الحياة الدنيا وفي الآخرة. {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً}، فالمثل في القرآن، إنّما هو لتوضيح الفكرة وتقريبها إلى أذهان النّاس، بطريقة ربط الأمر المعنوي بالأمر الحسّي، فنحاول فهم الجانب المعنوي على مستوى الفكرة، من خلال الجانب الحسّي على مستوى الواقع، فنستوحي من الواقع الفكرة التي يفترض أن يحملها وجداننا.

{رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} رزقه بستانين من العنب {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ}، والنخل يحيط بهذين البستانيْن، {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً}، والزرع يحمل الثمار الطيّبة والمتنوّعة داخلهما، {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا}، فكلّ بستانٍ منهما يفيض بالثّمار التي نضجت وصارت جاهزة للأكل، {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} لم يُنقص الله منه شيئاً.. فكان بستاناً جميلاً يموج بالخضرة وطيّب الثمار، {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً}، يروي ظمأ الأرض ويبعث فيها الحياة والتجدُّد.

وهنا يبدأ الحوار {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً}[الكهف: 34]، كونه يملك الثمر الذي هو نتاج البساتين الوفير، وصاحبه الذي هو قريبه أو جاره أو صديقه لا يملك شيئاً، فإنَّه شعر بالاستعلاء عليه {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً} أنا صاحب المال الكثير والقيمة العليا {وَأَعَزُّ نَفَراً} عندي الأولاد والأصحاب والمؤيّدون، فما قيمتك أمامي؟ أنتَ لا تملك المال الذي أملكه، ولا تنال تأييد الجماعة التي تلوذ بي، فما شأنك ومنزلتك أمام شأني ومنزلتي؟

وهذا يعطينا صورة الإنسان الذي يعتدُّ بماله وجماعته ويحتقر الآخرين، حيث يعتبر أنّه يعلو مقامه بكثرة ماله وشعبيته، وتبرز شخصيّته من خلالهما. وهنا نقول: إنَّ المال ليس جزءاً منك، فهو ليس عقلك وقلبك، المال ليس شيئاً منسوباً إليك حتى يكون هو كلّ إرادتك، حتّى إِنّ الناس الذين يؤيّدونك هم ليسوا أنت، كلُّ واحد له وجوده المستقلّ، فهم لا يكبّرونك إذا كنت صغيراً في نفسك، ولا يعظّمونك إذا كنتَ حقيراً في ذاتك، فالمال والناس من حولك وجوداتٌ خارج طاقتك.. فما يرفعك هو عقلك وعلمك وخبرتك وإيمانك، وهذا ما قاله أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "قيمة كلِّ امرئ ما يُحسنه".

الاستغراق في الشَّهوات:

ويدخل... كما كثير من أصحاب الأموال إلى أملاكه متبختراً مستعلياً شامخاً بأنفه {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ}[الكهف: 35] من خلال عدم إيمانه بالله، ومن خلال المفاهيم الخاطئة التي يحملها في عقله، ومن خلال هذا الأسلوب الذي يعامل فيه النّاس الذين لا يملكون ما يملك، حيث لا يسمع نداءَ الله وتحذيره {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً}[الإسراء: 37] ولأنّه أصمَّ أذُنيه عن سماع الحقّ وتملّكَتْه العزّة بالإثم، {قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً}[الكهف: 35]، فهذه الأشجار والثمار والنخيل والأعناب والمياه الوفيرة الغزيرة، هل من المعقول أن تذهب أو تفنى؟ إنَّها ستبقى مرتفعة وفيرة طيّبة، ولن يتسلّل إليها الفناء أو الموت.

وهذه مواقف مَنْ يستغرق في ماله فينسى ربَّه ومصيره، وينسى الحياة في تقلّباتها وتغييراتها وأحداثها المتلاحقة والمتطوّرة وغير الثابتة. والإنسان إذا حبس فكره في الجانب المادي، فإنّه ينسى ما حوله، ويصبح عقله عقلاً مادّياً، لا مكان فيه للجانب الروحي والفكري، وتصبح الأموال والشيكات والسندات وأوراق الاستملاك جزءاً أساسيّاً من عقله، إذا لم تكن كلّ عقله، فيتحوَّل إلى كائن مادّي ليس فيه أيّة ميزة خيرة.. فيتكبَّر على الناس وعلى الله تعالى {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً}[الكهف: 36]، لن يكون هناك يوم قيامة وحساب وجزاء، انتهى الأمر، هي الدّنيا المستمرة ونحن مستمرّون بها.

هكذا يفكّر من استولى المال على وجوده، وأكثر من ذلك {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً}، ولو فرضنا أنَّ هناك موتاً، فسأطلب من الله أن يُرجعني إليه، وسوف أجدُ خيراً من هذه البساتين والأموال، لأنَّ لي وجاهة وامتداداً كبيرين، وسأكون من أصحاب الأملاك في الآخرة، كما كنت من أصحاب الأملاك في الدنيا، لأنَّ للأغنياء شأناً كبيراً عند الله، لا يناله الفقراء والمستضعفون والمعدمون.

قناعات الثبات على الدِّين:

هذا ما حاور به هذا الغنيّ المتكبّر صاحبه الفقير المؤمن الواعي، الّذي يعيش قناعات مغايرة لقناعاته.. ومع ذلك، لم يشعر أمامه بالضعف، ولم يعش الإحباط في ذاته، ولم يتصاغر أبداً، بقي ثابتاً قويّاً في دينه وإرادته، فذاك يحاوره بالاستعلاء والاعتداد بالنفس والتمسّك بما يفنى، وهذا يحاوره بكلمة العقل والإيمان {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً}[الكهف: 37]، كم من فرق بين الاثنين؛ ذاك يحدّثه بالمال والوجاهات والزّعامات ويحدّق في التّراب، وهذا يخاطبه بمنطق الخوف من الله، حيث يحدّق في السّماء ولا ينظر إلى مادّيات الأرض {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ}، أنتَ تزهو بنفسك، ولكن عُد إلى وجودك، لستَ إلاّ حفنة تراب لا تساوي شيئاً، أنتَ كهذا التراب الذي تضع رجليك عليه {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً}، فالله هو الذي خلقك، وذلك بعد أن تحوّل التراب إلى غذاء، والغذاء إلى دم، والدم إلى نطفة، ومرّت بأدوارها حتّى صرت رجلاً.. فالله هو الذي خلقك، فأنتَ لا تخلق نفسك، ولا تملك من أمرك شيئاً، وما تملكه، فإنَّ الله ملّكك إيَّاه، فأين هي عظمتك؟ في جسدك الماديّ، أم في مالك، أم فيمن حولك؟ فأنتَ تكفر بالله وتعلو على عباده، وتظنّ أنَّ الدّنيا ستبقى خالدة لك {لَّكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً}[الكهف: 38]، ذاك تفكيرك، أمّا أنا، فإنّ الله هو ربّي، أعرف مقامه، وأعرف موقعي منه، وأدرك عظمته ونِعَمَه وآياته، فأنتَ تنظر بهذا المال الذي تملكه لتستغرق فيه ولتحوّله إلى إله تخضع له، ولكنّي أرفع رأسي إلى ربّي، حيث لا أشرك به أحداً. فلو كنتَ إنساناً متوازناً واعياً يعرف حقائق الأشياء، لكان منطقك مغايراً لما تتحدّث به {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً}[الكهف: 39]، فلولا إذ دخلت بستانك وشكرت الله تعالى على ما أعطاك، لكان أوْلى لك، لأنَّ ما حصلت عليه كان بمشيئة الله، وأنَّه سبحانه إذا شاء أمراً تحقّق {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس: 82]، فعليك أن تتذكّر قوّة الله التي وهبتك هذه النِّعَم، لا أن تشعر أنَّ قوّتك هي من ذاك لا من الله.

وهذه النقطة تمثّل منطقاً تربويّاً رفيعاً، وهي تحذِّر الإنسان الذي يستغرق في المادّة وينسى ربّه، حيث عليه عندما يشعر بالقوّة ويمتلك الوسائل المادّية، أن يربط ذلك بالله، فهو وحده الذي أعطى القوّة والمال، وهو القادر على سلبهما من الإنسان الذي يجب عليه ألاّ يطغى، بل أنْ يتواضع لله الذي خلقه وأعطاه القوّة. وإنَّ كلمة (لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم) توحي للإنسان بأنّ قوّته وإمكاناته هي من الله.

ومن هنا، خاطبه هذا المؤمن {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً}[الكهف: 39]. صحيحٌ أنَّك تراني أقلَّ منك مالاً وولداً، ولستُ أملك ما تملك على المستوى المادّي، ولكنّي أملك الثقة بالله، وإن كنت أقلَّ منك في المال والأولاد والبساتين {فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً}[الكهف: 40]، فربّي يرزقني كما رزقك، ويعطيني خيراً ممّا أعطاك، وبساتينك هذه قد تأتيها بأمر الله عاصفةٌ أو موجة برد، أو حرّ أو أيّة حالة من حالات المناخ غير الطبيعيّة، فتصبح {صَعِيداً زَلَقاً} جرداء لا تنبت ولا تُثمر، تزلق قدم مَن يسير عليها {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً}[الكهف: 41] أو تغور مياهُها في الأرض فتجفّ ولن تفيدك بشيء.

وماذا ينفع النّدم؟:

وهنا ينتهي الحوار.. وماذا كانت النتائج؟ {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً}[الكهف: 42] جاءت العواصف والرياح والأمراض الزراعية وما إلى ذلك، فإذا لا ثمر ولا أشجار ولا بساتين {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا} يجلس حزيناً مغموماً وقد خسر كلَّ شيء، يقلّب كفّيه جزعاً على ما صرف من أموال واهتمام وعناية ورعاية لنموّ بساتينه {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً}[الكهف: 42]، يقف أمام الخراب الذي حلَّ بأملاكه، ويتمنّى لو أنَّه عرفَ الله ولم يشرك به شيئاً {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً}[الكهف: 43]، ليس من قوّة تدعمه أو فئة تنصره، أو جماعة تؤيّده، فكلّ قوى هؤلاء لا تشكّل ذرّة أمام قوّة الله {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ للهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} [الكهف: 44]، فهو تعالى وحده يملك الأمر كلّه في الدّنيا والآخرة، فلا ثواب خير من ثوابه، والعاقبة الخيّرة من الله هي لمن أصلح ما بينه وبين الله تعالى، حيث هناك السعادة كلّ السعادة.

ما يبقى وما يفنى:

وننتهي من هذا الموقف الخاصّ، لندخل في الموقف العام، ندخل إلى الدّنيا، هذه التي نتنازع عليها، نتحاسد ونتباغض.. فما هو مثَلُها وما هي قيمتها؟ {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً}[الكهف: 45] فهذه الدّنيا أمامك، يختصرها خريف وشتاء، ربيعٌ وصيف، هي {كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ}، وينزل الماء من السماء إلى الأرض، تختلط البذور به، فتخضرّ وتتزيّن، ثمّ تصفرّ وتتساقط وتموت {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}، تتكسَّر أوراقها اليابسة فتحملها الريح في كلِّ الاتجاهات..

وهكذا هي أعمارنا، نبدأ أجنّةً، فنولد، ثمّ بعد الطفولة نصير شباباً، فشيوخاً وكهولاً {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً}[النحل: 70]، ومن ثمَّ إلى القبر، هي الصورة نفسها في الكون بين المخلوقات في البدايات والنهايات {وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً}[الكهف: 45]، فهو القادر على أن يعطيك الحياة، وأن يسلبها منك، هو الذي يُحيي ويميت، والقادر على كلِّ شيء، وهو الثّقة والأمل، وليس الأملُ بما يفنى ولا يبقى.

وبعد ذلك، يعطينا القرآن وصفاً لما هي عليه الحياة، وما هو الأفضل والأبقى فيها {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}[الكهف: 46]. المال زينةٌ تتمثّلها في لباسك وجسدك وبيتك وفي كلِّ ما تتحرّك فيه، والبنون زينةٌ، تزهو بهم، يمشون معك، يلعبون أمام ناظريك، وتشعر بأنَّ الدنيا لن تسعك فرحاً بهم.. ولكن، المال يزول عنك وأنتَ في الحياة، وتزول عنه في لحظة الموت، وأبناؤك قد يرحلون إلى الله قبلك، وقد ترحل قبلهم، موتٌ هنا، وموتٌ هناك.. كلّ شيءٍ يفنى، تُطفأ عيناك ولا ضوء فيهما، تتجمّد أذناك ولسانك عن السمع والنطق، وتتوقّف يداك عن الحركة، ورجلاك عن الانطلاق، وتجفُّ خضرة الحياة ونضرتها فيك، وتصبح مجرّد لحم وعظم يدفع على الاشمئزاز من رائحته إذا لم تُدفن، وبعد ذلك تتحوَّل إلى تراب.. وماذا يبقى منك؟ يبقى العمل وحده.

{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ}، فالأعمال الصالحة، وما قدَّمت من عمل في عبادة ربِّك، وفي نصرة المظلومين في حياتك، ومساعدة المحرومين ممّا رزقك الله، ومن رفع مستوى الأُمَّة بعلمك وخبرتك، ومن تعزيز مواقعها بجهدك وجهادك، هو الذي يبقى {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} فيما يعطيك ربُّكَ من ثواب {وَخَيْرٌ أَمَلاً}، فليس الأمل مالَك وولدَك، بل هو عملُك الذي ينجيك، فانظر كيف تُحسن عمَلك وتُتقِنُه {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[التّوبة: 105].

*من كتاب "عرفان القرآن".

في عددٍ من آيات القرآن الكريم، تُطرَح بعض الأفكار للنّاس من خلال حوارٍ معيَّن تظهر فيه الفكرة التي يريد الله تعالى للنّاس أن يعوها ويأخذوا العِبرة منها، فيقول سبحانه وتعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً*كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً}[الكهف: 32 ــ 33].

ذهنيّتان مختلفتان:

قبل أن ندخل في شرح معالِم الحوار، نشير إلى المثل الذي يضربه الله تعالى عن هذين الرجلين، حيث لكلّ واحدٍ منهما طريقته الخاصّة في الحياة، فرجلٌ يعتبر المال كلّ شيءٍ في معنى القيمة التي ترتفع بمستوى الإنسان، فالذي يملك المال ـــ حسب زعمه ـــ يملك كلَّ شيء، ويستحقّ من الله ـــ هذا إذا كان سبحانه موجوداً في وعيه ـــ كلَّ كرامة، أمّا مَنْ لا يحوز على المال، فليس له قيمة، لا في الدّنيا ولا في الآخرة. والآخر يرى في المال وسيلة يقضي بها حاجاته، لأنَّ القرب من الله تعالى لا يخضع لامتلاك الإنسان للمال، بل للعلم والإيمان والتقوى والجهاد.

إنَّ التفكير الأوّل بعيدٌ عن الصحّة، لأنّ الذي يفكِّر بهذه الطريقة، يعيش الغفلة عن عالَم الزوال والفناء، ولا يفكّر في الأحداث التي يمكن أن تطرأ لتأخذ منه كلّ شيء، فيبقى صِفر اليدين. ومع ذلك، فإنَّه يظنّ أنّه خالدٌ في ماله ومواقعه، وينظر إلى النّاس من عليائه، حيث يعتبر قيمة الناس بما يملكون من مال وثروة. وأمَّا صاحب التفكير الثاني، فإنَّه يحدِّد قيمة النّاس بقدر علمهم ووعيهم وإيمانهم، لأنّ المال ليس قيمة ترتفع بالإنسان لتعطيه المكانة المتقدّمة. وعلى هذا، فإنَّ المال لا يمنح الإنسان إنسانيّته، بل إنَّ إنسانيّته تغتني بالعقل والمعرفة والإيمان وبالتوجّه إلى الله سبحانه والانفتاح عليه.

الاعتزاز بغير الله:

والله سبحانه يضرب لنا هذا المثل لنعرف قيمة المال، وأنَّ الإنسان لا يستطيع أن يجعل المال أساساً في الحياة الدنيا وفي الآخرة. {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً}، فالمثل في القرآن، إنّما هو لتوضيح الفكرة وتقريبها إلى أذهان النّاس، بطريقة ربط الأمر المعنوي بالأمر الحسّي، فنحاول فهم الجانب المعنوي على مستوى الفكرة، من خلال الجانب الحسّي على مستوى الواقع، فنستوحي من الواقع الفكرة التي يفترض أن يحملها وجداننا.

{رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} رزقه بستانين من العنب {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ}، والنخل يحيط بهذين البستانيْن، {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً}، والزرع يحمل الثمار الطيّبة والمتنوّعة داخلهما، {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا}، فكلّ بستانٍ منهما يفيض بالثّمار التي نضجت وصارت جاهزة للأكل، {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} لم يُنقص الله منه شيئاً.. فكان بستاناً جميلاً يموج بالخضرة وطيّب الثمار، {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً}، يروي ظمأ الأرض ويبعث فيها الحياة والتجدُّد.

وهنا يبدأ الحوار {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً}[الكهف: 34]، كونه يملك الثمر الذي هو نتاج البساتين الوفير، وصاحبه الذي هو قريبه أو جاره أو صديقه لا يملك شيئاً، فإنَّه شعر بالاستعلاء عليه {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً} أنا صاحب المال الكثير والقيمة العليا {وَأَعَزُّ نَفَراً} عندي الأولاد والأصحاب والمؤيّدون، فما قيمتك أمامي؟ أنتَ لا تملك المال الذي أملكه، ولا تنال تأييد الجماعة التي تلوذ بي، فما شأنك ومنزلتك أمام شأني ومنزلتي؟

وهذا يعطينا صورة الإنسان الذي يعتدُّ بماله وجماعته ويحتقر الآخرين، حيث يعتبر أنّه يعلو مقامه بكثرة ماله وشعبيته، وتبرز شخصيّته من خلالهما. وهنا نقول: إنَّ المال ليس جزءاً منك، فهو ليس عقلك وقلبك، المال ليس شيئاً منسوباً إليك حتى يكون هو كلّ إرادتك، حتّى إِنّ الناس الذين يؤيّدونك هم ليسوا أنت، كلُّ واحد له وجوده المستقلّ، فهم لا يكبّرونك إذا كنت صغيراً في نفسك، ولا يعظّمونك إذا كنتَ حقيراً في ذاتك، فالمال والناس من حولك وجوداتٌ خارج طاقتك.. فما يرفعك هو عقلك وعلمك وخبرتك وإيمانك، وهذا ما قاله أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "قيمة كلِّ امرئ ما يُحسنه".

الاستغراق في الشَّهوات:

ويدخل... كما كثير من أصحاب الأموال إلى أملاكه متبختراً مستعلياً شامخاً بأنفه {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ}[الكهف: 35] من خلال عدم إيمانه بالله، ومن خلال المفاهيم الخاطئة التي يحملها في عقله، ومن خلال هذا الأسلوب الذي يعامل فيه النّاس الذين لا يملكون ما يملك، حيث لا يسمع نداءَ الله وتحذيره {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً}[الإسراء: 37] ولأنّه أصمَّ أذُنيه عن سماع الحقّ وتملّكَتْه العزّة بالإثم، {قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً}[الكهف: 35]، فهذه الأشجار والثمار والنخيل والأعناب والمياه الوفيرة الغزيرة، هل من المعقول أن تذهب أو تفنى؟ إنَّها ستبقى مرتفعة وفيرة طيّبة، ولن يتسلّل إليها الفناء أو الموت.

وهذه مواقف مَنْ يستغرق في ماله فينسى ربَّه ومصيره، وينسى الحياة في تقلّباتها وتغييراتها وأحداثها المتلاحقة والمتطوّرة وغير الثابتة. والإنسان إذا حبس فكره في الجانب المادي، فإنّه ينسى ما حوله، ويصبح عقله عقلاً مادّياً، لا مكان فيه للجانب الروحي والفكري، وتصبح الأموال والشيكات والسندات وأوراق الاستملاك جزءاً أساسيّاً من عقله، إذا لم تكن كلّ عقله، فيتحوَّل إلى كائن مادّي ليس فيه أيّة ميزة خيرة.. فيتكبَّر على الناس وعلى الله تعالى {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً}[الكهف: 36]، لن يكون هناك يوم قيامة وحساب وجزاء، انتهى الأمر، هي الدّنيا المستمرة ونحن مستمرّون بها.

هكذا يفكّر من استولى المال على وجوده، وأكثر من ذلك {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً}، ولو فرضنا أنَّ هناك موتاً، فسأطلب من الله أن يُرجعني إليه، وسوف أجدُ خيراً من هذه البساتين والأموال، لأنَّ لي وجاهة وامتداداً كبيرين، وسأكون من أصحاب الأملاك في الآخرة، كما كنت من أصحاب الأملاك في الدنيا، لأنَّ للأغنياء شأناً كبيراً عند الله، لا يناله الفقراء والمستضعفون والمعدمون.

قناعات الثبات على الدِّين:

هذا ما حاور به هذا الغنيّ المتكبّر صاحبه الفقير المؤمن الواعي، الّذي يعيش قناعات مغايرة لقناعاته.. ومع ذلك، لم يشعر أمامه بالضعف، ولم يعش الإحباط في ذاته، ولم يتصاغر أبداً، بقي ثابتاً قويّاً في دينه وإرادته، فذاك يحاوره بالاستعلاء والاعتداد بالنفس والتمسّك بما يفنى، وهذا يحاوره بكلمة العقل والإيمان {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً}[الكهف: 37]، كم من فرق بين الاثنين؛ ذاك يحدّثه بالمال والوجاهات والزّعامات ويحدّق في التّراب، وهذا يخاطبه بمنطق الخوف من الله، حيث يحدّق في السّماء ولا ينظر إلى مادّيات الأرض {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ}، أنتَ تزهو بنفسك، ولكن عُد إلى وجودك، لستَ إلاّ حفنة تراب لا تساوي شيئاً، أنتَ كهذا التراب الذي تضع رجليك عليه {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً}، فالله هو الذي خلقك، وذلك بعد أن تحوّل التراب إلى غذاء، والغذاء إلى دم، والدم إلى نطفة، ومرّت بأدوارها حتّى صرت رجلاً.. فالله هو الذي خلقك، فأنتَ لا تخلق نفسك، ولا تملك من أمرك شيئاً، وما تملكه، فإنَّ الله ملّكك إيَّاه، فأين هي عظمتك؟ في جسدك الماديّ، أم في مالك، أم فيمن حولك؟ فأنتَ تكفر بالله وتعلو على عباده، وتظنّ أنَّ الدّنيا ستبقى خالدة لك {لَّكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً}[الكهف: 38]، ذاك تفكيرك، أمّا أنا، فإنّ الله هو ربّي، أعرف مقامه، وأعرف موقعي منه، وأدرك عظمته ونِعَمَه وآياته، فأنتَ تنظر بهذا المال الذي تملكه لتستغرق فيه ولتحوّله إلى إله تخضع له، ولكنّي أرفع رأسي إلى ربّي، حيث لا أشرك به أحداً. فلو كنتَ إنساناً متوازناً واعياً يعرف حقائق الأشياء، لكان منطقك مغايراً لما تتحدّث به {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً}[الكهف: 39]، فلولا إذ دخلت بستانك وشكرت الله تعالى على ما أعطاك، لكان أوْلى لك، لأنَّ ما حصلت عليه كان بمشيئة الله، وأنَّه سبحانه إذا شاء أمراً تحقّق {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس: 82]، فعليك أن تتذكّر قوّة الله التي وهبتك هذه النِّعَم، لا أن تشعر أنَّ قوّتك هي من ذاك لا من الله.

وهذه النقطة تمثّل منطقاً تربويّاً رفيعاً، وهي تحذِّر الإنسان الذي يستغرق في المادّة وينسى ربّه، حيث عليه عندما يشعر بالقوّة ويمتلك الوسائل المادّية، أن يربط ذلك بالله، فهو وحده الذي أعطى القوّة والمال، وهو القادر على سلبهما من الإنسان الذي يجب عليه ألاّ يطغى، بل أنْ يتواضع لله الذي خلقه وأعطاه القوّة. وإنَّ كلمة (لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم) توحي للإنسان بأنّ قوّته وإمكاناته هي من الله.

ومن هنا، خاطبه هذا المؤمن {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً}[الكهف: 39]. صحيحٌ أنَّك تراني أقلَّ منك مالاً وولداً، ولستُ أملك ما تملك على المستوى المادّي، ولكنّي أملك الثقة بالله، وإن كنت أقلَّ منك في المال والأولاد والبساتين {فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً}[الكهف: 40]، فربّي يرزقني كما رزقك، ويعطيني خيراً ممّا أعطاك، وبساتينك هذه قد تأتيها بأمر الله عاصفةٌ أو موجة برد، أو حرّ أو أيّة حالة من حالات المناخ غير الطبيعيّة، فتصبح {صَعِيداً زَلَقاً} جرداء لا تنبت ولا تُثمر، تزلق قدم مَن يسير عليها {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً}[الكهف: 41] أو تغور مياهُها في الأرض فتجفّ ولن تفيدك بشيء.

وماذا ينفع النّدم؟:

وهنا ينتهي الحوار.. وماذا كانت النتائج؟ {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً}[الكهف: 42] جاءت العواصف والرياح والأمراض الزراعية وما إلى ذلك، فإذا لا ثمر ولا أشجار ولا بساتين {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا} يجلس حزيناً مغموماً وقد خسر كلَّ شيء، يقلّب كفّيه جزعاً على ما صرف من أموال واهتمام وعناية ورعاية لنموّ بساتينه {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً}[الكهف: 42]، يقف أمام الخراب الذي حلَّ بأملاكه، ويتمنّى لو أنَّه عرفَ الله ولم يشرك به شيئاً {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً}[الكهف: 43]، ليس من قوّة تدعمه أو فئة تنصره، أو جماعة تؤيّده، فكلّ قوى هؤلاء لا تشكّل ذرّة أمام قوّة الله {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ للهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} [الكهف: 44]، فهو تعالى وحده يملك الأمر كلّه في الدّنيا والآخرة، فلا ثواب خير من ثوابه، والعاقبة الخيّرة من الله هي لمن أصلح ما بينه وبين الله تعالى، حيث هناك السعادة كلّ السعادة.

ما يبقى وما يفنى:

وننتهي من هذا الموقف الخاصّ، لندخل في الموقف العام، ندخل إلى الدّنيا، هذه التي نتنازع عليها، نتحاسد ونتباغض.. فما هو مثَلُها وما هي قيمتها؟ {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً}[الكهف: 45] فهذه الدّنيا أمامك، يختصرها خريف وشتاء، ربيعٌ وصيف، هي {كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ}، وينزل الماء من السماء إلى الأرض، تختلط البذور به، فتخضرّ وتتزيّن، ثمّ تصفرّ وتتساقط وتموت {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}، تتكسَّر أوراقها اليابسة فتحملها الريح في كلِّ الاتجاهات..

وهكذا هي أعمارنا، نبدأ أجنّةً، فنولد، ثمّ بعد الطفولة نصير شباباً، فشيوخاً وكهولاً {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً}[النحل: 70]، ومن ثمَّ إلى القبر، هي الصورة نفسها في الكون بين المخلوقات في البدايات والنهايات {وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً}[الكهف: 45]، فهو القادر على أن يعطيك الحياة، وأن يسلبها منك، هو الذي يُحيي ويميت، والقادر على كلِّ شيء، وهو الثّقة والأمل، وليس الأملُ بما يفنى ولا يبقى.

وبعد ذلك، يعطينا القرآن وصفاً لما هي عليه الحياة، وما هو الأفضل والأبقى فيها {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}[الكهف: 46]. المال زينةٌ تتمثّلها في لباسك وجسدك وبيتك وفي كلِّ ما تتحرّك فيه، والبنون زينةٌ، تزهو بهم، يمشون معك، يلعبون أمام ناظريك، وتشعر بأنَّ الدنيا لن تسعك فرحاً بهم.. ولكن، المال يزول عنك وأنتَ في الحياة، وتزول عنه في لحظة الموت، وأبناؤك قد يرحلون إلى الله قبلك، وقد ترحل قبلهم، موتٌ هنا، وموتٌ هناك.. كلّ شيءٍ يفنى، تُطفأ عيناك ولا ضوء فيهما، تتجمّد أذناك ولسانك عن السمع والنطق، وتتوقّف يداك عن الحركة، ورجلاك عن الانطلاق، وتجفُّ خضرة الحياة ونضرتها فيك، وتصبح مجرّد لحم وعظم يدفع على الاشمئزاز من رائحته إذا لم تُدفن، وبعد ذلك تتحوَّل إلى تراب.. وماذا يبقى منك؟ يبقى العمل وحده.

{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ}، فالأعمال الصالحة، وما قدَّمت من عمل في عبادة ربِّك، وفي نصرة المظلومين في حياتك، ومساعدة المحرومين ممّا رزقك الله، ومن رفع مستوى الأُمَّة بعلمك وخبرتك، ومن تعزيز مواقعها بجهدك وجهادك، هو الذي يبقى {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} فيما يعطيك ربُّكَ من ثواب {وَخَيْرٌ أَمَلاً}، فليس الأمل مالَك وولدَك، بل هو عملُك الذي ينجيك، فانظر كيف تُحسن عمَلك وتُتقِنُه {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[التّوبة: 105].

*من كتاب "عرفان القرآن".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية