كتابات
13/09/2019

الأسلوب العملي في الحوار وإشكالاته

الأسلوب العملي في الحوار وإشكالاته

إذا أردنا الاقتراب من الخطّ التطبيقي للأسلوب العملي في منهج الحوار، فسنجد أمامنا عدّة نقاط:

1 ـــ كيف تخاطب الآخر؛ هل تفاجئه بوجهة نظرك في عقيدته أو في التزامه، أو تتفادى ذلك؟

إنّ الأسلوب القرآني يفضِّل الابتعاد عن إعطاء الرأي حول وجهة النظر الأخرى، لأنّ ذلك ليس هو الأسلوب الأحسن، باعتبار ما قد يستتبعه من تعقيد الآخر منك، أو إثارة جانب العصبيّة الذاتية أو المذهبية تجاهك، ما قد يمنعه من الاستمرار معك في هذا الحوار، أو يخلق لديه روحية مضادّة تعقّد حركة الحوار، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[سبأ: 24].

إنّنا نلاحظ في هذه الفقرة من الآية، أنّ الطريقة القرآنية لم يستطع التطوّر في الذهنيّة الموضوعيّة أو الأسلوب العلمي أنْ يتجاوزها، فإنّ المعروف في الحوار العلميّ، أن يقول أحد المتحاورين للآخر: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصّواب)، ويرى القائمون على هذا الأسلوب، أنّ القيمة فيه هو أن يفتح ثغرة لاحتمالات الخطأ في رأي كلّ واحد من المتحاورين، ليمنع الإيحاء بالقناعة اليقينيّة الذاتية التي قد تثير حالة شعورية مضادّة تحوّل الموقف إلى ما يشبه الحائط المسدود.

أمّا الطريقة القرآنيّة، فإنّها تتقدَّم على هذا الأسلوب، لأنّها تؤكِّد الموقف المتوازن الذي يوحي فيه المحاور للطرف الآخر بأنّه لا يحمل تجاهه أيّ فكرة مضادّة حتّى على مستوى الترجيح بالنّسبة إلى الفكر الآخر، بل يقف على مسافة واحدة بين الرأيين فيما هو احتمال الخطأ والصّواب، وهو ما يضفي أجواء نفسية إيجابيّة على روحيّة الحياد الفكريّ من جهة، ويغري الطّرف الآخر بإمكانية إقناع محاوره المسلم الذي يطرح القضيّة بهذا الأسلوب المتوازن من جهةٍ أخرى.

وعلى ضوء ذلك، يمكن أن نستفيد من هذا الجوّ الموضوعي في الحوار، أنّ الإسلام يريد للقضايا المختلف فيها أن تطرح بعيداً عن أيّة حالة ذاتية، بحيث يكون البحث في مسائل العقيدة أو الشريعة، تماماً كما هو البحث في مسائل العلوم الأخرى التي لا تلامس في الإنسان أيّة حالة تتّصل بالشعور، أو تتحرّك من موقع العقدة، كما هو الحال في الدائرة العلمية الواسعة فيما نجده من المناهج الحديثة في الفكر المقارن، التي تتحرَّك في مواجهة اختلاف وجهات النّظر في مختلف العلوم، بالمستوى الذي تستطيع فيه أن تصل إلى الوحدة في النتائج العلميّة أو التقارب بين وجهات النظر المختلفة. فيمكن للعلماء المسلمين أنْ يأخذوا بها من موقع البحث في علم التاريخ أو علم النفس أو علم الاجتماع أو غير ذلك، لأنَّ العلوم الإسلامية إذا اختلفت عن العلوم الأخرى في مضمونها، فإنّها لا تختلف عنها في الركائز الفكرية، في مناهج الاستدلال فيما تتنوّع به الأدلّة والبراهين، فهناك مسألة النصّ والمصدر في الأحاديث المرويّة عن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهناك مسألة العقل فيما يمكن أن يكون الحديث فيه عقلياً في طبيعة حكم العقل، أو في طبيعة اعتباره قرينة على التصرّف في ظاهر النصّ القرآني أو النصّ الوارد في السنّة، أو عدم اعتباره، وفي مسألة مصادر الاجتهاد، في حجيّة الخبر أو القياس أو نحوهما في الأمور التي يختلف فيها العلماء، ليؤدّي ذلك إلى الخلاف في وجهة النظر الشرعية والكلامية ونحو ذلك، ممّا يمكن أن يجد أساساً يلتقي عليه الجميع في إدارة الحوار.

إنّ الملحوظ في كثير من مواضيع الخلاف، أنّ اختلاف الرأي الذي يرتئيه العالِم السنّيّ، مثلاً، أو يرتئيه العالِم الشيعيّ، أو عالِم هذا المذهب أو ذاك، في الدائرة السنيّة أو في الدائرة الشيعيّة، لم يكن ناشئاً من الصفة السنيّة أو الشيعيّة، بل من الأساس العلمي الاجتهادي الذي ينطلق فيه هذا أو ذاك.

فقد نجد هذا المجتهد الشيعي يلتقي في الرأي مع المذهب السنّي الخاصّ بما يختلف فيه مع مجتهد شيعي آخر، والعكس صحيح أيضاً.. ولعلّ هذا المعنى يساعد على إيجاد روحيَّة جديدة من الحياد الفكري أمام مواقع الخلاف.

2 ـــ إنّنا نلاحظ أنَّ القرآن الكريم يركِّز على نقاط اللّقاء في بداية الحوار، لإيجاد جوّ نفسي إيجابي يؤكّد أنّ اللّقاء في مثل هذه القضايا يمكن أن يصل بالجميع إلى اللّقاء في القضايا الأخرى المختلف فيها، وذلك في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 64].

فنحن نلاحظ أنّ الآية قد ركّزت على الوحدة في طبيعة المضمون المتّفق عليه بين المسلمين وبين أهل الكتاب، في الوقت الذي نجد اختلافاً في التفاصيل حول المضمون نفسه.

ونلاحظ التطبيق العملي في قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت: 46].

وقوله تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة: 136].

هيكليّات الحوار

ولعلّنا نجد في هذا الأسلوب الشّهادة الواضحة على ما في الإسلام من مرونة ووداعة، فقد حاول الإسلام أن يلتقي بأهل الكتاب من خلال الإيحاء بالإيمان بمقدَّساتهم من موقع الإيمان بمقدَّساته، بحيث لا تمثّل القضية أيّة تنازلات بفعل المجاملة والبحث عن قاعدة للّقاء، بل انسجاماً مع واقع العقيدة والإيمان، الأمر الذي يملأ أطراف الحوار بالشعور بالقرابة الفكريّة والروحيّة التي لا تبعدهم عن مواقعهم الأصيلة من حيث المبدأ.

وإذا كانت المسألة تتحرَّك، في هذا الجوّ، مع غير المسلمين، الذين قد نجد الكثير من الفواصل الفكرية على مستوى العقيدة أو الشريعة معهم، فإنَّ من الضروريّ أن نعرف كيف نحرِّك هذا الأسلوب القرآني مع المسلمين فيما يختلفون فيه، وذلك من خلال دراسة نقاط الوفاق فيما بينهم، والمتوفّرة على نسبة عالية جداً، مع ملاحظة مهمَّة، وهي أنّ المسلمين لا يختلفون في الجوانب الفقهية بطريقة مطلقة، بل إنّ هناك حركة دائبة في المسائل الاجتهاديّة، بحيث يمكن أن تنطلق مواقع الخلاف في هذه الدائرة لتصل إلى مواقع اللّقاء فيما بينها وبين الدّوائر الأخرى، لأنّ تطوّر الحوار الاجتهادي لا بدَّ أن يصل إلى نتيجة قياسية في المستقبل، كما وصل إلى نتائج إيجابيّة كثيرة في الماضي.

إنّنا نستطيع أن نجد في ذلك كلّه هيكليّة متكاملة فيما هو المنهج الإسلامي في البحث المقارن من حيث طبيعة الأسلوب في نطاقه الموضوعي، ومن حيث طبيعة الكلمات المختارة في الحوار، ومن حيث الروحيّة التي تطغى على الجوّ، وفيما هو السّلوك الأخلاقي في حركة الحوار بين إنسان وإنسان، وبين فكرٍ وفكر، حيث تنطلق المنهجية العلمية من قاعدة الذهنية الأخلاقية الموضوعية في نظرة الإنسان إلى الإنسان الآخر.

إنّ المناهج العلميّة في الدائرة العامّة، وفي الدائرة الإسلامية الخاصّة، لا تعوزنا، ولكنّ المشكلة لدينا هي في أخلاقية العلماء الباحثين الذين لا يتوفّرون على سعة الأُفق في مواجهة الخلافات، فتضيق صدورهم بوجهات النظر الأخرى وتتشنَّج أفكارهم ضدّها.. وفي التعصّب الشعبيّ الذي يترك تأثيراً سلبياً على الجوّ المحيط بالوسط العلمي الذي يتأثّر بالاتّجاهات الشعبية لاعتبارات عدّة، فيما يتمثّل في خضوع الخاصّة للعامّة، من جهات مادية أو معنوية. وكذلك، فإنّ المسألة تحتاج إلى علاج نفسي من جهة، كما تحتاج إلى معالجة منهجيّة أخرى من جهةٍ ثانية، لأنَّ العلاج الفكري وحده لا قيمة له إذا لم يكن إلى جانبه علاج واقعي، يحرّك الفكرة على صعيد الواقع الإنساني فيما هو الشّعور، وفيما هي العلاقات.

*من كتاب "أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة".

إذا أردنا الاقتراب من الخطّ التطبيقي للأسلوب العملي في منهج الحوار، فسنجد أمامنا عدّة نقاط:

1 ـــ كيف تخاطب الآخر؛ هل تفاجئه بوجهة نظرك في عقيدته أو في التزامه، أو تتفادى ذلك؟

إنّ الأسلوب القرآني يفضِّل الابتعاد عن إعطاء الرأي حول وجهة النظر الأخرى، لأنّ ذلك ليس هو الأسلوب الأحسن، باعتبار ما قد يستتبعه من تعقيد الآخر منك، أو إثارة جانب العصبيّة الذاتية أو المذهبية تجاهك، ما قد يمنعه من الاستمرار معك في هذا الحوار، أو يخلق لديه روحية مضادّة تعقّد حركة الحوار، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[سبأ: 24].

إنّنا نلاحظ في هذه الفقرة من الآية، أنّ الطريقة القرآنية لم يستطع التطوّر في الذهنيّة الموضوعيّة أو الأسلوب العلمي أنْ يتجاوزها، فإنّ المعروف في الحوار العلميّ، أن يقول أحد المتحاورين للآخر: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصّواب)، ويرى القائمون على هذا الأسلوب، أنّ القيمة فيه هو أن يفتح ثغرة لاحتمالات الخطأ في رأي كلّ واحد من المتحاورين، ليمنع الإيحاء بالقناعة اليقينيّة الذاتية التي قد تثير حالة شعورية مضادّة تحوّل الموقف إلى ما يشبه الحائط المسدود.

أمّا الطريقة القرآنيّة، فإنّها تتقدَّم على هذا الأسلوب، لأنّها تؤكِّد الموقف المتوازن الذي يوحي فيه المحاور للطرف الآخر بأنّه لا يحمل تجاهه أيّ فكرة مضادّة حتّى على مستوى الترجيح بالنّسبة إلى الفكر الآخر، بل يقف على مسافة واحدة بين الرأيين فيما هو احتمال الخطأ والصّواب، وهو ما يضفي أجواء نفسية إيجابيّة على روحيّة الحياد الفكريّ من جهة، ويغري الطّرف الآخر بإمكانية إقناع محاوره المسلم الذي يطرح القضيّة بهذا الأسلوب المتوازن من جهةٍ أخرى.

وعلى ضوء ذلك، يمكن أن نستفيد من هذا الجوّ الموضوعي في الحوار، أنّ الإسلام يريد للقضايا المختلف فيها أن تطرح بعيداً عن أيّة حالة ذاتية، بحيث يكون البحث في مسائل العقيدة أو الشريعة، تماماً كما هو البحث في مسائل العلوم الأخرى التي لا تلامس في الإنسان أيّة حالة تتّصل بالشعور، أو تتحرّك من موقع العقدة، كما هو الحال في الدائرة العلمية الواسعة فيما نجده من المناهج الحديثة في الفكر المقارن، التي تتحرَّك في مواجهة اختلاف وجهات النّظر في مختلف العلوم، بالمستوى الذي تستطيع فيه أن تصل إلى الوحدة في النتائج العلميّة أو التقارب بين وجهات النظر المختلفة. فيمكن للعلماء المسلمين أنْ يأخذوا بها من موقع البحث في علم التاريخ أو علم النفس أو علم الاجتماع أو غير ذلك، لأنَّ العلوم الإسلامية إذا اختلفت عن العلوم الأخرى في مضمونها، فإنّها لا تختلف عنها في الركائز الفكرية، في مناهج الاستدلال فيما تتنوّع به الأدلّة والبراهين، فهناك مسألة النصّ والمصدر في الأحاديث المرويّة عن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهناك مسألة العقل فيما يمكن أن يكون الحديث فيه عقلياً في طبيعة حكم العقل، أو في طبيعة اعتباره قرينة على التصرّف في ظاهر النصّ القرآني أو النصّ الوارد في السنّة، أو عدم اعتباره، وفي مسألة مصادر الاجتهاد، في حجيّة الخبر أو القياس أو نحوهما في الأمور التي يختلف فيها العلماء، ليؤدّي ذلك إلى الخلاف في وجهة النظر الشرعية والكلامية ونحو ذلك، ممّا يمكن أن يجد أساساً يلتقي عليه الجميع في إدارة الحوار.

إنّ الملحوظ في كثير من مواضيع الخلاف، أنّ اختلاف الرأي الذي يرتئيه العالِم السنّيّ، مثلاً، أو يرتئيه العالِم الشيعيّ، أو عالِم هذا المذهب أو ذاك، في الدائرة السنيّة أو في الدائرة الشيعيّة، لم يكن ناشئاً من الصفة السنيّة أو الشيعيّة، بل من الأساس العلمي الاجتهادي الذي ينطلق فيه هذا أو ذاك.

فقد نجد هذا المجتهد الشيعي يلتقي في الرأي مع المذهب السنّي الخاصّ بما يختلف فيه مع مجتهد شيعي آخر، والعكس صحيح أيضاً.. ولعلّ هذا المعنى يساعد على إيجاد روحيَّة جديدة من الحياد الفكري أمام مواقع الخلاف.

2 ـــ إنّنا نلاحظ أنَّ القرآن الكريم يركِّز على نقاط اللّقاء في بداية الحوار، لإيجاد جوّ نفسي إيجابي يؤكّد أنّ اللّقاء في مثل هذه القضايا يمكن أن يصل بالجميع إلى اللّقاء في القضايا الأخرى المختلف فيها، وذلك في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 64].

فنحن نلاحظ أنّ الآية قد ركّزت على الوحدة في طبيعة المضمون المتّفق عليه بين المسلمين وبين أهل الكتاب، في الوقت الذي نجد اختلافاً في التفاصيل حول المضمون نفسه.

ونلاحظ التطبيق العملي في قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت: 46].

وقوله تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة: 136].

هيكليّات الحوار

ولعلّنا نجد في هذا الأسلوب الشّهادة الواضحة على ما في الإسلام من مرونة ووداعة، فقد حاول الإسلام أن يلتقي بأهل الكتاب من خلال الإيحاء بالإيمان بمقدَّساتهم من موقع الإيمان بمقدَّساته، بحيث لا تمثّل القضية أيّة تنازلات بفعل المجاملة والبحث عن قاعدة للّقاء، بل انسجاماً مع واقع العقيدة والإيمان، الأمر الذي يملأ أطراف الحوار بالشعور بالقرابة الفكريّة والروحيّة التي لا تبعدهم عن مواقعهم الأصيلة من حيث المبدأ.

وإذا كانت المسألة تتحرَّك، في هذا الجوّ، مع غير المسلمين، الذين قد نجد الكثير من الفواصل الفكرية على مستوى العقيدة أو الشريعة معهم، فإنَّ من الضروريّ أن نعرف كيف نحرِّك هذا الأسلوب القرآني مع المسلمين فيما يختلفون فيه، وذلك من خلال دراسة نقاط الوفاق فيما بينهم، والمتوفّرة على نسبة عالية جداً، مع ملاحظة مهمَّة، وهي أنّ المسلمين لا يختلفون في الجوانب الفقهية بطريقة مطلقة، بل إنّ هناك حركة دائبة في المسائل الاجتهاديّة، بحيث يمكن أن تنطلق مواقع الخلاف في هذه الدائرة لتصل إلى مواقع اللّقاء فيما بينها وبين الدّوائر الأخرى، لأنّ تطوّر الحوار الاجتهادي لا بدَّ أن يصل إلى نتيجة قياسية في المستقبل، كما وصل إلى نتائج إيجابيّة كثيرة في الماضي.

إنّنا نستطيع أن نجد في ذلك كلّه هيكليّة متكاملة فيما هو المنهج الإسلامي في البحث المقارن من حيث طبيعة الأسلوب في نطاقه الموضوعي، ومن حيث طبيعة الكلمات المختارة في الحوار، ومن حيث الروحيّة التي تطغى على الجوّ، وفيما هو السّلوك الأخلاقي في حركة الحوار بين إنسان وإنسان، وبين فكرٍ وفكر، حيث تنطلق المنهجية العلمية من قاعدة الذهنية الأخلاقية الموضوعية في نظرة الإنسان إلى الإنسان الآخر.

إنّ المناهج العلميّة في الدائرة العامّة، وفي الدائرة الإسلامية الخاصّة، لا تعوزنا، ولكنّ المشكلة لدينا هي في أخلاقية العلماء الباحثين الذين لا يتوفّرون على سعة الأُفق في مواجهة الخلافات، فتضيق صدورهم بوجهات النظر الأخرى وتتشنَّج أفكارهم ضدّها.. وفي التعصّب الشعبيّ الذي يترك تأثيراً سلبياً على الجوّ المحيط بالوسط العلمي الذي يتأثّر بالاتّجاهات الشعبية لاعتبارات عدّة، فيما يتمثّل في خضوع الخاصّة للعامّة، من جهات مادية أو معنوية. وكذلك، فإنّ المسألة تحتاج إلى علاج نفسي من جهة، كما تحتاج إلى معالجة منهجيّة أخرى من جهةٍ ثانية، لأنَّ العلاج الفكري وحده لا قيمة له إذا لم يكن إلى جانبه علاج واقعي، يحرّك الفكرة على صعيد الواقع الإنساني فيما هو الشّعور، وفيما هي العلاقات.

*من كتاب "أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية