... نعرض ما ترتكز وتقوم عليه (فلسفة الوجوديّة) فيما يلي :
1 ـ إنّ كلّ فرد من الإنسان هو أمّة في نفسه وعالم برأسه.. ولماذا؟ لأنّ الصّدف
قذفت به في هذا الوجود، وتركته في خضمّ من الطّوفان أو كريشة في مهبّ الرّيح، لا
شيء ينجده ويهديه إلا نفسه وحدها.. وكلّ ما حوله ويحيط به من أديان ومذاهب وأنظمة
وشرائع وآداب وفلسفات، إن هي إلا وهم وخيال وعدم وفراغ، وعليه ـ وهذي هي الحال ـ أن
يصنع نفسه من خلال فعله كمشرّع ومنفّذ غني عن كلّ نصح وهداية، متحرّر من كلّ تبعة
ومسؤولية.. أبداً لا يُسأل عمّا يفعل، لأنّه هو المالك لذاته والرّقيب عليها وحده
لا شريك له.
وبكلمة، إن الفرد لا يكون إنساناً بالمعنى الحقيقيّ لهذه الكلمة، إلا إذا انطلق في
أفعاله من أصل وجوده وأنانيّته، لا يستوحي ولا يستعين بشيء من خارجه على الإطلاق،
فإذا عمل بدافع من الخارج، فقد انتقل من وجوده الواقعي إلى عالم الوهم والخيال.
2 ـ يرفض الوجودوون فكرة الماهية والطبيعة القبليّة للإنسان، وهي التي أشار إليها
ابن سينا بقوله: "هبطت إليك من المحل الأرفع"، وديكارت بكلمته الشهيرة: "أنا أفكّر
إذاً أنا موجود"، حيث اعتبر التفكير ممكناً من غير أداة، وجعله أصلاً والجسم فرعاً،
والكثير من مؤمني الفلاسفة يشاركون الوجوديّين في هذا الرفض، ولكن يختلفون معهم في
تحديد ماهيّة الإنسان، فغير الوجوديّين من الفلاسفة يرون الحريّة صفة للنّفس
ومظهراً من مظاهرها، أمّا الوجوديّون ـ كما يبدو من ظاهر كلامهم ـ فيحصرون الماهيّة
بالحريّة المطلقة من كلّ قيد، إلا الحرص على حريّة الآخرين، لأنّ إطلاق الحرية
واستبداد الإرادة، يؤدّي حتماً في النهاية إلى تحطيم حريّة الجميع من الأساس..
اللّهمّ إلا حرية الأقوياء وإرادتهم، وعندئذٍ تسود شريعة نيتشه والغاب.
والشّاهد على حصر ماهية الإنسان بحرّيته، ما جاء في كتاب "سارتر مفكّراً وإنساناً"،
ص 225، بلسان أحد أقطاب الوجوديّين: "إنّ وجودنا يسبق ماهيتنا، وماهيتنا هي ذاتنا،
وذاتنا هي ما نصنعه بمحض حرّيتنا، وحرّيتنا ملتزمة، والتزامنا يتحدّد في أنّ
حرّيتنا حين تختار إنما تختار أيضاً حريّة الآخرين". ونحن نفهم من هذا الكلام
وسياقه بقرينة (هي)، أن ماهية الإنسان تنحصر بحريته في أن يفعل ما يشاء، غير مسؤول
عن شيء إلا عن الاعتداء على غيره!
وفي ص 172 من الكتاب المذكور: "ليس الإنسان عند سارتر حرّاً فحسب، بل هو أيضاً
الحريّة". وفي مجلة "عالم الفكر"، العدد الأوّل من المجلّد الأوّل، ص 9، قال سارتر:
"إن الحريّة هي تعريف الإنسان".
ولسارتر كلمة هتف لها وهنّأه عليها العديد من الكتّاب، وهي "لسنا أحراراً في أن لا
نكون أحراراً"، وعلى أساسها بنى سارتر حكمه بأنّ الوجودية فلسفة إنسانيّة.
الوجوديّة فلسفة إباحيّة
ونحن لا نشكّ في أن لا إنسانيّة بلا حريّة، ولكن نتساءل: هل الهدف من الحريّة أن
يكون للإنسان القدرة على تنفيذ ما يراه أحسن وأصلح له ولغيره، ويتحمّل المسؤولية
كإنسان مستقلّ وعاقل، أو أنّ الهدف من الحريّة أن يسترسل المرء مع سفهه وأهوائه
يُفسد ويفجر، ويخون ويمكر، ثم يبرّر مفاسده وآثامه بقوله: (أنا حرّ)، ويكون قوله
هذا حجّة كافية ومعذرة وافية؟ ثم هل وجد الإنسان ليعيش ويحيا فوضويّاً بلا تنظيم
ونظام ولا إلزام والتزام؟ وإذاً ما الفرق بينه وبين وحش الغاب؟ وهل في الكون مجتمع
بغير قانون؟ وإذا كان الشيوعيّون قد أمموا وسائل الإنتاج جبراً لفقر البائسين كما
يزعمون، فهل أمّم الوجوديّون الأديان والشّرائع والآداب والأخلاق ليبرّروا فوضى
(الخنافس والهيبّيين) وشذوذهم وفساد الأشقياء وإجرامهم؟
وليس هذا التساؤل تحاملاً أو تهكّماً أو خيالاً، بل تفسيراً لقول سارتر: "إن خير
الإنسانيّة هو ما يراه الإنسان أنّه خيرها، فإذا رأى أنّ الخير الإنساني يكمن في
الانضمام إلى الكاثوليكيّة، فهو صحيح من الناحية الوجوديّة المنطقيّة، وإذا رأى
العكس، فهو صحيح كذلك". إنّ كل ما تطلبه منا الأخلاق الوجوديّة عند سارتر، هو أن
نقرِّر فحسب ـ اُنظر كتاب "سارتر مفكّراً وإنساناً"، ص 225 وما بعدها.
والّذي نفهمه من هذا الكلام، أنّه لا حقّ ولا عدل ولا خير على الإطلاق إلا ما يراه
الإنسان الفرد ويريده، فإن أراد هذا الشّيء بالذّات، فهو صحيح، وإن كرهه، فهو فاسد،
لا لشيء إلا لأنّه أحبّ أو كره، فإن عدل عمّا كان قد أحبّ بالأمس وكرهه الآن، يصبح
الصّحيح فاسداً، أو ما كره يصير الطّالح صالحاً!. فالمقياس هو المشيئة والإرادة ولا
شيء سواها، حتى ولو كانت بلا عقل وعلم!. هذا هو الابتكار والإبداع!
ولا كلام بعد هذا الكلام إلا أن يقال: إنّ الوجوديّة فلسفة إباحيّة شيطانيّة، لأن
الشيطان قد تعهَّد بتزيينها وترويجها، فتقتحم قلوب الشّباب المتفسّخ المتمزّق بلا
استئذان، ومن غير عسر وحرج، حيث الجاذبيّة في الشّهوات والملذّات أقوى منها في أيّ
شيء آخر، قال الإمام أمير المؤمين(ع): "الحقّ ثقيل مريء، والباطل خفيف وبيء.
وأيضاً قال سارتر في كتاب "الوجود والعدم"، ما معناه أن الإنسان يبرّر كلّ فعل يقدم
عليه، أو يحجم عنه، فإذا أراد الانتحار، صاغ كلاماً منمَّقاً يحتّمه ويوجبه، والشيء
نفسه إذا حرص على حياته.. وقد يدمن على الخمر والقمار، فيخلق لنفسه الأعذار، فإذا
أقلع عنهما، جمع عشرات الأدلّة على خير ما صنع، وإذا عاد إليهما كما كان وزيادة،
ألبس الأدلّة ثوباً جديداً يبرّر العودة والأوبة!
ونحن نقول لسارتر: فمن فمك ندينك. فإذا كانت أفعال الناس وأقوالهم مجرّد تصورات
ذهنية وإيحاءات ذاتية لا تمتّ بسبب إلى الواقع، فكذا فلسفة الوجوديّة ضلال وخيال لا
أصل لها في الواقع ولا أساس.. والحق أنّ الوجودية ليست فلسفة أو علماً أو مجموعة من
المبادئ تهدف إلى معقول، وانما هي شطحة أو غلطة أو نزعة أو حيرة وما أشبه، والوصف
الأخير بها أجدر وأليق، لأنها ترى الكون بما فيه ومن فيه غربة وغثياناً ولغواً
وعبثاً لا معقولاً!
بين الإسلام والوجوديّة
والإسلام يلتقي مع الوجوديين في قولهم: ليس للإنسان إلا ما سعى، كما نصّت الآية 41
من النجم، وفي تحرّره من التقليد الأعمى، كما جاء في الآية 170 من البقرة، وفي أنّه
حرّ مخيَّر حتى في الدين والمذهب، ويقول القرآن في ذلك: {لا إِكْرَاهَ في الدِّينِ
قَدْ تَبيَّنَ الرُّشْدُ من الغيِّ}[البقرة: 256]، {فَمَنْ شَاْءَ فَلْيُؤْمِنْ
وَمَنْ شَاْءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف: 29]، أي أنّ الله، تقدَّست حكمته، لا يلجئ
أحداً ويقهره على الإيمان به أو الكفر، بل يهديه النجدين، ويترك الخيار له. وأيضاً
يُحتِّم الإسلام على كلّ امرئ أن يحرص على حرية الآخرين تماماً كما يحرص على حريته
بالذات: {ولا تعتدوا إنَّ اللهَ لا يحبُّ المعتدين}[البقرة: 190].
ويبتعد الإسلام عن الوجوديّة كلّ البعد في الفوضى والإباحيّة، وعدم الاكتراث بالخير
والحقّ، وفي ترك الإنسان يسترسل مع أهوائه يعيث شراً وفساداً في الأرض كما يشاء بلا
رادع وزاجر، ولا سؤال وجواب.
قال سبحانه: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى}[القيامة: 26]. وقال: {
وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *
ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى}(النّجم: 39- 41) وفي هذه الآية على إيجازها
ثلاثة مبادئ أساسيّة في الشّرع والنظام الإسلامي:
- الأوّل أنّ الإنسان رهنٌ بأعماله.
- الثّاني أنّ عليه رقيباً وحفيظاً لا يغفل عنه.
- الثّالث أنّه مجزي بما أسلف وقادم على ما قدم لا محالة.
* من كتاب "فلسفة الأخلاق في الإسلام".