هناك أناسٌ يستسلمون لواقعهم بما فيه، ولا يحركون إرادتهم وحريَّتهم للوصول إلى عمليَّة التّغيير، لذا، تراهم يعيشون حالةً من الاسترخاء والاستسلام، وصولاً إلى التبعيّة السلبيَّة، بحيث يجمِّدون أوضاعهم، ويصادرون فكرهم وحريَّتهم وإرادتهم، ويثبتون في نقطة معيَّنة، وبالتّالي، يخسرون الفرصة السّانحة لهم بأن يستفيدوا من قدراتهم وظروفهم المحيطة بهم، للانطلاق بقوّة ووعي في عمليَّة إصلاح وتغيير، بما يعود بالنَّفع على الحياة.
هؤلاء صنف من النّاس الَّذين استضعفوا أنفسهم بأنفسهم، فلم يتحركوا وفق قدراتهم وظروفهم، بل اختاروا الرّاحة والانزواء والتّقوقع.
وهناك صنف آخر لديهم عناصر ضعف ذاتيَّة، لكنَّ الظّروف الموضوعيّة المحيطة بهم لم تمكِّنهم من استثمار ما لديهم في سبيل تغيير أوضاعهم، فاستسلموا لواقعهم، لا من موقع إرادتهم وحرّيتهم واختيارهم.
أمّا الآيات القرآنيّة، فتحدّثنا عن أهميّة الإفادة من القدرة الذاتيّة قدر المستطاع، ضمن الحدود المعاشة والظّروف الموضوعيّة للحركة، وإذا ما عجزت النّفس أمام كلِّ ذلك، فأرض الله تعالى واسعة، فما على المستضعفين إلا أن يفتّشوا عن ساحاتٍ جديدةٍ للحركة والنّشاط والعطاء؛ ساحات فيها كلّ الحريّة على التفكّر، وفيها كلّ الظّروف المؤاتية للتّغيير.
فليس قدراً على المستضعف أن يبقى مكانه ويستسلم لواقعه، فبإمكانه التحرّك والسَّعي نحو بلدٍ آخر ومجتمعٍ آخر وأرضٍ أخرى، يجد فيها ما يعينه على تحقيق ذاته وأهدافه.
يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً}[النّساء: 97]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً}[النساء: 100].
وفي معرض حديثه عن موضوع المستضعفين وما يتَّصل بذلك، يقول سماحة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله(رض): "إنَّ القرآن يطرح أمامنا نوعين من المستضعفين فيما يحفل به الواقع من مظاهر الاستضعاف:
النّوع الأوّل: النّاس الّذين يعيشون واقع الضّعف في الحياة وفي حركة الإرادة وحريَّتها، استسلاماً للأمر الواقع الّذي رأوا فيه مظاهر القوَّة وعواملها لدى الآخرين، بإزاء عوامل الضّعف ومظاهره الموجودة في حياتهم.. فلم يحاولوا أن يتمرَّدوا على ذلك كلِّه في عمليّة تغيير، مع توفر كلّ الفرص المتاحة لهم فيما يملكونه..
النّوع الثّاني: الناس الذين وجدوا الضَّعف الذّاتيّ في مقابل القوَّة الغاشمة التي يملكها الآخرون، فلم يريدوا لأنفسهم ذلك الواقع، ولكنّ الظّروف الموضوعيّة المحيطة بهم لم تساعدهم على التخلَّص من ذلك.
أمّا حدود المسؤوليَّة في ظاهرة الاستضعاف، فإنها تتحرّك في نطاق القدرة على التخلّص من عوامل الضّعف والعجز عنها، انطلاقاً من المبدأ القرآني الّذي يضع التّشريع في حدود القدرة، كما جاء في الآية الكريمة: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة: 286]، والآية الأخرى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا}[الطّلاق: 7]، ولهذا اعتُبر النّاس مسؤولين عن واقع الضّعف الّذي يعيشون فيه، لأنهم استسلموا له من موقع القدرة على صنع الظّروف الملائمة التي تخرجهم من ذلك إلى واقع القوّة والعزة والاستقامة".["مع الحكمة في خطّ الإسلام"، ص 52، 53].
إنَّ الخروج من واقع الاستضعاف يتطلَّب الوعي ودراسة الخطوات الممكنة للخروج من دائرة الاستضعاف إلى دائرة العزّة والاستقامة، فمواجهة القوى الاستعماريّة والباغية، تعتبر مسؤوليّة إسلاميّة تطاول الأفراد والشّعوب. ومهما اختلف النّاس في انتماءاتهم، يظلّ الانتماء الإنساني قاسماً مشتركاً للتّعاون والتكاتف في وجه المستعمرين والظّالمين، ضمن الإمكانات المتوافرة والعقلانيَّة، كي تكون الخطوات ثابتةً وعلى ثقةٍ من الفوز.
وحول ما تقدَّم، يقول المرجع السيّد فضل الله(رض): "لا فرق بين حالات الاستضعاف على مستوى الأفراد وحالات الاستضعاف على مستوى الجماعات والشّعوب، وفي واقع العقيدة وفي حركة الحياة.. ومن خلال ذلك، نفهم أنَّ مواجهة الشّعوب لقوى الظّلم والبغي المتمثّلة بالقوى الاستعماريّة الّتي تعمل في نطاق الاستعمار السّياسيّ والاقتصاديّ، تعتبر مسؤوليّةً إسلاميّةً في نطاق الوسائل التي تملكها الشّعوب، أو الَّتي تحاول أن تحصل عليها بجهدها الذّاتيّ، أو بالتَّعاون مع شعوبٍ أخرى على الأسس المشتركة التي تخضع لخطّة مدروسة ذات مراحل متعدِّدة وواقعيَّة.
إنَّنا نطرح الفكرة من خلال المبدأ، ولكنَّنا في الوقت نفسه، نؤكِّد دراسة التفاصيل الدّقيقة لحركة الفكرة في الواقع، من حيث طبيعة الإمكانات الّتي نملكها، ونوعيّة القدرات التي يملكها الآخرون، ومعرفة الظّروف السياسيَّة والعسكريَّة الّتي تحيط بالموقف، وطبيعة المرحلة الزمنيَّة التي تحكم قضيّة التعاون، وغير ذلك من الأمور التي تجعل من هذا التّعاون أو ذاك، عملاً في صالح القضيَّة الإسلاميَّة، وقد يكون من الضَّروريّ في مثل هذا الجوّ من الدّراسة الشّاملة، أن لا نستسلم للأساليب العاطفيّة التي قد يلجأ إليها الآخرون من أجل السَّيطرة على مشاعرنا وعواطفنا". ["مع الحكمة في خطِّ الإسلام"، ص 54 ـ 56].
وقد يكون لزاماً علينا أن نتعاون في إطار الإمكانات المتوافرة، ووفق الظّروف المحيطة بنا، كي نخرج من الانكماش والاستضعاف إلى آفاق الحياة الواسعة، ونصنع لأنفسنا وشعوبنا المزيد من العزَّة والكرامة والنَّصر.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.