لا نزال مع نهج البلاغة بكلامه الّذي يفتح الوعي والعقل والقلب على الله تعالى، إذ إنَّ في صفاته وكماله وآياته الّتي لا تحصى، دلالة واضحة لصاحب كلِّ بصر وبصيرة، على وجوب طاعته وحمده وشكره والتوجُّه إليه بالنيَّات المخلصة الصَّادقة، والقلوب الطَّاهرة النَّظيفة.
ويكمل أمير المؤمنين(ع) كلامه حول قدرة الله وصنعه: "ثُمَّ أَنْشَأَ ـ سُبْحَانَهُ ـ فَتْقَ الأجْوَاءِ، وَشَقَّ الأرْجَاءِ، وَسَكَائِكَ الَهوَاءِ، فأَجرى فِيهَا مَاءً مُتَلاطِماً تَيَّارُه، مُتَراكِماً زَخَّارُهُ، حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ، وَالزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ، فَأَمَرَها بِرَدِّهِ، وَسَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ، وَقَرنَهَا إِلَى حَدِّهِ، الهَوَاءُ مِنْ تَحْتِها فَتِيقٌ، وَالمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ".
يتحدَّث أمير المؤمنين من خلال علمه ويقينه، لا من خلال حدسه، وهو المؤتمن على وحي الله تعالى بعد رسول الله(ص)، عن الفضاء وطبقات الجوّ، وإبداع الله تعالى في كلِّ ذلك، ويحدِّد مواصفات الجوّ اللامتناهية وطبقات الجوِّ اللامحصورة، والّتي عبَّر عنها بكلمة "سكائك"، والإنسان اليوم وصل من خلال التَّجربة إلى اكتشاف أشياء بسيطة ومحدَّدة من هذا الفضاء الكونيّ اللامتناهي.
"فأَجرى فِيهَا مَاءً مُتَلاطِماً تَيَّارُه، مُتَراكِماً زَخَّارُهُ"، أي أجرى الله تعالى بقدرته في هذه الأجواء والفضاءات، الماء الّذي هو سرّ الحياة، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}[الأنبياء: 30]، فالله تعالى أوجد الماء في الجوِّ من خلال الغيوم والرّيح الكثيفة والقويَّة، "حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ، وَالزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ".
"فَأَمَرَها بِرَدِّهِ، وَسَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ، وَقَرنَهَا إِلَى حَدِّهِ"، أي أنَّ الله تعالى جعل الماء والهواء وقدَّرهما من حيث المساحة قدراً بقدر طولاً وعرضاً، وأوجد الجاذبيَّة الّتي تستطيع أن تشدّ الماء إليها، بحيث لا يسقط منه قطرة واحدة.. وفي هذا الخلق العجيب دروسٌ وعبرٌ للتأمّل والتفكّر في أنَّ الخالق الّذي أبدع الكون وما فيه، قادر على كلّ شيء، وعلينا أن نقبل عليه بقلوب خاشعة.
"الهَوَاءُ مِنْ تَحْتِها فَتِيقٌ، وَالمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ"، المعنى أنَّ الفضاء خالٍ لا شيء فيه، وأنّه كان فوق الرّيح ماء وتحتها فضاء.
ثم يكمل أمير المؤمنين(ع) الحديث عن الرّيح وخلقها وأهميَّتها ودورها: "ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا، وَأَدَامَ مُرَبَّهَا، وَأَعْصَفَ مَجْرَاها، وَأَبْعَدَ مَنْشَاهَا، فَأَمَرَها بِتَصْفِيقِ المَاءِ الزَّخَّارِ، وَإِثَارَةِ مَوْجِ البِحَارِ"، ويشير إلى خلق الله تعالى لريحٍ ثانيةٍ غير الأولى فوق الماء، وهي عقيمة لا تلقح شيئاً.
"فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقَاءِ، وَعَصَفَتْ بهِ عَصْفَهَا بِالفَضَاءِ، تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِهِ، وَسَاجِيَهُ عَلَى مَائِرِهِ، حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ". إنَّ الله تعالى قد سلَّط هذه الرّيح الثّانية على الماء، فحركته تحريكاً قويّاً حتى ارتفع وتراكم بعضه فوق بعض، فسبحان الله أحسن الخالقين، الذي خلق فسوَّى!
"وَرَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ، فَرَفَعَهُ فِي هَوَاء مُنْفَتِق، وَجَوٍّ مُنْفَهِق"، لا يزال حديث أمير المؤمنين(ع) عن خصائص الهواء والرّيح الّتي تحرِّك الماء بقوّة، وشدّها للماء حتى صار بخاراً كثيفاً متجمِّداً كالزّبد، حيث رفعه الله تعالى في الفضاء.
"فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَموَات"، إنَّ لفظة السَّبع لا تفيد الحصر بها، إذ يشير الشّيخ محمد جواد مغنيّة(رض) إلى أنَّ الله تعالى خصَّها بالذّكر، لأنَّ الّذين خوطبوا بالقرآن آنذاك، كانوا يسمعون عن الأفلاك السَّبعة وكواكبها دون غيرها، فخاطبهم بما اعتادوا أن يُخاطبوا به فيما بينهم.
"جَعَلَ سُفْلاَهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفا"، يصوّر الإمام(ع) النّجوم والكواكب السَّابحة في الفضاء، إذ تظلّ في حركة مستمرَّة، وتنتقل من موضعٍ إلى آخر بسرعة ودقّة، ولذا شبَّه الأجرام السّماويَّة بالموج الدّائم في حركته، وفي ذلك مظهر آخر من مظاهر القدرة الإلهيَّة العظيمة.
"وَعُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً"، فكلّها محفوظة من السّقوط والخلل، وقد وصف تعالى السَّموات بالأعلى والأسفل تجوّزاً، لا على سبيل الحقيقة.
"وَسَمْكاً مَرْفُوعاً"، فالله تعالى رفع تلك الكواكب والأجرام السّماويَّة فوقنا، وحدّ لها إطاراً تتجاذب فيه مع الأجرام الأخرى.
"بِغَيْر عَمَد يَدْعَمُهَا، وَلا دِسَارٍ يَنْظِمُها"، فهذه الأجرام قائمة في الهواء، لا ترتكز على شيء، ولا يشدّ بعضها البعض شيء، والله تعالى أودع فيها الجاذبيَّة الّتي تحكم جميع الأفلاك.
"ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزينَةِ الكَوَاكِب"، والمعنى أنَّ الله تعالى جعل السَّماوات زينةً وجمالاً، بما فيها من الكواكب والشّموس والأقمار، فتبقى زينةً للنَّاظرين، ومدعاةً لحركة التأمّل والاعتبار..
نخلص مما تقدَّم إلى صفات السَّموات وخلقها، وما فيها من صنيع آيات الله، الّتي تدعو الإنسان إلى أن يفتح عقله وقلبه على الخالق، ويستقيم على توحيده وتعاليمه، ويخلص له في كلِّ أموره، ويشكره ويحمده على ما أبدع ووهب للإنسان من آياتٍ ونِعَمٍ لا تعدّ ولا تُحصى.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.