إنَّ الله ليس مع المتخاذلين والكسالى، القضيَّة هي كذلك، أيّها الإخوة، هكذا نواجه الموقف من موقع الصدق، وعلى هذا الأساس ينبغي أن نفكر الآن وقبل غد..
إنهم يتحدّثون عن الانسحاب الإسرائيليّ.. قد يكون في ذلك شيء من الحقيقة، وقد يكون فيه الكثير من تمييع القضيَّة، قد يكون فيه شيء من الصِّدق، وقد يكون فيه الكثير من تلميع صورة ريغان[1] المرشَّح للانتخابات، ورئيس الحكومة الإسرائيليَّة الّذي يريد أن ينطلق من خلال شخصيّة السّلام في العالم. سواء كان الانسحاب جدّياً أو غير جدّي، لن تنسحب إسرائيل إلا بعد أن تفرض كثيراً من الشّروط المذلّة، وقد يقول النّاس بعد ذلك: ماذا تريدون من إسرائيل؟ لقد انسحبت.. لكنّي أقول لكم أيّها الأخوة ـ وما أقوله مجرّد فكر يطرح، وأنا لست في موقع أن أصدر تعاليم، أنا في موقع أن أقدّم شيئاً وفكراً تناقشونه. أقول نحن الآن نقاتل إسرائيل، كلّ هؤلاء الشباب الّذين يقاتلون.. لكن ربما بعد أن تنسحب إسرائيل، قد تضيق الدائرة وقد لا تضيق، لأنّ القضيّة خاضعة للأجواء الدّوليّة في المنطقة..
قد تضيق الدَّائرة، فهل ننسحب؟
يمكن أن تقوى الظّروف، عليك أن تغمد سيفك إلى وقتٍ ما، لكن لا بدَّ من أن تبقى المقاومة الإسلاميّة، لأنَّ إسرائيل ربما تكفّ عن أن تكون محتلّةً عسكريّاً، ولكنّها ستعمل على أن تكون محتلّة سياسيّاً.
إنَّ إسرائيل تعمل على أن يكون لبنان محميّةً إسرائيليّةً تحت مظلّة أميركيّة، الخطّة هي هذه، ولهذا عمدت إسرائيل إلى التّحالف مع الطوائف، فتحالفت مع الّذين يقولون عن أنفسهم إنهم يمثّلون الطائفة المارونيّة أو يمثلون المسيحيّين، وتتحالف الآن مع فريقٍ ممن يقولون عن أنفسهم إنهم يمثلون الشيعة وربما السنّة وربما الدّروز.. تتحالف وتنفذ إلى الدّاخل، لا تريد أن تكون تحالفاتها فقط مع الدّولة، بل إنّها تريد أن تنفذ إلى الأعماق، أن تكون مخابراتها مع كلّ الطوائف.. وأن تكون مواقعها السياسيّة مع كلّ الطوائف، وهي تعرف أنَّ اللّعبة الدوليّة لا تسمح في المرحلة الحاضرة بأن يخرج لبنان من النّظام الطّائفيّ.
المقاومة السياسيّة
لهذا، ستبقى الحالة الإسرائيليَّة حالة أمنيَّة سياسيّة، وعلينا أن نستعدَّ للمقاومة السياسيَّة، أن لا نكون ساذجين في فهمنا السياسيّ، وأن نفهم أنَّ إسرائيل لن تُقاتَل من خلال مجموعات متفرّقة هنا وهناك.. لا بدَّ من أن نكون مع كلِّ العالم الّذي يقاتل إسرائيل، حتى نستطيع أن نواجه إسرائيل سياسيّاً، لأنَّ من بديهيّات السياسة في العالم، أن ليس هناك سياسة داخليّة مستقلّة في أيّ بلد، لأنَّ السياسة المحليّة مشدودة إلى توازن القوى الإقليمي المشدود إلى توازن القوى الدّوليّ.. لهذا، لن نستطيع أن نقاوم إسرائيل سياسيّاً في الإطار اللّبنانيّ فحسب، بل علينا أن نقاومها سياسيّاً في كلِّ الّذين ينطلقون في خطّ الحريّة الحقيقيَّة في العالم، ومن بينهم، الخطّ الذي تتبنّاه الجمهورية الإسلاميّة في إيران، من خلال خطّها الحاسم الّذي يرفض إسرائيل كوجود، ولا يرفضها فقط كمجرّد حالة محتلّة هناك أو حالة محتلّة هناك.
قد يقولون إنّكم تشتغلون من خارج الحدود.. أثبتوا لبنانيّتكم.. ولكنّنا نقول: نحن لا نشتغل من خارج الحدود على أساس أن نضطهد النّاس في داخل الحدود، نحن نتآخى مع العالم كلّه من أجل أن نقمع الحالة الإسرائيليَّة والحالة الأميركيّة أيضاً، نتعاون مع العالم كلِّه، ولكنّنا لا نفكّر بعقليّة مختار الضّيعة الّتي تفكّر بها بعض الأحزاب في لبنان، وكما قلت في خطبة الجمعة، نحن لا نأتي بالآخرين، ولا نتعاون مع الآخرين ليضطهدوا المسيحيّين كما تعاونوا هم ليضطهدوا المسلمين.
من الّذي يقف على الحواجز مع إسرائيل؟ من هم الَّذين يلاحقون المجاهدين؟ إنّهم هؤلاء الّذين ينادون بلبنان الحريَّة والعنفوان والكرامة، سمعت بعضهم يتحدَّث أنَّ المقاومة الوطنيَّة في الجنوب هي وهم.. هذا الإنسان يعيش في الحلم، وهو دائماً نائم، يتصوّر أنَّ الحقيقة حلم لأنه لا يعيش اليقظة.. في الخارج، هي أوّل مقاومة انطلقت في العصر الحديث، ونبعت من خلال الأمَّة.. في الدّاخل، هي مقاومة تصوم بالأجرة من أجل تشتري السّلاح، وتصلّي بالأجرة من أجل تشتري السّلاح، وتدور هنا وهناك لتجمع المال من الشَّعب لتشتري السّلاح...
إذا لم نستطع إكمال المواجهة العسكريّة ضدّ إسرائيل، فلا بدّ من الانطلاق في المواجهة السياسيّة
اطمئنّوا.. إنّ الدول التي تزايد في مواجهة إسرائيل لا تقدّم للمقاومة شيئاً، ولهذا، فهي تمرّ بحالة صعبة.. الحقوق الشرعيّة، الخمس الّذي تدفعونه يغذّي المقاومة، الزكاة، النّذورات... مقاومة لأوّل مرة تعيش في حالة شعبيّة حقيقيّة بكلّ ما للكلمة من معنى، ولكن كما يقول الشّاعر أو المثل: رمتني بدائها وانسلّت، وكما يقول المتنبي:
إذا ساءَ فِعْلُ المرْءِ ساءَتْ ظُنُونُهُ وَصَدَّقَ مَا يَعتَادُهُ من تَوَهُّمِ
هم يرون أنفسهم أنهم يشتغلون من خارج الحدود، فيعيشون في الأوهام، ويحسبون أنّ كلّ الناس تعيش في الأوهام.
أيّها الأخوة، إذا لم نستطع إكمال المواجهة العسكريّة، فلا بدّ من أن ننطلق في المواجهة السياسيّة، أن نواجه الحالة الإسرائيليّة في الدّاخل، كما نواجه الحالة الإسرائيليّة في الخارج، أن يكون كلّ واحدٍ منَّا مقاوماً أمام كلِّ المعادلات السياسيّة الّتي تريد أن تركِّز أقدام إسرائيل وحلفائها في البلد.
لهذا، عندما تفكّرون في رئيس جمهوريّة، فكّروا في علاقته مع إسرائيل، وعندما تفكّرون في رئيس وزارة أو رئيس مجلس أو وزير أيّ شخصيّة سياسيّة أو رئيس حزب أو أيّ شيء، قبل أن تعطوا رأياً فيه، فكّروا ما هي علاقته بإسرائيل، حتى لو كان يحمل أكثر الشّعارات تقدميّة أو أكثر الشّعارات طهارةً ونظافةً.. لا بدّ من أن نواجه الحالة الإسرائيليّة في العمق، وبشكلٍ دقيقٍ، ولا بدَّ لكم يوميّاً من أن تنزلوا إلى أنفسكم، لأنّك ربما تلتقط حالة إسرائيليّة من جريدة تقرأها، أو إذاعة تسمعها، أو جوّ تعيش فيه.
مقاطعة العملاء
في هذا الاتجاه، أيّها الأخوة، علينا أن نواجه الحالة الإسرائيليَّة بحالةٍ إسلاميَّةٍ حاسمةٍ عميقة، وكما قلنا، الحالة الإسلاميَّة الّتي تنفتح على الآخرين، وهي مستعدَّة لأن تعمل من موقع الصِّدق مع الآخرين في مواجهة أيِّ مرحلةٍ من المراحل الّتي يقتضيها الهدف والغاية. ومن هنا، نعرف كيف نحافظ على دماء هؤلاء الشّهداء، وهو ما يمثِّل حالةً متحركةً لاحتفالاتنا بالشّهداء، ومن هنا أيضاً، يجب أن نؤكّد على حالة قلناها سابقاً، ونقول لا يكفي أن تواجه حالة إسرائيل الدّولة ولا حالة إسرائيل السياسة، ولكن واجه كلّ عملاء إسرائيل من أقربائك ومن أصدقائك ومن أهل بلدك.. قاطعوهم في كلّ شيء، لا تحضروا لهم فرحاً أو مأتماً، إذا ماتوا فلا تشيّعوهم، وإذا فرحوا فلا تشجّعوهم.. حاولوا أن تحتقروهم، وإذا لم تستطيعوا أن تواجهوهم بالاحتقار بألسنتكم، ففواجهوهم بالاحتقار في عيونكم.
إنّكم تلعنون عمر بن سعد وأصحاب يزيد، لماذا؟ لأنهم قاتلوا الحسين(ع)، ولكن لمعلوماتكم، أصحاب عمر بن سعد كانوا يحبّون الحسين(ع)، كانت قلوبهم معه، كما قال الفرزدق، ولكنَّ سيوفهم كانت عليه، وعملاء إسرائيل في الجنوب يقيمون مجالس عزاء في بيوتهم، لكن حتى ما يقومون به يمكن أن يكون عملاً استعراضيّاً مع الحسين، ولكنّ قلوبهم مع إسرائيل، وأيديهم في خدمة إسرائيل، ومواقفهم في خدمة إسرائيل.. إذا كان لكم شغل بالحسين، فانفصلوا عن هؤلاء، وإذا كان لكم شغل بهؤلاء، فانفصلوا عن الحسين، لأنّ الحسين سوف لن يستقبلكم، لأنّ الحسين لا يعطي بيده إعطاء الذّليل ولا يقرّ إقرار العبيد، فإذا عاونتم من يعطي ويقرّ، فإنكم تعترفون وتقرّون لإسرائيل إقرار العبيد، فأنتم مع عمر بن سعد الّذي عمل من أجل الإمارة، وكثير منّا ـ مع الأسف ـ يعمل لا من أجل الإمارة، ولكن من أجل ابتسامة من زعيم أو من أيّ شخص من هؤلاء أو غنيّ، أو من أجل بعض الأشياء الصّغيرة.
مستقبل الحريّة
أيّها الأخوة: المستقبل أمامنا، مستقبل أولادنا ليس في ما نقدّمه لهم من مال، مستقبل أولادنا في ما نقدّمه لهم من حريّة؛ أن يأكلوا لقمتهم بعزّ وشرف وكرامة وحريّة..
حافظوا على مستقبل أولادكم بمحافظتكم على الحريَّة إذا أردتم أن تعيشوا العاطفة تجاه أولادكم. وبعد ذلك، وفي النّهاية، أقول وقد أطلت عليكم، إنّكم تحتفلون بالشّهداء.. أتعرفون ماذا يريد الشّهداء؟ أتعرفون ماذا تريد المقاومة؟ سموها إسلاميّة.. سموها جنوبيّة.. سموها وطنيّة.. احفظوا خطوطها الخلفيّة.. كيف ذلك؟ المقاومة لا تطلب منكم أن تجلبوا لها سلاحاً في الجنوب، لكن افهموا المرحلة لا تلتهوا بالصّغائر، لا تتعلّبوا في المحاور، لا تتقاتلوا لحساب الأشخاص وعلى أساس شارع لفلان وشارع لفلان، وعلى أساس صورة لفلان وصورة لفلان، حتى صور الشّهداء، لا تتقاتلوا على ملصقٍ لفلان وجريدةٍ لفلان...
إذا كنتم تحترمون الشَّهادة، فاحترموا منطلقات الشَّهادة.. منطلقات الشّهادة أن نكون أحراراً، أن نواجه إسرائيل، وبعد ذلك، يمكن أن تلعبوا لعبة الكرة عندما تكون بأيديكم الملاعب الرياضيّة الجاهزة، ولكن إذا كانت إسرائيل تستولي على كلّ الملاعب، فأين تلعبون؟ جمّدوا اللّعبة الآن ـ أيّها الأخوة ـ وواجهوا الحقيقة، وفي المستقبل الحرّ مزيد لمن يريد أن يلعب ويلهو ويتخفّف من كلّ أثقال همومه.
علينا أن نفكّر بعقلية الرّسالة لا بعقليّة الطائفة، وعلينا أن نفكّر بعقليّة القضيّة لا بعقليّة المؤسّسة السياسيّة..
اللَّهمّ هل بلَّغت؟ اللَّهمّ اشهد!!
[1] أصبح فيما بعد رئيساً للولايات المتّحدة الأمريكيّة، في العام 1981م.