كتاب "الإمام الرّضا(ع)"، تأليف العلامة السيّد محمّد جواد فضل الله(قده)، من الكتب الإسلاميَّة الفريدة في معالجتها ومقاربتها لقضايا تاريخيَّة متَّصلة بحياة الأئمّة(ع)، ومنهم الإمام عليّ بن موسى الرّضا(ع)، وما اتّصفت به حياته من مميّزات كان لها انعكاسها على الأمَّة الإسلاميَّة في كلّ المناحي، وهو كتاب مؤلّف من مئتي صفحة، ومتنوّع في موضوعاته وعناوينه.
والإمام الرّضا(ع) هو ممن ساهموا بقوَّة في إرساء قواعد الفكر الإسلاميّ، عبر رفده المجتمع الإسلاميّ بالمعرفة وبشتّى العلوم، وهذه نعمة من الله تعالى على أئمَّة أهل البيت(ع)، بما فضَّلهم به على النّاس.
يشير العلامة المقدَّس السيّد محمَّد جواد فضل الله إلى محاولة البعض من المؤرّخين والباحثين أن يفترض لبعض أئمَّة أهل البيت(ع) شيوخاً وأساتذة أخذوا العلم عنهم، وذلك للانتقاص من قدرهم، فنسبوا مثلاً إلى الإمام زين العابدين والباقر والصَّادق، أنهم تتلمذوا على بعض الصَّحابة والتّابعين، من دون مستندٍ تاريخيٍّ وعلميّ، ويضرب أمثلةً حول الأحاديث عن الإمام الصَّادق(ع)، وتعليقات بعض التَّابعين عليها، والاستنتاجات منها.
ويشير السيِّد محمَّد جواد فضل الله(قده) إلى عقيدتنا الصَّحيحة في الأئمَّة، فيقول: "وعقيدتنا في الأئمَّة، ليست كما يقول البعض، من أنّهم يعلمون الغيب، أو أنَّ لهم صلاحيّة التّشريع المستقلّ، بل عقيدتنا أنَّهم مبلِّغون عن صاحب الرّسالة ما خفي على الأمّة من أسرار الرّسالة وكوامنها، والحافظون لكلّيات التشريع، والعارفون بموارد تطبيقاتها".
ويأسف السيِّد فضل الله للإغفال الّذي لا يخلو من غرض، في مقام عرض آراء أئمَّة أهل البيت(ع) والبرهنة عليها، من قبل أصحاب المذاهب الأخرى.. رغم أنَّ أرباب المذاهب، كأبي حنيفة، ومالك، وسفيان الثّوري، وأبي أيوب السّجستاني، وغيرهم ممن يعتبرون الطَّليعة المبدعة والانطلاقة الأولى لتلك المذاهب، كانوا من خرّيجي مدرسة الإمام الصّادق(ع)، وهذا يندرج في سياق الخطَّة لإبعاد أهل البيت(ع) عن الحياة العامَّة، لأنهم لم يعترفوا بشرعيّة الحكَّام.
فالحكم الأمويّ، ومن ثم العباسي، اشترى ذمم الرّواة والمحدّثين الَّذين كانوا يطرحون الروايات التي يقع في سلسلة سندها أحد رواة الشّيعة، بعكس الشّيعة، حيث كان الميزان في صحّة الرّواية وسقمها، هو التوثّق من صدق الرّاوي وكذبه، من دون النّظر إلى مذهبه ونحلته.
ويذكر السيِّد فضل الله(قده) أنَّ السَّبب الَّذي دعاه إلى تأليف دراسته المستقلَّة عن الإمام عليّ بن موسى الرِّضا(ع)، هو عدم توافر دراسة مستقلَّة عنه.
والقسم الأوَّل من الكتاب، حديثٌ عن الجانب التّاريخيّ من حياة الإمام الرِّضا(ع)، حيث يورد خصائصه ومميِّزاته الَّتي هي حجَّة على الخلائق، كما أنَّ موقف الحكم من الإمام(ع) وغيره من الأئمَّة، يعطينا ـ بحسب السيِّد محمد جواد فضل الله(قده) ـ صورةً واضحةً عمَّا كانوا يتمتَّعون به من مميِّزات ترتفع بشخصيَّاتهم إلى القمَّة، إذ كان الحاكم يراقب تحركاتهم ويتعقَّبهم، ويعتبرهم العنصر المنافس له باستمرار.
أمّا علم الرّضا، فكان موروثاً عن جدِّه المصطفى(ص)، هذا وقد أوصى أبوه الإمام الكاظم(ع) أخوته بأن يلتزموا بكلمته ويتّبعوه، فهو عالم آل محمد، ففي الرواية عن الإمام الكاظم(ع) أنّه كان يقول لبنيه: "هذا أخوكم عليّ بن موسى، عالمُ آل محمّد، فاسألوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقول لكم، فإنّي سمعت أبي جعفر بن محمد غير مرَّة يقول: إنَّ عالِم آل محمَّد لفي صلبك، وليتني أدركته، فإنَّه سميّ أمير المؤمنين عليّ".
وفي الكتاب إشارات كثيرة إلى الرّوايات المتحدّثة عن مبلغ علمه وفضله وتميّزه، بحيث كان مقصد النّاس من الخاصّة والعامّة، كذلك ما كانت عليه سيرته في الزّهد والتواضع والحكم والتَّسامح وحضور البديهة والصَّبر والبرّ والعدالة والكمال الروحيّ والإنسانيّ.
وهناك نقطة مهمَّة في الكتاب، ألا وهي اشتراط الإمام في التّرخيص بالعمل للسّلطة، أن تكون هناك مصلحة دينيّة تتلافى المفسدة الّتي تترتّب على مبدأ العمل بها، وإلا، فإنّ ذلك يكون انفصالاً نفسيّاً وواقعيّاً.
إضافةً إلى كلّ مضايقات أجهزة الحكم للإمام(ع)، ومحاولتهم القضاء عليه، ابتُلي الإمام الرّضا(ع) بانشقاقٍ أصاب أصحاب أبيه، وذهبت جماعة منهم إلى الوقوف على الإمام موسى بن جعفر(ع)، وأنّه لم يمت، وأنّه هو حيّ يرزق، والقائم من آل محمد، وسمّوا بالواقفيَّة، وقد واجه الإمام الرّضا(ع) فكرة الوقف وشجبها، إذ كان مروّجوها أصحاب مشاريع ماديّة دنيويّة خطيرة على الأمَّة الإسلاميَّة.
ويعرض المؤلّف لمآسي الإمام الرّضا(ع) في حياة الخلفاء، أمثال هارون الرّشيد، وابنه محمَّد الأمين، وصولاً إلى الخليفة المأمون العباسي، إذ كان للإمام الرّضا(ع) في فترة حكم المأمون، أثر أساسيّ وواضح في سير الأحداث وتقلّباتها وانعكاساتها.
والأهمّ فيما أورد العلامة السيّد محمّد جواد فضل الله(قده)، ذكره بأنّه يمكن القول بواقعيّة تشيّع المأمون واقتناعه ببعض مبادئ المذهب، الَّتي يقوم أساسها على أحقيَّة عليّ بالخلافة دون غيره، وهو الذي يصرّ عليه المأمون في محاوراته مع الآخرين، وأمَّا سلوكه مع الإمام الرّضا(ع)، وفرضه ولاية العهد عليه، وقتله على ما يظهر، فهو يخضع لمبدأ أبيه الرشيد أنَّ الملك عقيم، وهذا رأي متقدِّم علميّاً، ويحسم الجدل حول شخصيّة المأمون الاعتقاديّة.
ونأتي الآن إلى نقطة مهمَّة شغلت بال الكثيرين، وهي "ولاية العهد" من المأمون للإمام الرّضا(ع)، وهي قضيَّة ليست سهلة على المأمون في ظلّ الظروف المعقّدة في فترة حكمه، ويذهب العلامة السيّد محمد جواد فضل الله(قده) إلى أنَّ المأمون فرض ولاية العهد على الإمام الرّضا(ع) لدوافع سياسيّة ذات بُعدٍ مصلحيّ، ويظهر ذلك من خلال إصرار المأمون على الإمام بقبوله لولاية العهد، وتهديده له إن امتنع. ويقول السيِّد محمد جواد فضل الله(قده): "والسّبب الذي نفهمه لامتناعه، هو إدراك الإمام بأنَّ المأمون يريد أن يجعل منه ورقة مساومة بينه وبين العباسيّين من جهة، وبينه وبين العلويّين من جهة أخرى، وبينه بين شيعة خراسان من جهة ثالثة".
ويورد المؤلّف العديد من الروايات والأمثلة حول عدم جدّيّة المأمون في جعل ولاية العهد للإمام(ع)، وعلم الإمام(ع) بنيّات المأمون الحقيقيّة.
ويناقش العلامة السيّد محمد جواد فضل الله(قده) الباحث أحمد أمين في بعض ادّعاءاته المتحاملة على التشيّع بما يخصّ ولاية العهد، معتبراً أنَّ أهل البيت(ع) أولى بسياسة الرعيَّة. ويسأل سماحتُه أمين: "أيّ إثم أو محرَّم اقترفه أحد الأئمّة من أهل البيت بعيداً عن عيون النّاس؟ وأين هي النّصوص التاريخيّة الّتي تثبت ذلك؟"، ويطرح المؤلِّف العديد من الأسئلة على الرأي العام العلميّ والبحثيّ حول عدم جدّية المأمون في عقد ولاية العهد للإمام(ع).. وهذه الأسئلة المهمَّة تعيد إلى الأذهان ضرورة إعادة النَّظر في كثيرٍ من المعطيات والاستنتاجات.
وما يلفت في الكتاب، هو التنوّع والغنى في الرِّوايات الّتي يعرضها فضل الله، والّتي توضح واقع حال الولاية وما يتَّصل بها، والّتي تشكِّل بحدِّ ذاتها مرتكزاً للمناقشة العلميَّة والبناء عليها من خلاصات.
في القسم الثاني من الكتاب، يتعرَّض السيد محمد جواد فضل الله إلى الجانب الفكريّ من حياة الإمام الرّضا(ع)، وهو جانب غنيّ وكثيف لا يمكن لدراسة أن توفيه حقَّه، كما يقول المؤلّف.. ويشرح المناخات العامّة الضّاغطة على الأئمَّة، وهم مع ذلك ساهموا بكلّ ما أوتوا من سعةٍ في رفد الفكر الإنساني بشتّى أنواع المعرفة.
ويشكّك المؤلِّف في صحّة كتاب الفقه الرّضوي وانتسابه إلى الإمام الرّضا(ع)، فيقول: "والّذي يجعلنا نشكّ في صدق النِّسبة، أنّ الشّيخ الصّدوق الذي اهتمّ كثيراً في جمع الآثار الواردة عن الإمام الرّضا(ع) واستقصاء أخباره، في كتابه "عيون أخبار الرّضا" وغيره، لم يشر إلى وجود هكذا مؤلَّفٍ له.. ومن الغريب أن يكون الكتاب مغموراً هذه المدة الطويلة بين أيدي البعض من القيّمين، دون أن يطّلع عليه أحد من علمائهم".. كما يناقش المؤلّف صحَّة نسبة "الرسالة الذهبيّة" وكتاب "محض الإسلام" إلى الإمام(ع) بطريقة موضوعيَّة.
وفي الكتاب إشارة إلى المناظرات الّتي جرت بين الإمام(ع) ومختلف أرباب الملل والأديان، وتفوّقه في جميع هذه المناظرات، مع ذكر الشّواهد على ذلك، بما يؤكّد أصالة العقيدة وروح الشريعة.
ويذكر المؤلِّف أيضاً منهج التفسير عند أهل البيت(ع) بقوله: "عندما نلاحظ منهج الإمام الرّضا(ع) والأئمة من أهل البيت(ع) في تفسير القرآن، نجد أنَّه يعتمد الفهم العرفي العامّ في الفهم الدَّلاليّ للآية، ويبتعد عن التّأويلات غير المتناسبة مع السّياق العام والخاصّ لها".
واللافت إيراده العديد من الأمثلة والشَّواهد القرآنيّة على ذلك. ولا ننسى ما يورده من معلومات حول عناوين مختلفة تميّز بها الإمام(ع) في مجال العقيدة والحديث والعظات والحكم، ويختم الكتاب بملحق مهمّ عن وثيقة ولاية العهد.
إنّه كتاب لا غنى للقارئ والباحث عنه، فهو يعتبر من المراجع العلميّة والتاريخيّة المهمّة عن حياة الإمام الرضا(ع) ومسيرته، وهو خير معين للباحثين والقارئين والمهتمّين، لما تميّز به من مناقشات ومعطيات متميّزة، كما أنّه كتابٌ أتحف المكتبة الإسلاميَّة والعربيَّة، وهو مدعاة للإفادة منه والتّأسيس عليه.