كتاب " الإمام الصادق.. خصائصه ــــ مميّزاته"، من تأليف العلامة الجليل السيد محمد
جواد فضل الله(رض)، في طبعته الثانية 2011/ دار الملاك. يحوي معلومات قيمة وكثيفة
تسلّط الضوء على أبرز المحطات التاريخية للإمام الصّادق(ع)، في وجوهها المتنوّعة
الثقافية والفكرية والدينية والاجتماعية والسياسية، وهو الإمام السادس من أئمة أهل
البيت(ع)، الذي كان له الفضل الكبير والرائد في رفد المجتمع الإسلامي، بوجه عامّ،
بكلّ علم ومعرفة وانفتاح وغنى.
الحديث عن الصّادق(ع)، كما يقول المؤلّف السيّد محمد جواد فضل الله(رض)، هو حديث عن
الإسلام كلّه في أنقى صوره، إذ لا يمكننا في كتاب أو سطور أن نسع عطاءات هذه
الشخصية وحركتها وأثرها في الواقع الإنساني ككلّ.
يبدأ المؤلّف بتقديم لمحة عن واقع عصر الإمام الصّادق(ع)، وما فيه من صراعات سياسية
وفكرية وتيارات عقيدية تجاذبت السّاحة الإسلاميّة مع أفول الدولة الأموية، وقيام
الدولة العباسية، وكيف تعامل الإمام مع هذه الأحداث على ضخامتها، مؤثّراً فيها،
مبتغياً مصلحة الإسلام والمسلمين.
ثم يلفت إلى أهمّ ما سعى إليه الإمام(ع)، من نشر المعرفة، وإغناء الفكر، وإصلاح
المجتمع، وطبع الوعي الجماعي بالطابع الإسلاميّ الأصيل. وكنتيجة طبيعية لذلك، أضحى
ملجأ العلماء وطلّاب الفقه والرواية والحديث، وتخرج على يديه أقطاب الحركة الفقهيّة
والعلميّة، أمثال أبي حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، وأبي أيوب
السجستاني، وهشام بن الحكم، وغيرهم كثر. وقد أحصي أربعة آلاف من المحدّثين والرّواة
أخذوا عنه وتربّوا عليه، بما يدلّ على مكانته الروحيّة والعلميّة السّامية في
البيئة الإسلامية العامّة، على الرغم من كلّ المحاولات والمضايقات الفكرية
والسياسية المستميتة التي حاولت الحدَّ من تأثيره ونشاطه وحركته، ولكنّه بقي قويّاً
صابراً عاملاً بلا كلل، وبما لا يؤدّي إلى إثارة الحساسيّات والتعقيدات، محافظاً
على مصالح المسلمين ووحدتهم قولاً وعملاً.
يستعرض المؤلّف تحت عنوان "الملامح العامة لشخصية الإمام الصادق"، محطات ولادته
المباركة ووفاته، وما بينهما من مسيرة طويلة من الكدح والعطاء والمواجهة، والفعل
الهادف إلى إغناء المجتمع والسموّ بطاقاته، وفتحها على الآفاق الرّحبة للمعرفة
والوعي، مشيراً إلى ما كان يتميّز به من أخلاق وآداب، وما امتلكه من كمالات
إنسانيّة وأخلاق ربانيّة، إذ إنّ جوانب شخصيته تميّزت بالانسجام وبالقوّة ذاتها في
التّأثير العام، من جهة صبره وحلمه وحسن معاشرته للنّاس، وتواضعه وزهده وحكمته،
ورفضه للطبقيّة الاجتماعيّة، ومن جهة عبادته وصفائه وطهارته وخشوعه وتبتّله، وخشيته
لله، وخشوعه له، وطلبه للرّزق، ورفضه للشكليات الزائفة والمطامح الذاتية، ونظرته
الواقعية إلى الأمور، وتركيزه على الإيمان المنفتح على عظمة الله واهتماماته
العامّة بشؤون الأمّة. كلّ ذلك مع أمثلة حسية من الواقع، وذكر الأحاديث والرّوايات
الموثوقة، حيث يعدّ الكتاب سجلّاً مميّزاً على مستوى إيراد الأحاديث والرّوايات
المناسبة للمواقف والأحداث، بما يعكس بوضوح صورة الحياة الإسلاميّة العلمية
والروحية والاجتماعية في حينه.
يتابع المؤلّف عرضه لبعض القضايا العقيدية والتاريخية التي أثارت جواً عامّاً من
النقاش، ومنها قضيّة علم الأئمّة بالغيب، محاولاً تصحيح النظرة حول ذلك، مع ذكر
شواهد تاريخيّة وحديثية. كما يتوقّف المؤلف عند ما قاله بعض المؤرّخين والعلماء حول
علم الإمام ومصادره، موضحا أنّه لم يتتلمذ عند أحد، بل توارث العلم عن جدّه رسول
الله(ص)، داعماً كلامه بروايات وشواهد متعدّدة، منها شهادة أهل زمانه، ومنهم مالك
وأبو حنيفة وسفيان وعمر بن مقدام، بأنّه أعلم الناس.
ويتحدَّث المؤلّف في كتابه عن عصر الإمام الصادق(ع)، وما تميّز به من انفتاح فكريّ
وحركة سياسيّة ناشطة، وصراعات عقيديّة وكلاميّة، بما يعكس مرونة الإسلام وحيويته.
كما يتحدث عن جهود الإمام في التصدّي للأحاديث الموضوعة، ولمسألة إعطاء
الإسرائيليات طابعاً إسلامياً، ولصقها بالرّسالة، لما في ذلك من خطورة على الإسلام
ككلّ.
يشير المؤلف إلى استغلال الإمام لقيام دولة العباسيّين من أجل نشر المعرفة، وإطلاق
العنان للحوار بين مختلف الاتجاهات كردِّ فعل طبيعيّة على حالة الجمود الفكريّ، بما
يحرّك الذهنيَّة العامَّة نحو الإبداع، ورفع الغبن عن حركة الدِّين، داعياً إلى
تدوين الحديث أيضاً كوثيقة دينيّة وإنسانيّة وحضاريّة، تبعث روح العلم وحبّ المعرفة
في نفوس الأجيال.
ولم تكن المنطلقات السياسية لتدفعه نحو التعصب والتحيز أو الخضوع، بل هضم السياسة،
وحوَّل آراءه إلى قوّة من أجل توعية الناس بحقوقهم، فتميَّز بالنّزاهة السياسيّة
والتحيّز فقط لمصلحة الإسلام العليا، وجسَّد مثال القيادة الصالحة والنّزيهة للواقع
في وجه الانتهازيّين والوصوليّين والمنتفعين من تجّار السياسة والدّين، داعياً إلى
التحلّي بإرادة التّغيير، ووضع الأدوات والتّخطيط من أجل ضمان النّتائج السّليمة.
من هنا، كان الإمام الصّادق(ع) رائداً للنهضة الفكرية والمعرفية الإسلامية في عصره،
قارئاً للأحداث، وفاهماً لتطوّر سياقاتها التاريخية والاجتماعية والسياسية بدقّة.
في الكتاب عرض واف لأخبار الإمام مع الخليفة المنصور العباسيّ، وثبات الإمام على
خطّه في وجه الطغيان والتسلّط، إضافةً إلى عدم ذكر التاريخ كفايةً لجهده في مقاومة
التيارات الإلحاديّة، عبر أسلوب المناظرة الهادئة، والحوار الموضوعيّ مع الملاحدة
والزنادقة، فكانت مدرسته مستقلّة في هويّتها، وقد تحلّت بالجرأة والحريّة في الطرح
والرأي، متوخّيةً منهجاً تربوياً منفتحاً على كلّ الإشكالات، ومتميّزة أيضاً
بجامعيتها العلمية من جهة موضوعاتها المتنوّعة، من تفسير وأخلاق وفقه وأصول وعقيدة
وكلام وطبّ وكيمياء وعلوم...
كتاب يعدّ بحثاً تاريخيّاً واجتماعيّاً تحليليّاً لا غنى للمكتبة الإسلاميّة
والباحثين عنه، يتوخّى التثقيف حول سيرة هذه الشخصيّة العظيمة والمؤثّرة في تاريخ
الإسلام والمسلمين، بما يضع القارئ أمام مسؤوليّاته تجاه هويته وتاريخه وقضاياه.