حديث الزَّهراء(ع) عن أبعاد التَّشريعات الإلهيَّة

حديث الزَّهراء(ع) عن أبعاد التَّشريعات الإلهيَّة

لا نزال مع الزّهراء(ع) في خطبتها الَّتي خطبتها في مسجد رسول الله(ص) في جموع المهاجرين والأنصار، وقلنا إنَّها ليست خطبةً تقليديّةً كانت الزَّهراء(ع) تدافع فيها عن حقّها، ولكنَّها كانت خطبةً ثقافيّةً تحدَّثت فيها عن أسرار التَّوحيد، وأسرار التَّوبة وحركيَّتها، وحركة الصِّراع بين الإسلام والشِّرك، كما تحدَّثت عن القرآن في عظمته وميزاته، وعن بعض أسرار التَّشريع في بعض العناوين العباديّة العامَّة.

العدل تنسيق للقلوب

ووصلنا إلى قولها(ع): "والعدل تنسيقاً للقلوب"؛ هذه الكلمة تستدعي التأمّل والتّحليل، لأنَّ مسألة العدل هي من المسائل الّتي تتّصل بالواقع الخارجيّ للحياة الاجتماعيّة للأمّة، لأنّه بالعدل يصل كلّ إنسان إلى حقّه، وبذلك يعمّ الخير بين النّاس وتقلّ الصّراعات.

إذاً، ما هي علاقة العدل بالقلوب وبتنسيقها وبجمعها مع بعضها البعض؟

لقد قلنا في بداية الحديث إنَّ الزّهراء(ع) تتحدَّث في بعض العناوين في تأثيرها في الدّاخل الإنسانيّ، لأنّ تأثيرها في الخارج الإنساني أمرٌ واضح بيّن لا يحتاج إلى بيان، فالعدل في حركيّته الإنسانيّة، وفي واقع العلاقات بين النّاس، ومن حيث وصول كلّ إنسان إلى حقّه، يهيِّئ الرّخاء والسَّلام والتّوازن في الواقع الاجتماعيّ، ولكنَّ المسألة التي ربما كانت الزّهراء تركّز عليها، هي تأثير العدل في علاقات النّاس مع بعضهم البعض، فيما ينفتح فيه قلبٌ على قلب، لأنّ الظّلم ينتج الكثير من التّعقيدات النّفسيّة، والكثير من الأحقاد الذاتيّة، ذلك لأنَّ أيّ إنسان يُضطهد في حقّه، من الطبيعيّ أن يحمل للمُضطَهِد حالةً من مشاعر الحقد والعداوة والبغضاء وما إلى ذلك، ما يجعل من الظّلم مشكلةً للعلاقات الإنسانيّة في منطق المشاعر، كما يكون مشكلةً لواقع الإنسان في دائرة العلاقات القائمة على أساس الحقوق.

لذلك، ربما أرادت الزَّهراء(ع) أن تؤكِّد قيمة العدل في جمع القلوب، لأنَّ المجتمع إذا كان قائماً على إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، فإنَّ من الطّبيعيّ أنّ ذلك يبعد الكثير من المشاعر السلبيَّة في علاقة النّاس مع بعضهم البعض، وهذا هو الّذي يهيِّئ لحركة السّلام الاجتماعي، لأنَّ أغلب المؤثرات في الحروب، أو في إبعاد حركة السّلام في الواقع الاجتماعيّ، هي العقد النفسيّة الّتي تقوم بين النّاس.

ولهذا، كلَّما خفَّت هذه العقد، أو كلّما زالت، قلّت المؤثّرات في الحروب وفي المنازعات وما إلى ذلك، لأنَّ النّزاع غالباً ينطلق من خلال الصّراع على الحقّ، سواء كان الحقّ خاصّاً أو عامّاً، والله العالم.

أهميّة طاعة أهل البيت(ع)

وتقول(ع): "وطاعتنا نظاماً للملَّة"، أمّا طاعة أهل البيت(ع)، فباعتبار أنهم يمثّلون القيادة الشرعية الّتي انطلقت في الواقع الإسلامي وفي المواقع القياديّة، فإنها تحمل النّاس على المحجَّة البيضاء، وتركِّز أسس التَّوازن في المجتمع، حيث يأخذ كلّ ذي حقّ حقّه، وحيث تتحرَّك الخطوط الشّرعيّة في تنظيم المجتمع في القضايا الخاصّة والعامّة.

وبذلك، فإنَّ انسجام المجتمع والأمَّة مع القيادة الشّرعيّة الحكيمة القويّة في الله، التي لا تأخذها في الله لومة لائم، والّتي تتحرَّك على أساس المصالح العامَّة، هو الذي عبّر عنه أمير المؤمنين(ع) في قوله: "وليس أمري وأمركم واحداً، إنّي أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم"[1]، وما صرَّح به بقوله: "أتأمروني أن أطلب النّصر بالجور فيمن ولّيت عليه، والله ما أطور به ما سمر سمير، وما أمَّ نجمٌ في السَّماء نجماً، لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف وإنّما المال مال الله؟"[2].

من هنا، فإنَّ المجتمع عندما يطيع القيادة الشرعيَّة، فإنَّ من الطّبيعيّ أن يرتكز إيمانه على الثّبات، وتتحقَّق بها قوّته.

الإمامة أمان

"وإمامتنا أماناً من الفرقة"، لأنَّ هذه الإمامة انطلقت من خلال الخطِّ الإلهيّ، ومن خلال التّنصيص الإلهيّ، لذلك، فإنَّ القوم عندما يلتقون عليها، فإنّهم يلتقون على أمر الله في السّير على خطاها وفي الالتزام بها، وبذلك يبتعد النّاس عن كلّ ما يوجب الفرقة، ذلك أنَّ الفرقة إنما تنطلق من خلال اختلاف الأهواء والاتجاهات.. أما إذا كانت المسألة منطلقة من أمر الله ونهيه، فإنّ المسلمين من موقع إسلامهم، لا يمكن أن يختلفوا عليها، بحسب ما ترتكز عليه من خطوطٍ تنطلق من الله وتلتقي به وتنتهي إليه.

الجهاد عزّ للإسلام

"والجهاد عزّاً للإسلام"، لأنَّ الجهاد يمثّل التّحدّي للكفر في جانب، وردّ التحدي للكفر في جانبٍ آخر، كما أنّه يمثّل مواجهة الاستكبار والظّلم في مواقعه كلّها، وبذلك يقوى الإسلام عندما تتحرَّك التّحدّيات المفروضة عليه، والهجوم الّذي يُشَنُّ ضدّه، والضّغوط الّتي تتحرَّك في ساحته، لتجد هناك ردّاً حاسماً من المسلمين في حركة الجهاد في مواقعه ومجالاته كلّها.. ولم يسقط المسلمون في واقع الذلّ إلا بعد أن تركوا الجهاد، وأقبلوا على حالة الاسترخاء، واستسلموا لكلّ فاتح، ولكلّ ضاغط، ولكلّ مستكبر.

"وذلاًّ لأهل الكفر والنّفاق"، فمن الطّبيعيّ أنّه كلّما عزّ الإسلام في ساحة الصِّراع أكثر، وفي ساحة التحدّي، وفي ردّ التحدّي، ذلّ الكفر أكثر.

الصّبر موجب للأجر

"والصّبر معونة على استيجاب الأجر"، فمن نتائجه العمليّة والواقعيّة، أنه يمثّل حركة العزم والقوَّة في مواجهة كلّ التفاعلات النفسيّة وحالات الحرمان والضّغوط الّتي تجابه الإنسان من أجل أن تزلزل موقفه أو تنحرف به عن خطِّه.

لذلك، فإنَّ الصَّبر يمثِّل الحركة الإنسانيّة التي تنطلق إيجابيّةً في داخل الإنسان، وسلبيّةً في الظاهر، باعتبار أنَّ الصّابر يصمد ولا يتحرك بردّ فعل، فهو سلبيّ في الصّورة، ولكنّه إيجابيّ في المضمون وفي الواقع، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[3].. ولكنَّ الزَّهراء(ع) أرادت أن تتحدَّث عن الصّبر كما تحدّث القرآن عنه في أكثر من آية، لتشجيع النّاس عليه، فكان حديثها حديث الدَّعوة إلى الصَّبر، لا حديث بيان فلسفة الصَّبر وطبيعته.

ومن الطّبيعيّ أنَّ الأجر الّذي يناله الإنسان على الصَّبر، يختزن في داخله كلّ ما يعنيه الصَّبر من ثبات على المبدأ، ومن صلابةٍ في موقف الإنسان مع الله أمام الشَّدائد والأهوال والأخطار، لأنَّ الله إنما يثيب الإنسان بالحجم الّذي يمثِّله ثواب الصّبر، الّذي لم نجد هناك أيّ عمل في مستوى الثواب عليه مثله، ومن الطّبيعيّ أن يثيب الله الإنسان على العمل الّذي يرتفع في مستوى القيمة إلى أن يكون القاعدة الّتي ترتكز عليها التقوى كلّها والإيمان كلّه.

ولذلك، فإنَّ الزّهراء(ع) عندما تقول: "والصّبر معونة على استيجاب الأجر"، فإنها تقصد الصّبر بما له من القيمة الكبرى عند الله سبحانه وتعالى، من حيث علاقاته بثبات الإيمان في نفس الإنسان في مواجهته لقضايا الانحراف كلِّها.

فنحن نقرأ في كلمات عليّ(ع) في الخصال الخمسة التي ذكر أنها: "لو ضربتم إليها آباط الإبل لكانت لذلك أهلاً"[4]، ويقول: "وعليكم بالصّبر، فإنَّ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا خير في جسدٍ لا رأس معه، ولا في إيمان لا صبر معه"[5].

وهكذا هي كلمة الإمام الباقر(ع) لبعض أصحابه: "كلّ أعمال البرّ بالصّبر يرحمك الله"[6]، ولقد جعل القرآن قيمة الصبر أعلى قيمة، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}[7]، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[8].

لذلك، أرادت الزّهراء(ع) أن تستنطق المعنى القرآنيّ في حديثها عن الصَّبر. وكما قلنا، فإنّ المعنى القرآني للصّبر يختزن كلّ ما فيه من خصائص، من حيث إنّه يمثِّل القيمة العمليّة الكبرى التي تزيد الإنسان ثباتاً، وتغني الإيمان في الانفتاح على مواقعه كلِّها، وعلى خطوطه العامّة والخاصّة كلّها.

حركة النّقد الاجتماعيّ

"والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مصلحة للعامّة"، باعتبار أنّه يمثّل حركة النّقد الاجتماعيّ، ويمثّل حركة التكامل الاجتماعيّ في عملية إصلاح الواقع، لأنّ النّاس إذا تركوا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، لضعف المعروف وقوي المنكر، وهذا ما ورد في الحديث النّبويّ الشّريف: "لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، أو ليسلّطنّ الله شراركم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يُستجاب لهم"[9].

إنَّنا نستوحي من هذا، أنّ المجتمع إذا كان لا يمارس الرقابة العمليّة، سواء في المعروف العمليّ والمنكر العمليّ، أي لا يمارس الرقابة على بعضه البعض، فإنّ الّذين يصنعون المنكر، والّذين يسقطون المعروف، سوف يسيطرون على المجتمع وهو غافل عنهم، ما يسبِّب إفساداً في الواقع، وضرراً على عامَّة النّاس.

قيمة برِّ الوالدين

"وبرّ الوالدين وقايةً من السّخط"، باعتبار أنّ برّ الوالدين يخلق في نفسيهما حالة من المحبَّة ومن الرّضا ومن الطّمأنينة، وبذلك تنفتح قلوبهما لأولادهما، فتتحرك المحبَّة ويتحرّك الرّضا بدل السّخط، ونحن نعرف حقيقة التّخطيط في الإسلام بالتدرّج في عمليّة نشر المحبّة بين النّاس، فلقد بدأ بالوالدين، ثم ثنّى بالأرحام، ثم انطلق أيضاً في الدّوائر التي تتحرّك في جانب العقيدة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[10].. وانطلق بعد ذلك في علاقات إنسانيّة متحركة، من أجل أن تهيّئ كلّ دائرة في العلاقات الإنسانيّة للدائرة الأخرى، فإذا تعلَّم الإنسان أن لا ينهر أبويه، وأن يرحمهما، وأن يذكر جميلهما بالرّغم من إساءتهما إليه، وبالرغم من كلّ المشاكل التي تحدث له، فإنّ ذلك يمثّل تجربة غنيّة حيّة في أن ينفتح أيضاً على أرحامه وعلى الناس أجمعين.

ومن هنا، فإننا نعتبر أنَّ هذه الدوائر الإسلاميّة ذات الصّلة في كلّ الأمور التي أمر الله بها أن توصل، تمثّل دائرة تقوّي الدّائرة الأخرى، ودائرة تنفتح على الدّائرة الأخرى، فالدائرة الصّغيرة تنفتح على المتوسِّطة، والدّائرة المتوسِّطة تنفتح على الدّائرة الكبرى، وهذا ما لخَّصه أمير المؤمنين(ع) عندما تحدَّث عن دائرتين كبيرتين في علاقات النّاس مع بعضهم البعض: "فإنّهم صنفان؛ إمّا أخٌ لك في الدّين، وإمّا نظيرٌ لك في الخلق"[11]، فالدّائرة الإسلاميّة تدور في نطاق ما جعل الله للمؤمن على المؤمن من حقّ، والدّائرة الإنسانيّة تدور فيما أراد الله للإنسان أن ينفتح على الإنسان الآخر من خلال مشاعره الإنسانيّة.

صلة الرَّحم تطيل العمر

"وصلة الأرحام منساة في العمر"، وذلك باعتبار الأحاديث الواردة من أنَّ صلة الرحم تزيد من العمر، كما أنها تنمّي المال، و"منماة للعدد"، يعني أنها تزيد في عمر الإنسان، وتبارك في أولاده وما إلى ذلك.

القصاص حقنٌ للدِّماء

"والقصاص حقناً في الدّماء"، والله تعالى يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ}[12]، "والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة"، لأنّ النّذر يمثّل التزاماً منك أمام الله، ويمثّل عهداً بينك وبينه. وعلى ضوء هذا، فعندما تفي بنذرك، فإنّك تعبّر عن وفائك بالتزامك أمام الله، وإذا كان هذا يمثّل الالتزام في هذه المفردة الصّغيرة، فإنّه يعطي خطّاً للالتزام في الدّوائر الكبيرة، لأنَّ الإنسان إذا حصل على طاقةٍ في طاعة الله في جانب، فإنَّ ذلك يقوّي الطّاقة في الجوانب الأخرى، فيغفر الله له على أساس ما يطَّلع عليه من قلبه فيما يظهر به عمله ووفاؤه لله بالتزامه، وقد حدَّثنا الله عن أهل البيت(ع) ووصفهم بأنهم {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً}[13].

توفية المكيال والموازين

"وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس"، فعندما نفي مكاييلنا وموازيننا، فإنّنا نعطي كلّ إنسان حقَّه كاملاً غير منقوص فيما نزن به، وفيما نكيله، أو فيما نعدّه، لأنَّ المكاييل والموازين ذكرت باعتبار أنّها الغالب، وإلا فهي كناية عن كلِّ حقّ له كميّة معيّنة، سواء كانت عدديّة، أو كميّة في الميزان، أو وزنيّة، أو مكياليّة، فالله أمر بتوفية المكيال والميزان من أجل تغيير الواقع الّذي كان سائداً، والّذي يربك الحياة الاقتصاديّة، وينشر المشاكل بين النّاس، قال تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}[14].

فقد أراد الله للنّاس عندما أمرهم بأن لا يطفّفوا المكيال والميزان، وأن يفوا المكيال والميزان، تغيير هذا الواقع الذي كان منتشراً بينهم، ولذلك قال: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[15].

حرمة الخمر والقذف والسّرقة

"والنّهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرّجس"، باعتبار أنَّ الخمر يمثّل الرجس المعنويّ والرجس الماديّ، من خلال تأثيراته السلبيّة في عقل الإنسان، وفي بدنه، وفي الواقع الاجتماعي من حوله، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}[16].

"واجتناب القذف حجاباً عن اللّعنة"، لأنَّ الإنسان إذا قذف الناس لعنوه، أو إذا قذف النّاس قذفوه.

"وترك السَّرقة إيجاباً للعفَّة"؛ لعفَّة اليد عن أموال النّاس، وقد ورد في عدّة أحاديث أنّه "ما عبد الله بشيء أفضل من عفّة بطنٍ وفرج"[17]، وقد ورد في حديث أمير المؤمنين(ع) في كلماته القصار، "أفضل العبادة العفاف"[18].

تحريم الشِّرك

"وحرّم الله الشِّرك إخلاصاً له بالربوبيَّة"، لأنَّ الشّرك يمثّل ابتعاداً عن الإخلاص لله تعالى، فعندما تجعل له شريكاً في الربوبيّة مما لا واقع له، فإنَّ هذا يعتبر ابتعاداً عن الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وتمرّداً على حقّه في التّوحيد، {اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[19]، وكأنّ الزهراء(ع) أرادت من خلال إنهاء هذا الفصل بهذه الآية، أن تبيّن لهم الحقّ العام الَّذي ينبغي لهم أن ينتهجوه، وهو أن يتّقوا الله كأعلى ما تكون التَّقوى، وكما ينبغي له أن يُتَّقى، في الالتزام بكلِّ أوامره وبكلِّ نواهيه، والانفتاح على كلِّ ما يحبّه حتى مما لم يلزم النّاس به، والابتعاد عن كلِّ ما يكرهه حتى مما لم يلزم النّاس بتركه.

فتقوى الله هي أن تحسب حساب الله في وجودك كلّه وفي كلّ ما تفكّر فيه، لتكون لك تقوى الفكر، وفي كلّ ما تتعاطف فيه، لتكون لك تقوى العاطفة، وفي كلّ ما تتحرك فيه، لتكون لك تقوى العلاقة وتقوى الحركة بين النّاس، {اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، ولتستمرّ هذه التقوى في كلّ حياتكم، فلا تمثّل مجرّد مرحلة من مراحل حياتكم، بل لا بدَّ من أن تكون مستمرّةً إلى حين الموت، {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[20]، وكلمة الإسلام، بحسب معناها القرآنيّ، هي تعبير عن التّقوى، لأنَّ قضيَّة الإسلام هي أن تسلّم وجودك كلَّه لله، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[21]، والإسلام لله هو أن تلتزم أمر الله ونهيه، وكلّ ما يحبّه ويرضاه في حياتك الذاتيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة، ليكون وجودك في مظاهره ومواقعه كلّها إسلاماً لله سبحانه وتعالى.

"فاتّقوا الله حقّ تقاته، ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله فيما أمركم الله به ونهاكم عنه"، فهو سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}[22]، وكأني بالزهراء(ع) تقول لهم: كونوا العلماء بالله، وكونوا العلماء بدينه، وكونوا العلماء بمسؤولياتكم كلّها أمامه، لأنكم كلّما عرفتم الله أكثر، خفتم الله أكثر واتقيتم الله أكثر. وهكذا انطلقت الزهراء(ع) من خلال هذه الأطروحة الثقافيّة، لتتحدَّث عن قضيّتها معهم، وقضيَّتهم مع أهل البيت(ع)، ولتنفذ من ذلك إلى مسألة إرثها والنّزاع الذي حصل في هذا المجال، وهذا ما سنتحدّث عنه، إن شاء الله، في الأسبوع القادم.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 5 جمادى الآخرة 1419هـ/ الموافق: 26-9-1998م.


[1]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 2، ص 20.

[2]  المصدر نفسه، ج 2، ص 7.

[3]  [لقمان: 17].

[4]  نهج البلاغة، ج 4، ص 19.

[5]  المصدر نفسه، ج 4، ص 19.

[6]  وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 3، ص 464.

[7]  [الزمر: 10].

[8]  [البقرة: 155 ـ 157].

[9]  بحار الأنوار، ج 90، ص 378.

[10]  [الحجرات: 10].

[11]  نهج البلاغة، ج 3، ص 85.

[12]  [البقرة: 179].

[13]  [الإنسان: 7].

[14]  [المطففين: 1 ـ 3].

[15]  [الشعراء: 183].

[16]  [المائدة: 90].

[17]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 79.

[18]  المصدر نفسه، ج 2، ص 80.

[19]  [آل عمران: 102].

[20] [آل عمران: 102].

[21]  [الأنعام: 162].

[22]  [فاطر: 28]، أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج 1، ص 316.

لا نزال مع الزّهراء(ع) في خطبتها الَّتي خطبتها في مسجد رسول الله(ص) في جموع المهاجرين والأنصار، وقلنا إنَّها ليست خطبةً تقليديّةً كانت الزَّهراء(ع) تدافع فيها عن حقّها، ولكنَّها كانت خطبةً ثقافيّةً تحدَّثت فيها عن أسرار التَّوحيد، وأسرار التَّوبة وحركيَّتها، وحركة الصِّراع بين الإسلام والشِّرك، كما تحدَّثت عن القرآن في عظمته وميزاته، وعن بعض أسرار التَّشريع في بعض العناوين العباديّة العامَّة.

العدل تنسيق للقلوب

ووصلنا إلى قولها(ع): "والعدل تنسيقاً للقلوب"؛ هذه الكلمة تستدعي التأمّل والتّحليل، لأنَّ مسألة العدل هي من المسائل الّتي تتّصل بالواقع الخارجيّ للحياة الاجتماعيّة للأمّة، لأنّه بالعدل يصل كلّ إنسان إلى حقّه، وبذلك يعمّ الخير بين النّاس وتقلّ الصّراعات.

إذاً، ما هي علاقة العدل بالقلوب وبتنسيقها وبجمعها مع بعضها البعض؟

لقد قلنا في بداية الحديث إنَّ الزّهراء(ع) تتحدَّث في بعض العناوين في تأثيرها في الدّاخل الإنسانيّ، لأنّ تأثيرها في الخارج الإنساني أمرٌ واضح بيّن لا يحتاج إلى بيان، فالعدل في حركيّته الإنسانيّة، وفي واقع العلاقات بين النّاس، ومن حيث وصول كلّ إنسان إلى حقّه، يهيِّئ الرّخاء والسَّلام والتّوازن في الواقع الاجتماعيّ، ولكنَّ المسألة التي ربما كانت الزّهراء تركّز عليها، هي تأثير العدل في علاقات النّاس مع بعضهم البعض، فيما ينفتح فيه قلبٌ على قلب، لأنّ الظّلم ينتج الكثير من التّعقيدات النّفسيّة، والكثير من الأحقاد الذاتيّة، ذلك لأنَّ أيّ إنسان يُضطهد في حقّه، من الطبيعيّ أن يحمل للمُضطَهِد حالةً من مشاعر الحقد والعداوة والبغضاء وما إلى ذلك، ما يجعل من الظّلم مشكلةً للعلاقات الإنسانيّة في منطق المشاعر، كما يكون مشكلةً لواقع الإنسان في دائرة العلاقات القائمة على أساس الحقوق.

لذلك، ربما أرادت الزَّهراء(ع) أن تؤكِّد قيمة العدل في جمع القلوب، لأنَّ المجتمع إذا كان قائماً على إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، فإنَّ من الطّبيعيّ أنّ ذلك يبعد الكثير من المشاعر السلبيَّة في علاقة النّاس مع بعضهم البعض، وهذا هو الّذي يهيِّئ لحركة السّلام الاجتماعي، لأنَّ أغلب المؤثرات في الحروب، أو في إبعاد حركة السّلام في الواقع الاجتماعيّ، هي العقد النفسيّة الّتي تقوم بين النّاس.

ولهذا، كلَّما خفَّت هذه العقد، أو كلّما زالت، قلّت المؤثّرات في الحروب وفي المنازعات وما إلى ذلك، لأنَّ النّزاع غالباً ينطلق من خلال الصّراع على الحقّ، سواء كان الحقّ خاصّاً أو عامّاً، والله العالم.

أهميّة طاعة أهل البيت(ع)

وتقول(ع): "وطاعتنا نظاماً للملَّة"، أمّا طاعة أهل البيت(ع)، فباعتبار أنهم يمثّلون القيادة الشرعية الّتي انطلقت في الواقع الإسلامي وفي المواقع القياديّة، فإنها تحمل النّاس على المحجَّة البيضاء، وتركِّز أسس التَّوازن في المجتمع، حيث يأخذ كلّ ذي حقّ حقّه، وحيث تتحرَّك الخطوط الشّرعيّة في تنظيم المجتمع في القضايا الخاصّة والعامّة.

وبذلك، فإنَّ انسجام المجتمع والأمَّة مع القيادة الشّرعيّة الحكيمة القويّة في الله، التي لا تأخذها في الله لومة لائم، والّتي تتحرَّك على أساس المصالح العامَّة، هو الذي عبّر عنه أمير المؤمنين(ع) في قوله: "وليس أمري وأمركم واحداً، إنّي أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم"[1]، وما صرَّح به بقوله: "أتأمروني أن أطلب النّصر بالجور فيمن ولّيت عليه، والله ما أطور به ما سمر سمير، وما أمَّ نجمٌ في السَّماء نجماً، لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف وإنّما المال مال الله؟"[2].

من هنا، فإنَّ المجتمع عندما يطيع القيادة الشرعيَّة، فإنَّ من الطّبيعيّ أن يرتكز إيمانه على الثّبات، وتتحقَّق بها قوّته.

الإمامة أمان

"وإمامتنا أماناً من الفرقة"، لأنَّ هذه الإمامة انطلقت من خلال الخطِّ الإلهيّ، ومن خلال التّنصيص الإلهيّ، لذلك، فإنَّ القوم عندما يلتقون عليها، فإنّهم يلتقون على أمر الله في السّير على خطاها وفي الالتزام بها، وبذلك يبتعد النّاس عن كلّ ما يوجب الفرقة، ذلك أنَّ الفرقة إنما تنطلق من خلال اختلاف الأهواء والاتجاهات.. أما إذا كانت المسألة منطلقة من أمر الله ونهيه، فإنّ المسلمين من موقع إسلامهم، لا يمكن أن يختلفوا عليها، بحسب ما ترتكز عليه من خطوطٍ تنطلق من الله وتلتقي به وتنتهي إليه.

الجهاد عزّ للإسلام

"والجهاد عزّاً للإسلام"، لأنَّ الجهاد يمثّل التّحدّي للكفر في جانب، وردّ التحدي للكفر في جانبٍ آخر، كما أنّه يمثّل مواجهة الاستكبار والظّلم في مواقعه كلّها، وبذلك يقوى الإسلام عندما تتحرَّك التّحدّيات المفروضة عليه، والهجوم الّذي يُشَنُّ ضدّه، والضّغوط الّتي تتحرَّك في ساحته، لتجد هناك ردّاً حاسماً من المسلمين في حركة الجهاد في مواقعه ومجالاته كلّها.. ولم يسقط المسلمون في واقع الذلّ إلا بعد أن تركوا الجهاد، وأقبلوا على حالة الاسترخاء، واستسلموا لكلّ فاتح، ولكلّ ضاغط، ولكلّ مستكبر.

"وذلاًّ لأهل الكفر والنّفاق"، فمن الطّبيعيّ أنّه كلّما عزّ الإسلام في ساحة الصِّراع أكثر، وفي ساحة التحدّي، وفي ردّ التحدّي، ذلّ الكفر أكثر.

الصّبر موجب للأجر

"والصّبر معونة على استيجاب الأجر"، فمن نتائجه العمليّة والواقعيّة، أنه يمثّل حركة العزم والقوَّة في مواجهة كلّ التفاعلات النفسيّة وحالات الحرمان والضّغوط الّتي تجابه الإنسان من أجل أن تزلزل موقفه أو تنحرف به عن خطِّه.

لذلك، فإنَّ الصَّبر يمثِّل الحركة الإنسانيّة التي تنطلق إيجابيّةً في داخل الإنسان، وسلبيّةً في الظاهر، باعتبار أنَّ الصّابر يصمد ولا يتحرك بردّ فعل، فهو سلبيّ في الصّورة، ولكنّه إيجابيّ في المضمون وفي الواقع، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[3].. ولكنَّ الزَّهراء(ع) أرادت أن تتحدَّث عن الصّبر كما تحدّث القرآن عنه في أكثر من آية، لتشجيع النّاس عليه، فكان حديثها حديث الدَّعوة إلى الصَّبر، لا حديث بيان فلسفة الصَّبر وطبيعته.

ومن الطّبيعيّ أنَّ الأجر الّذي يناله الإنسان على الصَّبر، يختزن في داخله كلّ ما يعنيه الصَّبر من ثبات على المبدأ، ومن صلابةٍ في موقف الإنسان مع الله أمام الشَّدائد والأهوال والأخطار، لأنَّ الله إنما يثيب الإنسان بالحجم الّذي يمثِّله ثواب الصّبر، الّذي لم نجد هناك أيّ عمل في مستوى الثواب عليه مثله، ومن الطّبيعيّ أن يثيب الله الإنسان على العمل الّذي يرتفع في مستوى القيمة إلى أن يكون القاعدة الّتي ترتكز عليها التقوى كلّها والإيمان كلّه.

ولذلك، فإنَّ الزّهراء(ع) عندما تقول: "والصّبر معونة على استيجاب الأجر"، فإنها تقصد الصّبر بما له من القيمة الكبرى عند الله سبحانه وتعالى، من حيث علاقاته بثبات الإيمان في نفس الإنسان في مواجهته لقضايا الانحراف كلِّها.

فنحن نقرأ في كلمات عليّ(ع) في الخصال الخمسة التي ذكر أنها: "لو ضربتم إليها آباط الإبل لكانت لذلك أهلاً"[4]، ويقول: "وعليكم بالصّبر، فإنَّ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا خير في جسدٍ لا رأس معه، ولا في إيمان لا صبر معه"[5].

وهكذا هي كلمة الإمام الباقر(ع) لبعض أصحابه: "كلّ أعمال البرّ بالصّبر يرحمك الله"[6]، ولقد جعل القرآن قيمة الصبر أعلى قيمة، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}[7]، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[8].

لذلك، أرادت الزّهراء(ع) أن تستنطق المعنى القرآنيّ في حديثها عن الصَّبر. وكما قلنا، فإنّ المعنى القرآني للصّبر يختزن كلّ ما فيه من خصائص، من حيث إنّه يمثِّل القيمة العمليّة الكبرى التي تزيد الإنسان ثباتاً، وتغني الإيمان في الانفتاح على مواقعه كلِّها، وعلى خطوطه العامّة والخاصّة كلّها.

حركة النّقد الاجتماعيّ

"والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مصلحة للعامّة"، باعتبار أنّه يمثّل حركة النّقد الاجتماعيّ، ويمثّل حركة التكامل الاجتماعيّ في عملية إصلاح الواقع، لأنّ النّاس إذا تركوا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، لضعف المعروف وقوي المنكر، وهذا ما ورد في الحديث النّبويّ الشّريف: "لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، أو ليسلّطنّ الله شراركم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يُستجاب لهم"[9].

إنَّنا نستوحي من هذا، أنّ المجتمع إذا كان لا يمارس الرقابة العمليّة، سواء في المعروف العمليّ والمنكر العمليّ، أي لا يمارس الرقابة على بعضه البعض، فإنّ الّذين يصنعون المنكر، والّذين يسقطون المعروف، سوف يسيطرون على المجتمع وهو غافل عنهم، ما يسبِّب إفساداً في الواقع، وضرراً على عامَّة النّاس.

قيمة برِّ الوالدين

"وبرّ الوالدين وقايةً من السّخط"، باعتبار أنّ برّ الوالدين يخلق في نفسيهما حالة من المحبَّة ومن الرّضا ومن الطّمأنينة، وبذلك تنفتح قلوبهما لأولادهما، فتتحرك المحبَّة ويتحرّك الرّضا بدل السّخط، ونحن نعرف حقيقة التّخطيط في الإسلام بالتدرّج في عمليّة نشر المحبّة بين النّاس، فلقد بدأ بالوالدين، ثم ثنّى بالأرحام، ثم انطلق أيضاً في الدّوائر التي تتحرّك في جانب العقيدة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[10].. وانطلق بعد ذلك في علاقات إنسانيّة متحركة، من أجل أن تهيّئ كلّ دائرة في العلاقات الإنسانيّة للدائرة الأخرى، فإذا تعلَّم الإنسان أن لا ينهر أبويه، وأن يرحمهما، وأن يذكر جميلهما بالرّغم من إساءتهما إليه، وبالرغم من كلّ المشاكل التي تحدث له، فإنّ ذلك يمثّل تجربة غنيّة حيّة في أن ينفتح أيضاً على أرحامه وعلى الناس أجمعين.

ومن هنا، فإننا نعتبر أنَّ هذه الدوائر الإسلاميّة ذات الصّلة في كلّ الأمور التي أمر الله بها أن توصل، تمثّل دائرة تقوّي الدّائرة الأخرى، ودائرة تنفتح على الدّائرة الأخرى، فالدائرة الصّغيرة تنفتح على المتوسِّطة، والدّائرة المتوسِّطة تنفتح على الدّائرة الكبرى، وهذا ما لخَّصه أمير المؤمنين(ع) عندما تحدَّث عن دائرتين كبيرتين في علاقات النّاس مع بعضهم البعض: "فإنّهم صنفان؛ إمّا أخٌ لك في الدّين، وإمّا نظيرٌ لك في الخلق"[11]، فالدّائرة الإسلاميّة تدور في نطاق ما جعل الله للمؤمن على المؤمن من حقّ، والدّائرة الإنسانيّة تدور فيما أراد الله للإنسان أن ينفتح على الإنسان الآخر من خلال مشاعره الإنسانيّة.

صلة الرَّحم تطيل العمر

"وصلة الأرحام منساة في العمر"، وذلك باعتبار الأحاديث الواردة من أنَّ صلة الرحم تزيد من العمر، كما أنها تنمّي المال، و"منماة للعدد"، يعني أنها تزيد في عمر الإنسان، وتبارك في أولاده وما إلى ذلك.

القصاص حقنٌ للدِّماء

"والقصاص حقناً في الدّماء"، والله تعالى يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ}[12]، "والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة"، لأنّ النّذر يمثّل التزاماً منك أمام الله، ويمثّل عهداً بينك وبينه. وعلى ضوء هذا، فعندما تفي بنذرك، فإنّك تعبّر عن وفائك بالتزامك أمام الله، وإذا كان هذا يمثّل الالتزام في هذه المفردة الصّغيرة، فإنّه يعطي خطّاً للالتزام في الدّوائر الكبيرة، لأنَّ الإنسان إذا حصل على طاقةٍ في طاعة الله في جانب، فإنَّ ذلك يقوّي الطّاقة في الجوانب الأخرى، فيغفر الله له على أساس ما يطَّلع عليه من قلبه فيما يظهر به عمله ووفاؤه لله بالتزامه، وقد حدَّثنا الله عن أهل البيت(ع) ووصفهم بأنهم {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً}[13].

توفية المكيال والموازين

"وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس"، فعندما نفي مكاييلنا وموازيننا، فإنّنا نعطي كلّ إنسان حقَّه كاملاً غير منقوص فيما نزن به، وفيما نكيله، أو فيما نعدّه، لأنَّ المكاييل والموازين ذكرت باعتبار أنّها الغالب، وإلا فهي كناية عن كلِّ حقّ له كميّة معيّنة، سواء كانت عدديّة، أو كميّة في الميزان، أو وزنيّة، أو مكياليّة، فالله أمر بتوفية المكيال والميزان من أجل تغيير الواقع الّذي كان سائداً، والّذي يربك الحياة الاقتصاديّة، وينشر المشاكل بين النّاس، قال تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}[14].

فقد أراد الله للنّاس عندما أمرهم بأن لا يطفّفوا المكيال والميزان، وأن يفوا المكيال والميزان، تغيير هذا الواقع الذي كان منتشراً بينهم، ولذلك قال: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[15].

حرمة الخمر والقذف والسّرقة

"والنّهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرّجس"، باعتبار أنَّ الخمر يمثّل الرجس المعنويّ والرجس الماديّ، من خلال تأثيراته السلبيّة في عقل الإنسان، وفي بدنه، وفي الواقع الاجتماعي من حوله، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}[16].

"واجتناب القذف حجاباً عن اللّعنة"، لأنَّ الإنسان إذا قذف الناس لعنوه، أو إذا قذف النّاس قذفوه.

"وترك السَّرقة إيجاباً للعفَّة"؛ لعفَّة اليد عن أموال النّاس، وقد ورد في عدّة أحاديث أنّه "ما عبد الله بشيء أفضل من عفّة بطنٍ وفرج"[17]، وقد ورد في حديث أمير المؤمنين(ع) في كلماته القصار، "أفضل العبادة العفاف"[18].

تحريم الشِّرك

"وحرّم الله الشِّرك إخلاصاً له بالربوبيَّة"، لأنَّ الشّرك يمثّل ابتعاداً عن الإخلاص لله تعالى، فعندما تجعل له شريكاً في الربوبيّة مما لا واقع له، فإنَّ هذا يعتبر ابتعاداً عن الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وتمرّداً على حقّه في التّوحيد، {اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[19]، وكأنّ الزهراء(ع) أرادت من خلال إنهاء هذا الفصل بهذه الآية، أن تبيّن لهم الحقّ العام الَّذي ينبغي لهم أن ينتهجوه، وهو أن يتّقوا الله كأعلى ما تكون التَّقوى، وكما ينبغي له أن يُتَّقى، في الالتزام بكلِّ أوامره وبكلِّ نواهيه، والانفتاح على كلِّ ما يحبّه حتى مما لم يلزم النّاس به، والابتعاد عن كلِّ ما يكرهه حتى مما لم يلزم النّاس بتركه.

فتقوى الله هي أن تحسب حساب الله في وجودك كلّه وفي كلّ ما تفكّر فيه، لتكون لك تقوى الفكر، وفي كلّ ما تتعاطف فيه، لتكون لك تقوى العاطفة، وفي كلّ ما تتحرك فيه، لتكون لك تقوى العلاقة وتقوى الحركة بين النّاس، {اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، ولتستمرّ هذه التقوى في كلّ حياتكم، فلا تمثّل مجرّد مرحلة من مراحل حياتكم، بل لا بدَّ من أن تكون مستمرّةً إلى حين الموت، {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[20]، وكلمة الإسلام، بحسب معناها القرآنيّ، هي تعبير عن التّقوى، لأنَّ قضيَّة الإسلام هي أن تسلّم وجودك كلَّه لله، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[21]، والإسلام لله هو أن تلتزم أمر الله ونهيه، وكلّ ما يحبّه ويرضاه في حياتك الذاتيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة، ليكون وجودك في مظاهره ومواقعه كلّها إسلاماً لله سبحانه وتعالى.

"فاتّقوا الله حقّ تقاته، ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله فيما أمركم الله به ونهاكم عنه"، فهو سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}[22]، وكأني بالزهراء(ع) تقول لهم: كونوا العلماء بالله، وكونوا العلماء بدينه، وكونوا العلماء بمسؤولياتكم كلّها أمامه، لأنكم كلّما عرفتم الله أكثر، خفتم الله أكثر واتقيتم الله أكثر. وهكذا انطلقت الزهراء(ع) من خلال هذه الأطروحة الثقافيّة، لتتحدَّث عن قضيّتها معهم، وقضيَّتهم مع أهل البيت(ع)، ولتنفذ من ذلك إلى مسألة إرثها والنّزاع الذي حصل في هذا المجال، وهذا ما سنتحدّث عنه، إن شاء الله، في الأسبوع القادم.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 5 جمادى الآخرة 1419هـ/ الموافق: 26-9-1998م.


[1]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 2، ص 20.

[2]  المصدر نفسه، ج 2، ص 7.

[3]  [لقمان: 17].

[4]  نهج البلاغة، ج 4، ص 19.

[5]  المصدر نفسه، ج 4، ص 19.

[6]  وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 3، ص 464.

[7]  [الزمر: 10].

[8]  [البقرة: 155 ـ 157].

[9]  بحار الأنوار، ج 90، ص 378.

[10]  [الحجرات: 10].

[11]  نهج البلاغة، ج 3، ص 85.

[12]  [البقرة: 179].

[13]  [الإنسان: 7].

[14]  [المطففين: 1 ـ 3].

[15]  [الشعراء: 183].

[16]  [المائدة: 90].

[17]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 79.

[18]  المصدر نفسه، ج 2، ص 80.

[19]  [آل عمران: 102].

[20] [آل عمران: 102].

[21]  [الأنعام: 162].

[22]  [فاطر: 28]، أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج 1، ص 316.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية