ونبقى مع سيّدتنا فاطمة الزّهراء(ع) في الفصل الجديد الَّذي تعلن عن شخصيَّتها في مستوى العنفوان، لتبدأ حديثها مع المهاجرين والأنصار فيما حدث بعد رسول الله(ص)، من خلال استعراض دور رسول الله من جديد، ودور عليّ(ع) مع رسول الله(ص).
شخصيَّة الزّهراء(ع)
فهي في هذا الفصل، تعلن عن شخصيَّتها من هي، وتؤكِّد أنّها عندما تتحدَّث معهم، فإنّها لا تخطئ في قول، ولا تبتعد عن الحقّ، ولا تتجاوز الحدود الفاصلة بين الحقِّ والباطل، فكأنّها تريد أن تقول لهم إنَّ الله عصمني من الخطأ ومن أيّ تجاوز عن الحقّ: "أيّها النّاس، اعلموا أنّي فاطمة وأبي محمّد(ص)، أقول عوداً وبدءاً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً، {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[1]، فكأنّها في استشهادها بهذه الآية، تريد أن تقول لهم إنَّ الله أرسل لكم أبي من داخل مجتمعكم، فهو ليس بعيداً عنكم، بل هو بشر مثلكم، ولكنَّه ميَّزه بالوحي والرّسالة بكلّ ما يختزنانه من أسرار الشّخصيَّة في قداستها وقربها من الله.
إنَّها تقول لقد كان أبي يحمل في قلبه كلَّ الهمِّ فيما يشاهده منكم مما تعيشون فيه المشقَّة، فيعزّ عليه ذلك، وكان يحرص عليكم أن لا تضيعوا، وأن لا تضلّوا، وأن لا تسقطوا، فهو حريص عليكم، وكان الرّؤوف الرّحيم بكلّ قضاياكم وتطلّعاتكم، فكأنها تريد أن تقول لهم إنَّ أبي كان بهذه الرّوح في رعايته لكم في حياته، ولا تزال روحه في عليائه تطلّ عليكم وهو في رحاب ربّه، {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[2]، ولذلك، فإنّه من خلال ما يطلعه الله على أوضاعكم، وعلى الفوضى الجديدة التي أحلّت بكم، وعلى الفتنة الَّتي فتكت بأوضاعكم كلّها، يعزّ عليه ذلك، لأنَّ ذلك يجلب لكم المشقَّة، ويحرص على أن تخرجوا من ذلك، لأنَّ بقاءكم فيه يمكن أن يوقعكم في الكثير من مشاكل الحياة ومشاكل الآخرة.
ولذلك، فمن رأفته ورحمته أنَّه يريد لكم أن تخرجوا من هذا النَّفق، وأنا الّتي لا تقول خطأً ولا تتجاوز عن الحقّ، أعيش روحه وحرصه عليكم وهمّه في كلّ ما يشقّ عليكم، "فإن تعزوه وتعرفوه"، إذا أردتم أن تنسبوه، فإنّكم تجدونه أبي، "تجدوه أبي دون نسائكم"، فأنا ابنته الوحيدة، "وأخا ابن عمّي"، ولم تقتصر على الحديث عن نفسها في علاقتها برسول الله، وإنما أوردت اسم عليّ(ع)، "دون رجالكم"، لأنّ النّبيّ(ص) آخاه بعد أن آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانت الأخوَّة الأخيرة هي أخوَّته لعليّ(ع).
"ولنعم المعزيُّ إليه"، يعني لنعم المنسوب إليه، فعندما ينتسب إلى رسول الله(ص) أيّ إنسان، سواء بالنّبوَّة أو بالأخوَّة، فإنَّه يمثّل الشّرف كلّ الشَّرف، ويمثّل العظمة كلَّ العظمة، وهنا نتساءل: هل كانت الزّهراء(ع) تتحدَّث في حديثها في انتمائها إليه بالنبوَّة، وانتماء عليّ(ع) إليه بالأخوَّة، هل كانت تتحدَّث عن القرابة، والإسلام لم يعتبر القرابة في ذاتها ـ بقطع النّظر عمّا يختزنه القريب من خصائص تجعله في مستوى الكفاءة ـ وسيلةً من وسائل القيمة الكبرى، فأقرباء رسول الله كثيرون، ولكنَّ الله ميَّز أهل بيته عن قرابته كلّهم، ولذا قلنا إنَّ لرسول الله عدّة بنات ـ كما هو وارد في التّاريخ ـ وكما يظهر من القرآن، فإنَّه ميَّز ابنته فاطمة(ع) عن أخواتها؟ وكما يقول أمير الشّعراء أحمد شوقي:
ما تمنّى غيرَها نسلاً ومنْ يلِد الزهراءَ يزهَد في سواها
وهكذا كانت الزَّهراء(ع) تريد أن تقول: أنا ابنته، رُبّيتُ في حجره، وعشتُ معه، أتنفَّس كما يتنفَّس، وأعيش الآفاق الّتي يعيشها في اللّيل والنَّهار، وأعيش ابتهالاته كلّها ودعواته كلّه وروحانيّته كلّها، وأتعلّم منه كلّ ما لديه من علم، فهي ابنته بالرّوح وبالعقل وبالقلب، كما هي ابنته بالجسد، وأخوّة عليّ معه ليست أخوّة تقليديّة أو نسبيَّة، ولكنّها أخوّة هارون لموسى(ع): "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبيَّ بعدي"[3]، هي أخوّة العقل والرّوح والقلب والجهاد، وكلّ ما ينفتح عليه هذا الجوّ النبويّ الرّساليّ من آفاق.
نشاط الرّسول الرّساليّ
وهكذا بدأت تذكِّر النّاس بنشاط رسول الله(ص)، وبموقع عليّ في هذا النَّشاط، لتقارن بين المرحلة الّتي عاشها رسول الله(ص)، والأهداف الّتي استهدفها، والقضايا الّتي ركَّزها، والمرحلة الجديدة الّتي يعيشون فيها.
"فبلَّغ الرّسالة صادعاً بالنّذارة"، صدع بما أراد الله أن ينذر النّاس، "مائلاً عن مدرجة المشركين"، يعني عن مذهبهم وعن مسلكهم، "ضارباً ثبجهم"، والثَّبج هو وسط الشَّيء ومعظمه، وهذا كناية عن كونه لا يبالي بكثرة المشركين واجتماعهم، ولا يداريهم بالدَّعوة، بل كان ينطلق في وسطهم وفي قلب مجتمعهم، غير آبهٍ لعددهم وكثرتهم، "آخذاً بأكظامهم، داعياً إلى سبيل ربِّه بالحكمة والموعظة الحسنة"، استجابةً لقول الله: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}[4].
"يكسر الأصنام"، ونحن نعرف أنّه كسر الأصنام بشكلٍ غير مباشر، من خلال جهاده الّذي جعل قوَّة مجتمع الأصنام تتهاوى، بعد أن حطَّمها بشكلٍ مباشر، عندما كسّر الأصنام المنصوبة على الكعبة.
"وينكث الهام"، والمقصود بالهام هو الرأس، وهذا كناية عن قتل المشركين، والنّكث هو إلقاء الرّجل على رأسه، كنايةً عن أنّه يقتل المشركين بأن يسقط هاماتهم عن أجسادهم، "حتّى انهزم الجمع وولّوا الدّبر، حتى تفرّى اللّيل عن صبحه"، يعني أسفر (وانشقّ) حتى ظهر ضوء الصّباح، "وأسفر الحقّ عن محضه"، يعني أشرق وأضاء، "ونطق زعيم الدّين"، يعني سيّد القوم، "وخرست شقاشق الشّياطين"، ويقال الشّقشقة هي كالربه الّتي يخرجها البعير من فيه إذا هاج، وهذه كناية عن الأصوات الّتي كان المشركون يطلقونها في تحدّياتهم ضدّ الإسلام، "وطاح وشيظ النّفاق"، والوشيظ هو السّفلة من النّاس، كناية عن السّفلة الّذين يمثّلون شخصيّة النّفاق الّتي سقطت، "وانحلّت عقد الكفر والشّقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص"، يعني كنتم مسلمين، فانطلقتم بكلمة الإخلاص، وهي كلمة الإسلام، "في نفرٍ من البيض الخماص"، يعني هؤلاء النّاس المميّزين الَّذين لا يهتمّون ببطونهم، وإنما يهتمّون برسالتهم ومهمَّتهم في الحياة.
"وكنتم على شفا حفرةٍ من النّار"، وهذا ما عبّر الله عنه: {إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا}[5]، "مذقة الشّارب، ونهزة الطّامع"، ومضغة الشّارب هي شربته، أي كان النّاس يشربونكم، كنايةً عن أنكم كنتم قلّة، كما هي مضغة الشّارب عندما يشرب أوّل شربته، "يتخطَّفكم النّاس"، نتيجة قلّتكم، "ونهزة الطّامع"، يعني فرصته في أنّه يجد عندكم ما يمثِّله طمعه في استغلالكم بكلّ أنواع الاستغلال، "وقبسة العجلان"، والقبسة هي الشّعلة من النّار الّتي تقتبس من معظمها، ففي الماضي، لم تكن الإضاءة كما هي الآن، فكان كلّ واحدٍ يذهب ويبحث عن نار، كما في الآية: {آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ}[6]، يأخذها عجلان حتى لا تنطفئ، "وموطئ الأقدام، تشربون الطّرق"، والطّرق هو ماء السّماء الذي تورد به الإبل وتتبعّر فيه، وهو الَّذي يكون في الصَّحراء.
"تقتاتون الورق"، ورق الشّجر، "أذلّة خاسئين، تخافون أن يتخطَّفكم النّاس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمَّد(ص) بعد اللتيّا واللّتي"، كناية عن الدّاهية الصّغيرة والدّاهية الكبيرة، (فاللتيّا) الكبيرة، (واللّتي) الدّاهية الصّغيرة.
"وبعد أن مُني ببهم الرّجال، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب"، وبهم الرّجال يعني الشّجعان منهم، لأنهم، كما يقال، لشدَّة بأسهم لا يدري من أين يأتون، "ذؤبان العرب"، كناية عن لصوصهم وصعاليكهم الذين لا مال لهم ولا اعتماد عليهم، "المردة"، العتاة المتكبرون، "{كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ}[7]، أو نجم قرن للشّيطان..."، يعني طلع قرن الشَّيطان، كناية عن جنود الشَّيطان وعن أمَّته ومتابعته.
دور عليّ(ع)
"قذف أخاه"، وهنا جاء الحديث عن عليّ(ع) عندما كان النّبيّ يواجه بكلّ هذه الجماعات التي تريد أن تسقطه، وتتحدَّى حالته، وتقضي على أمَّته، "قذف أخاه في لهواتها"، والقذف يعني رماه وأرسله في لهواتها، واللّهوات جمع لهاة، وهي اللّحمة في سقف الفم، يعني كناية عن أنّه كلّما عرضت له داهية عظيمة، بعث عليّاً(ع) لدفعها، وعرّضه للمهالك، "فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه"، باعتبار أن الصَّمخ هو ثقب الأذن أو الأذن نفسها، والأخمص ما لا يصيب الأرض من باطن القدم عند مشيها، "ويخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، ومجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله سيّد أولياء الله". لاحظوا كيف تتحدّث فاطمة عن عليّ(ع) ابن عمّها وزوجها، فهي(ع) تتحدَّث عنه، لا من خلال الزوجيّة أو القرابة، ولكنّها تتحدَّث عنه بصفة أنّه إمامها وسيِّدها في حركة الرّسالة، "مشمِّراً"، يعني مشمِّراً عن حياته كلّها، "ناصحاً مجدّاً كادحاً"، وكان عليّ(ع) كذلك.
تقريع المنافقين
"وأنتم في رفاهية من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربَّصون بنا الدَّوائر"، كيف تتحرّك صروف الزّمان وحوادث الأيّام؟ "وتتوكّفون الأخبار"، تتوقّعونها، "وتنكصون عند النّزال، وتفرّون عند القتال، فلمّا اختار الله لنبيّه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسيكة النّفاق"، والحسيكة هي العداوة، أي عداوة النّفاق، "وسمل جلباب الدّين"، وسمل صار خلقاً بالياً كنايةً عن البلى، أي أنّه بُلي هذا الثّوب وذلك، كناية عن ضعف الدّين، وعندما يبلى ثوب الدّين، فإنَّ معنى ذلك أن يقلّ الدّين في النَّفس ويضعف.
"ونطق كاظم الغاوين"، الَّذي كان ساكتاً من الغاوين، بعد أن منحت له فرصة أن ينطق، وأن يتحدَّث، "ونبغ خامل الأقلّين"، يعني ظهر هذا الّذي كان لا قيمة له، وكان ساقطاً لا نباهة له، فقد أعطته الظّروف الجديدة فرصة أن يظهر، وأن يكون شيئاً ذا قيمة، "وهدر فينق المبطلين"، وهدر يعني أصدر صوتاً، والفينق هو المكرم من الإبل الّذي يركب ولا يُهان، لكرامته على أهله، ويعني الأشخاص الّذين كانوا في كرامة من أهلهم، ولكنَّهم كانوا في خطِّ الباطل، فهؤلاء قد هدروا وانطلق صوتهم من جديد.
"فخطر في عرصاتكم"، في ساحاتكم، "واطَّلع الشّيطان رأسه من مغرزه، هاتفاً بكم ألفاكم، لدعوته مستجيبين، وللغرّة فيه ملاحظين"، والغرّة هي الاغترار والانخداع، "ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً"، تنطلقون بكلِّ سرعة، "وأحمشكم فألفاكم غضاباً"، أحمشكم يعني أغضبكم، فتحركتم بالانفعالات الّتي يريد لكم الشَّيطان أن تتحركوا فيها، "فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم"، والوسم في الإبل، أي انفتحتم على غير الموضع الذي أراد الله لكم أن تقفوه، فوسمتم، أي كان من المفروض أن تسموا إبلكم، أي الأشياء الّتي هي لكم، لأنها هي الّتي تحتاجونها وتتحركون معها، ولكنّكم انطلقتم عمّا أنتم مسؤولون عنه، "وأوردتم غير شربكم"، أي انطلقتم في غير الماء الّذي ينبغي أن تشربوه، وهذا كناية عن المواقع التي أخذتم وهي ما ليس لكم به حقّ، لأنَّ الحقَّ في الخلافة هو لغيركم، ولكنَّكم انطلقتم إليها، كناية عن أنكم أخذتم ما ليس بحقّ..
"هذا والعهد قريب"، فلم يمضِ على وفاة رسول الله(ص) إلا أيّام قلائل، "والكلم رحيب"، والكلم هو الجرح، "والجرح لمَّا يندمل"، بفقده، "والرّسول لمّا يقبر ابتداراً، زعمتم خوف الفتنة!"، لماذا بادرتم قبل أن يُدفَن رسول الله(ص)؟ لماذا لم تستشيروا أخاه وابن عمّه؟ لماذا استعجلتم لتقولوا خفنا الفتنة على المسلمين، وزعمتم خوف الفتنة، {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}[8]، "فهيهات منكم"، كناية عن التّبعيد، يعني ابتعدتم عن الواقع، "وكيف بكم وأنّى تؤفكون وكتاب الله بين أظهركم"، لماذا هذا الانحراف؟ لماذا هذا البعد عن الحقّ؟ لماذا هذا الأخذ بالأكاذيب؟
"أموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة"، مشرقة بيِّنة، "وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة، قد خلَّفتموه وراء ظهوركم، رغبةً عنه تريدون"، رغبتم عن القرآن، وقد أراد الله تعالى لكم أن تعتبروه نوراً يضيء لكم، ويخرجكم من الظّلمات إلى النّور، "أم بغيره تحكمون؟ بئس للظّالمين بدلاً"، الّذي يبدّل بالقرآن غيره: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[9]، والقرآن هو أساس الإسلام في قواعده كلِّها، وفي أحكامه كلِّها، وفي شرائعه كلِّها.
"ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها"، يعني أنتم لم تلبثوا هذا الكلام، والمراد من النّفرة هنا ذهابها وعدم انقيادها، يقال نفرت الدابّة، أي صعُب الإمساك بها، وهذا يعني أنّكم لم تلبثوا إلا ريث أن يسكن هذا الهياج للدابّة، أو هذا الاستعصاء في قيادها، وذلك كناية عن الظروف التي تعيشها الأمّة، "ويسلس قيادها، ثم أخذتم تورون وقدتها"، أي لهبها، فتشعلون النّار، "وتهيجون جمرتها"، حتى تبرز وتتوقَّد، لتكون أشدّ إحراقاً...
"وتستجيبون لهتاف الشّيطان الغويّ، وإطفاء أنوار الدّين الجليّ، وإهماد سنن النبيّ الصفيّ، تسرّون حصواً في ارتغاء"، وطبعاً الإسرار هو ضدّ الإعلان، وحصواً في الارتغاء عبارة عن شرب المرق شيئاً بعد شيء، فالارتغاء هو شرب الرّغوة وهو زبد اللّبن، ويضرب لمن يعينك، ولكنه يجرّ النفع إلى نفسه، فهو يوحي إليك بأنّه يريد إعانتك، ولكنّه ـ في الحقيقة ـ يجرّ النفع إلى نفسه، "وتمشون لأهله وولده في الخمر والضرّاء"، الخَمر هو ما واراك من شجر وغيره، يعني أنكم تتحركون بشكلٍ سريٍّ أو مخادع، "ونصبر منكم على مثل حزِّ المدى"، مثل حزّ السَّكاكين، "ووخز السِّنان في الحشا".
فانظروا كيف كانت سيّدة نساء العالمين(ع) تعيش ألم الواقع في انحرافه عن الخطِّ المستقيم، باعتبار أنها تعيش الرسالة كلَّها في قلبها وفي عقلها وفي حياتها، وتعتبر الرِّسالة حياتها كلَّها.
وبدأت في الدّفاع عن حقّها، فقالت: "وأنتم تزعمون أن لا إرث لنا"، لما تنسبونه إليه أنّه قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة"[10]، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[11]. أفلا تعلمون، بلى تجلّى لكم كالشَّمس الضَّاحية أنّي ابنته. أيّها المسلمون، أأغلب على إرثيه"[12]...
ثم تنطلق الزّهراء(ع) في الاحتجاج الفقهيّ القرآنيّ على حقِّها في الإرث، وهذا ما سنتحدَّث عنه، إن شاء الله، في الأسبوع القادم.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 12 جمادى الآخرة 1419هـ/ الموافق: 3 - 10 - 1998م.
[1] [التوبة: 128].
[2] [التوبة: 128].
[3] الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص 107.
[4] [النحل: 125].
[5] [آل عمران: 103].
[6] [طه: 10].
[7] [المائدة : 64].
[8] [التوبة: 49].
[9] [آل عمران: 85].
[10] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 28، ص 104.
[11] [المائدة: 50].
[12] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 29، ص 226.