أسرار التَّشريعات الإسلاميَّة ومراميها في خطبة الزَّهراء(ع)

أسرار التَّشريعات الإسلاميَّة ومراميها في خطبة الزَّهراء(ع)

سبق الحديث حول المحاضرة القيِّمة الّتي ألقتها سيّدتنا فاطمة الزّهراء(ع) على جموع المهاجرين والأنصار، وهي المحاضرة الّتي اشتملت على فلسفة التَّوحيد وحركيَّة النبوَّة وأجواء القرآن، وتحدَّثت عن المسلمين في مسؤوليَّاتهم أمام الله سبحانه وتعالى وفي انفتاحهم على القرآن.

حركيَّة الأحكام الشّرعيّة

ثم انطلقت لتتحدَّث عن بعض التكاليف العقيديّة والشّرعيّة، وعن بعض الجوانب الّتي تعمّق للإنسان أخلاقيّته وروحيّته، وتجعل منه إنساناً صالحاً، بحيث يكون خيراً للإنسان كلّه وللحياة كلّها، وكأنها تريد فيما تحدَّثت عنه من أسرار هذه العناوين الإسلاميَّة، أن توحي إلى الناس بأنّ على الإنسان أن يأخذ الإسلام في العمق ولا يأخذه في السَّطح، بحيث إنَّ الالتزام بأية مفردة من مفرداته، يفرض الالتزام بالسرِّ الكامن في داخل هذه المفردة العقيديّة وتلك المفردة الشّرعيّة، بحيث يثقّف الإنسان نفسه وهو يلتزم هذه الالتزامات الإسلاميَّة بمعانيها وأهدافها وأسرارها، حتى يتحرّك في ساحة العمل من خلال ثقافة الإسلام في عمق معانيه وأسراره.

وبهذا ـ أيّها الأحبّة ـ يمكننا أن نخرج الجمود في ممارسات النّاس للإسلام عقيدةً أو عملاً، من دون أن يتفهّموا معانيه وأسراره، فهم يتحركون بالإسلام من الخارج ولا يتحركون به من الداخل، والله يريد لنا أن يكون إسلامنا إسلام العقل والقلب والرّوح والإحساس والشّعور، قبل أن يكون إسلام الممارسة العمليّة الخارجيّة، لأنَّ قصّة الإسلام تتحرّك في جذورها من الدّاخل، ثم يكون الخارج، لساناً كان أو عملاً، مظهراً للدّاخل. ومن هنا، أريد للإنسان المسلم أن يعيش إسلامه من الدّاخل، بأن يتثقّف بالإسلام في هذا الاتجاه، وهذا هو الّذي يلزمنا ـ أيّها الأحبّة ـ كمرشدين وموجِّهين ومبلِّغين، بأن نعطي النّاس الفكرة عن كلِّ حكمٍ يلتزمونه وعن كلِّ خطٍّ ينتهجونه.

وإنّنا هنا لا نتحدَّث عن علل الأحكام، حتى يقول قائل إنَّنا قد لا ندرك العلل الحقيقيّة الواقعيّة للأحكام، ولكنّنا نتحدَّث عن فوائدها وعن أسرارها وعن معانيها الّتي يمكن لنا أن نبلغها من أجل أن نعطي العمل حيويّةً وحركيّةً ومعنى.

فمع الزّهراء(ع) فيما روي من خطبتها الّتي ألقتها على كبار رجال المهاجرين والأنصار في مسجد رسول الله(ص)، وإذا عرفنا أنَّ كلامها كان يشبه كلام رسول الله(ص)، وأنّ منطقها كان يشبه منطق رسول الله(ص)، فإنَّنا نستوحي من ذلك أنَّ المسلمين عندما سمعوها كانوا كأنهم سمعوا رسول الله(ص)، ولهذا تقول الرّواية إنهم أجهشوا بالبكاء.

الإيمان تطهير من الشّرك

"فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشّرك"، لأنَّ الإيمان يمثّل توحيد الله الذي يوحي للإنسان بالنّظرة الصّافية إلى الكون كلّه، فالتّوحيد لا يمنحك الإحساس بوحدانيّة الخالق فحسب، ولكنّه يمنحك الإحساس بوحدانيّة السرّ الّذي يرتكز الكون كلّه عليه، سواء كان كوناً جامداً أو نامياً أو حيّاً، باعتبار أنَّ الله سبحانه وتعالى أودع في عمق الوجود الكونيّ الإنسانيّ والنباتيّ والحيوانيّ سرّاً، بحيث إنّ أصغر ذرّة تساوي في حركة نظامها الدّاخليّ أكبر مظهر من مظاهر الحجم الكبير، فلا فرق بين أصغر ذرّة في نظامها وبين الجبال وبين السّموات والأرض، فالله سبحانه وتعالى عندما خلق الكون، أقامه على قانون الزوجيّة في كلّ ظواهره ومواقعه.

ومن هنا، فإنَّ الإنسان عندما يؤمن بتوحيد الله، لا يعيش الازدواجيّة في التوجّه، ولا في العبادة، ولا في الطاعة، ولا في النظرة إلى الكون هنا وهناك، بل إنّه يعيش الوحدة في ربّه وفي ذاته وفي الوجود كلّه، ليشعر بأنّها تمثّل الانسجام بين الخالق والمخلوق، باعتبار أنها تتحرّك في خطّ واحد وتنطلق من قاعدة واحدة.

وهناك نقطة ثانية، وهي أنَّ الإيمان يمثّل الوسيلة الّتي يتطهّر بها الإنسان من الشّرك، باعتبار أنّ الشّرك يمثّل الفكر المتخلِّف الَّذي لا يرتكز على أساس، لأنَّ الّذين يدعونهم شركاء لله لا يملكون من معنى الألوهيّة شيئاً، فهم بين ما لا يسمع ولا يبصر ولا يدرك ولا يغني شيئاً، ومن قد يسمع ويبصر، ولكنّه لا يملك نفسه ولا يملك غيره.

لذلك، فإنَّ الشِّرك يمثّل وحل الفكر وقذارته، لأنّه يقذّر للإنسان تصوّره وروحه عندما يطلق روحه أمام شيء جامد، والرّوح لا يمكن أن تحتضن في مشاعرها وأحاسيسها وأفكارها شيئاً جامداً لا نبضة فيه من حياة، ولا مظهر فيه للقوَّة، ولا معنى للسرّ فيه، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}[1]، والمراد من النّجاسة هنا هو النّجاسة المعنويّة، باعتبار أنَّ فكر الشّرك هو فكر القذارة والنّجاسة، أمّا في المعنى، فهو فكر لا يتناسب مع التّوحيد الّذي أقام إبراهيم وإسماعيل قاعدته عليه، وهو الكعبة (البيت الحرام).

ولذلك، فالإنسان عندما يؤمن بالله الواحد، فإنَّ إيمانه لا ينقذه فقط من النّتائج السّلبيّة على مستوى حياته وحركتها، ولكنَّه ينقذ عقله وقلبه وروحه من الوحول الفكريّة والشّعوريّة الّتي يمثّلها الشّرك في الداخل.

الصّلاة تنزيه عن الكِبَر

"والصَّلاة تنزيهاً لكم عن الكبر". وهنا تتحدَّث فاطمة الزّهراء(ع) عن الصَّلاة من حيث إنّها وسيلة من وسائل إحساس الإنسان بحجم ذاته أمام ربّه، وإحساسه بحجم ذاته أمام النّاس الّذين يعيش معهم، وأمام الوجود الّذي يتحرّك فيه، فهو عندما ينفتح على الله في صلاته، فإنّه يبدأ صلاته بنداء (الله أكبر)، فيتحسَّس معنى الأكبر في ربّه الّذي لا يدانيه شيء، ولا يماثله في حجم الذَّات وفي حجم العلم والقدرة والرّحمة والحكمة وما إلى ذلك.

كما أنّه يمارس بشكلٍ طبيعيّ هذا التّواضع أمام الله، عندما يقف بين يديه في موقف إسلامٍ مطلقٍ له: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[2].

وعندما يركع ليتحدَّث عن مواقع عظمة الله في قوله: "سبحانه ربي العظيم وبحمده"، ليتصوّر نفسه في موقع الصّغار أمام عظمة الله، وعندما يمارس التّواضع أمامه والانسحاق في سجوده، ليتصوَّر الله على أنّه هو الأعلى في ذاته وفي صفاته وفي كلِّ ما يتمثّل فيه، وأنّه هو المصلّي السّاجد الأسفل أمام الله، فلا علوَّ له أمامه، فكما أنَّ الله هو الأعلى المطلق، فأنت الأسفل المطلق، وكما أنَّ الله هو العظيم المطلق، فأنت الضَّعيف الصَّغير المطلق.. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[3] في كلِّ شيء.

فإذا تمثَّل الإنسان ذلك في صلاته، من خلال كلمات الصَّلاة وأفعالها، عاش الإحساس بالتَّواضع إلى حدّ الانسحاق أمام الله، وعندما يعيش في صلاته إلى جانب كلّ المصلّين، ويقول "الحمد لله ربّ العالمين"، يشعر بأنّ الله وحده هو ربّ العالمين جميعاً، وبأنَّ العالمين متساوون أمام الله، فليس هناك ربٌّ لعالمٍ دون عالم، سواء كان عالماً جامداً كالشّمس والكواكب والقمر، أو ما إلى ذلك مما ادّعاه النّاس، ومما جعلوه في مستوى الإله، كما أنّه ليس هناك بشر في مستوى الألوهة، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}[4].. وكما ورد في نداء المسلمين لأهل الكتاب: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ}[5].

التّواضع أمام الله والنّاس

وقد يتميّز إنسان عن إنسانٍ بدرجةٍ ما، كما يتميَّز الأنبياء والأئمّة والأولياء، على أساس: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}[6]، وما إلى ذلك من الأسرار الَّتي قد يودعها الله، ولكن يبقى الجميع في موقع العبوديّة، ويتساوى النّاس في أنهم عبيد لله، وغاية الأمر، أنَّ هناك من هو أكثر معرفةً به، وأنّ هناك من هو أكثر طاعةً له، يتساوون في العبوديّة، وإن اختلفوا في درجاتها.. ولذلك، كلَّما انطلقت في صلاتك لتتحدَّث عن الله ربِّ العالمين، فإنك تشعر بالوحدة مع الإنسان كلّه، وإذا أطلقت كلمة العالمين على العوالم كلِّها، فأنت تشعر بأنَّك مع العوالم كلِّها، أنّك مخلوق لله، ومربوبٌ له، وأنّه ربّك، وبذلك تتواضع، لأنَّك تعرف أنَّ حجمك مهما كبر، لا يرقى إلى أن تكون ربّاً لأيّ إنسان، أو ربّاً لأية ظاهرة كونية.

وهذا ما استوحاه الإمام زين العابدين(ع)، الّذي عاش مع الله حياته كلَّها في سرّه وعلانيته، عاشه في كلماته وابتهالاته ومواقعه كلِّها، واستطاع أن يترك لنا ثروةً توحيديّةً إسلاميّةً أخلاقيّةً روحيّةً، هي القمّة في الثّروات الروحيَّة فيما تركه لنا الإمام زين العابدين(ع) من "الصّحيفة السجادية" وغيرها من أدعيته، حتى إنّه أُطلِقَ عليها أنّها زبور آل محمَّد(ص)، وكان عندما يدعو الله في الصّباح، وعندما يقبل المساء، يقول: "أصبحنا ـ أو أمسينا ـ وأصبحت ـ أو أمست ـ الأشياء كلّها بجملتها لك؛ سماؤها وأرضها، وما بثثت في كلّ واحدٍ منهما، ساكنه ومتحرّكه، ومقيمه وشاخصه، وما علا في الهواء، وما كنَّ تحت الثّرى. أصبحنا ـ كلّنا؛ كلّ هذه العوالم وكلّ هذه الظّواهر، "في قبضتك، يحوينا ملكك وسلطانك، وتضمّنا مشيّتك، ونتصرَّف عن أمرك، ونتقلَّب في تدبيرك، ليس لنا من الأمر إلا ما قضيت، ولا من الخير إلا ما أعطيت"[7]. وهكذا يتمثَّل الإنسان في صلاته كيف يكون متواضعاً التّواضع كلّه أمام ربّه، ومن خلال تواضعه لربّه، يتواضع للنّاس كلّهم، لأنّه يشعر بأنهم معه مربوبون لله.

ولذلك ـ أيّها الأحبّة ـ من صلّى دهره وبقي في قلبه شيء من الكبر، ومن صلّى عمره وبقي في حياته حركة كبر، فإنّ صلاته لا قيمة لها: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلا بعداً"[8]، لأنّ {الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}[9]، وفي الحديث عن عليّ(ع): "كم من صائمٍ ليس له من صيامه إلا الظّمأ، وكم من قائمٍ ليس له من قيامه إلا السّهر والعناء، حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم"[10].

لذلك ـ أيّها الأحبَّة ـ فإنَّ الإنسان عندما يصلّي، لا بدَّ من أن يعيش في حالة طوارئ أخلاقيّة وروحيّة، بحيث تغيّر له كلّ ما في الدّاخل من انحرافات، لأنَّ وقوفك أمام الله، يمثِّل كلَّ هذا الفيض الرّوحيّ الّذي يفيض على قلبك وعلى روحك، ولأنَّ عبادتك لله تعلّمك كيف تكون متواضعاً.

وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ(ع) في (دعاء كميل): "وفي جميع الأحوال متواضعاً"[11]، لاحظوا كيف يطلق بعض التّعابير: "في جميع الأحوال"، يعني أن لا تفقد التّواضع في نفسك وفي بيتك وفي مواقع عملك وفي مواقع نشاطك، كُن المتواضع في الأحوال كلِّها.

ومن الطّبيعيّ، فإنَّ هذا الأمر يحتاج إلى تربية، لأنَّ الكبر هو الّذي أخرج إبليس من الجنّة، وهو الّذي يسقط الإنسان من عليائه، ولأنَّ الكبر رداء الله، فمن ارتدى رداء الله، أسقطه الله سبحانه وتعالى.

ولذلك، كان الصَّوم في السَّنة مرّة، والحجّ في العمر مرّة، لكنّ الصّلاة فرضت في اليوم خمس مرّات واجبة، ولو فرضنا أنّنا جئنا بالنّوافل؛ نوافل اللّيل والنّهار، وجئنا بالمستحبّات، فحينئذٍ يكون الإنسان في حالة طوارئ صلاتيَّة.

مدرسة تربويَّة ثقافيَّة

وفي الحديث: "الصّلاة خيرُ موضوع، فمن شاء استقلّ، ومن شاء استكثر"[12]. لماذا؟ لأنَّ دور الصّلاة ـ إضافةً إلى كونها عبادة ـ تثقيفيّ تربويّ، فالصَّلاة مدرسة تريد أن تطوّق الإنسان من جميع الجهات، سواء أراد أن يفرِّق في الصّلاة، كما على رأي بعض المذاهب، لأنّ التفريق لديهم إلزامي، أو على رأي الشّيعة بأنّ التّفريق هو الأفضل، وإن صار الالتزام بالجمع، فإنّك عندما تستفيق من النّوم، يقول الله لك: عليك أن تقابلني أوّلاً، قف أمامي وقدّم حساب يومك، فتقف وتصلّي قربةً إلى الله تعالى، ومعنى ذلك أن تقول لله إنّي أريد أن أصلّي وأكون قريباً منك بعقلي وبقلبي وبروحي وبعملي، فأنت تقرأ صلاتك وتنطلق إلى الحياة من منطلق الصّلاة، بعد أن تكون قد أعطيت الله عهداً على أن يكون يومك يوم التقرّب إلى الله، لأنّك أعلنت له أنّك تريد أن تتقرّب إليه من خلال نيّة القربة، وأعلنت له أنّه الأكبر، وأنّه ربّ العالمين، وأنّه العظيم، وأنّه الأعلى، فالمفروض أن يسير يومك في هذا الطّريق.

ثم بعد ذلك ذهبت واشتغلت، وانطلقت كما في المدرسة، حيث يلعب الطلاب في الملعب وينسون الدّرس، وحين يدقّ الجرس، فإنّه يشعرهم بأنهم لا يزالون في المدرسة، وهكذا يأتي الأذان (الله أكبر)، كيما يتخفَّف الإنسان من أوزاره بعدما يذنب أو يغفل عن الله، حيث يرجع من جديد ليقول: أصلّي صلاة الظّهر قربةً إلى الله تعالى. وما بين الظّهر والعصر، وما بين العصر والمغرب، وبين المغرب والعشاء، وإذا امتدّت القربة إلى صلاة اللّيل، فإنّ الله يريد أن يحيط الإنسان بحزامٍ روحيّ، فما إن يهرب ويأخذه الشّيطان، حتى تأتي الصّلاة وترجعه إلى الجادة، وهذا هو دور الصّلاة.

لذلك، فإنَّ الصَّلاة تمثّل العمل العباديّ الّذي يلاحق الإنسان بأن يربطه بالله، بحيث يحسّ بوجوده سبحانه وتعالى كما لو كان أمامه، وأن يربطه بالنّاس على نحوٍ يتحمَّل مسؤوليَّته إزاءهم في ذلك كلِّه، فكلَّما أراد الشّيطان أن يبعدك عن ربّك، جاءت الصَّلاة لتقرّبك إليه، ولذلك، فإنّ مسألة التربية هي مسألة مجاهدة النّفس ومسألة التّوعية، وهي من المسائل اليوميّة، بل تدور على مدار السّاعة، ولذا أريد لها أن تعالج بالعبادة اليوميّة التي تحيط بالإنسان في كلّ يومه، ليلاً ونهاراً، حتى يعيش الحزام، فلا يفلت، لأنّه يعيش حزاماً روحيّاً يستطيع أن يجعله في دائرة الله سبحانه وتعالى.

وعلى ذلك، فقد شرِّعت "الصّلاة تنزيهاً عن الكبر"، لأنها هي الّتي تصنع روح التّواضع في العقل والتّواضع العمليّ مع الله، ومن خلال تواضعك لله وشعورك بعبوديّتك بأنّك تساوي النّاس بالعبوديّة، لا بدَّ من أن تتواضع للنّاس في جميع ذلك.

نتائج الزكاة العمليّة

"والزكاة تزكية للنّفس ونماء في الرّزق". هنا عالجت الزّهراء(ع) الزكاة من خلال نتائجها الرّوحيّة والماديّة، لأنّ نتائج الزكاة الاجتماعيّة أمرٌ لا يحتاج إلى شرح وبيان، باعتبار أنّه لا إشكال في أنّ الزكاة تمثّل حلاً احتياطيّاً لمشاكل الإنسان في حاجاته، فالزّهراء(ع) لم تتحدَّث عنها من خلال نتائجها الاجتماعيّة، لأنّ ذلك أمرٌ واضح بيّن، باعتبار أنّه يمثّل الإنفاق، بل أرادت أن تتحدّث عن الزكاة في نتائجها الروحية لدى الإنسان المزكّي، ونتائجها المادية في حياته، على أساس أنّ المطلوب تشجيع الإنسان على الزكاة من خلال بيان النتائج العمليّة التي تعود إليه بالنفع.

ولذلك، تحدَّثت الزهراء(ع) عن هذا الجانب، كما تحدَّث القرآن عن الزكاة في جانبيها الروحي والمادّيّ في الشخص المزكّي بما يعطيه الله في ذلك، كما في الآية الكريمة التي تقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}[13]، فالله تعالى أراد للنّبيّ(ص) أن يبيّن للنّاس الذين يأخذ منهم الزكاة، أنها لا تمثّل مجرّد حركيّة ماديّة في العطاء، ولكنّها تمثل ارتفاعاً في روحيّة العطاء، بحيث يشعر الإنسان بطهارة نفسه عندما تنفتح على إيثار الإنسان الآخر المحروم، وعلى الانفتاح على حاجاته وآلامه، قربةً إلى الله، فتحقِّق له نوعاً من تزكية النّفس ومن طهارتها.

وهكذا كانت الزّهراء(ع) في كلامها تستوحي القرآن، كما في الفقرة الثانية: "ونماء في الرّزق"، {وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}[14]، باعتبار أنَّك في الزكاة عندما تعطي قرشاً، فإنَّ الله يضاعف لك ذلك أضعافاً مضاعفة، والله يضاعف الأشياء بدرجات متفاوتة: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}[15]، {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ}[16].

الصَّوم تثبيتٌ للإخلاص

"والصِّيام تثبيتاً للإخلاص"، فأن تصوم، يعني أن تعمِّق إخلاصك لربِّك، وأن تعيش في داخل نفسك روح التّقوى، من خلال ما يؤكِّده الصَّوم لك من إرادتك المنفتحة على الله، وهناك فرق بين شخصٍ يقوم بأعمالٍ تقوّي إرادته بالطّريقة الماديّة، وشخصٍ يقوّي إرادته بين يدي الله...

هنا، أنت تصوم عن طعامك وشرابك وشهواتك قربةً إلى الله تعالى، وتمارس ذلك في رقابة الله الّتي لا تقاربها رقابة النّاس، وفي الصَّلاة يراك النّاس وأنت تصلّي، أمّا في الصّوم، فالعملية سريّة، ولذا جاء في الحديث: "الصّوم لي وأنا أجزي عليه"[17]، ذلك أنَّ الصَّوم لا يتحقّق الرياء به إلا إذا نطق به الإنسان، لماذا؟ لأنَّ الصَّوم هو حركة حرمان الجسد من خلال الحالة الروحيّة الموجودة في الداخل.

لذلك، نلاحظ ـ أيّها الأحبّة ـ أنَّ الله يتحدَّث عن الصَّوم من خلال أنّه وسيلة التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[18]، ومن الطّبيعي، فإنَّ التّقوى تحتاج إلى إرادة، فتقوى الفكر ـ مثلاً ـ تحتاج إلى إرادة، فعندما يغريك الشّيطان، بأن تحرّك فكرك في التّخطيط للشّرّ، لأنّ هناك منافع آنيّة ودنيويّة في التّخطيط للشر، فإنّك تحتاج ـ عندئذٍ ـ إلى إرادة إيمانيّة قويّة تمنعك من ذلك.

وكذلك التَّقوى في العاطفة، عندما يجذبك الشَّيطان من أجل أن تتحرَّك في عاطفتك لتحبَّ من أبغضه الله، أو لتبغض من أحبَّه الله، نتيجة بعض العوامل وبعض الأوضاع، فتحتاج إلى إرادة، حتى تدخل مشاعرك وأحاسيسك من أجل أن تجعلها تتحرَّك في الخطِّ المستقيم.

وهكذا بالنّسبة إلى حركة الإنسان في الحياة، لذلك، فإنَّ دور الصَّوم مثل دور الصَّلاة، ولكن في جانبٍ آخر، وهو أنّه يحقِّق للإنسان الإرادة النّابضة بالروح، والمرتكزة على الانفتاح على الله، فكأنّك تقول لربِّك في صومك: يا ربّ، إنّني أصوم من أجل أن أحقِّق لنفسي في هذا الصَّوم الصّغير القوّة على الصّوم الكبير، لأنَّ الله سبحانه وتعالى فرض علينا في شهر رمضان أن نصوم عن بعض ما اعتدناه في النّهار، وفرض علينا في العمل كلِّه أن نصوم عن المحرَّمات كلِّها.

ولذلك، جعل الله هذه الثّلاثين يوماً فترةً تدريبيّةً في حضرته، أي أنّ الله يراقبك وأنت تتدرَّب، والّذي يتدرَّب أمام الله، وبخاصّة في الجانب الدَّاخليّ، فمن الطّبيعيّ أنَّ تدريبه يجب أن يكون مركَّزاً، ولا بدَّ من أن يشعر بالنّجاح فيه، ولا سيَّما إذا عرف أنَّ دور الصَّوم مستقبليّ، وليس دوراً يتحرّك في الحاضر فقط.

وهذا ما أرادت الزَّهراء(ع) في كلامها أن تنبِّه إليه: "والصّيام تثبيتاً للإخلاص"، لأنه يصفِّي روح الإنسان أمام الله، بحيث تنطلق التّقوى من عمقه، فلا يكون فيه شيء لغير الله سبحانه وتعالى.

الحجّ ساحة للعبادة

"والحجّ تشييداً للدِّين"[19]، لأنّ دور الحجّ هو أن يجمع النّاس على طاعة الله، وحول الكعبة، وفي تلك المناسك، {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}[20].

لذلك، كلّما انطلق الحجّ في معناه المادّي أكثر، استطاع أن يعطي القوّة في الدّين أكثر، من خلال إشعار المسلمين بأنهم موحِّدون في عبادتهم كما هم موحِّدون في عقيدتهم، ومن أجل أن يتوحَّدوا في حركتهم في الحياة، وفي إحساسهم بالحاجة إلى الدَّعوة إلى الله.

كما أنَّ من أسرار الحجّ الدَّعوة إلى الله، وتوجيه المسلمين الّذين قد يفتقدون في هذه المنطقة أو في تلك، الموجِّه والمرشد والمعلِّم، لذلك فإنَّ الحجّ كما يريده الله سبحانه وتعالى، هو ساحة للعبادة وللعلم وللتّعاون وللتّشاور، وبذلك يمكن أن يشيَّد الدّين على الأساس الثّابت والمتين.

هذه هي بعض فقرات خطبة الزّهراء(ع)، وهي، كما رأيتم، تتَّصل بالجانب العباديّ، أمّا الجوانب الأخرى، فسنتحدَّث عنها، إن شاء الله، في الأسبوع القادم.

ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 28 جمادى الأولى 1419هـ/ الموافق 19 - 9 - 1998م.


[1]  [التوبة: 28].

[2]  [الأنعام: 162، 163].

[3]   [فاطر: 15].

[4]  [الأعراف: 194].

[5]  [آل عمران: 64].

[6]  [الحجرات: 13].

[7]  الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين(ع)، دعاؤه عند الصّباح والمساء.

[8]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 79، ص 198.

[9]  [العنكبوت: 45].

[10]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 4، ص 36.

[11]  مصباح المتجهّد، الشيخ الطوسي، ص 845.

[12]  بحار الأنوار، ج 79، ص 309.

[13]  [التوبة: 103].

[14]  [الروم: 39].

[15]  [البقرة: 245].

[16]  [البقرة: 261].

[17]  وسائل الشّيعة، الحرّ العاملي، ج 7، ص 290.

[18]  [البقرة: 183].

[19]  بحار الأنوار، ج 29، ص 223.

[20]  [الحج: 28].

سبق الحديث حول المحاضرة القيِّمة الّتي ألقتها سيّدتنا فاطمة الزّهراء(ع) على جموع المهاجرين والأنصار، وهي المحاضرة الّتي اشتملت على فلسفة التَّوحيد وحركيَّة النبوَّة وأجواء القرآن، وتحدَّثت عن المسلمين في مسؤوليَّاتهم أمام الله سبحانه وتعالى وفي انفتاحهم على القرآن.

حركيَّة الأحكام الشّرعيّة

ثم انطلقت لتتحدَّث عن بعض التكاليف العقيديّة والشّرعيّة، وعن بعض الجوانب الّتي تعمّق للإنسان أخلاقيّته وروحيّته، وتجعل منه إنساناً صالحاً، بحيث يكون خيراً للإنسان كلّه وللحياة كلّها، وكأنها تريد فيما تحدَّثت عنه من أسرار هذه العناوين الإسلاميَّة، أن توحي إلى الناس بأنّ على الإنسان أن يأخذ الإسلام في العمق ولا يأخذه في السَّطح، بحيث إنَّ الالتزام بأية مفردة من مفرداته، يفرض الالتزام بالسرِّ الكامن في داخل هذه المفردة العقيديّة وتلك المفردة الشّرعيّة، بحيث يثقّف الإنسان نفسه وهو يلتزم هذه الالتزامات الإسلاميَّة بمعانيها وأهدافها وأسرارها، حتى يتحرّك في ساحة العمل من خلال ثقافة الإسلام في عمق معانيه وأسراره.

وبهذا ـ أيّها الأحبّة ـ يمكننا أن نخرج الجمود في ممارسات النّاس للإسلام عقيدةً أو عملاً، من دون أن يتفهّموا معانيه وأسراره، فهم يتحركون بالإسلام من الخارج ولا يتحركون به من الداخل، والله يريد لنا أن يكون إسلامنا إسلام العقل والقلب والرّوح والإحساس والشّعور، قبل أن يكون إسلام الممارسة العمليّة الخارجيّة، لأنَّ قصّة الإسلام تتحرّك في جذورها من الدّاخل، ثم يكون الخارج، لساناً كان أو عملاً، مظهراً للدّاخل. ومن هنا، أريد للإنسان المسلم أن يعيش إسلامه من الدّاخل، بأن يتثقّف بالإسلام في هذا الاتجاه، وهذا هو الّذي يلزمنا ـ أيّها الأحبّة ـ كمرشدين وموجِّهين ومبلِّغين، بأن نعطي النّاس الفكرة عن كلِّ حكمٍ يلتزمونه وعن كلِّ خطٍّ ينتهجونه.

وإنّنا هنا لا نتحدَّث عن علل الأحكام، حتى يقول قائل إنَّنا قد لا ندرك العلل الحقيقيّة الواقعيّة للأحكام، ولكنّنا نتحدَّث عن فوائدها وعن أسرارها وعن معانيها الّتي يمكن لنا أن نبلغها من أجل أن نعطي العمل حيويّةً وحركيّةً ومعنى.

فمع الزّهراء(ع) فيما روي من خطبتها الّتي ألقتها على كبار رجال المهاجرين والأنصار في مسجد رسول الله(ص)، وإذا عرفنا أنَّ كلامها كان يشبه كلام رسول الله(ص)، وأنّ منطقها كان يشبه منطق رسول الله(ص)، فإنَّنا نستوحي من ذلك أنَّ المسلمين عندما سمعوها كانوا كأنهم سمعوا رسول الله(ص)، ولهذا تقول الرّواية إنهم أجهشوا بالبكاء.

الإيمان تطهير من الشّرك

"فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشّرك"، لأنَّ الإيمان يمثّل توحيد الله الذي يوحي للإنسان بالنّظرة الصّافية إلى الكون كلّه، فالتّوحيد لا يمنحك الإحساس بوحدانيّة الخالق فحسب، ولكنّه يمنحك الإحساس بوحدانيّة السرّ الّذي يرتكز الكون كلّه عليه، سواء كان كوناً جامداً أو نامياً أو حيّاً، باعتبار أنَّ الله سبحانه وتعالى أودع في عمق الوجود الكونيّ الإنسانيّ والنباتيّ والحيوانيّ سرّاً، بحيث إنّ أصغر ذرّة تساوي في حركة نظامها الدّاخليّ أكبر مظهر من مظاهر الحجم الكبير، فلا فرق بين أصغر ذرّة في نظامها وبين الجبال وبين السّموات والأرض، فالله سبحانه وتعالى عندما خلق الكون، أقامه على قانون الزوجيّة في كلّ ظواهره ومواقعه.

ومن هنا، فإنَّ الإنسان عندما يؤمن بتوحيد الله، لا يعيش الازدواجيّة في التوجّه، ولا في العبادة، ولا في الطاعة، ولا في النظرة إلى الكون هنا وهناك، بل إنّه يعيش الوحدة في ربّه وفي ذاته وفي الوجود كلّه، ليشعر بأنّها تمثّل الانسجام بين الخالق والمخلوق، باعتبار أنها تتحرّك في خطّ واحد وتنطلق من قاعدة واحدة.

وهناك نقطة ثانية، وهي أنَّ الإيمان يمثّل الوسيلة الّتي يتطهّر بها الإنسان من الشّرك، باعتبار أنّ الشّرك يمثّل الفكر المتخلِّف الَّذي لا يرتكز على أساس، لأنَّ الّذين يدعونهم شركاء لله لا يملكون من معنى الألوهيّة شيئاً، فهم بين ما لا يسمع ولا يبصر ولا يدرك ولا يغني شيئاً، ومن قد يسمع ويبصر، ولكنّه لا يملك نفسه ولا يملك غيره.

لذلك، فإنَّ الشِّرك يمثّل وحل الفكر وقذارته، لأنّه يقذّر للإنسان تصوّره وروحه عندما يطلق روحه أمام شيء جامد، والرّوح لا يمكن أن تحتضن في مشاعرها وأحاسيسها وأفكارها شيئاً جامداً لا نبضة فيه من حياة، ولا مظهر فيه للقوَّة، ولا معنى للسرّ فيه، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}[1]، والمراد من النّجاسة هنا هو النّجاسة المعنويّة، باعتبار أنَّ فكر الشّرك هو فكر القذارة والنّجاسة، أمّا في المعنى، فهو فكر لا يتناسب مع التّوحيد الّذي أقام إبراهيم وإسماعيل قاعدته عليه، وهو الكعبة (البيت الحرام).

ولذلك، فالإنسان عندما يؤمن بالله الواحد، فإنَّ إيمانه لا ينقذه فقط من النّتائج السّلبيّة على مستوى حياته وحركتها، ولكنَّه ينقذ عقله وقلبه وروحه من الوحول الفكريّة والشّعوريّة الّتي يمثّلها الشّرك في الداخل.

الصّلاة تنزيه عن الكِبَر

"والصَّلاة تنزيهاً لكم عن الكبر". وهنا تتحدَّث فاطمة الزّهراء(ع) عن الصَّلاة من حيث إنّها وسيلة من وسائل إحساس الإنسان بحجم ذاته أمام ربّه، وإحساسه بحجم ذاته أمام النّاس الّذين يعيش معهم، وأمام الوجود الّذي يتحرّك فيه، فهو عندما ينفتح على الله في صلاته، فإنّه يبدأ صلاته بنداء (الله أكبر)، فيتحسَّس معنى الأكبر في ربّه الّذي لا يدانيه شيء، ولا يماثله في حجم الذَّات وفي حجم العلم والقدرة والرّحمة والحكمة وما إلى ذلك.

كما أنّه يمارس بشكلٍ طبيعيّ هذا التّواضع أمام الله، عندما يقف بين يديه في موقف إسلامٍ مطلقٍ له: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[2].

وعندما يركع ليتحدَّث عن مواقع عظمة الله في قوله: "سبحانه ربي العظيم وبحمده"، ليتصوّر نفسه في موقع الصّغار أمام عظمة الله، وعندما يمارس التّواضع أمامه والانسحاق في سجوده، ليتصوَّر الله على أنّه هو الأعلى في ذاته وفي صفاته وفي كلِّ ما يتمثّل فيه، وأنّه هو المصلّي السّاجد الأسفل أمام الله، فلا علوَّ له أمامه، فكما أنَّ الله هو الأعلى المطلق، فأنت الأسفل المطلق، وكما أنَّ الله هو العظيم المطلق، فأنت الضَّعيف الصَّغير المطلق.. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[3] في كلِّ شيء.

فإذا تمثَّل الإنسان ذلك في صلاته، من خلال كلمات الصَّلاة وأفعالها، عاش الإحساس بالتَّواضع إلى حدّ الانسحاق أمام الله، وعندما يعيش في صلاته إلى جانب كلّ المصلّين، ويقول "الحمد لله ربّ العالمين"، يشعر بأنّ الله وحده هو ربّ العالمين جميعاً، وبأنَّ العالمين متساوون أمام الله، فليس هناك ربٌّ لعالمٍ دون عالم، سواء كان عالماً جامداً كالشّمس والكواكب والقمر، أو ما إلى ذلك مما ادّعاه النّاس، ومما جعلوه في مستوى الإله، كما أنّه ليس هناك بشر في مستوى الألوهة، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}[4].. وكما ورد في نداء المسلمين لأهل الكتاب: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ}[5].

التّواضع أمام الله والنّاس

وقد يتميّز إنسان عن إنسانٍ بدرجةٍ ما، كما يتميَّز الأنبياء والأئمّة والأولياء، على أساس: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}[6]، وما إلى ذلك من الأسرار الَّتي قد يودعها الله، ولكن يبقى الجميع في موقع العبوديّة، ويتساوى النّاس في أنهم عبيد لله، وغاية الأمر، أنَّ هناك من هو أكثر معرفةً به، وأنّ هناك من هو أكثر طاعةً له، يتساوون في العبوديّة، وإن اختلفوا في درجاتها.. ولذلك، كلَّما انطلقت في صلاتك لتتحدَّث عن الله ربِّ العالمين، فإنك تشعر بالوحدة مع الإنسان كلّه، وإذا أطلقت كلمة العالمين على العوالم كلِّها، فأنت تشعر بأنَّك مع العوالم كلِّها، أنّك مخلوق لله، ومربوبٌ له، وأنّه ربّك، وبذلك تتواضع، لأنَّك تعرف أنَّ حجمك مهما كبر، لا يرقى إلى أن تكون ربّاً لأيّ إنسان، أو ربّاً لأية ظاهرة كونية.

وهذا ما استوحاه الإمام زين العابدين(ع)، الّذي عاش مع الله حياته كلَّها في سرّه وعلانيته، عاشه في كلماته وابتهالاته ومواقعه كلِّها، واستطاع أن يترك لنا ثروةً توحيديّةً إسلاميّةً أخلاقيّةً روحيّةً، هي القمّة في الثّروات الروحيَّة فيما تركه لنا الإمام زين العابدين(ع) من "الصّحيفة السجادية" وغيرها من أدعيته، حتى إنّه أُطلِقَ عليها أنّها زبور آل محمَّد(ص)، وكان عندما يدعو الله في الصّباح، وعندما يقبل المساء، يقول: "أصبحنا ـ أو أمسينا ـ وأصبحت ـ أو أمست ـ الأشياء كلّها بجملتها لك؛ سماؤها وأرضها، وما بثثت في كلّ واحدٍ منهما، ساكنه ومتحرّكه، ومقيمه وشاخصه، وما علا في الهواء، وما كنَّ تحت الثّرى. أصبحنا ـ كلّنا؛ كلّ هذه العوالم وكلّ هذه الظّواهر، "في قبضتك، يحوينا ملكك وسلطانك، وتضمّنا مشيّتك، ونتصرَّف عن أمرك، ونتقلَّب في تدبيرك، ليس لنا من الأمر إلا ما قضيت، ولا من الخير إلا ما أعطيت"[7]. وهكذا يتمثَّل الإنسان في صلاته كيف يكون متواضعاً التّواضع كلّه أمام ربّه، ومن خلال تواضعه لربّه، يتواضع للنّاس كلّهم، لأنّه يشعر بأنهم معه مربوبون لله.

ولذلك ـ أيّها الأحبّة ـ من صلّى دهره وبقي في قلبه شيء من الكبر، ومن صلّى عمره وبقي في حياته حركة كبر، فإنّ صلاته لا قيمة لها: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلا بعداً"[8]، لأنّ {الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}[9]، وفي الحديث عن عليّ(ع): "كم من صائمٍ ليس له من صيامه إلا الظّمأ، وكم من قائمٍ ليس له من قيامه إلا السّهر والعناء، حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم"[10].

لذلك ـ أيّها الأحبَّة ـ فإنَّ الإنسان عندما يصلّي، لا بدَّ من أن يعيش في حالة طوارئ أخلاقيّة وروحيّة، بحيث تغيّر له كلّ ما في الدّاخل من انحرافات، لأنَّ وقوفك أمام الله، يمثِّل كلَّ هذا الفيض الرّوحيّ الّذي يفيض على قلبك وعلى روحك، ولأنَّ عبادتك لله تعلّمك كيف تكون متواضعاً.

وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ(ع) في (دعاء كميل): "وفي جميع الأحوال متواضعاً"[11]، لاحظوا كيف يطلق بعض التّعابير: "في جميع الأحوال"، يعني أن لا تفقد التّواضع في نفسك وفي بيتك وفي مواقع عملك وفي مواقع نشاطك، كُن المتواضع في الأحوال كلِّها.

ومن الطّبيعيّ، فإنَّ هذا الأمر يحتاج إلى تربية، لأنَّ الكبر هو الّذي أخرج إبليس من الجنّة، وهو الّذي يسقط الإنسان من عليائه، ولأنَّ الكبر رداء الله، فمن ارتدى رداء الله، أسقطه الله سبحانه وتعالى.

ولذلك، كان الصَّوم في السَّنة مرّة، والحجّ في العمر مرّة، لكنّ الصّلاة فرضت في اليوم خمس مرّات واجبة، ولو فرضنا أنّنا جئنا بالنّوافل؛ نوافل اللّيل والنّهار، وجئنا بالمستحبّات، فحينئذٍ يكون الإنسان في حالة طوارئ صلاتيَّة.

مدرسة تربويَّة ثقافيَّة

وفي الحديث: "الصّلاة خيرُ موضوع، فمن شاء استقلّ، ومن شاء استكثر"[12]. لماذا؟ لأنَّ دور الصّلاة ـ إضافةً إلى كونها عبادة ـ تثقيفيّ تربويّ، فالصَّلاة مدرسة تريد أن تطوّق الإنسان من جميع الجهات، سواء أراد أن يفرِّق في الصّلاة، كما على رأي بعض المذاهب، لأنّ التفريق لديهم إلزامي، أو على رأي الشّيعة بأنّ التّفريق هو الأفضل، وإن صار الالتزام بالجمع، فإنّك عندما تستفيق من النّوم، يقول الله لك: عليك أن تقابلني أوّلاً، قف أمامي وقدّم حساب يومك، فتقف وتصلّي قربةً إلى الله تعالى، ومعنى ذلك أن تقول لله إنّي أريد أن أصلّي وأكون قريباً منك بعقلي وبقلبي وبروحي وبعملي، فأنت تقرأ صلاتك وتنطلق إلى الحياة من منطلق الصّلاة، بعد أن تكون قد أعطيت الله عهداً على أن يكون يومك يوم التقرّب إلى الله، لأنّك أعلنت له أنّك تريد أن تتقرّب إليه من خلال نيّة القربة، وأعلنت له أنّه الأكبر، وأنّه ربّ العالمين، وأنّه العظيم، وأنّه الأعلى، فالمفروض أن يسير يومك في هذا الطّريق.

ثم بعد ذلك ذهبت واشتغلت، وانطلقت كما في المدرسة، حيث يلعب الطلاب في الملعب وينسون الدّرس، وحين يدقّ الجرس، فإنّه يشعرهم بأنهم لا يزالون في المدرسة، وهكذا يأتي الأذان (الله أكبر)، كيما يتخفَّف الإنسان من أوزاره بعدما يذنب أو يغفل عن الله، حيث يرجع من جديد ليقول: أصلّي صلاة الظّهر قربةً إلى الله تعالى. وما بين الظّهر والعصر، وما بين العصر والمغرب، وبين المغرب والعشاء، وإذا امتدّت القربة إلى صلاة اللّيل، فإنّ الله يريد أن يحيط الإنسان بحزامٍ روحيّ، فما إن يهرب ويأخذه الشّيطان، حتى تأتي الصّلاة وترجعه إلى الجادة، وهذا هو دور الصّلاة.

لذلك، فإنَّ الصَّلاة تمثّل العمل العباديّ الّذي يلاحق الإنسان بأن يربطه بالله، بحيث يحسّ بوجوده سبحانه وتعالى كما لو كان أمامه، وأن يربطه بالنّاس على نحوٍ يتحمَّل مسؤوليَّته إزاءهم في ذلك كلِّه، فكلَّما أراد الشّيطان أن يبعدك عن ربّك، جاءت الصَّلاة لتقرّبك إليه، ولذلك، فإنّ مسألة التربية هي مسألة مجاهدة النّفس ومسألة التّوعية، وهي من المسائل اليوميّة، بل تدور على مدار السّاعة، ولذا أريد لها أن تعالج بالعبادة اليوميّة التي تحيط بالإنسان في كلّ يومه، ليلاً ونهاراً، حتى يعيش الحزام، فلا يفلت، لأنّه يعيش حزاماً روحيّاً يستطيع أن يجعله في دائرة الله سبحانه وتعالى.

وعلى ذلك، فقد شرِّعت "الصّلاة تنزيهاً عن الكبر"، لأنها هي الّتي تصنع روح التّواضع في العقل والتّواضع العمليّ مع الله، ومن خلال تواضعك لله وشعورك بعبوديّتك بأنّك تساوي النّاس بالعبوديّة، لا بدَّ من أن تتواضع للنّاس في جميع ذلك.

نتائج الزكاة العمليّة

"والزكاة تزكية للنّفس ونماء في الرّزق". هنا عالجت الزّهراء(ع) الزكاة من خلال نتائجها الرّوحيّة والماديّة، لأنّ نتائج الزكاة الاجتماعيّة أمرٌ لا يحتاج إلى شرح وبيان، باعتبار أنّه لا إشكال في أنّ الزكاة تمثّل حلاً احتياطيّاً لمشاكل الإنسان في حاجاته، فالزّهراء(ع) لم تتحدَّث عنها من خلال نتائجها الاجتماعيّة، لأنّ ذلك أمرٌ واضح بيّن، باعتبار أنّه يمثّل الإنفاق، بل أرادت أن تتحدّث عن الزكاة في نتائجها الروحية لدى الإنسان المزكّي، ونتائجها المادية في حياته، على أساس أنّ المطلوب تشجيع الإنسان على الزكاة من خلال بيان النتائج العمليّة التي تعود إليه بالنفع.

ولذلك، تحدَّثت الزهراء(ع) عن هذا الجانب، كما تحدَّث القرآن عن الزكاة في جانبيها الروحي والمادّيّ في الشخص المزكّي بما يعطيه الله في ذلك، كما في الآية الكريمة التي تقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}[13]، فالله تعالى أراد للنّبيّ(ص) أن يبيّن للنّاس الذين يأخذ منهم الزكاة، أنها لا تمثّل مجرّد حركيّة ماديّة في العطاء، ولكنّها تمثل ارتفاعاً في روحيّة العطاء، بحيث يشعر الإنسان بطهارة نفسه عندما تنفتح على إيثار الإنسان الآخر المحروم، وعلى الانفتاح على حاجاته وآلامه، قربةً إلى الله، فتحقِّق له نوعاً من تزكية النّفس ومن طهارتها.

وهكذا كانت الزّهراء(ع) في كلامها تستوحي القرآن، كما في الفقرة الثانية: "ونماء في الرّزق"، {وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}[14]، باعتبار أنَّك في الزكاة عندما تعطي قرشاً، فإنَّ الله يضاعف لك ذلك أضعافاً مضاعفة، والله يضاعف الأشياء بدرجات متفاوتة: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}[15]، {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ}[16].

الصَّوم تثبيتٌ للإخلاص

"والصِّيام تثبيتاً للإخلاص"، فأن تصوم، يعني أن تعمِّق إخلاصك لربِّك، وأن تعيش في داخل نفسك روح التّقوى، من خلال ما يؤكِّده الصَّوم لك من إرادتك المنفتحة على الله، وهناك فرق بين شخصٍ يقوم بأعمالٍ تقوّي إرادته بالطّريقة الماديّة، وشخصٍ يقوّي إرادته بين يدي الله...

هنا، أنت تصوم عن طعامك وشرابك وشهواتك قربةً إلى الله تعالى، وتمارس ذلك في رقابة الله الّتي لا تقاربها رقابة النّاس، وفي الصَّلاة يراك النّاس وأنت تصلّي، أمّا في الصّوم، فالعملية سريّة، ولذا جاء في الحديث: "الصّوم لي وأنا أجزي عليه"[17]، ذلك أنَّ الصَّوم لا يتحقّق الرياء به إلا إذا نطق به الإنسان، لماذا؟ لأنَّ الصَّوم هو حركة حرمان الجسد من خلال الحالة الروحيّة الموجودة في الداخل.

لذلك، نلاحظ ـ أيّها الأحبّة ـ أنَّ الله يتحدَّث عن الصَّوم من خلال أنّه وسيلة التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[18]، ومن الطّبيعي، فإنَّ التّقوى تحتاج إلى إرادة، فتقوى الفكر ـ مثلاً ـ تحتاج إلى إرادة، فعندما يغريك الشّيطان، بأن تحرّك فكرك في التّخطيط للشّرّ، لأنّ هناك منافع آنيّة ودنيويّة في التّخطيط للشر، فإنّك تحتاج ـ عندئذٍ ـ إلى إرادة إيمانيّة قويّة تمنعك من ذلك.

وكذلك التَّقوى في العاطفة، عندما يجذبك الشَّيطان من أجل أن تتحرَّك في عاطفتك لتحبَّ من أبغضه الله، أو لتبغض من أحبَّه الله، نتيجة بعض العوامل وبعض الأوضاع، فتحتاج إلى إرادة، حتى تدخل مشاعرك وأحاسيسك من أجل أن تجعلها تتحرَّك في الخطِّ المستقيم.

وهكذا بالنّسبة إلى حركة الإنسان في الحياة، لذلك، فإنَّ دور الصَّوم مثل دور الصَّلاة، ولكن في جانبٍ آخر، وهو أنّه يحقِّق للإنسان الإرادة النّابضة بالروح، والمرتكزة على الانفتاح على الله، فكأنّك تقول لربِّك في صومك: يا ربّ، إنّني أصوم من أجل أن أحقِّق لنفسي في هذا الصَّوم الصّغير القوّة على الصّوم الكبير، لأنَّ الله سبحانه وتعالى فرض علينا في شهر رمضان أن نصوم عن بعض ما اعتدناه في النّهار، وفرض علينا في العمل كلِّه أن نصوم عن المحرَّمات كلِّها.

ولذلك، جعل الله هذه الثّلاثين يوماً فترةً تدريبيّةً في حضرته، أي أنّ الله يراقبك وأنت تتدرَّب، والّذي يتدرَّب أمام الله، وبخاصّة في الجانب الدَّاخليّ، فمن الطّبيعيّ أنَّ تدريبه يجب أن يكون مركَّزاً، ولا بدَّ من أن يشعر بالنّجاح فيه، ولا سيَّما إذا عرف أنَّ دور الصَّوم مستقبليّ، وليس دوراً يتحرّك في الحاضر فقط.

وهذا ما أرادت الزَّهراء(ع) في كلامها أن تنبِّه إليه: "والصّيام تثبيتاً للإخلاص"، لأنه يصفِّي روح الإنسان أمام الله، بحيث تنطلق التّقوى من عمقه، فلا يكون فيه شيء لغير الله سبحانه وتعالى.

الحجّ ساحة للعبادة

"والحجّ تشييداً للدِّين"[19]، لأنّ دور الحجّ هو أن يجمع النّاس على طاعة الله، وحول الكعبة، وفي تلك المناسك، {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}[20].

لذلك، كلّما انطلق الحجّ في معناه المادّي أكثر، استطاع أن يعطي القوّة في الدّين أكثر، من خلال إشعار المسلمين بأنهم موحِّدون في عبادتهم كما هم موحِّدون في عقيدتهم، ومن أجل أن يتوحَّدوا في حركتهم في الحياة، وفي إحساسهم بالحاجة إلى الدَّعوة إلى الله.

كما أنَّ من أسرار الحجّ الدَّعوة إلى الله، وتوجيه المسلمين الّذين قد يفتقدون في هذه المنطقة أو في تلك، الموجِّه والمرشد والمعلِّم، لذلك فإنَّ الحجّ كما يريده الله سبحانه وتعالى، هو ساحة للعبادة وللعلم وللتّعاون وللتّشاور، وبذلك يمكن أن يشيَّد الدّين على الأساس الثّابت والمتين.

هذه هي بعض فقرات خطبة الزّهراء(ع)، وهي، كما رأيتم، تتَّصل بالجانب العباديّ، أمّا الجوانب الأخرى، فسنتحدَّث عنها، إن شاء الله، في الأسبوع القادم.

ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 28 جمادى الأولى 1419هـ/ الموافق 19 - 9 - 1998م.


[1]  [التوبة: 28].

[2]  [الأنعام: 162، 163].

[3]   [فاطر: 15].

[4]  [الأعراف: 194].

[5]  [آل عمران: 64].

[6]  [الحجرات: 13].

[7]  الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين(ع)، دعاؤه عند الصّباح والمساء.

[8]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 79، ص 198.

[9]  [العنكبوت: 45].

[10]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 4، ص 36.

[11]  مصباح المتجهّد، الشيخ الطوسي، ص 845.

[12]  بحار الأنوار، ج 79، ص 309.

[13]  [التوبة: 103].

[14]  [الروم: 39].

[15]  [البقرة: 245].

[16]  [البقرة: 261].

[17]  وسائل الشّيعة، الحرّ العاملي، ج 7، ص 290.

[18]  [البقرة: 183].

[19]  بحار الأنوار، ج 29، ص 223.

[20]  [الحج: 28].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية