شخصية السيدة الزهراء(ع) ورساليتها

شخصية السيدة الزهراء(ع) ورساليتها

  نحن في ذكرى السيِّدة العظيمة الطّاهرة فاطمة الزّهراء(ع)، الَّتي جاء في الحديث عنها أنّها سيّدة نساء العالمين، وسيّدة نساء المؤمنين، وسيّدة نساء أهل الجنَّة، وذلك في روايات متنوِّعة عن رسول الله(ص)؛ هذه المرأة التي لم تتجاوز سنّ الشّباب، ولكنّها في عمق عناصر شخصيّتها في الداخل وفي الخارج، استطاعت أن تحصل على المحبَّة الشّاملة في العصر الّذي عاشته.


  أشبه الخلق بالرّسول(ص)

  وهكذا، نجد أنَّها الشّخصيّة النّسائيّة المقدَّسة في الإسلام لدى المسلمين كلّهم، فإنّنا إذا قرأنا ما كتبه علماء المسلمين من السنّة والشّيعة، نجد أنهم يتحدَّثون عنها بكلّ تعظيم واحترام ومحبّة، من خلال عناصر شخصيّتها المميّزة.

  ومن هنا، فإنّنا نستطيع أن نقدِّمها إلى المسلمين جميعاً كامرأةٍ يلتقي المسلمون عليها، بالرّغم من اختلاف مذاهبهم، لا لأنها ابنة رسول الله(ص)، ولكن لأنّها عاشت في شخصيَّتها شخصيّة رسول الله(ص) في كثيرٍ من عناصرها المميَّزة المستلهمة من عناصر شخصيّته المميّزة.


  فنحن نقرأ في الحديث عن شخصيّتها في حركتها عن زوجة أبيها عائشة، أنَّها كانت تقول عنها: "ما رأيت أحداً من النّاس أشبه كلاماً وحديثاً برسول الله(ص) من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه رحّب بها، وقبّل يديها، وأجلسها في مجلسه، فإذا دخل عليها، قامت إليه، فرحّبت به، وقبّلت يديه"1، وفي روايةٍ: "تمشي ما تخطئ مشيتها عن مشية رسول الله(ص)"2، حتى إنّ هناك حديثاً يذكر أنَّها تشبه رسول الله(ص) في الصّورة أيضاً. أما عندما ندخل إلى عمق شخصيّتها من الداخل، فنرى أنّها الإنسان الّذي اندمج برسول الله(ص) اندماجاً قلّ نظيره بين ابنةٍ وأبيها، فقد كانت في طفولتها الأولى تتحرَّك معه عندما كان يذهب إلى المسجد ليصلّي، وهي في سنّ يقول بعض المؤرخين إنها الخامسة، وبعضهم إذا زادت السّنّ كثيراً يصل بها إلى العاشرة.


  كانت تراقب أباها وهو في المسجد، وتراقب النّاس من حوله من المشركين وهم يتربَّصون به السّوء، ونظرت ذات يوم، فإذا بهم يلقون (سلل جزور) ـ أمعاء الإبل ـ على ظهره، فبادرت وهي تبكي، ورفعته عن ظهره. وقد رآها، كما يقول (ابن كثير) في تفسيره نقلاً عن (صحيح ابن حبان)،  تبكي ذات يوم، وقال لها: ما يبكيك يا بنيّتي؟ فقالت إنها أحسّت أنّ هؤلاء القوم من أبي جهل وغيره، يتآمرون عليه ليقتلوه، وعبّرت عن ذلك له، فطمأنها، وكانت تتعلَّم عنده، وكانت تعطيه من عاطفتها كلَّ ما في روحها من سرّ العاطفة، حتى قال عنها "إنّها أمّ أبيها".


  العلاقة بين الرّسول والزّهراء

  ورأينا أنّ هذه العلاقة امتدَّت إلى المدينة عندما هاجرت ملتحقةً به، وبدأت تعيش معه المسؤوليّات التي تحمّلها في حربه وسلمه ودعوته، وكان بيتها بيته، وإذا قدم من سفر، كان بيتها هو أوّل بيت يقصده ويرتاح إليه قبل أن يذهب إلى بيته الخاصّ، وعندما يخرج إلى سفر، كان بيتها آخر بيت ينطلق منه إلى سفره. وكانت تتحسَّس كلّ ما يحبّه وكلّ ما يثقله، وكان يحتضنها بروحه وعاطفته وقلبه.

  وكان يعرف سرَّها من خلال ما تحمله من عمق الرّوحانيّة لله، وكان يراها وهي ابنته وتلميذته، كيف تجلس مبتهلةً إلى الله سبحانه وتعالى في جوف اللّيل، وكان يراقب حركتها في حديثها كلّه، فكان يراها الأصدق بين المسلمين، وقد شهدت بذلك زوجة أبيها عائشة، فقالت: "ما رأيت أحداً كان أصدق لهجةً منها، إلا أن يكون الّذي ولدها"3.


  وقد تعلّمت ذلك من أبيها، فكان رسول الله(ص) الأصدق، وكان الصَّادق الأمين، وكانت الصّادقة الأصدق، ومن الطّبيعي أنّها كانت الأمينة بكلِّ ما للأمانة من معنى.


  وكانت تعيش مع رسول الله فكره، وبذلك رأينا أنَّ فاطمة الزهراء(ع) التي لم تدخل إلا مدرسة رسول الله(ص)، ولم تتعلَّم إلا في بيته، كانت تملك من الثّقافة ما لم تجده في التراث الّذي وصلنا من المسلمين في تلك المرحلة، إلا ما جاءنا عن عليّ(ع) في ذلك.


  شموليَّة في الثَّقافة والفكر

  ولهذا، فإنَّ المشكلة عند الكثيرين منا أنهم لا يعيشون شخصيّة الزهراء الثّقافيّة. وعندما ندرس النصوص التي تركها لنا التاريخ عن كلماتها وخطبها، ونتعمَّق في دراسة الخصائص الموجودة في هذه الخطب من النّاحية الثقافيّة، فإنّنا نجد أنها كانت تملك ثقافة التّوحيد، وثقافة النبوّة، وثقافة حركيّة الإسلام وانطلاقاته، وثقافة الواقع الاجتماعيّ الّذي كان المسلمون يعيشونه، وثقافة الجدال في القضايا التي أثيرت آنذاك للاستدلال بالقرآن في محكم آياته.


  وكانت عندما تتحدَّث عمّا تؤمن به من حقّ عليّ(ع)، لم تكن تتكلَّم بطريقة عاطفيّة، ولكنّها كانت تتكلّم بطريقة علميّة وثقافيّة وحركيّة في الواقع كلّه، ونحن ندعو إلى أن ندرس الزهراء(ع) في الجانب الثقافيّ من شخصيَّتها، كما ندعو إلى دراسة الزّهراء(ع) في الجوانب الأخرى من شخصيَّتها، كالجانب الإنسانيّ في الشّموليّة الإنسانيّة، وفي المعنى الّذي تعيشه تجاه الإنسان الآخر، وفي هذا الانفتاح على الواقع كلّه، وأن ندرس الجانب الرّوحيّ الّذي كانت تعيشه مع الله سبحانه وتعالى، إضافةً إلى الجانب الحركيّ في حركتها الثّقافيّة والجهاديّة وحتى السياسيّة، فيما نصطلح عليه في هذه الأيّام بالسياسة.

  سيّدة نساء العالمين


  لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ عندما نستوحي كلمة "سيِّدة نساء العالمين"، فلأنها تجمع عناصر الشخصيّة التي تتميّز بها المرأة وترتفع بها حتى تكون في مواقع القمَّة، لأنّ قضيّة أن تكون سيدة نساء العالمين، ليست مجرّد مرتبة تُعطاها دون أن تملك عناصرها في شخصيّتها، ولكنّها مرتبة تعطاها من خلال ما يعرفه الله سبحانه وتعالى الذي خلقها من عناصر هذه الشخصية.

  ولم يكن اصطفاء الله لأنبيائه ولأوليائه وللنّساء اللاتي كرّمهنَّ، ينطلق من فراغ، بل كان اصطفاءً ينطلق من الخصائص التي تجذب هؤلاء إلى الله، وتجعلهم في المستوى الذي يملكون حمل الرّسالة وتجسيد القيم الروحيّة في الحياة.


  الصّدّيقة الشّهيدة

  وقد نستوحي من بعض الروايات التي وردت عن الإمام أبي الحسن موسى الكاظم(ع)، بأنها كانت صدّيقةً شهيدةً، أنّه كان يستوحي ما تحدَّث الله به في القرآن عن الصّدّيقين والشّهداء، وهم الَّذين يتولّون الشّهادة على الناس، فنحن نستوحي من هذه الرّواية أنّها كانت من الصّدّيقين الّذين يعيشون الصّدق مع النفس ومع الله ومع الناس، وأنها كانت من الشهداء الذين يشهدون على النّاس في خطِّ الرّسالة، كما هم الأنبياء، وكما هم الأولياء الّذين اصطفاهم الله.

  إنّ ذكر كلمة الشّهيدة إلى جانب كلمة الصدّيقة يوحي بهذا المعنى، لأنّه يلتقي مع الإشارة القرآنيّة في الحديث عن الصدّيقين وعن الشّهداء. وعظمة الموقع في إعطاء كلمة الشّهادة معنى الشهادة على الناس، هو أعظم من الشهادة بمعنى القتل في سبيل الله.


  خصائص خطبة الزّهراء

  أمّا خطبتها في المسلمين في مسجد النّبيّ(ص)، فقد كانت أقرب إلى المحاضرة التعليميّة التي اختصرت فيها السيّدة الزهراء(ع) أصول العقيدة في ركنيها الأساسيّين، وهما التوحيد والنبوّة، فلقد تحدّثت عن صفات الله سبحانه وتعالى، وعمّا أراه الله للإنسان من رسالته، كما تحدّثت عن رسول الله(ص)، وعن خصائص الكثير من التّشريعات الإسلاميّة، كما أنها انطلقت إلى المجتمع للحديث عن التّاريخ الّذي عاشه(ص)، ثم دخلت في الموضوع الذي أثير في قضيّة إرثها من رسول الله(ص)، فهي لم تناقش المسألة مناقشةً عاطفيّةً، بل ناقشتها مناقشةً علميّةً تفسيريّةً بكلّ دقائق القرآن وبكلّ أسراره، وقد توجَّهت إلى الأنصار الّذين أحاطوا برسول الله(ص) ونصروه، لتؤجِّج مشاعرهم في ذلك كلّه، وقد دخلت في الحجاج آنذاك بالطريقة التي تميّزت بها، كامرأة عالمة مثقّفة واعية قويّة صلبة في الموقف، منطلقة بالكلام بالطريقة التي تثبت بها الحقّ.

  لنقرأ بعض نصوص هذه الخطبة، لأنها خطبة طويلة، ففي مقدّمتها، نقرأ أنها كانت المرأة التي يتفاعل المجتمع كلّه معها... كيف؟! تقول الرّواية: "لمّا أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة فدكاً، وبلغها ذلك، لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله(ص)، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشدٍ من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة ـ يعني ستاراً ـ فجلست، ثم أنّت أنّةً أجهش القوم لها بالبكاء، فارتجّ المجلس، ثم أمهلت هنيئةً، حتى إذا سكن نشيج القوم، وهدأت فورتهم، افتتحت الكلام بحمد الله والثّناء عليه...".

  هنا قالت، ولاحظوا كيف انطلقت في خطبتها: "الحمد لله على ما أنعم، وله الشّكر على ما ألهم، والثّناء بما قدّم، من عموم نعمٍ ابتدأها، وبلوغ آلاء أسداها، وتمام مننٍ أولاها، جمّ عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشّكر لاتّصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنَّى بالنّدب إلى أمثالها".

  لقد تحدَّثت عن الله في نعمه، وتحدَّثت عن الشّكر لهذه النّعم، لتخلق في نفس النّاس هذا الانفتاح على الله، من خلال الانفتاح على نعمه وعلى شكره، لأنَّ الشّكر يتمثّل أعظم ما يتمثّل بالطاعة لله والابتعاد عن معصيته في كلّ شيء.


  فلسفة الشَّهادة والتّوحيد

  "وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، وهنا تحاول أن تفلسف كلمة الشّهادة بالتّوحيد، فتقول(ع): "كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، وأنار في الفكرة معقولها"، لتوحي إلى الناس بأنَّ هذه الكلمة عندما تنطلق من لسان الإنسان المؤمن، فلا بدّ لها من أن تنطلق من عمق الإخلاص في كلِّ ما ترجع إليه من معانٍ، وأن تعيش القلوب أسرارها كلّها وآفاقها كلّها وامتدادها كلّها فيما يتّصل به الفكر بعضه مع بعض، وأن ينطلق التّفكير في حركة عقليّة من أجل أن يتعرَّف الأسس العقليّة التي تثير في النفس عمق معنى التّوحيد.

  ثمّ تتحدَّث عن الله في صفاته، بحيث يمكن القول إنّها أعطتهم محاضرةً في التّوحيد: "الممتنع من الأبصار رؤيته"، {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}4، "ومن الألسن صفته"، لأنّه لا يدرك صفته أيّ مخلوق، ولا نستطيع أن نعرف من الله إلا ما عرّفنا إيّاه مما تدركه عقولنا ومما أوحى به، أمّا سرّ الذات وامتداد الصِّفات، فإنّ ذلك من الغيب الذي لا نملك أية وسيلة إليه، "ومن الأوهام كيفيّته"، والأوهام هي التعبير عن المناطق الإدراكيّة الموجودة في داخل الإنسان، فلا يمكن لهذه الأوهام أن تدرك كيفيَّة الله، لأنه من الغيب.


  ابتداع الخلق

  ثم انطلقت لتتحدَّث عن ابتداع الله للأشياء، وعن خلق الله وإرادته، وذلك بالتفريق بين خلقٍ لا مثال له، وخلق يتحرّك من موقع المثال، فقد نرى أناساً يصنعون أشكالاً وألواناً وأشياء، ولكن من خلال ما يتمثّل أمامهم من نماذج، كما نرى الآن في واقع المكتشفين والمخترعين أنهم قد يصنعون شيئاً مماثلاً للقوانين الّتي أودعها الله للأشياء، لكنّهم يصنعونها لا من موقع خلق القانون، ولكن من خلال احتذاء النّموذج الّذي خلقه الله سبحانه وتعالى، وهذا ما تحدّثنا عنه أكثر من مرّة، عندما تحدَّثنا عن مسألة الاستنساخ، وأنّ الّذين استنسخوا الحيوان، أو يريدون أن يستنسخوا الإنسان، لم يضعوا قانوناً جديداً، ولكنّهم استهدوا بالقانون الّذي جعله الله للتناسل، لأنهم اكتشفوا أنّ في البويضة (23) كروموسوماً، وهكذا في النّطفة، فكانت ولادة الكائن الحي من (46) من الكروموسومات. وفي ضوء هذا، أخذوا خلية تشتمل على الرقم (46)، وفرّغوا البويضة، وأودعوا هذه الخلية في داخلها على نسق القانون الإلهيّ، ولو بشكلٍ آخر، فحصل الاستنساخ، لذلك هم لم يخلقوا قانوناً، وإنما استهدوا إلى ذلك القانون.


  وبالتالي، فإنَّ الإنسان في كلّ ما ابتدعه واخترعه، لم يصنع قانوناً، فلم يخلق العلماء والمكتشفون والمخترعون ولو قانوناً صغيراً، ولكنّهم احتذوا القانون الإلهيّ في ذلك كلّه.


  أمّا الله سبحانه وتعالى، فهو الّذي خلق الأشياء بلا نموذج سابق، وهو الّذي أعطى للمخلوقات النّموذج، من خلال أنّه هو الذي خلقه، وهذا ما عبّرت عنه سيّدتنا الزّهراء(ع)، حينما قالت: "ابتدع الأشياء لا من شيءٍ كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كوَّنها بقدرته"، لأنَّ قدرته هي الّتي أعطتها كلّ ما فيها من عناصر الوجود، "وذرأها ـ خلقها ـ بمشيّته من غير حاجة..."، والله عندما خلق الكون كلّه، إنساناً وحيواناً وظواهر كونيَّة وما إلى ذلك، فإنّه هو الغنيّ في ذاته، لا حاجة به حتى إلى ما خلق، فهو لم يصنع من موقع حاجة كما نصنع نحن من موقع حاجة، ولكنّه صنع ذلك لأنَّ حكمته أرادت أن تتمثّل بذلك من غير حاجةٍ منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتاً لحكمته، باعتبار أنَّ المخلوقات كلّها، بما تشتمل عليه من العناصر الدّقيقة جداً، الّتي وضع الله فيها كلّ شيءٍ بموضعه، تتكامل في إنتاج الكائن الحيّ، أو في إنتاج الكائن النّامي من النّبات، أو في إنتاج الظاهرة الكونيّة، أو في إنتاج الذرّات المائيّة والترابيّة وما إلى ذلك.


  حكمة الله من الخلق

  والله أراد أن يبيّن حكمته في ذلك: "وتنبيهاً على طاعته"، من خلال هذا الخلق، فلقد خلق الإنسان بعقله، وخلق الحيوان بغريزته، وخلق الملائكة فيما أعطاهم من الخصائص، وخلق الجمادات في ظواهرها، ليعرف الإنسان أنّه مخلوق لله، وأنَّ لله عليه حقّ الخلق وحقّ الوجود، وعليه أن يطيع الله في ذلك.

  "وإظهاراً لقدرته، وتعبّداً لبريّته"، يتعبَّدونه، "وإعزازاً لدعوته"، ثم لم يرد من النّاس أن يطيعوه بدون أساس، ولكنّه تفضّل عليهم بأن خلق لهم في الدّنيا رسالةً وقانوناً على أساس الثّواب والعقاب، "ثم جعل الثّواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، زيادةً لعباده من نقمته، وحياشةً لهم إلى جنّته"5، أي أنّه حذَّرهم من عقابه حتى لا يقعوا تحت نقمته إذا عصوه، ودعاهم إلى طاعته حتى يحوشهم إلى جنَّته إذا أطاعوه.

  وبهذا نعرف ـ أيّها الأحبّة ـ في هذه الكلمات البسيطة القصيرة، أنها تتحدَّث عن فلسفة التّوحيد في كلمة التّوحيد، وتتحدَّث عن عمق معنى التّوحيد لله سبحانه وتعالى، مما يمكن للباحث أن ينطلق في كلّ هذه الكلمات إلى أن يبدأ بحثاً فلسفيّاً يمكن للناس أن يتمثّلوا من خلاله سرّ الخالق وسرّ المخلوق.


  ثم انطلقت لتتحدَّث عن رسول الله(ص)، وهذا ما سوف نتحدَّث عنه في الأسبوع القادم، إن شاء الله.

   *ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 17 جمادى الأولى 1419هـ/ الموافق: 5-9–1998م.

  

بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 43، ص 26.

2  المصدر نفسه، ج 37، ص 67.

3  المصدر نفسه، ج 43، ص 69.

4  [الأنعام: 103].

5  الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، ص 132، 133.

  نحن في ذكرى السيِّدة العظيمة الطّاهرة فاطمة الزّهراء(ع)، الَّتي جاء في الحديث عنها أنّها سيّدة نساء العالمين، وسيّدة نساء المؤمنين، وسيّدة نساء أهل الجنَّة، وذلك في روايات متنوِّعة عن رسول الله(ص)؛ هذه المرأة التي لم تتجاوز سنّ الشّباب، ولكنّها في عمق عناصر شخصيّتها في الداخل وفي الخارج، استطاعت أن تحصل على المحبَّة الشّاملة في العصر الّذي عاشته.


  أشبه الخلق بالرّسول(ص)

  وهكذا، نجد أنَّها الشّخصيّة النّسائيّة المقدَّسة في الإسلام لدى المسلمين كلّهم، فإنّنا إذا قرأنا ما كتبه علماء المسلمين من السنّة والشّيعة، نجد أنهم يتحدَّثون عنها بكلّ تعظيم واحترام ومحبّة، من خلال عناصر شخصيّتها المميّزة.

  ومن هنا، فإنّنا نستطيع أن نقدِّمها إلى المسلمين جميعاً كامرأةٍ يلتقي المسلمون عليها، بالرّغم من اختلاف مذاهبهم، لا لأنها ابنة رسول الله(ص)، ولكن لأنّها عاشت في شخصيَّتها شخصيّة رسول الله(ص) في كثيرٍ من عناصرها المميَّزة المستلهمة من عناصر شخصيّته المميّزة.


  فنحن نقرأ في الحديث عن شخصيّتها في حركتها عن زوجة أبيها عائشة، أنَّها كانت تقول عنها: "ما رأيت أحداً من النّاس أشبه كلاماً وحديثاً برسول الله(ص) من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه رحّب بها، وقبّل يديها، وأجلسها في مجلسه، فإذا دخل عليها، قامت إليه، فرحّبت به، وقبّلت يديه"1، وفي روايةٍ: "تمشي ما تخطئ مشيتها عن مشية رسول الله(ص)"2، حتى إنّ هناك حديثاً يذكر أنَّها تشبه رسول الله(ص) في الصّورة أيضاً. أما عندما ندخل إلى عمق شخصيّتها من الداخل، فنرى أنّها الإنسان الّذي اندمج برسول الله(ص) اندماجاً قلّ نظيره بين ابنةٍ وأبيها، فقد كانت في طفولتها الأولى تتحرَّك معه عندما كان يذهب إلى المسجد ليصلّي، وهي في سنّ يقول بعض المؤرخين إنها الخامسة، وبعضهم إذا زادت السّنّ كثيراً يصل بها إلى العاشرة.


  كانت تراقب أباها وهو في المسجد، وتراقب النّاس من حوله من المشركين وهم يتربَّصون به السّوء، ونظرت ذات يوم، فإذا بهم يلقون (سلل جزور) ـ أمعاء الإبل ـ على ظهره، فبادرت وهي تبكي، ورفعته عن ظهره. وقد رآها، كما يقول (ابن كثير) في تفسيره نقلاً عن (صحيح ابن حبان)،  تبكي ذات يوم، وقال لها: ما يبكيك يا بنيّتي؟ فقالت إنها أحسّت أنّ هؤلاء القوم من أبي جهل وغيره، يتآمرون عليه ليقتلوه، وعبّرت عن ذلك له، فطمأنها، وكانت تتعلَّم عنده، وكانت تعطيه من عاطفتها كلَّ ما في روحها من سرّ العاطفة، حتى قال عنها "إنّها أمّ أبيها".


  العلاقة بين الرّسول والزّهراء

  ورأينا أنّ هذه العلاقة امتدَّت إلى المدينة عندما هاجرت ملتحقةً به، وبدأت تعيش معه المسؤوليّات التي تحمّلها في حربه وسلمه ودعوته، وكان بيتها بيته، وإذا قدم من سفر، كان بيتها هو أوّل بيت يقصده ويرتاح إليه قبل أن يذهب إلى بيته الخاصّ، وعندما يخرج إلى سفر، كان بيتها آخر بيت ينطلق منه إلى سفره. وكانت تتحسَّس كلّ ما يحبّه وكلّ ما يثقله، وكان يحتضنها بروحه وعاطفته وقلبه.

  وكان يعرف سرَّها من خلال ما تحمله من عمق الرّوحانيّة لله، وكان يراها وهي ابنته وتلميذته، كيف تجلس مبتهلةً إلى الله سبحانه وتعالى في جوف اللّيل، وكان يراقب حركتها في حديثها كلّه، فكان يراها الأصدق بين المسلمين، وقد شهدت بذلك زوجة أبيها عائشة، فقالت: "ما رأيت أحداً كان أصدق لهجةً منها، إلا أن يكون الّذي ولدها"3.


  وقد تعلّمت ذلك من أبيها، فكان رسول الله(ص) الأصدق، وكان الصَّادق الأمين، وكانت الصّادقة الأصدق، ومن الطّبيعي أنّها كانت الأمينة بكلِّ ما للأمانة من معنى.


  وكانت تعيش مع رسول الله فكره، وبذلك رأينا أنَّ فاطمة الزهراء(ع) التي لم تدخل إلا مدرسة رسول الله(ص)، ولم تتعلَّم إلا في بيته، كانت تملك من الثّقافة ما لم تجده في التراث الّذي وصلنا من المسلمين في تلك المرحلة، إلا ما جاءنا عن عليّ(ع) في ذلك.


  شموليَّة في الثَّقافة والفكر

  ولهذا، فإنَّ المشكلة عند الكثيرين منا أنهم لا يعيشون شخصيّة الزهراء الثّقافيّة. وعندما ندرس النصوص التي تركها لنا التاريخ عن كلماتها وخطبها، ونتعمَّق في دراسة الخصائص الموجودة في هذه الخطب من النّاحية الثقافيّة، فإنّنا نجد أنها كانت تملك ثقافة التّوحيد، وثقافة النبوّة، وثقافة حركيّة الإسلام وانطلاقاته، وثقافة الواقع الاجتماعيّ الّذي كان المسلمون يعيشونه، وثقافة الجدال في القضايا التي أثيرت آنذاك للاستدلال بالقرآن في محكم آياته.


  وكانت عندما تتحدَّث عمّا تؤمن به من حقّ عليّ(ع)، لم تكن تتكلَّم بطريقة عاطفيّة، ولكنّها كانت تتكلّم بطريقة علميّة وثقافيّة وحركيّة في الواقع كلّه، ونحن ندعو إلى أن ندرس الزهراء(ع) في الجانب الثقافيّ من شخصيَّتها، كما ندعو إلى دراسة الزّهراء(ع) في الجوانب الأخرى من شخصيَّتها، كالجانب الإنسانيّ في الشّموليّة الإنسانيّة، وفي المعنى الّذي تعيشه تجاه الإنسان الآخر، وفي هذا الانفتاح على الواقع كلّه، وأن ندرس الجانب الرّوحيّ الّذي كانت تعيشه مع الله سبحانه وتعالى، إضافةً إلى الجانب الحركيّ في حركتها الثّقافيّة والجهاديّة وحتى السياسيّة، فيما نصطلح عليه في هذه الأيّام بالسياسة.

  سيّدة نساء العالمين


  لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ عندما نستوحي كلمة "سيِّدة نساء العالمين"، فلأنها تجمع عناصر الشخصيّة التي تتميّز بها المرأة وترتفع بها حتى تكون في مواقع القمَّة، لأنّ قضيّة أن تكون سيدة نساء العالمين، ليست مجرّد مرتبة تُعطاها دون أن تملك عناصرها في شخصيّتها، ولكنّها مرتبة تعطاها من خلال ما يعرفه الله سبحانه وتعالى الذي خلقها من عناصر هذه الشخصية.

  ولم يكن اصطفاء الله لأنبيائه ولأوليائه وللنّساء اللاتي كرّمهنَّ، ينطلق من فراغ، بل كان اصطفاءً ينطلق من الخصائص التي تجذب هؤلاء إلى الله، وتجعلهم في المستوى الذي يملكون حمل الرّسالة وتجسيد القيم الروحيّة في الحياة.


  الصّدّيقة الشّهيدة

  وقد نستوحي من بعض الروايات التي وردت عن الإمام أبي الحسن موسى الكاظم(ع)، بأنها كانت صدّيقةً شهيدةً، أنّه كان يستوحي ما تحدَّث الله به في القرآن عن الصّدّيقين والشّهداء، وهم الَّذين يتولّون الشّهادة على الناس، فنحن نستوحي من هذه الرّواية أنّها كانت من الصّدّيقين الّذين يعيشون الصّدق مع النفس ومع الله ومع الناس، وأنها كانت من الشهداء الذين يشهدون على النّاس في خطِّ الرّسالة، كما هم الأنبياء، وكما هم الأولياء الّذين اصطفاهم الله.

  إنّ ذكر كلمة الشّهيدة إلى جانب كلمة الصدّيقة يوحي بهذا المعنى، لأنّه يلتقي مع الإشارة القرآنيّة في الحديث عن الصدّيقين وعن الشّهداء. وعظمة الموقع في إعطاء كلمة الشّهادة معنى الشهادة على الناس، هو أعظم من الشهادة بمعنى القتل في سبيل الله.


  خصائص خطبة الزّهراء

  أمّا خطبتها في المسلمين في مسجد النّبيّ(ص)، فقد كانت أقرب إلى المحاضرة التعليميّة التي اختصرت فيها السيّدة الزهراء(ع) أصول العقيدة في ركنيها الأساسيّين، وهما التوحيد والنبوّة، فلقد تحدّثت عن صفات الله سبحانه وتعالى، وعمّا أراه الله للإنسان من رسالته، كما تحدّثت عن رسول الله(ص)، وعن خصائص الكثير من التّشريعات الإسلاميّة، كما أنها انطلقت إلى المجتمع للحديث عن التّاريخ الّذي عاشه(ص)، ثم دخلت في الموضوع الذي أثير في قضيّة إرثها من رسول الله(ص)، فهي لم تناقش المسألة مناقشةً عاطفيّةً، بل ناقشتها مناقشةً علميّةً تفسيريّةً بكلّ دقائق القرآن وبكلّ أسراره، وقد توجَّهت إلى الأنصار الّذين أحاطوا برسول الله(ص) ونصروه، لتؤجِّج مشاعرهم في ذلك كلّه، وقد دخلت في الحجاج آنذاك بالطريقة التي تميّزت بها، كامرأة عالمة مثقّفة واعية قويّة صلبة في الموقف، منطلقة بالكلام بالطريقة التي تثبت بها الحقّ.

  لنقرأ بعض نصوص هذه الخطبة، لأنها خطبة طويلة، ففي مقدّمتها، نقرأ أنها كانت المرأة التي يتفاعل المجتمع كلّه معها... كيف؟! تقول الرّواية: "لمّا أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة فدكاً، وبلغها ذلك، لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله(ص)، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشدٍ من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة ـ يعني ستاراً ـ فجلست، ثم أنّت أنّةً أجهش القوم لها بالبكاء، فارتجّ المجلس، ثم أمهلت هنيئةً، حتى إذا سكن نشيج القوم، وهدأت فورتهم، افتتحت الكلام بحمد الله والثّناء عليه...".

  هنا قالت، ولاحظوا كيف انطلقت في خطبتها: "الحمد لله على ما أنعم، وله الشّكر على ما ألهم، والثّناء بما قدّم، من عموم نعمٍ ابتدأها، وبلوغ آلاء أسداها، وتمام مننٍ أولاها، جمّ عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشّكر لاتّصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنَّى بالنّدب إلى أمثالها".

  لقد تحدَّثت عن الله في نعمه، وتحدَّثت عن الشّكر لهذه النّعم، لتخلق في نفس النّاس هذا الانفتاح على الله، من خلال الانفتاح على نعمه وعلى شكره، لأنَّ الشّكر يتمثّل أعظم ما يتمثّل بالطاعة لله والابتعاد عن معصيته في كلّ شيء.


  فلسفة الشَّهادة والتّوحيد

  "وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، وهنا تحاول أن تفلسف كلمة الشّهادة بالتّوحيد، فتقول(ع): "كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، وأنار في الفكرة معقولها"، لتوحي إلى الناس بأنَّ هذه الكلمة عندما تنطلق من لسان الإنسان المؤمن، فلا بدّ لها من أن تنطلق من عمق الإخلاص في كلِّ ما ترجع إليه من معانٍ، وأن تعيش القلوب أسرارها كلّها وآفاقها كلّها وامتدادها كلّها فيما يتّصل به الفكر بعضه مع بعض، وأن ينطلق التّفكير في حركة عقليّة من أجل أن يتعرَّف الأسس العقليّة التي تثير في النفس عمق معنى التّوحيد.

  ثمّ تتحدَّث عن الله في صفاته، بحيث يمكن القول إنّها أعطتهم محاضرةً في التّوحيد: "الممتنع من الأبصار رؤيته"، {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}4، "ومن الألسن صفته"، لأنّه لا يدرك صفته أيّ مخلوق، ولا نستطيع أن نعرف من الله إلا ما عرّفنا إيّاه مما تدركه عقولنا ومما أوحى به، أمّا سرّ الذات وامتداد الصِّفات، فإنّ ذلك من الغيب الذي لا نملك أية وسيلة إليه، "ومن الأوهام كيفيّته"، والأوهام هي التعبير عن المناطق الإدراكيّة الموجودة في داخل الإنسان، فلا يمكن لهذه الأوهام أن تدرك كيفيَّة الله، لأنه من الغيب.


  ابتداع الخلق

  ثم انطلقت لتتحدَّث عن ابتداع الله للأشياء، وعن خلق الله وإرادته، وذلك بالتفريق بين خلقٍ لا مثال له، وخلق يتحرّك من موقع المثال، فقد نرى أناساً يصنعون أشكالاً وألواناً وأشياء، ولكن من خلال ما يتمثّل أمامهم من نماذج، كما نرى الآن في واقع المكتشفين والمخترعين أنهم قد يصنعون شيئاً مماثلاً للقوانين الّتي أودعها الله للأشياء، لكنّهم يصنعونها لا من موقع خلق القانون، ولكن من خلال احتذاء النّموذج الّذي خلقه الله سبحانه وتعالى، وهذا ما تحدّثنا عنه أكثر من مرّة، عندما تحدَّثنا عن مسألة الاستنساخ، وأنّ الّذين استنسخوا الحيوان، أو يريدون أن يستنسخوا الإنسان، لم يضعوا قانوناً جديداً، ولكنّهم استهدوا بالقانون الّذي جعله الله للتناسل، لأنهم اكتشفوا أنّ في البويضة (23) كروموسوماً، وهكذا في النّطفة، فكانت ولادة الكائن الحي من (46) من الكروموسومات. وفي ضوء هذا، أخذوا خلية تشتمل على الرقم (46)، وفرّغوا البويضة، وأودعوا هذه الخلية في داخلها على نسق القانون الإلهيّ، ولو بشكلٍ آخر، فحصل الاستنساخ، لذلك هم لم يخلقوا قانوناً، وإنما استهدوا إلى ذلك القانون.


  وبالتالي، فإنَّ الإنسان في كلّ ما ابتدعه واخترعه، لم يصنع قانوناً، فلم يخلق العلماء والمكتشفون والمخترعون ولو قانوناً صغيراً، ولكنّهم احتذوا القانون الإلهيّ في ذلك كلّه.


  أمّا الله سبحانه وتعالى، فهو الّذي خلق الأشياء بلا نموذج سابق، وهو الّذي أعطى للمخلوقات النّموذج، من خلال أنّه هو الذي خلقه، وهذا ما عبّرت عنه سيّدتنا الزّهراء(ع)، حينما قالت: "ابتدع الأشياء لا من شيءٍ كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كوَّنها بقدرته"، لأنَّ قدرته هي الّتي أعطتها كلّ ما فيها من عناصر الوجود، "وذرأها ـ خلقها ـ بمشيّته من غير حاجة..."، والله عندما خلق الكون كلّه، إنساناً وحيواناً وظواهر كونيَّة وما إلى ذلك، فإنّه هو الغنيّ في ذاته، لا حاجة به حتى إلى ما خلق، فهو لم يصنع من موقع حاجة كما نصنع نحن من موقع حاجة، ولكنّه صنع ذلك لأنَّ حكمته أرادت أن تتمثّل بذلك من غير حاجةٍ منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتاً لحكمته، باعتبار أنَّ المخلوقات كلّها، بما تشتمل عليه من العناصر الدّقيقة جداً، الّتي وضع الله فيها كلّ شيءٍ بموضعه، تتكامل في إنتاج الكائن الحيّ، أو في إنتاج الكائن النّامي من النّبات، أو في إنتاج الظاهرة الكونيّة، أو في إنتاج الذرّات المائيّة والترابيّة وما إلى ذلك.


  حكمة الله من الخلق

  والله أراد أن يبيّن حكمته في ذلك: "وتنبيهاً على طاعته"، من خلال هذا الخلق، فلقد خلق الإنسان بعقله، وخلق الحيوان بغريزته، وخلق الملائكة فيما أعطاهم من الخصائص، وخلق الجمادات في ظواهرها، ليعرف الإنسان أنّه مخلوق لله، وأنَّ لله عليه حقّ الخلق وحقّ الوجود، وعليه أن يطيع الله في ذلك.

  "وإظهاراً لقدرته، وتعبّداً لبريّته"، يتعبَّدونه، "وإعزازاً لدعوته"، ثم لم يرد من النّاس أن يطيعوه بدون أساس، ولكنّه تفضّل عليهم بأن خلق لهم في الدّنيا رسالةً وقانوناً على أساس الثّواب والعقاب، "ثم جعل الثّواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، زيادةً لعباده من نقمته، وحياشةً لهم إلى جنّته"5، أي أنّه حذَّرهم من عقابه حتى لا يقعوا تحت نقمته إذا عصوه، ودعاهم إلى طاعته حتى يحوشهم إلى جنَّته إذا أطاعوه.

  وبهذا نعرف ـ أيّها الأحبّة ـ في هذه الكلمات البسيطة القصيرة، أنها تتحدَّث عن فلسفة التّوحيد في كلمة التّوحيد، وتتحدَّث عن عمق معنى التّوحيد لله سبحانه وتعالى، مما يمكن للباحث أن ينطلق في كلّ هذه الكلمات إلى أن يبدأ بحثاً فلسفيّاً يمكن للناس أن يتمثّلوا من خلاله سرّ الخالق وسرّ المخلوق.


  ثم انطلقت لتتحدَّث عن رسول الله(ص)، وهذا ما سوف نتحدَّث عنه في الأسبوع القادم، إن شاء الله.

   *ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 17 جمادى الأولى 1419هـ/ الموافق: 5-9–1998م.

  

بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 43، ص 26.

2  المصدر نفسه، ج 37، ص 67.

3  المصدر نفسه، ج 43، ص 69.

4  [الأنعام: 103].

5  الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، ص 132، 133.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية