الزَّهراء المعصومة(ع) الأسوة والقدوة

الزَّهراء المعصومة(ع) الأسوة والقدوة

في ذكرى وفاة الصدّيقة الطاهرة السيّدة فاطمة الزهراء(ع)، كان العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض)، قد ألقى خطبة تطرَّق فيها إلى هذه المناسبة، وتحدّث عن مآثر الزهراء(ع) ورساليّتها. وقد جاء فيها:

أمّ أبيها

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[1]، من أهل هذا البيت، السيّدة الطّاهرة المعصومة؛ سيّدة نساء أهل الجنّة، وسيدة نساء العالمين، وسيدة نساء المؤمنين ـ كما جاء عن رسول الله(ص) في كتب الصحاح من أهل السنّة والشيعة معاً ـ السيّدة فاطمة الزهراء(ع)؛ هذه الإنسانة الّتي عاشت مع هؤلاء الَّذين يمثّلون المستوى الأعلى في البشريَّة، في كلِّ معاني الطهر والعصمة والإنسانيّة والرساليّة والانفتاح على كلّ المحرومين والمستضعفين والمظلومين، والمواجهة لكلّ الظالمين والمستكبرين..

هذه الإنسانة العظيمة التي لم تقتصر عظمتها على أنَّها ابنة رسول الله(ص)، والتي عاشت في عقله وقلبه وروحه، وامتزجت به منذ طفولتها إلى شبابها الَّذي لم يكتمل، فذهبت إلى ربها في عمر الورود، فكانت مع رسول الله(ص) روحاً وقلباً وعقلاً، حتى اندمجت به اندماجاً جعلها تعيش كلّ مشاعره وأحاسيسه، وتعرف من نظرات عينيه ماذا يريد، وتعرف من خطواته في بيتها ماذا يقصد. لم تكن العلاقة بينها وبين رسول الله(ص) علاقة بنت وأب، وإن كان ذلك في عمق القرابة، ولكنَّها كانت علاقةً تمتزج فيها المحبة بالرسالة.

وهكذا، كانت طفولتها تلاحق آلام رسول الله(ص)، فإذا اعتدى عليه المشركون بطريقة وبأخرى، كانت تواسيه بدموعها، وعمرها لا يكاد يطفو فوق الخمس سنوات. كانت تعيش معه في بيته، فأعطته عندما فقد أمّها كلّ ما كان بحاجة إليه في موقع بشريّته الإنسانيّة؛ أعطته كلّ حنان الأم، وكلّ العاطفة التي كان يتلمّسها في أمّها، ولذلك قال عنها إنّها "أم أبيها".. كان يشعر بأنها أعادت له أمّه بما تمثّل الأمومة من عاطفة وحنان.

الإنسانة العالميَّة

وكانت الزهراء(ع) الإنسانة العالميَّة، ومن المؤسف أنَّنا حبسناها في دائرة المأساة، وهي الَّتي كانت أكبر من المأساة، فلم تذكر مأساتها، ولم تتحدّث عنها يوماً، وإنما ذكرت الحقّ في حقّ عليّ(ع)، كان كلّ همّها في كلّ ما تحدّثت به، وكلّ مواقفها مع المسلمين جميعاً ـ نساءً ورجالاً ـ كيف تؤكّد لهم أصالة الحقّ في ما يملكه عليّ(ع) من الشّرعية.

كانت الإنسانة التي عاشت معنى رسول الله في الرسالة، ومعنى عليّ في الإمامة، ولذلك كان صوتها صوت عليّ عندما تحدّث عن الحقّ الّذي لم يترك له من صديق، وكذلك لم يترك الحقّ لها من صديق؛ كانت الإنسانة التي تقف بكلّ صلابة في مواجهة الباطل، ولم تأخذها في الله لومة لائم.

ولذلك، لا بدَّ لنا من أن ندخل شخصيّة الزهراء في الواقع الإنسانيّ كلّه، لا أن نحبسها في دائرة مصيبة في وفاة هنا، أو في دائرة فرح في مولد هناك؛ إنَّ العالم بحاجة إلى سيّدة عظيمة طاهرة كفاطمة الزهراء(ع)، هذا العالم يتحدّث عن أكثر من سيدة في ما تنتجه النساء من جهود أو مواقع، ولكننا لا نجد في كلّ ما تحدّثوا عنه من تضحيات وأخلاق وإنسانيّة ما نجده في الزهراء(ع)؛ هذه الإنسانة التي تفكر في الناس أكثر مما تفكر في نفسها.

نحن نعتبر أنَّ القيمة الكبرى للإنسان المؤمن، هو أن يساوي الآخرين بنفسه، "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها"[2]، أما فاطمة الزهراء(ع)، فقد كانت تحبّ للناس أكثر مما تحبّ لنفسها، وهذا ما يرويه ولدها الإمام الحسن(ع)، عندما كانت تقوم الليل حتى تتورم قدماها، وكان يسمعها تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها، وكان يسألها: "يا أماه، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك"؟ فتقول: "يا بني، الجار ثم الدار"[3]. لقد كانت تفكّر في الآخرين قبل أن نفكّر في نفسها، وتتحسَّس آلامهم والظلم الذي يقع عليهم، أكثر مما تتحسَّسه في نفسها.

كانت إنسانيّتها كإنسانيّة زوجها وابن عمها أمير المؤمنين(ع) في مسألة الإيثار، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً}[4]، كانا يطويان يومهما جائعين، ويعطيان إفطارهما للمسكين واليتيم والأسير، كانا يقدّمان التّضحية كلّها، ويفعلان الخير كلّه، ويجسّدان الإيثار كلّه لوجه الله، وذلك يمثّل أعلى معاني الإنسانيّة.

الرّساليّة المجاهدة

وكانت الزّهراء(ع) إلى جانب ذلك ربّة بيت أخلصت لزوجها، حتى كان يجد في بيتها كلّ مناخ الروح وحيويّة الرّسالة، وكلّ الجهد الذي كانت تعيشه، وكان يقول: "استقت بالقربة حتى أثّر في صدرها، وجرت بالرحا حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها"[5]، وكانت لا تتأفّف، حتى إنّ علياً(ع) طلب منها أن تطلب من رسول الله(ص) خادماً يعينها في البيت، وذهب إلى رسول الله وحدّثه عن آلام الزهراء ومتاعبها في البيت، فكان جواب رسول الله(ص): "ألا أعلّمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما، فكبّرا أربعاً وثلاثين مرة، وسبّحا ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، واحمدا ثلاثاً وثلاثين تحميدة"، فقالت فاطمة: "رضيت عن الله وعن رسوله"[6]، وخلّدت الزهراء في تسبيحها، فأصبح تسبيح الزهراء تعقيب المؤمنين في صلاتهم وعند منامهم.

وكانت ـ وهي الزوجة والأم والبنت لرسول الله(ص) ـ تجمع نساء المهاجرين والأنصار، لتتلو عليهم ما تسمعه من حديث رسول الله(ص)، فكانت المعلّمة في الوقت الذي كانت حياتها محاصرة بكلّ المتاعب والظلمات، وكانت ترى أنّ على الإنسانة المؤمنة أن تملك الثقافة الإسلامية من أجل أن توجّه المؤمنات، لأنَّ المرأة في وعي الزهراء(ع) الَّذي هو وعي الإسلام، ليست كميّة مهملة، بل هي إنسان يتحمّل مسؤوليّة المجتمع كما الرجل، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[7]، لذلك، كانت تشعر بأنّ مشاكلها وتعبها لا يمنعانها من القيام بمسؤولياتها في توعية المؤمنات.

وكانت الإنسانة المجاهدة الَّتي وقفت أمام المهاجرين والأنصار في المسجد الَّذي كان يخطب فيه أبوها ويعظ الناس، وقد قيل بأن من يسمعها، فكأنه يسمع رسول الله(ص)، لأنَّها كانت تشبهه هدياً وسمتاً ومنطقاً، وقفت أمام المهاجرين والأنصار لتدافع عن الحقّ، ولتجادل في ما أثير من أمر "فدك"، وقد استطاعت أن تلقي محاضرة ثقافيّة يتمثّل فيها كلّ تعاليم الإسلام في خطوطه العامّة والخاصّة، فتحدّثت في مواجهة الكلمات التي أُريد لها أن تبعدها عن إرث أبيها، وتحدثت عن القرآن والنبي بهدوءٍ ورويّة، لأنها كانت ـ كأبيها وزوجها ـ في خطّ الإسلام، كانت القضية عندهم ليست أن يهينوا الآخرين الذين يختلفون معهم، بل يريدون أن يفتحوا عقولهم على الحق، وقلوبهم على المحبة.

وهكذا كانت الزهراء(ع) إنسان الحوار، وكانت تتنقل من موقع إلى موقع في المسلمين، لتحدّثهم عن عليّ(ع) وحقه، لأنها كانت تشعر بأنَّ رسالتها تتجاوز ذاتها، وبأن قضيّتها تتجاوز آلامها، لأنّ الإنسان الرّسالي هو الذي يعيش مسؤولية الرسالة قبل أن يعيش مسؤولية الذات.

الصّابرة المحتسبة

وعاشت الزّهراء(ع) حياةً صعبة عندما أسيء إليها بالهجوم على بيتها، وأسيء إليها في أكثر من جانب، ولكنّها كانت الصّابرة المحتسبة، وكانت الإنسان الَّذي يعيش رسالته، والَّذي يعرف كيف يحتجّ، وكان آخر احتجاجها أنّها أوصت علياً(ع) بأن يدفنها ليلاً، حتّى تؤكّد الحقّ في ذلك، في احتجاج صامت بالموت، كما هو الاحتجاج الناطق بالحياة.

وهكذا استطاعت الزهراء(ع) ـ مع عليّ(ع) ـ أن تنشئ لنا حسناً وحسيناً؛ هذين العظيمين الإمامين إن قاما وإن قعدا، وهما سيدا شباب أهل الجنة. كانت روحانية الزهراء ونبضات قلبها بالحنان، هي الَّتي غذت هذين الإمامين، وغرست فيهما محبة الله وعمق الإسلام وصفاءه ونقاءه.

وكانت خليفة الزهراء(ع) في قوّتها وصلابتها وجهادها ووعيها، ابنتها زينب(ع)؛ هذه السيّدة المجاهدة العظيمة التي استطاعت أن تكون مع الحسين(ع) جنباً إلى جنب، تعاونه وتساعده وتفتح قلبه وتعيش آلامه في كربلاء، حتى إذا كانت المأساة، انطلقت لتقود الرّسالة وخطّ الإمامة، حتى لا يضيع في المأساة، فوقفت أمام ابن زياد وقرّعته، وأمام أهل الكوفة وأنّبتهم، وأمام يزيد وهاجمته وقالت: "فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا فلا تمحو ذكرنا ولا تميت ذكرنا"[8].

الأسوة والقدوة

ونلتقي بالسيّدة الزهراء(ع)؛ هذه الإنسانة التي أذهب الله عنها الرّجس، فليس هناك رجس في فكرها وعاطفتها وفي كلّ حياتها، وهي العصمة كلّها من خلال آية التَّطهير، والعصمة من خلال أنّها سيدة نساء أهل الجنة، والعصمة في كلّ حياتها، لأنّها كانت تمثّل الطهارة كلّها. لذلك، نحن نريد أن ننطلق من جديد في كلّ موقع من المواقع التي نتذكّر فيها الزهراء(ع)، وأن نخطّط لتكون(ع) السيدة المسلمة العالمية الَّذي ينطق العالم باسمها ليكتشف إنسانيَّتها، وليكتشف هذه الأبعاد المتنوّعة التي تصلح لأن تكون نموذجاً للمرأة في كلّ مكان في العالم.

إنَّ علينا أن نبعد الزهراء(ع) عن جوِّ المصيبة، وإن كانت المصيبة عظيمة، لأنَّنا نريد لها(ع) أن تعيش في وجداننا، في قلوبنا، في ثقافتنا، في أخلاقنا، في روحيتنا، لتكون قدوةً للرجال والنساء.

وقديماً، قال أمير الشعراء أحمد شوقي، وهو يتحدَّث عنها وعن أبيها:

ما تمنّى غيرها نسلاً ومن            يلد الزهراء يزهد في سواها

*ألقيت هذه الخطبة بتاريخ: ١٨/٧/٢٠٠٣/ الموافق: 18 جمادى الأولى 1424هـ.


[1]  [الأحزاب: 33].

[2]  وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 12، ص 212.

[3]  المصدر نفسه، ج 4، ص 1150.

[4]  [الإنسان: 8، 9].

[5]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 82، ص 330.

[6]  وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 6، ص 446.

[7]  [التوبة: 71].

[8]  بحار الأنوار، ج 45، ص 135.

في ذكرى وفاة الصدّيقة الطاهرة السيّدة فاطمة الزهراء(ع)، كان العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض)، قد ألقى خطبة تطرَّق فيها إلى هذه المناسبة، وتحدّث عن مآثر الزهراء(ع) ورساليّتها. وقد جاء فيها:

أمّ أبيها

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[1]، من أهل هذا البيت، السيّدة الطّاهرة المعصومة؛ سيّدة نساء أهل الجنّة، وسيدة نساء العالمين، وسيدة نساء المؤمنين ـ كما جاء عن رسول الله(ص) في كتب الصحاح من أهل السنّة والشيعة معاً ـ السيّدة فاطمة الزهراء(ع)؛ هذه الإنسانة الّتي عاشت مع هؤلاء الَّذين يمثّلون المستوى الأعلى في البشريَّة، في كلِّ معاني الطهر والعصمة والإنسانيّة والرساليّة والانفتاح على كلّ المحرومين والمستضعفين والمظلومين، والمواجهة لكلّ الظالمين والمستكبرين..

هذه الإنسانة العظيمة التي لم تقتصر عظمتها على أنَّها ابنة رسول الله(ص)، والتي عاشت في عقله وقلبه وروحه، وامتزجت به منذ طفولتها إلى شبابها الَّذي لم يكتمل، فذهبت إلى ربها في عمر الورود، فكانت مع رسول الله(ص) روحاً وقلباً وعقلاً، حتى اندمجت به اندماجاً جعلها تعيش كلّ مشاعره وأحاسيسه، وتعرف من نظرات عينيه ماذا يريد، وتعرف من خطواته في بيتها ماذا يقصد. لم تكن العلاقة بينها وبين رسول الله(ص) علاقة بنت وأب، وإن كان ذلك في عمق القرابة، ولكنَّها كانت علاقةً تمتزج فيها المحبة بالرسالة.

وهكذا، كانت طفولتها تلاحق آلام رسول الله(ص)، فإذا اعتدى عليه المشركون بطريقة وبأخرى، كانت تواسيه بدموعها، وعمرها لا يكاد يطفو فوق الخمس سنوات. كانت تعيش معه في بيته، فأعطته عندما فقد أمّها كلّ ما كان بحاجة إليه في موقع بشريّته الإنسانيّة؛ أعطته كلّ حنان الأم، وكلّ العاطفة التي كان يتلمّسها في أمّها، ولذلك قال عنها إنّها "أم أبيها".. كان يشعر بأنها أعادت له أمّه بما تمثّل الأمومة من عاطفة وحنان.

الإنسانة العالميَّة

وكانت الزهراء(ع) الإنسانة العالميَّة، ومن المؤسف أنَّنا حبسناها في دائرة المأساة، وهي الَّتي كانت أكبر من المأساة، فلم تذكر مأساتها، ولم تتحدّث عنها يوماً، وإنما ذكرت الحقّ في حقّ عليّ(ع)، كان كلّ همّها في كلّ ما تحدّثت به، وكلّ مواقفها مع المسلمين جميعاً ـ نساءً ورجالاً ـ كيف تؤكّد لهم أصالة الحقّ في ما يملكه عليّ(ع) من الشّرعية.

كانت الإنسانة التي عاشت معنى رسول الله في الرسالة، ومعنى عليّ في الإمامة، ولذلك كان صوتها صوت عليّ عندما تحدّث عن الحقّ الّذي لم يترك له من صديق، وكذلك لم يترك الحقّ لها من صديق؛ كانت الإنسانة التي تقف بكلّ صلابة في مواجهة الباطل، ولم تأخذها في الله لومة لائم.

ولذلك، لا بدَّ لنا من أن ندخل شخصيّة الزهراء في الواقع الإنسانيّ كلّه، لا أن نحبسها في دائرة مصيبة في وفاة هنا، أو في دائرة فرح في مولد هناك؛ إنَّ العالم بحاجة إلى سيّدة عظيمة طاهرة كفاطمة الزهراء(ع)، هذا العالم يتحدّث عن أكثر من سيدة في ما تنتجه النساء من جهود أو مواقع، ولكننا لا نجد في كلّ ما تحدّثوا عنه من تضحيات وأخلاق وإنسانيّة ما نجده في الزهراء(ع)؛ هذه الإنسانة التي تفكر في الناس أكثر مما تفكر في نفسها.

نحن نعتبر أنَّ القيمة الكبرى للإنسان المؤمن، هو أن يساوي الآخرين بنفسه، "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها"[2]، أما فاطمة الزهراء(ع)، فقد كانت تحبّ للناس أكثر مما تحبّ لنفسها، وهذا ما يرويه ولدها الإمام الحسن(ع)، عندما كانت تقوم الليل حتى تتورم قدماها، وكان يسمعها تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها، وكان يسألها: "يا أماه، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك"؟ فتقول: "يا بني، الجار ثم الدار"[3]. لقد كانت تفكّر في الآخرين قبل أن نفكّر في نفسها، وتتحسَّس آلامهم والظلم الذي يقع عليهم، أكثر مما تتحسَّسه في نفسها.

كانت إنسانيّتها كإنسانيّة زوجها وابن عمها أمير المؤمنين(ع) في مسألة الإيثار، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً}[4]، كانا يطويان يومهما جائعين، ويعطيان إفطارهما للمسكين واليتيم والأسير، كانا يقدّمان التّضحية كلّها، ويفعلان الخير كلّه، ويجسّدان الإيثار كلّه لوجه الله، وذلك يمثّل أعلى معاني الإنسانيّة.

الرّساليّة المجاهدة

وكانت الزّهراء(ع) إلى جانب ذلك ربّة بيت أخلصت لزوجها، حتى كان يجد في بيتها كلّ مناخ الروح وحيويّة الرّسالة، وكلّ الجهد الذي كانت تعيشه، وكان يقول: "استقت بالقربة حتى أثّر في صدرها، وجرت بالرحا حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها"[5]، وكانت لا تتأفّف، حتى إنّ علياً(ع) طلب منها أن تطلب من رسول الله(ص) خادماً يعينها في البيت، وذهب إلى رسول الله وحدّثه عن آلام الزهراء ومتاعبها في البيت، فكان جواب رسول الله(ص): "ألا أعلّمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما، فكبّرا أربعاً وثلاثين مرة، وسبّحا ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، واحمدا ثلاثاً وثلاثين تحميدة"، فقالت فاطمة: "رضيت عن الله وعن رسوله"[6]، وخلّدت الزهراء في تسبيحها، فأصبح تسبيح الزهراء تعقيب المؤمنين في صلاتهم وعند منامهم.

وكانت ـ وهي الزوجة والأم والبنت لرسول الله(ص) ـ تجمع نساء المهاجرين والأنصار، لتتلو عليهم ما تسمعه من حديث رسول الله(ص)، فكانت المعلّمة في الوقت الذي كانت حياتها محاصرة بكلّ المتاعب والظلمات، وكانت ترى أنّ على الإنسانة المؤمنة أن تملك الثقافة الإسلامية من أجل أن توجّه المؤمنات، لأنَّ المرأة في وعي الزهراء(ع) الَّذي هو وعي الإسلام، ليست كميّة مهملة، بل هي إنسان يتحمّل مسؤوليّة المجتمع كما الرجل، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[7]، لذلك، كانت تشعر بأنّ مشاكلها وتعبها لا يمنعانها من القيام بمسؤولياتها في توعية المؤمنات.

وكانت الإنسانة المجاهدة الَّتي وقفت أمام المهاجرين والأنصار في المسجد الَّذي كان يخطب فيه أبوها ويعظ الناس، وقد قيل بأن من يسمعها، فكأنه يسمع رسول الله(ص)، لأنَّها كانت تشبهه هدياً وسمتاً ومنطقاً، وقفت أمام المهاجرين والأنصار لتدافع عن الحقّ، ولتجادل في ما أثير من أمر "فدك"، وقد استطاعت أن تلقي محاضرة ثقافيّة يتمثّل فيها كلّ تعاليم الإسلام في خطوطه العامّة والخاصّة، فتحدّثت في مواجهة الكلمات التي أُريد لها أن تبعدها عن إرث أبيها، وتحدثت عن القرآن والنبي بهدوءٍ ورويّة، لأنها كانت ـ كأبيها وزوجها ـ في خطّ الإسلام، كانت القضية عندهم ليست أن يهينوا الآخرين الذين يختلفون معهم، بل يريدون أن يفتحوا عقولهم على الحق، وقلوبهم على المحبة.

وهكذا كانت الزهراء(ع) إنسان الحوار، وكانت تتنقل من موقع إلى موقع في المسلمين، لتحدّثهم عن عليّ(ع) وحقه، لأنها كانت تشعر بأنَّ رسالتها تتجاوز ذاتها، وبأن قضيّتها تتجاوز آلامها، لأنّ الإنسان الرّسالي هو الذي يعيش مسؤولية الرسالة قبل أن يعيش مسؤولية الذات.

الصّابرة المحتسبة

وعاشت الزّهراء(ع) حياةً صعبة عندما أسيء إليها بالهجوم على بيتها، وأسيء إليها في أكثر من جانب، ولكنّها كانت الصّابرة المحتسبة، وكانت الإنسان الَّذي يعيش رسالته، والَّذي يعرف كيف يحتجّ، وكان آخر احتجاجها أنّها أوصت علياً(ع) بأن يدفنها ليلاً، حتّى تؤكّد الحقّ في ذلك، في احتجاج صامت بالموت، كما هو الاحتجاج الناطق بالحياة.

وهكذا استطاعت الزهراء(ع) ـ مع عليّ(ع) ـ أن تنشئ لنا حسناً وحسيناً؛ هذين العظيمين الإمامين إن قاما وإن قعدا، وهما سيدا شباب أهل الجنة. كانت روحانية الزهراء ونبضات قلبها بالحنان، هي الَّتي غذت هذين الإمامين، وغرست فيهما محبة الله وعمق الإسلام وصفاءه ونقاءه.

وكانت خليفة الزهراء(ع) في قوّتها وصلابتها وجهادها ووعيها، ابنتها زينب(ع)؛ هذه السيّدة المجاهدة العظيمة التي استطاعت أن تكون مع الحسين(ع) جنباً إلى جنب، تعاونه وتساعده وتفتح قلبه وتعيش آلامه في كربلاء، حتى إذا كانت المأساة، انطلقت لتقود الرّسالة وخطّ الإمامة، حتى لا يضيع في المأساة، فوقفت أمام ابن زياد وقرّعته، وأمام أهل الكوفة وأنّبتهم، وأمام يزيد وهاجمته وقالت: "فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا فلا تمحو ذكرنا ولا تميت ذكرنا"[8].

الأسوة والقدوة

ونلتقي بالسيّدة الزهراء(ع)؛ هذه الإنسانة التي أذهب الله عنها الرّجس، فليس هناك رجس في فكرها وعاطفتها وفي كلّ حياتها، وهي العصمة كلّها من خلال آية التَّطهير، والعصمة من خلال أنّها سيدة نساء أهل الجنة، والعصمة في كلّ حياتها، لأنّها كانت تمثّل الطهارة كلّها. لذلك، نحن نريد أن ننطلق من جديد في كلّ موقع من المواقع التي نتذكّر فيها الزهراء(ع)، وأن نخطّط لتكون(ع) السيدة المسلمة العالمية الَّذي ينطق العالم باسمها ليكتشف إنسانيَّتها، وليكتشف هذه الأبعاد المتنوّعة التي تصلح لأن تكون نموذجاً للمرأة في كلّ مكان في العالم.

إنَّ علينا أن نبعد الزهراء(ع) عن جوِّ المصيبة، وإن كانت المصيبة عظيمة، لأنَّنا نريد لها(ع) أن تعيش في وجداننا، في قلوبنا، في ثقافتنا، في أخلاقنا، في روحيتنا، لتكون قدوةً للرجال والنساء.

وقديماً، قال أمير الشعراء أحمد شوقي، وهو يتحدَّث عنها وعن أبيها:

ما تمنّى غيرها نسلاً ومن            يلد الزهراء يزهد في سواها

*ألقيت هذه الخطبة بتاريخ: ١٨/٧/٢٠٠٣/ الموافق: 18 جمادى الأولى 1424هـ.


[1]  [الأحزاب: 33].

[2]  وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 12، ص 212.

[3]  المصدر نفسه، ج 4، ص 1150.

[4]  [الإنسان: 8، 9].

[5]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 82، ص 330.

[6]  وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 6، ص 446.

[7]  [التوبة: 71].

[8]  بحار الأنوار، ج 45، ص 135.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية