في هذه الأيام، نلتقي بذكرى رسول الله(ص)، في مبعثه على بعض الروايات المروية عن أئمة أهل البيت(ع)، وفي إسرائه ومعراجه.
ونحن لا نريد أن نفعل كما تتحرك التقاليد من تفريغ الذكرى من مضمونها، لتبقى مجرد تاريخ نستذكره، ومناسبة نعيشها، من دون أن نعرف ماذا هناك، ومن دون أن نستوحي ماذا هناك.
إننا عندما نستعيد ذكرى رسول الله(ص)، فإننا نريد أن نفهمه ونعرفه ونتابعه ونستغرق في كل حياته، لأن حياته بمجملها رسالة، لأنه الرسول الذي تجسدت الرسالة في كل حركة كيانه، فهو رسالة متحركة، وهو قرآن ناطق.
فكلما فهمنا رسول الله(ص) أكثر، فهمنا الإسلام أكثر. ومن هنا، تأتي أهمية معرفة السيرة النبوية الشريفة، وربما كانت أفضل سيرة للنبيّ هي سيرته في القرآن، لأنّ الله حدثنا عن حركة الرسالة في الرسول، وعن صفات الرسول بالأسلوب الّذي يتجسّد في كلّ ما يتحرك فيه.
مهمة الرسول(ص) الأساس:
في البداية، ونحن في ذكرى المبعث، نحاول أن نستوحي من القرآن ما هي المهمة الأساس للنبي(ص) في حركة الرسالة.. فنحن نقرأ في القرآن: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}.
فالدّور الذي يقوم به أولاً: هو أن يتلو على الناس آيات الله كما نزلت، لا يزيد فيها ولا ينقص {ولو تقوّلَ علينا بعضَ الأقَاويل* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}.
الجوّ القرآني:
وقد حدثنا الله على لسان رسوله أنّه قال: {وأن أتلوَ القرآنَ}. فالقرآن هو مهمة الرسول الأساس، بأن يتلوه ليسمعه الناس ويفكّروا فيه تلقائياً، ويعيشوا معه. وهذا ما تحدثنا عنه سيرته، في أنه كان يتلو القرآن في مكة، والقوم يأتون متخفّين يستمعون إليه، كأبي سفيان وأبي جهل وغيرهما، وكانوا يحاولون أن لا يفتضح سرّهم، إلّا أنهم كشفوا بعضهم بعضاً في نهاية المطاف، وكانوا يتأثرون به وينفعلون.
وهنا نستوحي أن تلاوة القرآن لا بدّ من أن تكون برنامجاً تربوياً في كل الواقع الإسلامي، وذلك بأن نعيش القرآن في أنفسنا، وليعيشه الناس من حولنا، وأن نجعل الجوّ من حولنا قرآنياً. ولذلك، فا بدّ من أن نتابع التعليم الإلهي الذي يريدنا أن نقرأ القرآن، وأن ننقله من جيل إلى جيل، ليبقى كتاب الله حياً في كلماته، ولا يكفي أن يبقى حياً في عيوننا عندما تحدّق فيه، أو في أسماعنا عندما تستمع إليه.. اِقرأه واسمعه وتدبّره.. فهذا هو عمق القرآن.
مهمة التزكية:
{يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ}. وهذه هي المهمة الثانية، وهي مهمة "التزكية" التي تمثّل معنى التربية والتطهير والتنمية، فدور النبي(ص) هو أن ينمّي النفس الإنسانية على أساس الطهر والنقاء، بحيث يجعل الإنسان الذي يعيش معه، أو الذي ينطلق من خلاله إلى الحقّ، إنساناً نامياً في عقله وقلبه وروحه وكلّ طاقاته، على أساس النقاء والطهارة.
{وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}. وتعليم الكتاب، هو بأن يجعله عقلاً من خلال ما يطلق فيه عقله النبويّ الذي يمنح الإنسان عقلاً قرآنياً، ويعلّم القلب كيف ينفتح على القرآن، ليضمّ القيمة العاطفية القرآنية، فلا يحبّ القلب إلا من أحبّه الله وما أحبّه الله، ولا يبغض إلا من أبغضه الله وما أبغضه الله.
فالنبيّ(ص)، يعلمنا الكتاب كفكر وبرنامج ومنهج وخط في الحياة، سواء الخط العام أو التفصيلي، والله تعالى يريد أن نعلم علم الكتاب وعلم الواقع، وكيف نوفق بين الكتاب والواقع.. ويبقى من علم رسول الله(ص) وفكره الكثير {ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون}، فهو المعلم للحياة من خلال ما يلهمه الله من معرفة للحياة. ومن هنا، كانت سنّته فيما لم يفصّله الكتاب هي ما ألهمه الله من معرفة حاجة الحياة إلى الشريعة.
مهمّة الحكم بين الناس:
وهناك مهمة أخرى، وهي مهمّة الحكم بين الناس {إنّا أنزلْنا إليكَ الكتابَ بالحقِّ لتحكمَ بينَ النَّاسِ بما أراكَ الله}. فدوره هو أن يحكم بين الناس في منازعاتهم وخصوماتهم، إن في الفكر أو في الواقع، بما أراه من الحقّ، وأراد من خلال تأديبه له {ولا تكن للخائنين خصيماً} أن يكون مع الحقّ، وأن لا يدافع عن الخائنين.
وقد جعل الله الحكم بالحقّ الذي يتسع لكلّ قضايا الحياة من مهمات الخلافة في الأرض {يا داود إنّا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكُم بين النّاس بالحقّ}. وقد ربط الله سبحانه وتعالى بين الإيمان وبين تحكيم النبيّ(ص)، فلا يكفي في الإيمان أن تشهد بالوحدانية أولاً، وبالرسالة ثانياً، ولكن أن تحكّم النبي(ص) عندما يكون في الحياة، وأن تحكّم شريعته عندما يغيب عن الحياة، ليرضى عقلك وقلبك وكل كيانك بما حكم {فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم} وإذا حكمت {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً}.
ثم يتحدث الله إلى أهل الكتاب، أن هذا الرسول يعلم علم الكتاب، ولذلك، فإنكم لا تستطيعون إخفاء شيء من الكتاب لأنه يعلمه، {يا أهلَ الكتابِ قد جاءكم رسولنا يبيِّن لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتابِ ويعفو عن كثير}، ما يوحي بأن النبي(ص) جاء يحمل الكتاب كلّه، لأنه جاء مصدّقاً لما بين يديه، فهو يملك ثقافة الكتاب كله، فإذا أخفوا ما يرثونه منه، فإنَّ النبيَّ يعرف ذلك ويعلمه.
ثمّ يذكر القرآن أنّ من مهام النبيّ أن ينتصر على الشرك ويقضي عليه {هو الَّذي أرسلَ رسولَه بالهدى ودينِ الحقِّ ليظهره على الدّينِ كلِّه ولو كرهَ المشركون}. وهكذا استتمّت للنبي(ص) النصرة على المشركين في نهاية المطاف.
صفة النبي الإنسانية:
كما يحدثنا الله سبحانه وتعالى عن صفة النبي(ص)، من خلال ما يثيره في النفس الإنسانية من البشارة والخوف من خلال صفته كبشير ونذير {يا أيُّها النبيُّ إنّا أرسلناك شاهداً ومبشّراً ونذيراً* وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}، فهو الداعي إلى الله برسالته، وهو المبشِّر بالجنة لمن آمن وأطاع، وهو المنذر بالنار لمن كفر وعصى، وهو الشاهد على الناس فيما يتحركون فيه على خطّ الاستقامة أو الانحراف، ليشهد أمام الله بكلّ ما رآه.
وهو السراج الذي يضيء للناس برسالته من خلال الرسالة التي كلّها نور وضياء، ولذا كان دوره أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، لأنّه السِّراج المنير بعقله وقلبه وروحه وحياته.
ربط النّاس بالرّسالة:
ويصوّر لنا القرآن أيضاً كيف كان النبي(ص) يتحدّث مع الناس ليربطهم بالرسالة بعيداً من أيّ تأثير آخر، لأنه لو جاء وبيده خزائن الأرض، لقيل إن الناس اتبعوه لماله، ولو حدَّث الناس بالغيب، لقيل إنه استلب وجدانهم من خلال الغيب الذي يترك تأثيره على نفوسهم، ولو كان ملكاً، لقيل إن ملائكيته هي التي تركت تأثيرها عليهم.
ففي الحقيقة، إنّ الله أراد للنبي أن يترك الناس مع الرسالة بعيداً من أي تأثير آخر، وأن يقول للإنسان بأنّ لك عقلاً تفكر فيه، وأن لك عينين تبصر بهما وأذنين تسمع بهما، ففكر بعيداً عن أية مؤثرات خارجية وعن أية أوضاع غيبية.
فالنبوّة غيب، لأنها مرتبطة بمعنى غيبي، وهو الوحي الذي ينزل من السماء، ولكن النبي(ص) لم يرد للناس أن يؤمنوا به من أجل وضع غيبي، بل أن يؤمنوا به من خلال عقل يفكر، فالله يحدثنا عن النبي(ص) أنه قال: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ـ لا أمنّيكُم بخزائن الدنيا ـ ولا أعلم الغيب ـ إلا بما يلقيه الله إليّ من شؤون غيبية ـولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إليّ}، {قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليَّ}. لذلك، خاطبوني بما تخاطبون به البش، وإنني أتحرك فيكم برسالتي على أساس أنّني بشر ألقي إليكم الرّسالة لتفكّروا فيها ولتقتنعوا بها، ولتكون قناعتكم من خلال وعيكم الوجداني، لا من خلال مؤثّرات أخرى في شخصية الرسول خارجة عن الطبيعة.
ولقد رأيناه يحدّث النّاس في طبيعة مهمّته بأنّ الرسالة لا تخضع للأشياء المادية الخارجة عن بشريته، {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}.
من هنا، نرى أن الله كان يحدّث الناس في أن الرسالة هي التي أعطت النبي(ص) كل ما جاء به، ولم تكن هناك معرفة سابقة بها {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنتَ ولا قومك من قبل هذا فاصبر إنَّ العاقبة للمتقين}، وفي آية أخرى: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان}، فكلّ معرفتك التفصيلية كانت ناجمةً عن وحي الله إليك.
ولقد كرَّر الله تعالى هذه المسألة في أكثر من جانب، عندما قصَّ عليه كثيراً من القصص، سواء في قصّة مريم أو في قصّة يوسف أو غير ذلك، ليؤكد سبحانه أنه هو الذي أنزل عليه ذلك {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}.
حديثه مع الناس:
وأما عن حديث النبي(ص) مع الناس، فهو {قل ما كنت بدعاً من الرّسل} ألا تعرفون الرسل الذين جاؤوا من قبلي؟ ألم تقرأوا عنهم؟ أنا واحد منهم {وما أدري ما يُفعلُ بي ولا بكم إن أتّبع إلّا ما يوحَى إليَّ وما أنا إلّا نديرٌ مبين}. والله يعطي رسوله ما يريد وما يمكن أن يفتح له كلّ الغيب والطاقات، ولكنه سبحانه أراد لأنبيائه أن يدخلوا إلى الناس من خلال رسالتهم، بحيث لا يكون هناك إلا الرسالة والإنسان، لأن أي نوع من أنواع المؤثرات الخارجية التي تجعل الإنسان يؤمن بشيء، سوف تزول عندما تزول المؤثرات، ولكن عندما تقتنع عقلياً بشيء، فلن يضيرك إن تغيرت الأمور أو لم تتغير، لأن وعي عقلك للأمر يجعلك مستمراً في الخط.
الأنبياء أرسلوا بالعقل:
ولقد تحدّثت مراراً أنّ الأنبياء جميعاً لم يرسلوا إلا بالعقل، أي بالوحي الذي يخاطب عقل الإنسان، وليست المعجزة أساس الدعوة، بل كان العقل أساسها، لأن المعجزات إنما جاءت لردّ التحدي لا لإثبات الرسالة، الله أراد للناس أن يؤمنوا بالرسول وبالرسالة من خلال ما يفكرون فيه بعقولهم في مضمون الرسالة وشخصية الرسول، لذلك نجد أن الرسول(ص) يؤكد دائماً أن الله هو الشهيد، فعندما يسألونه من الذي يشهد لك، يقول: {كفى بالله شهيداً بيني وبينكم}، لأن معنى ذلك هو أن رسالتي هي التي يوحي بها الله إليكم في حركة عقولكم ومنطق فطرتكم، فلست بحاجة إلى غير هذا.
فكما أن الله أشهد الناس على أنفسهم من جهة شهادة فطرتهم، كذلك يشهد النبي لله على أنه الرسول من خلال فطرة الناس، فعندما تقرأ قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى}. فمتى أشهدنا الله على ذلك، ومن منا يتذكر تلك الشهادة التي يذهب بعض العلماء أنها كانت في عالم الذر، فإذا كنا لا نتذكر ذلك، فكيف يحتجّ الله علينا بما لا نتذكره؟! لذلك، يقول المفسرون إنّ الله أشهدهم على أنفسهم، بأن ركّب في داخل شخصيتهم وفطرتهم وعقولهم ما لو أشهدهم على أنفسهم، لنطقوا من خلال عمق الفطرة وأصالة العقل أنّ الله هو ربّهم.
فقوله تعالى: {كَفَى بالله شهيداً}، يعني أن الله يشهد لرسوله بالرسالة من خلال حقائقها التي تفرض نفسها على عقل الإنسان ووجدانه، فيما لو كان عقله مفتوحاً ووجدانه مستقيماً.
فمنذ أن بعث الله الرّسل، أراد للإيمان أن ينطلق من عقل الإنسان، لا أن يكون صدمة تصدم ذاته ليؤمن من منطلق الصّدمة، لذلك قال سبحانه: {إنَّما يتذكَّر أولو الألبابِ}. وكان يتحدث عن الكافرين أن لهم قلوباً لا يعقلون بها، وأنّ لهم آذاناً لا يسمعون بها، وأنّ لهم عيوناً لا يبصرون بها، كما كان يخاطب في المؤمنين عقولهم، لأنها هي التي تقودهم إلى الإيمان، مثلما كان يخاطب في الكافرين انحرافهم عن خطّ العقل والحسّ الذي يتحركون فيه.
السراج المنير:
فدور النبي إذاً هو بأن يكون نوراً، ولا بدّ لهذا السراج المنير وللآيات التي تنزل عليه كنور {هو الذي ينزّل على عبده آيات بيّنات ليخرجكم من الظّلمات إلى النّور}، من أن تؤكّد معنى العصمة، لأن من كان نوراً كله، كيف يكون الباطل في عقله والباطل ظلام؟ وكيف يكون الباطل في قلبه والباطل ظلام؟ وكيف يكون في قوله وفعله والباطل ظلام؟ فمن عاش الظلام في قلبه وعقله وحركته وكلامه، كيف يكون سراجاً منيراً؟! فالسراج هو الذي يحمل النّور ولا ظلمة فيه، وكيف يبعث الله رسولاً ليخرج الناس من الظلمات إلى النور إن لم يكن نوراً، فمن لا يكون زكيّاً، كيف يا ترى يزكّي الناس؟ ومن لا يكون ذاكراً، كيف يذكّر الناس؟ ومن لا يكون حقاً كلّه ونوراً كله، كيف يمكن أن يغيّر العالم على أساس الحقّ؟ وكيف يبدّل ظلمات الإنسان فيما يفكر فيه وفيما يعيشه؟ وهذا ما نستدلّ به على عصمة النبي(ص) في كل مواقعه، لأنه كما أكدنا مراراً، ليس مجرد ساعي بريد يأتي بالرسالة ويقدّمها إلينا، بل جاء ليعلّم الناس الكتاب والحكمة، ويعلّمهم ما لم يكونوا يعلمون، وليزكّيهم وليخرجهم من الظلمات إلى النور، فلا يمكن إلّا أن يكون معصوماً، لا في التبليغ فحسب، بل في كل حياته، لأنه رسالة في مفردات حياته، كما هو رسالة في كل الآيات.
أخلاقه العملية:
هذه ـ أيها الأحبة ـ بعض الصور القرآنية التي يمكن أن نستجلي منها صورة النبي، وإذا أردنا أن نأتي إلى أخلاقه العمليّة، فكيف نتمثلها؟ يقول تعالى: {فَبِما رحمةٍ من الله لِنْتَ لهم ولو كنْتَ فظاً غليظَ القلبِ لانفضّوا من حولِك}. فلقد كان الليّن في قلب، الذي يفيض بالسّماحة، فلا يحمل سوءاً ولا قسوةً لأحد، واللّين في لسانه بكلماته العذبة التي تفتح قلوب الناس عليه وعلى رسالته.
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ}. فما هي عناوين حركته الرسالية: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ}، ليدفع الحياة في خط الاستقامة التي يمثلها المعروف، ويبعدها عن خطّ الانحراف الذي يمثله المنكر.
{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ}، فكل ما أحلّه لهم، هو ما تستطيبه أذواقهم وأجسادهم وحياتهم بكلّ مفرداتها.
{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ}. فكلّ حرام خبيث، من خلال ما يحدثه من خباثة ومفاسد في العقل أو الجسد.
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ}، والإصر هو الثقل {وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}، فلقد جاء من أجل أن يحطّم كلّ أغلال الحقد والبغضاء والشرك والكفر والتخلّف والجهل وغيرها.
وفي الجانب الشعوري من النبي(ص)، يقول الله تعالى: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم} يتفاعل معكم، ويحسّ بما تحسّون، ويشعر بما تشعرون، ويتألم كما تتألمون، ويفرح لما تفرحون {عزيزٌ عليه ما عنتّم}. والعنت المشقة، فكلّ ما تواجهونه من مشقّات يثقله ويؤلمه، إنه التفاعل الإنساني الروحي مع ما يعيشه الناس من حوله.
حرصه على الناس:
{حريصٌ عليكم} بأن لا تسقطوا ولا تضلّوا ولا تضيعوا، تماماً كما تحرص الأم على أولادها.
{بالمؤمنين رؤوف} يرأف بهم {رحيم} يرحمهم في كل أوضاعهم وكل حياتهم.. {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين}، فهو الرحمة في خلقه وفي رسالته وكل حركته في الحياة.
ويعطينا الله أيضاً الخط العام للرسالة في أنها لا تثقل الناس، وهو قوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}. فلقد أراد أن يمنحهم رسالة ميسّرة {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}. وإذا أثقلت الرسال بعض الناس، فإن هذا الثقل لم يأتِ من الرسالة، وإنما جاء من خلال عبثهم الذي حوّل اليسر إلى عسر، والانفتاح إلى انغلاق.
كان النبي(ص) ـ أيها الأحبّة ـ يحبّ الناس، ولذلك كان يحزن على الذين يسارعون في الكفر، فهو لا يحزن على نفسه، ولكنه يحزن رأفةً بهم، {ولا يحزنك الّذين يسارعون في الكفر}. كان يتألم لأنّ الناس لا ينفتحون على الهدى. وقد أنزل الله آياته ليفتح فيها قلبه على الواقع {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ}.
ويقول القرآن له، وهو الذي نزل على طريقة: "إياك أعني واسمعي يا جارة": {فلعلّك تارك بعض ما يوحي إليك وضائقٌ به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير}. فالآيات هنا لتنبّه الناس من خلال النبي(ص)، أن الدعاة إلى الله ربما يضيق صدرهم من خلال التحديات التي تواجههم، وبعض الاتهامات التي توجه إليهم، وبعض الأوضاع القلقة التي تحيط بهم، فيحاولون الابتعاد عن الرّسالة، والله تعالى يبيّن أنّ مهمّتهم هي أن ينذروا، وليقل الناس ما يقولون.
وفي آية أخرى: {وإن كان كبُر عليك إعراضهم}. والخطاب للناس من خلال النبيّ(ص) {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}. فلا يضيق صدرك، لأنّ هذه التحديات لم تنطلق من حقيقة، وإنما من حالة عناد وتمرّد، فلو أراد الله لجمعهم على الهدى بشكلٍ معجز، ولكنه أراد للرسالة أن تسير من خلال الأسباب الطبيعيّة.
صبره على الأذى:
وأراد الله تعالى منه أن يصبر، كما يريد من الدعاة كلهم أن يصبروا، ولقد كان النبي(ص) نبي المستضعفين، وكان الله يريد له أن يجالسهم، وكانت قريش تريد منه أن يطردهم، لأنهم لا يمثلون المستوى العالي في المجتمع، لكنّ الله يقول له إنّ هؤلاء هم أقرب الناس إلى التفاعل مع الرسالة، لأنهم لا يزالون يعيشون الفطرة، ولم تتلوّث عقولهم ولا نفوسهم بكلّ مغريات الحياة الدنيا {ولا تطردِ الَّذين يدعون ربهم بالغداةِ والعشيّ يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظّالمين}. فإن من يطرد المستضعفين من مجلسه، بحيث يحتقرهم ويميز الأغنياء عليهم من خلال غنى هؤلاء، فإنه ظالم، لأن الله يخاطب الناس من خلال النبي {فتطردهم فتكون من الظالمين}
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ عشنا مع النبي(ص) في القرآن، وعلينا أن نعيش روحه وخلقه ومنهجه وإخلاصه في الدعوة لربّه وللناس، وأن نعيش رحمته ورأفته للمؤمنين وحرصنا عليهم وتألمنا لآلامهم {وما محمّدٌ إلّا رسولٌ قد خلَتْ من قبله الرّسلُ أفإن مات أو قُتِل انقلبتُم على أعقابكم ومن ينقلِب على عقبيه فلن يضرَّ الله شيئاً وسيجزي الله الشَّاكرين}. فلا بدَّ من أن نتابع الطريق، وأن نتحرّك في خطّ الرّسالة.
لقد حمل رسالته وقال: "ما أوذيَ نبيّ مثل ما أوذيت"، وواجه الكثير من الكلمات السلبية والأفعال السلبية والاضطهاد والاتهام حتى في عقله، وبقي مصرّاً على الرسالة من أجل أن يبلّغها للناس، حتى أكمل الله للمؤمنين دينهم، وأتمّ عليه وعليهم نعمته ورضي لهم الإسلام ديناً {اليومَ أكملتُ لكم دينَكم وأتممْتُ عليكم نعمتي ورضيْتُ لكم الإسلامَ ديناً}.
التحدّيات الراهنة:
والإسلام ـ أيها الأحبّة ـ ولا سيما في هذه المرحلة، يواجه حرباً عالمية على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي والأمني، بحيث إنّ أعداء الله يحيطون به من كلّ جانب، ويعملون على إضعافه في نفوس المسلمين.. فيا أيها المسلمون.. كلّكم مسؤولون عن الإسلام، وإذا كان بعض الفقهاء يقول إنّ الدعوة إلى الإسلام واجب كفائيّ، وإذا قام بها البعض سقطت عن الكل، فأنا أقول لكم: إنها واجب عيني على كلّ مسلم ومسلمة، لأنّ مستوى الحرب الثقافيّة والأخلاقية والسياسية والاقتصادية، بلغ من القوة بحيث لو أنَّ المسلمين بأجمعهم وقفوا، لما استطاعوا أن يقوموا بما يواجه مثل هذا التحدّي، فكيف إذا لم يقم به إلّا القليل القليل؟!.
فبعض الناس يقولون إنّ الإسلام مهمة المشايخ، والبعض يقول إنّ الواجب عليّ أن أجلس في بيتي، وإذا سألني الناس أجبت، وإذا لم يسألني أحد فلا يجب عليّ ذلك، وكلّ إنسان يقول: أنا مشغول بعملي.. فيما كان المسلمون، حتى التجار منهم، يسافرون إلى أقاصي الأرض، وكان كلّ واحد يحمل في نفسه همّ إسلامه ليبلّغه إلى الشعوب التي يذهب إليها، كما يحمل همّ تجارته.
تعلّموا دينكم:
فيا أيها الأحبة: تعلّموا دينكم.. افرضوا على كلّ العلماء والمثقفين أن يعلّموكم.. اسألوهم حتى تتعلموا كل ما يدور في ذهنكم، ولا تتركوا شيئاً في عقولكم يبحث عن حقيقة إلا وتسألون عنه، فلا تخافوا من السؤال، لأنّ من واجب أهل العلم أن يجيبوا على كلّ سؤال يعرفونه، وأن يدرسوا ما لا يعرفونه ليجيبوا عنه، وخصوصاً أن الساحة مملوءة بالشبهات والإشكالات والتحديات.
الحرب كبيرة واسعة، ودين الله يستصرخكم، وقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع): "لوددت أنَّ السياط على رؤوس شيعتي لكي يتفقهوا في الدين"، وورد أيضاً: "أفِّ لشخص لا يفرّغ نفسه لدينه ليتعلّمه". قد تقولون بأننا مشغولون، ولكن قولوا لي، كم ساعة تجلسون إلى التلفاز لمشاهدة فيلم أجنبي، وكم من السّاعات تصرفونها في سهرات الشتاء في كلام لا يسمن ولا يغني من جوع؟! اجعلوا ساعة من الأربع والعشرين ساعة تتعلمون فيها دينكم في العقيدة والشريعة والخط، لتكونوا جميعاً دعاة إلى الله. ألا تقرأون في دعاء الافتتاح: "اللّهمّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك"؟ وذلك بأن يكون كل مسلم داعية إلى الله، وأن يصنع كلّ مسلم من نفسه في ثقافته وتجربته وحركته مشروع قائد {ولتكنْ منكم أمّةٌ يدعون إلى الخيرِ ويأمرون بالمعروفِ وينهونَ عن المنكرِ وأولئك هم المفلحون}.
الرّاحة حرام:
قلتها مراراً: (الراحة حرام) إلا بمقدار ما يمسك عليكم حياتكم وما عدا ذلك، يحرم، ولا سيما على أهل العلم، أن يكون لهم وقت فراغ للّهو والعبث، وأن يبتعدوا عن المسؤولية، ولو كان بإمكاننا أن ندخل إلى بيوت الناس لندعوهم إلى الله فلنفعل {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً}. فعلى الأقل أنذر عشيرتك الأقربين.. ألا تحبون أولادكم وبناتكم وزوجاتكم؟ فلو قيل لك إن ابنك أو ابنتك أو زوجتك تحترق في النار، فكيف تكون مشاعرك حينها؟ كيف والنّار نار الله {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
{يا أيها الناس اتّقوا ربَّكم إنّ زلزلة الساعة شيءٌ عظيم* يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عما أرضعت وتضع كلّ ذات حملٍ حملها وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد}.
نسأله تبارك وتعالى أن يعيننا بما يعين به الصالحين على أنفسهم، وأن يسلك بنا مسالك الصالحين، وأن يوفّقنا للقيام بما يجب علينا من مسؤوليات.. والحمد لله ربّ العالمين.
*من كتاب النّدوة، الجزء الرابع، ص 143-156.