في هذه الأيَّام، لا نزال نعيش في أجواء مولد صاحب الرِّسالة، نبيّنا وإمامنا وهادينا ومرشدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمَّد (ص).
اتّهاماتٌ لأذيَّة النَّبيّ (ص)
ونحن عندما ننفتح على ذكراه في مولده، سواء التزمنا الرّواية الَّتي تقول إنَّه ولد في الثّاني عشر من شهر ربيع الأوَّل، كما هو عليه الجمهور العام من المسلمين، ويوافقهم في ذلك الشَّيخ الكليني صاحب كتاب الكافي، أو قلنا بأنَّه ولد في اليوم السّابع عشر من شهر ربيع الأوَّل الَّذي عليه جمهور الإماميَّة، فإنَّنا لا بدَّ لنا من أن نجعل هذه الذكرى حركةً من أجل الحديث دائماً عن الإسلام، لأنَّ رسول الله (ص) ليس له في كلِّ حياته إلَّا الإسلام؛ أعطى كلَّ حياته وقلبه وعقله له، وتحمَّل كلَّ الأذى والضَّغط والحرمان في سبيله، حتَّى قال، كما روي عنه: "مَا أُوْذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ مَا أُوْذِيْتُ".
كانت الاتهامات ضدّ رسالته تتحرَّك من دون مسؤوليَّة، من خلال المشركين الَّذين فقدوا أيّ حجَّة يواجهونه بها، فكانوا كالكثير من النَّاس الَّذين لا يملكون أن يُضْعِفوا الأشخاص الكبار من الرّساليّين، فليجأون إلى السّباب والشَّتائم والاتهامات اللامسؤولة، قالوا عنه إنَّه كاذب، وهو الصَّادق الأمين، وقالوا إنَّه السَّاحر، وهم يعرفون أنَّه ليس من السِّحر في شيء، ولكنَّهم رأوا أنَّ كلمات القرآن الَّتي كان يتلوها عليهم، تسحر النَّاس، بما تحتويه من بلاغة في الكلمة، ومن علوٍّ في الفكرة، ومن عمقٍ في معنى الرّسالة، وقالوا عنه إنَّه كاهن، وما هو من الكهانة في شيء، وقالوا عنه إنَّه مجنون، وهو عقل العالم، ولذلك أنزل الله سبحانه وتعالى عليه بأن يقول لهم: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}[سبأ: 46].
ضعفُ المسلمين وتمزُّقهم
عاش (ص) كلَّ حياته وهمُّه الإسلام، كان يتألم للنَّاس من حوله كيف يضلّون، وكان يتأسَّف عليهم كيف لا يفتحون عقولهم للحقّ، ولذلك أنزل الله عليه كثيراً من الآيات الَّتي عملت على أن تبعث الرَّاحة في نفسه: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}[فاطر: 8]، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف: 6]...
كان همُّه (ص) الإسلام، وكان همُّه أن يعيش المسلمون الاهتمام بالإسلام وبالمسلمين، ولذا قال كلمته الخالدة: "مَنْ أَصْبَحَ لاَ يَهْتَمُّ بِأُمُورِ اَلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَمَنْ سَمِعَ رَجُلاً يُنَادِي يَا لَلْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ".
أراد (ص) للمسلمين أن يكونوا وحدةً في الموقف، أن يتَّحدوا على الرّسالة، وأن يتَّحدوا على حبل الله وعلى واقع الأمَّة، ولذلك أنزل الله عليه مخاطباً المسلمين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: 103]، باعتبار أنَّ قوَّة المسلمين في وحدتهم، ولكنَّ المسلمين تفرَّقوا وتنازعوا، ففشلوا وذهبت ريحهم، كما أنذرهم الله بذلك كلّه.
ونحن، أيُّها الأحبَّة، نعيش هذه الظروف الصَّعبة من واقع المسلمين، بالرّغم من أنَّ عدد المسلمين في العالم أصبح يتجاوز المليار، فالمسلمون هم خمس العالم الآن، وقد يزيدون كثيراً، وكلُّهم يشهدون أن لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، لكنَّ واقعهم هو واقع التّمزّق والتفرّق والتَّنازع والتَّحارب فيما بينهم، حتى إنَّ بعض المسلمين يقولون عن بعض المسلمين الآخرين، وهم يشيرون إلى الكفَّار: {هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}[النساء: 51]، كما كان اليهود يقولون عن المشركين.
لهذا، الواقع الإسلاميّ أنّه ليس هناك شعب مسلم في كلِّ العالم لا يخضع لسيطرة الكفر العالميّ والاستكبار العالميّ، واذا كانت هناك بعض الشّعوب الَّتي تتمرَّد على الاستكبار، كما في الجمهوريَّة الإسلاميَّة، وكما في بعض البلدان هنا وهناك، فإنها تعيش الحصار الَّذي تفرضه قوى الاستكبار العالميّ على اقتصادها وسياساتها وأمنها.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، إنَّ الواقع الإسلاميّ الَّذي أراد الرسول (ص) أن يجعله واقع القوَّة، بحيث يكون المسلمون هم الأقوى في العالم، كما كانوا {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران: 110]، وأن يكونوا الأمَّة الأقوى، ولذلك قال لهم: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}[الأنفال: 60]، إنَّ الواقع الإسلاميَّ الَّذي نعيشه الآن هو واقع الضّعف وواقع التفرّق والتمزّق؛ إنَّ المسلمين يملكون الثَّروة الأكبر في العالم، من خلال المعادن والثَّروات الطَّبيعيَّة الموجودة في داخل بلادهم، في داخل الأرض وخارجها، ولكنَّ ثرواتهم أصبحت بيد غيرهم، فهم لا يملكون الاستقلال في إدارة ثرواتهم، بما فيها الثَّروة البتروليَّة، ولا يملكون الاستقلال في تصديرها وتسعيرها وما إلى ذلك، فإنَّنا نلاحظ أنَّ الأخطبوط الاستكباريّ العالميّ، يلعب بأسعار البترول من أجل أن يهزَّ ميزانيَّة الدّول الإسلاميَّة والعربيَّة، حتَّى تسقط تحت تأثير هذا الانخفاض في أسعار البترول الَّذي تعتمد عليه كثير من الدّول النّفطيَّة في تقدّمها.
نهجُ الأئمَّة (ع): وحدةُ المسلمين
هذا إلى جانب أنَّ المسلمين في أغلب واقعهم الثَّقافيّ الآن، يعملون على أساس أن ينشغلوا بالخلافات الَّتي مضى عليها زهاء أربعة عشر قرناً دون أن يصلوا منها إلى نتيجة، وتتحرَّك الخلافات الثقافيَّة لتصبح خلافات سياسيَّة، وحروباً أمنية، ولتتحوَّل إلى فريق هنا يكفِّر فريقاً هناك، والعدوّ الاستكباريّ في العالم يعمل على إثارة هذه الخلافات بين وقتٍ وآخر، بالطَّريقة الَّتي تخرجها من أن تكون اختلافاً علميّاً في وجهات النظر، لتكون نوعاً من أنواع الخلاف الغريزي الَّذي يحمل الكثير من ذهنيّة التّدمير للآخر، حتّى لو كان مسلماً.
ونحن عندما ندرس كتاب الله، نجد أنَّه تحدَّث عن الأمَّة الواحدة، وعن الاعتصام بحبل الله، وعندما ندرس خطَّ أهل البيت (ع)، ونحن نستقبل في هذه الأيَّام، إلى جانب ذكرى ولادة النَّبيّ (ص)، في السَّابع عشر من شهر ربيع الأوَّل، ذكرى ولادة إمامنا جعفر الصَّادق (ع)، فهذا التّاريخ هو ذكرى ولادة النبوَّة والإمامة معاً، ويرتبط بعضهما ببعض، لأنَّ الإمامة هي إمامةٌ في خطِّ رسول الله (ص)، في كلِّ ما قاله، وفي كلِّ ما فعله، وفي كلِّ ما أقرَّه، فإنَّ حديثهم هو حديث (ص) رسوله (ص)، وإنَّ سيرتهم هي سيرته...
إنَّنا عندما عندما ندرس خطّ أهل البيت (ع)، نجد أنَّ الأئمَّة (ع) خطَّطوا من أجل أن لا تتفرَّق الأمَّة، إنَّ الإمام الصَّادق (ع) عمل في توجيهاته للمسلمين الشِّيعة في ذلك العصر، أن يدخلوا مجتمع المسلمين، أن لا ينفصلوا عن المجتمع الإسلاميّ، حتَّى لو اختلفوا معهم في كثير من الشؤون المذهبيَّة، كان يريد لهم أن يصلُّوا مع المسلمين ليكون المسجد الإسلامي مسجداً جامعاً يجتمع فيه الشّيعة والسنَّة، وكان يريد للشِّيعة أن ينفتحوا على مجتمعاتهم الَّتي لم تكن تدين بمذهبهم، من أجل أن يبقى هذا التَّواصل بين المسلمين، لأنَّ المسلمين عندما يتفرَّقون ليسكن هذا الفريق في منطقة، ويسكن ذاك الفريق في منطقة، ويكون لهؤلاء مسجد، وليكون لأولئك مسجد، كما هو الأمر في هذه الأيَّام، فإنَّ هذا النَّوع من الانفصال الواقعيّ العضويّ بين المسلمين، يمنعهم من أن يتحاوروا ويتلاقوا، ويمنعهم من أن يناقشوا ما يختلفون فيه، لأنَّ النَّاس إذا انفصل بعضهم عن بعض انفصالاً عضويّاً، فلا يتكلَّم أحد مع أحد، فإنّ هذا البعد الواقعيّ يتحوَّل إلى بعد نفسيّ وروحيّ، كما يحصل الآن.
مِن وصايا الإمامِ الصَّادقِ (ع)
تعالوا إلى الإمام الصَّادق (ع)، لنرى كيف كان يوجِّه أصحابه على أساس الاندماج في المجتمع، في ظلِّ توجيهاته العامَّة.
الرواية في كتاب الكافي، عن صفوان بن يحيى، عن أبي أسامة زيد الشحَّام، قال: "قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ الله (ع): اقْرَأْ عَلَى مَنْ تَرَى أَنَّه يُطِيعُنِي مِنْهُمْ – لأنَّ بعض النَّاس ليس مستعدًّا أن يطيع الإمام - ويَأْخُذُ بِقَوْلِيَ السَّلَامَ، وأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّه عَزَّ وجلَّ - وهذه الرّسالة كما هي موجَّهة إلى المسلمين ممّن كانوا يتحرّكون في خطِّ أهل البيت (ع) في ذلك الزّمان، هي أيضاً موجَّهة إلينا، فالإمام (ع) يقرئنا السّلام إذا كنّا ممّن يطيعه ويأخذ بقوله، لأنَّ الإمام ليس إماماً فقط للَّذين عاشوا في زمنه، بل هو إمامٌ لكلِّ الأجيال الَّتي جاءت من بعده.
- والْوَرَعِ فِي دِينِكُمْ - أن تقفوا عند الشّبهة، وأن لا تنفتحوا على الحرام.
- والاجْتِهَادِ لِلَّه - أن تبذلوا كلَّ جهدكم لله سبحانه وتعالى، وفي معرفة كتابه وأحكامه.
- وصِدْقِ الْحَدِيثِ - أن لا تكونوا الَّذين يتَّخذون من الكذب سبيلاً للوصول إلى ما يريدون، ووسيلة من وسائل الحصول على ما يحبّون.
- وأَدَاءِ الأَمَانَةِ – لأنَّهُ "لَا إِيمَانَ لِمَـنْ لا أَمَانَةَ لهُ"، وَإِنْ صَامَ وصَلَّى.
- وطُولِ السُّجُودِ – لأنَّ السّجود يمثِّل عبوديَّة الإنسان لربِّه - وحُسْنِ الْجِوَارِ - أن تحسن إلى جارك ولا تسيء إليه.
- فَبِهَذَا جَاءَ مُحَمَّدٌ ص أَدُّوا الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكُمْ عَلَيْهَا بَرّاً أَوْ فَاجِراً فَإِنَّ رَسُولَ اللَّه ص كَانَ يَأْمُرُ بِأَدَاءِ الْخَيْطِ والْمِخْيَطِ.
صِلُوا عَشَائِرَكُمْ – وعشائرهم كانوا على غير مذهبهم، صلوهم ولا تقاطعوهم - واشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ، وعُودُوا مَرْضَاهُمْ، وأَدُّوا حُقُوقَهُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِه، وصَدَقَ الْحَدِيثَ، وأَدَّى الأَمَانَةَ، وحَسُنَ خُلُقُه مَعَ النَّاسِ، قِيلَ هَذَا جَعْفَرِيٌّ، فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ ويَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْه السُّرُورُ، وقِيلَ هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ، وإِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ – يعني إذا كان الشّيعي يكذب، ويخون الأمانة، ويسيء خلقه مع النَّاس، ولا يعطي الخير للنَّاس الَّذين حولَهُ، إذا كان كذلك - دَخَلَ عَلَيَّ بَلَاؤُه وعَارُه، وقِيلَ هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ.
ثمَّ ينقل عن أبيه الإمام الباقر (ع) - فَوَاللَّه لَحَدَّثَنِي أَبِي (ع) – حتَّى تعرفوا أنَّ التَّشيُّع ليس مجرَّد هتافات، بل هو سلوك واستقامة على خطِّ الله ورسوله، وحتّى تعرفوا كيف يريد الأئمَّة (ع) أن يكون الشِّيعيّ مسلماً في كلّ حركته وأوضاعه - أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ فِي الْقَبِيلَةِ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ (ع)، فَيَكُونُ زَيْنَهَا، آدَاهُمْ لِلأَمَانَةِ - أكثرهم أداءً للأمانة - وأَقْضَاهُمْ لِلْحُقُوقِ، وأَصْدَقَهُمْ لِلْحَدِيثِ، إِلَيْه وَصَايَاهُمْ ووَدَائِعُهُمْ – لأنّهم يأتمنون على الشّيعيّ - تُسْأَلُ الْعَشِيرَةُ عَنْه، فَتَقُولُ مَنْ مِثْلُ فُلَانٍ؛ إِنَّه لآَدَانَا لِلأَمَانَةِ، وأَصْدَقُنَا لِلْحَدِيثِ". هذه وصيَّة الإمام الصَّادق (ع).
وورد أيضاً: قال بعض أصحاب الإمام (ع): "قلت لأبي عبد الله (ع): إنَّ لنا إماماً مخالفاً – من غير مذهبنا - وهو يبغضُ أصحابَنا كلَّهم – يعني أنَّه شخص متعصّب - فقال: ما عليْكَ مْنْ قولِهِ، واللهِ لئِنْ كنْتَ صادقاً، لأنتَ أحقُّ بالمسجدِ منه - لا تترك المسجد لمجرَّد أنَّ إمام المسجد رجل متعصِّب - فكُن أوَّلَ داخلٍ وآخرَ خارجٍ، وأحسِنْ خُلقَك معَ النَّاسٍ، وقلْ خيراً"، فإذا كان هو متعصّباً فلا تكن متعصّباً، وإذا كان يسيء فلا تسئ، لا يعدلك ذلك عن مساجد المسلمين، لأنَّ المسجد لله وللمسلمين جميعاً.
وفي حديثٍ في الكافي أيضاً: عن عبدالله بن سنان قال: "سَمعْتُ أبا عبدالله جعفر الصَّادق (ع) يقولُ: أُوصيكم بتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ، ولا تحملوا النَّاسَ على أكتافِكم فتذلّوا، إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى يقولُ في كتابِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}[البقرة: 83]، ثمَّ قالَ: عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزَهم، واشهدوا لهم وعليهم، وصلُّوا معَهم في مساجدِهم".
الوحدةُ الإسلاميَّةُ هي الهدف
إنَّنا نفهم من ذلك، أنَّ الإمام الصَّادق (ع) كان يخطِّط لوحدة إسلاميَّة، بحيث لا تتحوَّل المذهبيَّة إلى حاجز بين المسلمين تفصل بعضهم عن بعض، ولا تتحوَّل المذهبيَّة إلى فاصل يجعل لكلِّ فريق مسجداً مستقلّاً عن المسجد الآخر، ومجتمعاً منفصلاً عن المجتمع الآخر، لأنَّ ذلك يؤدِّي إلى ما نحن عليه، حيث نجد أنَّ الشِّيعة والسنَّة يتحركون في أوضاع نفسيَّة سلبيَّة بعضهم ضدَّ بعض أكثر مما يتحرَّكون ضدَّ الكافرين. لو دخلنا مجتمعات المسلمين، سواء كان هذا المجتمع شيعيّاً أو سنيّاً، لرأينا أنَّهم يحملون من السلبيَّات النفسيَّة والكلاميَّة ما لا يحملونه لأيِّ كافر ولأيِّ مشرك، ولهذا استطاعَ الكفرُ والاستكبارُ أن يسقطَ الواقعَ الإسلاميَّ تحت تأثير هذه الأحقاد الإسلاميَّة الَّتي يعتبرها كلُّ فريقٍ أحقاداً مقدَّسة.
علينا، أيُّها الأحبَّة، أن نتعلَّم من عليٍّ (ع) الَّذي قال: "لأُسَالِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ المُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فيها جَوْرٌ إلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً"، وأن نتعلَّم من أئمَّتنا (ع) الَّذين كانت بيوتهم مفتوحة لمن يعترف بإمامتهم ومن لا يعترف بها.
لقد قلناها مراراً، ليست الوحدة الإسلاميَّة الَّتي ندعو إليها ويدعو إليها المخلصون، أن يترك الشِّيعيّ مذهبه، وأن يتنازل عن بعضِ ما يؤمن به، أو يترك السّنيُّ مذهبه، وأن يتنازل عن بعض ما يؤمن به، ولكنَّ الوحدة الإسلاميَّة أن نتوحَّد من أجل أن تنطلق كلمة "أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أنَّ محمَّداً رسول الله"، الَّتي نلتقي عليها، والَّتي هي قاعدة إسلامنا، أن تنطلق قويّةً فاتحةً في العالم كلِّه، وأن نتوحَّد ونلتقي على كلِّ ما اتَّفقنا عليه من عقائد الإسلام وشرائعه، وأن يحاور بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، كما قال سبحانَهُ وتعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النّساء: 59].
الإسلامُ أمانةٌ في أعناقنا
أيُّها الأحبَّة، إنَّ الكفر قد فتح النَّار على الإسلام كلِّه، وإنَّ الكافرين المستكبرين يعملون بكلِّ ما عندهم من طاقة في سبيل أن يُسقِطوا كلَّ القوَّة الإسلاميَّة، وأن يسرقوا كلَّ الثَّروات الإسلاميَّة، وأن يُطبِقوا على كلَّ السياسة الإسلاميَّة والأمن الإسلاميّ.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، تعالوا نلتق على الإسلام، من أجل أن نجمِّد الكثير من الخلافات، ولا سيَّما الَّتي لا تتَّصل بضرورات العقيدة أو الشَّريعة، مما يمكن أن نجمِّده إلى وقت ما، لأنَّ المرحلة هي مرحلة أن نجمِّع الطَّاقات لا أن نمزِّقها، إنَّ المرحلة أن نجمِّع النّقاط، لا أن نعمل على أن يسجِّل كلُّ واحدٍ منّا نقطةً على الآخر.
أخلصوا للإسلام وأهله، إنَّ الاحتفال بالمولد النّبويّ الشَّريف، لا بدَّ أن يكون احتفالاً بقوَّة الإسلام، وبحريَّة الواقع الإسلاميّ، وبعدالة المجتمع الإسلاميّ، إنَّ علينا أن نقول لرسول الله (ص): يا رسول الله، إنَّنا نحملُ أمانةَ الإسلامِ في أعناقنا، ولك في يومِ مولدِكَ أن نقدِّم إليك إسلاماً يعتصم فيه المسلمون بحبلِ الله جميعاً ولا يتفرّقون، ويلتقون فيه على ما اتَّفقوا عليه، ويتحاورون فيما اختلفوا فيه. أما أن ننطلق هنا وهناك لنقيم حفلاً وزينةً ومولداً وما إلى ذلك، ونبقى متحاقدين متفرّقين متباغضين، فأيُّ إسلامٍ هو هذا؟! وكيفَ نرفعُ رؤوسَنا أمامَ رسولِ الله (ص) ليقولَ لنا: لقد أضعفْتم الإسلامَ بتمزّقاتكم وبتخلّفكم وبجهلكم.
أيُّها الأحبَّة {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144].
الخطبة الثَّانية
عباد الله، اتَّقوا الله في الإسلام والمسلمين {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].
أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا أن نعمل على أن تتلاقى عقولنا على الإسلام، وتتلاقى قلوبنا على المحبَّة الإسلاميَّة، وتتلاقى كلّ طاقاتنا وخطواتنا على نصرة الإسلام، وعلى حياطة الإسلام والمسلمين. لقد كان رسول الله (ص)، فيما حدَّثنا الله عن أخلاقه، يعزُّ عليه أن يعيش أيُّ مسلمٍ في العالم وهو يتألَّم، وهو يواجه المشقَّات في كلِّ حياته، كان يعزُّ عليه ما عنتُّم، كان الحريصَ على المسلمين، كان الرّؤوفَ والرَّحيمَ بهم، والله يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب: 21].
إنَّ المرحلة الَّتي نقبل عليها، فيما يقبل عليه المسلمون من التحدّيات، هي مرحلة مواجهة هذه الحرب الثَّقافيَّة في جانبٍ منها، والسياسيَّة في جانبٍ آخر، والعسكريَّة في جانبٍ ثالث. إنَّ هذه الحرب الَّتي تطلَق ضدَّ الإسلام من قبل هذا التَّحالف بين المستكبرين والكافرين، يراد لها أن تُسقِطَ الإسلامَ في نفوس المسلمين، وأن تُسقِطَه في الواقع. لذلك علينا أن نعمل على إنتاج الرّوح الإٍسلاميَّة في نفوس المسلمين، أن لا تتغلَّب عليها أيّ روح أخرى، أن لا نفضِّل عائليَّاتنا على الإسلام، وأن لا نفضِّل حزبيَّاتنا على الإسلام، ولا نفضِّل إقليميَّاتنا وقوميَّاتنا على الإسلام، ليكن الإسلام هو الَّذي يوجِّه عائليَّاتنا وأحزابنا وسياستنا وقوميَّاتنا، حتَّى تتحرَّك الدَّوائر الإنسانيَّة في الإطار الأخلاقيّ.
لقد انطلق الواقع الإسلاميّ قبل سنين من أجل أن تلتقي ما يسمَّى الدّول الإسلاميَّة من أجل تأسيس المؤتمر الإسلاميّ، ولكن هذا المؤتمر الإسلاميّ، بكلِّ أسف، ليس مؤتمراً ينطلق من أجل أن يقف المسلمون جميعاً في داخله لحماية القضايا الإسلاميَّة، إنَّهم لا يجتمعون إلَّا من خلال بعض الخطوط الاستكباريَّة في العالم، لأنَّ أغلب دول المؤتمر الإسلاميّ تتحرَّك في خطِّ السياسة الأمريكيَّة، فهي تنفتح على القضايا من خلال الضَّوء الأخضر الأمريكيّ، وتغلق من خلال الضَّوء الأحمر الأمريكيّ. لذلك، نحن نجد أنَّ هناك تحدّيات كبيرة، كالتحدّيات الَّتي يواجهها الواقع الفلسطينيّ والواقع العربيّ والإسلاميّ في مواجهة القضيَّة الصّهيونيَّة في المنطقة، ولكنَّهم لا يحركون ساكناً، لا يضغطون كما تضغط الصُّهيونيَّة، ولا يعملون على مواجهة تحدِّياتها، بل إنَّهم يطلقون في كلِّ يوم تصريحاً خجولاً هنا وتصريحاً خجولاً هناك. إنَّ هناك دعوة لاجتماع المؤتمر الإسلاميّ في هذه الظّروف، باعتبار أن تقف دوله للردِّ على تهويد القدس، ودعوة للجنة القدس أيضاً الَّتي نسيناها، لأنَّ الَّذين يشرفون عليها أفقدوها كلَّ الحياة، ولكنَّنا بحسب التَّجربة، نجد أنَّ مثل هذه المؤتمرات واللِّجان لا تقدِّم ولا تؤخِّر شيئاً، لأنَّهم لا ينطلقون من موقع حاجة الإسلام إلى الحركة والقوَّة.
العدوُّ يُفشِلُ المبادرة
أيُّها الأحبَّة، لا نزال نعيش في هذه الأيَّام بعض القضايا الملحَّة في الواقع الإسلاميّ، وفي مقدَّمها ما تحدَّثنا عنه مراراً، وهو مسألة التَّعسّف الصّهيونيّ الَّذي لا يزال يفرض نفسه على واقع فلسطين، وعلى واقع لبنان، وعلى الواقع العربيِّ كلِّه، ولا تزال المسألة لدى أمريكا، أنَّها تعطي إسرائيل في كلِّ يوم مهلةً جديدةً، حتَّى لا تعلنَ فشلَ المبادرة، ولا تحمِّل إسرائيلَ مسؤوليَّة هذا الفشل، لأنَّ أمريكا لا تريد أن تعلنَ تحت أيِّ ظرف مسؤوليَّة إسرائيل عن سقوط عمليَّة التَّسوية، حتى إنَّ المبادرة الأمريكيَّة الَّتي أصبح الفلسطينيّون يلهثون من أجل أن توافق إسرائيل عليها، وهي الانسحاب من 13% من الأراضي، حتَّى إنَّ هذه المبادرة تمثِّل ضعفاً في الموقف الفلسطيني، لأنَّ ما يستحقُّه الفلسطينيّون، وما كانوا ما يطالبون به هو 30% في هذه المرحلة، لكنَّهم تنازلوا إلى 13 %، ولم تستطع أمريكا أن تجبر إسرائيل على هذا الَّذي قدَّم الفلسطينيّون تنازلات كبيرة من أجله.
إنَّنا نعتقد أنَّ هناك تحالفاً إسرائيليّاً أمريكيّاً يراد من خلاله إيجاد الظروف وتمرير الوقت لكي تحقِّق إسرائيل ما تريد، ثمَّ قد تقبل بـ13 %، ولكن على أساس أن تدفع لها أمريكا والعرب ثمناً كبيراً، وأن يشعر الفلسطينيّون بأنَّهم حقَّقوا انتصاراً من الواقع الَّذي يمثِّل أكثر من هزيمة.
إنَّ إسرائيل استطاعت أن تخلط الأوراق في العالمين العربيّ والإسلاميّ، وأن تقف من أجل أن تسقط الروحيَّة العربيَّة والفلسطينيَّة والإسلاميَّة في نفوس الجميع، لأنَّ القوم في الجامعة العربيَّة، وفي المؤتمر الإسلاميّ، وفي المحافل الدَّوليَّة، لا همَّ لهم إلَّا متى تقبل إسرائيل بالمبادرة الأمريكيَّة، ومتى تضغط أمريكا، وإسرائيل تنتظر ولا تقرِّر، من مجلس وزراء إلى مجلس وزراء، وأمريكا لا تضغط، بل تعطي إسرائيل مهلةً من أسبوع إلى أسبوع، ولم يبلغ الجميع شيئاً من ذلك.
إنَّ على العرب والمسلمين أن يرتفعوا إلى مستوى انسانيَّتهم وموقعهم، لأنَّنا نخشى أن نقول للواقع العربيّ ما قاله المتنبّي:
مَن يَهُن يسهُل الهوانُ عليه ما لجُرحٍ بميِّتٍ إيلام
التَّحالفُ التّركيُّ مع إسرائيل
والمشكلة الثَّانية الَّتي نواجهها الآن هي هذا العنصر التركي في السياسة الإسلاميَّة، فلقد أصبحت تركيا من أكثر الدّول، لا في المنطقة، بل في العالم، التصاقاً بإسرائيل، ودعماً لها، وعناداً في التَّحالف معها، حتَّى على مستوى التَّحالف العسكريّ، حتَّى إنَّها رفضت الاستجابة للدَّعوة الَّتي قُدِّمت إليها من سوريا لزيارة سوريا للتَّفاهم معها على القضايا المشتركة، ولكنَّها بادرت لزيارة وزير خارجيَّتها للكيان الصّهيوني، ولم يفعل شيئاً، ولكنَّه أعطى الفلسطينيَّ أحلاماً لا معنى لها، لأنَّها لا لون لها ولا طعم ولا رائحة.
إنَّ الواقع التركيَّ هو واقعٌ يعمل ضدَّ الإسلام في الدَّاخل والخارج، يعمل ضدَّ القوَّة الإسلاميَّة مع إسرائيل ومع أمريكا للضَّغط على الواقع العربيّ، ولا سيَّما على سوريا بالذَّات، والضَّغط على الواقع الإسلاميّ، ولا سيَّما على إيران بالذَّات، ويعمل في الدَّاخل على إسقاط الرّوح الإسلاميَّة الَّتي استطاعت أن تتمرَّد على النِّظام العلمانيّ، وأصبح الإسلاميُّون يشكِّلون خطراً على هذا النِّظام، لأنَّهم باعتراف النِّظام، يمثّلون الأكثريَّة الَّتي يمكن أن تربح الانتخابات عندما يحين موعدها، بالرّغم من كلِّ وسائل القمع والضّغط ضدّ هؤلاء.
إنَّنا نعتقد أنَّ هذا الواقع التركيَّ ليس في مصلحة تركيا، ولكنَّ مشكلة تركيا، كمشكلة الكثير من البلدان الإسلاميَّة، أنَّها خضعت منذ البداية، ولا تزال تخضع للسياسة الأمريكيَّة الَّتي تريدها أن تحقِّق ارتباطاً عضويّاً بإسرائيل، وأن تعمل على إتمام الخطَّة الأمريكيَّة في تحويل المنطقة إلى منطقةٍ أمريكيَّةٍ في الدَّاخل والخارج.
اتّهاماتٌ ولا محاكمة
ونصل إلى لبنان، لنلاحظ أنَّ التخلّف في الخطاب السياسيّ لا يزال يفرض نفسه على واقع الحياة السياسيَّة في هذا البلد، بعيداً من أيّ نقاش موضوعي.
ومن اللَّافت أنَّ الاتهامات المتبادلة بين أطراف الحكم، تصل إلى مستوى الجرائم، فهذا يتَّهم ذاك بأنَّه سرق كذا، وذاك يتَّهم هذا بأنَّه أهدرت كذا، وهذه جرائم. الآن لنفترض أنَّ موظَّفاً من الموظَّفين الصِّغار، ثبت عليه أنَّه سرقَ شيئاً قليلاً من الميزانيَّة، ألا يحاكمونه ويقول الجميع ينبغي أن نطبِّق القانون؟ وإذا اتّهم أحدٌ رئيسَ الحكومةِ أو وزيراً في الحكومة، بأنّه سرق أو أهدر الملايين، ألا ينبغي أن يقدَّم إلى المحاكمة؟! فهؤلاء الأشخاص الَّذين يسرقون الملايين، على حسب ادّعاء مَنْ يتَّهمهم، لماذا لا يُحاكَمون؟ ولو أردنا أن نحصي الاتّهامات المتبادلة بين الرّؤساء والوزراء والكثير من مواقع الحكم والسياسة في البلد، لرأينا أنَّ الكثير منها يصل إلى حدِّ الخيانة العظمى، ومع ذلك، لا يتحرَّك القضاء اللّبنانيّ من أجل أن يستدعي أحداً من هؤلاء ليقدِّم مطالعته حول الأمر. وكذلك الأمر مع النَّاس، فالَّذي يتحزّب لأحد، سيدافع عنه مهما كانت الاتّهامات ضدَّه، ومن يتحزَّب ضدَّ أحد، سيقبل بكلّ الاتّهامات ضدّه، فهل يمكن أن نقول: "كما تكونون يولَّى عليكم"؟!
قد يكون واقعنا هكذا، نحن ندافع عن الخونة إذا كانوا من أصحابنا وحزبيَّاتنا وأقربائنا، ونقف ضدَّ الأبرياء إذا لم يكونوا من جماعتنا. فإذا كانت هذه أخلاقنا في الواقع، فهل تريدون أن يأتي إلينا حكَّام من الملائكة، "كما تكونون يولَّى عليكم".
ومن اللافت أن الاتهامات المتبادلة بين أطراف الحكم حول قضايا تصل إلى مستوى الجرائم، لم تشكِّل أيَّ مبرِّر لتحرك القضاء اللّبناني ضدَّ هذا المسؤول أو ذاك لحماية الشَّعب من السَّرقات والهدر للمال العالم، وتبقى الدوَّامة في دورها بإشغال اللّبنانيّين عن قضاياهم الحياتيَّة، ولا سيَّما الكهرباء، والمهجَّرين، وحقوق العمَّال والمعلِّمين، والمناطق المحرومة، إنَّها ثقافة الوحل السياسيّ الَّتي تريد للُّبنانيِّين أن يعيشوا في هذه المرحلة في جزئيَّات الصِّراع بين المسؤولين لتغييب القضايا الحيويَّة للنَّاس.
محاولةُ استهدافِ السِّلمِ الأهليّ
ولا بدَّ لنا من ملاحقة الأنباء عن شبكة التَّجسّس الإسرائيليَّة الَّتي تستهدف السِّلم الأهليّ للنَّاس في لبنان، وذلك من أجل وعي الشَّعب اللّبنانيّ كلّه للخطط الَّتي تريد إثارة الفوضى والضَّوضاء السياسيَّة والأمنيَّة للبلد، ما يفرض على كلِّ مواطن أن يكون خفيراً في اكتشاف كلِّ الخطط الإسرائيليَّة السَّاعية لإضعاف الموقف السياسيّ والأمنيّ، وإرباك العلاقات بين سوريا ولبنان، وأن يكون الوقوف مع المقاومة بكلِّ قوَّة، وملاحقة قضايا الأسرى لدى العدوّ، من أجل إيجاد ضغط دوليّ لإطلاق سراحهم. وإنَّنا نقدِّر موقف وزارة الخارجيَّة اللّبنانيَّة في هذا الاتجاه. إنَّ وحدة الموقف الوطنيّ هي السَّبيل الوحيد لتثبيت المرحلة الصَّعبة على قاعدة شعبيَّة قويَّة لحماية الحاضر والمستقبل.
والحمد لله ربِّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 10/07/1998م.
في هذه الأيَّام، لا نزال نعيش في أجواء مولد صاحب الرِّسالة، نبيّنا وإمامنا وهادينا ومرشدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمَّد (ص).
اتّهاماتٌ لأذيَّة النَّبيّ (ص)
ونحن عندما ننفتح على ذكراه في مولده، سواء التزمنا الرّواية الَّتي تقول إنَّه ولد في الثّاني عشر من شهر ربيع الأوَّل، كما هو عليه الجمهور العام من المسلمين، ويوافقهم في ذلك الشَّيخ الكليني صاحب كتاب الكافي، أو قلنا بأنَّه ولد في اليوم السّابع عشر من شهر ربيع الأوَّل الَّذي عليه جمهور الإماميَّة، فإنَّنا لا بدَّ لنا من أن نجعل هذه الذكرى حركةً من أجل الحديث دائماً عن الإسلام، لأنَّ رسول الله (ص) ليس له في كلِّ حياته إلَّا الإسلام؛ أعطى كلَّ حياته وقلبه وعقله له، وتحمَّل كلَّ الأذى والضَّغط والحرمان في سبيله، حتَّى قال، كما روي عنه: "مَا أُوْذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ مَا أُوْذِيْتُ".
كانت الاتهامات ضدّ رسالته تتحرَّك من دون مسؤوليَّة، من خلال المشركين الَّذين فقدوا أيّ حجَّة يواجهونه بها، فكانوا كالكثير من النَّاس الَّذين لا يملكون أن يُضْعِفوا الأشخاص الكبار من الرّساليّين، فليجأون إلى السّباب والشَّتائم والاتهامات اللامسؤولة، قالوا عنه إنَّه كاذب، وهو الصَّادق الأمين، وقالوا إنَّه السَّاحر، وهم يعرفون أنَّه ليس من السِّحر في شيء، ولكنَّهم رأوا أنَّ كلمات القرآن الَّتي كان يتلوها عليهم، تسحر النَّاس، بما تحتويه من بلاغة في الكلمة، ومن علوٍّ في الفكرة، ومن عمقٍ في معنى الرّسالة، وقالوا عنه إنَّه كاهن، وما هو من الكهانة في شيء، وقالوا عنه إنَّه مجنون، وهو عقل العالم، ولذلك أنزل الله سبحانه وتعالى عليه بأن يقول لهم: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}[سبأ: 46].
ضعفُ المسلمين وتمزُّقهم
عاش (ص) كلَّ حياته وهمُّه الإسلام، كان يتألم للنَّاس من حوله كيف يضلّون، وكان يتأسَّف عليهم كيف لا يفتحون عقولهم للحقّ، ولذلك أنزل الله عليه كثيراً من الآيات الَّتي عملت على أن تبعث الرَّاحة في نفسه: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}[فاطر: 8]، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف: 6]...
كان همُّه (ص) الإسلام، وكان همُّه أن يعيش المسلمون الاهتمام بالإسلام وبالمسلمين، ولذا قال كلمته الخالدة: "مَنْ أَصْبَحَ لاَ يَهْتَمُّ بِأُمُورِ اَلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَمَنْ سَمِعَ رَجُلاً يُنَادِي يَا لَلْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ".
أراد (ص) للمسلمين أن يكونوا وحدةً في الموقف، أن يتَّحدوا على الرّسالة، وأن يتَّحدوا على حبل الله وعلى واقع الأمَّة، ولذلك أنزل الله عليه مخاطباً المسلمين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: 103]، باعتبار أنَّ قوَّة المسلمين في وحدتهم، ولكنَّ المسلمين تفرَّقوا وتنازعوا، ففشلوا وذهبت ريحهم، كما أنذرهم الله بذلك كلّه.
ونحن، أيُّها الأحبَّة، نعيش هذه الظروف الصَّعبة من واقع المسلمين، بالرّغم من أنَّ عدد المسلمين في العالم أصبح يتجاوز المليار، فالمسلمون هم خمس العالم الآن، وقد يزيدون كثيراً، وكلُّهم يشهدون أن لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، لكنَّ واقعهم هو واقع التّمزّق والتفرّق والتَّنازع والتَّحارب فيما بينهم، حتى إنَّ بعض المسلمين يقولون عن بعض المسلمين الآخرين، وهم يشيرون إلى الكفَّار: {هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}[النساء: 51]، كما كان اليهود يقولون عن المشركين.
لهذا، الواقع الإسلاميّ أنّه ليس هناك شعب مسلم في كلِّ العالم لا يخضع لسيطرة الكفر العالميّ والاستكبار العالميّ، واذا كانت هناك بعض الشّعوب الَّتي تتمرَّد على الاستكبار، كما في الجمهوريَّة الإسلاميَّة، وكما في بعض البلدان هنا وهناك، فإنها تعيش الحصار الَّذي تفرضه قوى الاستكبار العالميّ على اقتصادها وسياساتها وأمنها.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، إنَّ الواقع الإسلاميّ الَّذي أراد الرسول (ص) أن يجعله واقع القوَّة، بحيث يكون المسلمون هم الأقوى في العالم، كما كانوا {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران: 110]، وأن يكونوا الأمَّة الأقوى، ولذلك قال لهم: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}[الأنفال: 60]، إنَّ الواقع الإسلاميَّ الَّذي نعيشه الآن هو واقع الضّعف وواقع التفرّق والتمزّق؛ إنَّ المسلمين يملكون الثَّروة الأكبر في العالم، من خلال المعادن والثَّروات الطَّبيعيَّة الموجودة في داخل بلادهم، في داخل الأرض وخارجها، ولكنَّ ثرواتهم أصبحت بيد غيرهم، فهم لا يملكون الاستقلال في إدارة ثرواتهم، بما فيها الثَّروة البتروليَّة، ولا يملكون الاستقلال في تصديرها وتسعيرها وما إلى ذلك، فإنَّنا نلاحظ أنَّ الأخطبوط الاستكباريّ العالميّ، يلعب بأسعار البترول من أجل أن يهزَّ ميزانيَّة الدّول الإسلاميَّة والعربيَّة، حتَّى تسقط تحت تأثير هذا الانخفاض في أسعار البترول الَّذي تعتمد عليه كثير من الدّول النّفطيَّة في تقدّمها.
نهجُ الأئمَّة (ع): وحدةُ المسلمين
هذا إلى جانب أنَّ المسلمين في أغلب واقعهم الثَّقافيّ الآن، يعملون على أساس أن ينشغلوا بالخلافات الَّتي مضى عليها زهاء أربعة عشر قرناً دون أن يصلوا منها إلى نتيجة، وتتحرَّك الخلافات الثقافيَّة لتصبح خلافات سياسيَّة، وحروباً أمنية، ولتتحوَّل إلى فريق هنا يكفِّر فريقاً هناك، والعدوّ الاستكباريّ في العالم يعمل على إثارة هذه الخلافات بين وقتٍ وآخر، بالطَّريقة الَّتي تخرجها من أن تكون اختلافاً علميّاً في وجهات النظر، لتكون نوعاً من أنواع الخلاف الغريزي الَّذي يحمل الكثير من ذهنيّة التّدمير للآخر، حتّى لو كان مسلماً.
ونحن عندما ندرس كتاب الله، نجد أنَّه تحدَّث عن الأمَّة الواحدة، وعن الاعتصام بحبل الله، وعندما ندرس خطَّ أهل البيت (ع)، ونحن نستقبل في هذه الأيَّام، إلى جانب ذكرى ولادة النَّبيّ (ص)، في السَّابع عشر من شهر ربيع الأوَّل، ذكرى ولادة إمامنا جعفر الصَّادق (ع)، فهذا التّاريخ هو ذكرى ولادة النبوَّة والإمامة معاً، ويرتبط بعضهما ببعض، لأنَّ الإمامة هي إمامةٌ في خطِّ رسول الله (ص)، في كلِّ ما قاله، وفي كلِّ ما فعله، وفي كلِّ ما أقرَّه، فإنَّ حديثهم هو حديث (ص) رسوله (ص)، وإنَّ سيرتهم هي سيرته...
إنَّنا عندما عندما ندرس خطّ أهل البيت (ع)، نجد أنَّ الأئمَّة (ع) خطَّطوا من أجل أن لا تتفرَّق الأمَّة، إنَّ الإمام الصَّادق (ع) عمل في توجيهاته للمسلمين الشِّيعة في ذلك العصر، أن يدخلوا مجتمع المسلمين، أن لا ينفصلوا عن المجتمع الإسلاميّ، حتَّى لو اختلفوا معهم في كثير من الشؤون المذهبيَّة، كان يريد لهم أن يصلُّوا مع المسلمين ليكون المسجد الإسلامي مسجداً جامعاً يجتمع فيه الشّيعة والسنَّة، وكان يريد للشِّيعة أن ينفتحوا على مجتمعاتهم الَّتي لم تكن تدين بمذهبهم، من أجل أن يبقى هذا التَّواصل بين المسلمين، لأنَّ المسلمين عندما يتفرَّقون ليسكن هذا الفريق في منطقة، ويسكن ذاك الفريق في منطقة، ويكون لهؤلاء مسجد، وليكون لأولئك مسجد، كما هو الأمر في هذه الأيَّام، فإنَّ هذا النَّوع من الانفصال الواقعيّ العضويّ بين المسلمين، يمنعهم من أن يتحاوروا ويتلاقوا، ويمنعهم من أن يناقشوا ما يختلفون فيه، لأنَّ النَّاس إذا انفصل بعضهم عن بعض انفصالاً عضويّاً، فلا يتكلَّم أحد مع أحد، فإنّ هذا البعد الواقعيّ يتحوَّل إلى بعد نفسيّ وروحيّ، كما يحصل الآن.
مِن وصايا الإمامِ الصَّادقِ (ع)
تعالوا إلى الإمام الصَّادق (ع)، لنرى كيف كان يوجِّه أصحابه على أساس الاندماج في المجتمع، في ظلِّ توجيهاته العامَّة.
الرواية في كتاب الكافي، عن صفوان بن يحيى، عن أبي أسامة زيد الشحَّام، قال: "قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ الله (ع): اقْرَأْ عَلَى مَنْ تَرَى أَنَّه يُطِيعُنِي مِنْهُمْ – لأنَّ بعض النَّاس ليس مستعدًّا أن يطيع الإمام - ويَأْخُذُ بِقَوْلِيَ السَّلَامَ، وأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّه عَزَّ وجلَّ - وهذه الرّسالة كما هي موجَّهة إلى المسلمين ممّن كانوا يتحرّكون في خطِّ أهل البيت (ع) في ذلك الزّمان، هي أيضاً موجَّهة إلينا، فالإمام (ع) يقرئنا السّلام إذا كنّا ممّن يطيعه ويأخذ بقوله، لأنَّ الإمام ليس إماماً فقط للَّذين عاشوا في زمنه، بل هو إمامٌ لكلِّ الأجيال الَّتي جاءت من بعده.
- والْوَرَعِ فِي دِينِكُمْ - أن تقفوا عند الشّبهة، وأن لا تنفتحوا على الحرام.
- والاجْتِهَادِ لِلَّه - أن تبذلوا كلَّ جهدكم لله سبحانه وتعالى، وفي معرفة كتابه وأحكامه.
- وصِدْقِ الْحَدِيثِ - أن لا تكونوا الَّذين يتَّخذون من الكذب سبيلاً للوصول إلى ما يريدون، ووسيلة من وسائل الحصول على ما يحبّون.
- وأَدَاءِ الأَمَانَةِ – لأنَّهُ "لَا إِيمَانَ لِمَـنْ لا أَمَانَةَ لهُ"، وَإِنْ صَامَ وصَلَّى.
- وطُولِ السُّجُودِ – لأنَّ السّجود يمثِّل عبوديَّة الإنسان لربِّه - وحُسْنِ الْجِوَارِ - أن تحسن إلى جارك ولا تسيء إليه.
- فَبِهَذَا جَاءَ مُحَمَّدٌ ص أَدُّوا الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكُمْ عَلَيْهَا بَرّاً أَوْ فَاجِراً فَإِنَّ رَسُولَ اللَّه ص كَانَ يَأْمُرُ بِأَدَاءِ الْخَيْطِ والْمِخْيَطِ.
صِلُوا عَشَائِرَكُمْ – وعشائرهم كانوا على غير مذهبهم، صلوهم ولا تقاطعوهم - واشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ، وعُودُوا مَرْضَاهُمْ، وأَدُّوا حُقُوقَهُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِه، وصَدَقَ الْحَدِيثَ، وأَدَّى الأَمَانَةَ، وحَسُنَ خُلُقُه مَعَ النَّاسِ، قِيلَ هَذَا جَعْفَرِيٌّ، فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ ويَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْه السُّرُورُ، وقِيلَ هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ، وإِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ – يعني إذا كان الشّيعي يكذب، ويخون الأمانة، ويسيء خلقه مع النَّاس، ولا يعطي الخير للنَّاس الَّذين حولَهُ، إذا كان كذلك - دَخَلَ عَلَيَّ بَلَاؤُه وعَارُه، وقِيلَ هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ.
ثمَّ ينقل عن أبيه الإمام الباقر (ع) - فَوَاللَّه لَحَدَّثَنِي أَبِي (ع) – حتَّى تعرفوا أنَّ التَّشيُّع ليس مجرَّد هتافات، بل هو سلوك واستقامة على خطِّ الله ورسوله، وحتّى تعرفوا كيف يريد الأئمَّة (ع) أن يكون الشِّيعيّ مسلماً في كلّ حركته وأوضاعه - أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ فِي الْقَبِيلَةِ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ (ع)، فَيَكُونُ زَيْنَهَا، آدَاهُمْ لِلأَمَانَةِ - أكثرهم أداءً للأمانة - وأَقْضَاهُمْ لِلْحُقُوقِ، وأَصْدَقَهُمْ لِلْحَدِيثِ، إِلَيْه وَصَايَاهُمْ ووَدَائِعُهُمْ – لأنّهم يأتمنون على الشّيعيّ - تُسْأَلُ الْعَشِيرَةُ عَنْه، فَتَقُولُ مَنْ مِثْلُ فُلَانٍ؛ إِنَّه لآَدَانَا لِلأَمَانَةِ، وأَصْدَقُنَا لِلْحَدِيثِ". هذه وصيَّة الإمام الصَّادق (ع).
وورد أيضاً: قال بعض أصحاب الإمام (ع): "قلت لأبي عبد الله (ع): إنَّ لنا إماماً مخالفاً – من غير مذهبنا - وهو يبغضُ أصحابَنا كلَّهم – يعني أنَّه شخص متعصّب - فقال: ما عليْكَ مْنْ قولِهِ، واللهِ لئِنْ كنْتَ صادقاً، لأنتَ أحقُّ بالمسجدِ منه - لا تترك المسجد لمجرَّد أنَّ إمام المسجد رجل متعصِّب - فكُن أوَّلَ داخلٍ وآخرَ خارجٍ، وأحسِنْ خُلقَك معَ النَّاسٍ، وقلْ خيراً"، فإذا كان هو متعصّباً فلا تكن متعصّباً، وإذا كان يسيء فلا تسئ، لا يعدلك ذلك عن مساجد المسلمين، لأنَّ المسجد لله وللمسلمين جميعاً.
وفي حديثٍ في الكافي أيضاً: عن عبدالله بن سنان قال: "سَمعْتُ أبا عبدالله جعفر الصَّادق (ع) يقولُ: أُوصيكم بتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ، ولا تحملوا النَّاسَ على أكتافِكم فتذلّوا، إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى يقولُ في كتابِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}[البقرة: 83]، ثمَّ قالَ: عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزَهم، واشهدوا لهم وعليهم، وصلُّوا معَهم في مساجدِهم".
الوحدةُ الإسلاميَّةُ هي الهدف
إنَّنا نفهم من ذلك، أنَّ الإمام الصَّادق (ع) كان يخطِّط لوحدة إسلاميَّة، بحيث لا تتحوَّل المذهبيَّة إلى حاجز بين المسلمين تفصل بعضهم عن بعض، ولا تتحوَّل المذهبيَّة إلى فاصل يجعل لكلِّ فريق مسجداً مستقلّاً عن المسجد الآخر، ومجتمعاً منفصلاً عن المجتمع الآخر، لأنَّ ذلك يؤدِّي إلى ما نحن عليه، حيث نجد أنَّ الشِّيعة والسنَّة يتحركون في أوضاع نفسيَّة سلبيَّة بعضهم ضدَّ بعض أكثر مما يتحرَّكون ضدَّ الكافرين. لو دخلنا مجتمعات المسلمين، سواء كان هذا المجتمع شيعيّاً أو سنيّاً، لرأينا أنَّهم يحملون من السلبيَّات النفسيَّة والكلاميَّة ما لا يحملونه لأيِّ كافر ولأيِّ مشرك، ولهذا استطاعَ الكفرُ والاستكبارُ أن يسقطَ الواقعَ الإسلاميَّ تحت تأثير هذه الأحقاد الإسلاميَّة الَّتي يعتبرها كلُّ فريقٍ أحقاداً مقدَّسة.
علينا، أيُّها الأحبَّة، أن نتعلَّم من عليٍّ (ع) الَّذي قال: "لأُسَالِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ المُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فيها جَوْرٌ إلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً"، وأن نتعلَّم من أئمَّتنا (ع) الَّذين كانت بيوتهم مفتوحة لمن يعترف بإمامتهم ومن لا يعترف بها.
لقد قلناها مراراً، ليست الوحدة الإسلاميَّة الَّتي ندعو إليها ويدعو إليها المخلصون، أن يترك الشِّيعيّ مذهبه، وأن يتنازل عن بعضِ ما يؤمن به، أو يترك السّنيُّ مذهبه، وأن يتنازل عن بعض ما يؤمن به، ولكنَّ الوحدة الإسلاميَّة أن نتوحَّد من أجل أن تنطلق كلمة "أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أنَّ محمَّداً رسول الله"، الَّتي نلتقي عليها، والَّتي هي قاعدة إسلامنا، أن تنطلق قويّةً فاتحةً في العالم كلِّه، وأن نتوحَّد ونلتقي على كلِّ ما اتَّفقنا عليه من عقائد الإسلام وشرائعه، وأن يحاور بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، كما قال سبحانَهُ وتعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النّساء: 59].
الإسلامُ أمانةٌ في أعناقنا
أيُّها الأحبَّة، إنَّ الكفر قد فتح النَّار على الإسلام كلِّه، وإنَّ الكافرين المستكبرين يعملون بكلِّ ما عندهم من طاقة في سبيل أن يُسقِطوا كلَّ القوَّة الإسلاميَّة، وأن يسرقوا كلَّ الثَّروات الإسلاميَّة، وأن يُطبِقوا على كلَّ السياسة الإسلاميَّة والأمن الإسلاميّ.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، تعالوا نلتق على الإسلام، من أجل أن نجمِّد الكثير من الخلافات، ولا سيَّما الَّتي لا تتَّصل بضرورات العقيدة أو الشَّريعة، مما يمكن أن نجمِّده إلى وقت ما، لأنَّ المرحلة هي مرحلة أن نجمِّع الطَّاقات لا أن نمزِّقها، إنَّ المرحلة أن نجمِّع النّقاط، لا أن نعمل على أن يسجِّل كلُّ واحدٍ منّا نقطةً على الآخر.
أخلصوا للإسلام وأهله، إنَّ الاحتفال بالمولد النّبويّ الشَّريف، لا بدَّ أن يكون احتفالاً بقوَّة الإسلام، وبحريَّة الواقع الإسلاميّ، وبعدالة المجتمع الإسلاميّ، إنَّ علينا أن نقول لرسول الله (ص): يا رسول الله، إنَّنا نحملُ أمانةَ الإسلامِ في أعناقنا، ولك في يومِ مولدِكَ أن نقدِّم إليك إسلاماً يعتصم فيه المسلمون بحبلِ الله جميعاً ولا يتفرّقون، ويلتقون فيه على ما اتَّفقوا عليه، ويتحاورون فيما اختلفوا فيه. أما أن ننطلق هنا وهناك لنقيم حفلاً وزينةً ومولداً وما إلى ذلك، ونبقى متحاقدين متفرّقين متباغضين، فأيُّ إسلامٍ هو هذا؟! وكيفَ نرفعُ رؤوسَنا أمامَ رسولِ الله (ص) ليقولَ لنا: لقد أضعفْتم الإسلامَ بتمزّقاتكم وبتخلّفكم وبجهلكم.
أيُّها الأحبَّة {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144].
الخطبة الثَّانية
عباد الله، اتَّقوا الله في الإسلام والمسلمين {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].
أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا أن نعمل على أن تتلاقى عقولنا على الإسلام، وتتلاقى قلوبنا على المحبَّة الإسلاميَّة، وتتلاقى كلّ طاقاتنا وخطواتنا على نصرة الإسلام، وعلى حياطة الإسلام والمسلمين. لقد كان رسول الله (ص)، فيما حدَّثنا الله عن أخلاقه، يعزُّ عليه أن يعيش أيُّ مسلمٍ في العالم وهو يتألَّم، وهو يواجه المشقَّات في كلِّ حياته، كان يعزُّ عليه ما عنتُّم، كان الحريصَ على المسلمين، كان الرّؤوفَ والرَّحيمَ بهم، والله يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب: 21].
إنَّ المرحلة الَّتي نقبل عليها، فيما يقبل عليه المسلمون من التحدّيات، هي مرحلة مواجهة هذه الحرب الثَّقافيَّة في جانبٍ منها، والسياسيَّة في جانبٍ آخر، والعسكريَّة في جانبٍ ثالث. إنَّ هذه الحرب الَّتي تطلَق ضدَّ الإسلام من قبل هذا التَّحالف بين المستكبرين والكافرين، يراد لها أن تُسقِطَ الإسلامَ في نفوس المسلمين، وأن تُسقِطَه في الواقع. لذلك علينا أن نعمل على إنتاج الرّوح الإٍسلاميَّة في نفوس المسلمين، أن لا تتغلَّب عليها أيّ روح أخرى، أن لا نفضِّل عائليَّاتنا على الإسلام، وأن لا نفضِّل حزبيَّاتنا على الإسلام، ولا نفضِّل إقليميَّاتنا وقوميَّاتنا على الإسلام، ليكن الإسلام هو الَّذي يوجِّه عائليَّاتنا وأحزابنا وسياستنا وقوميَّاتنا، حتَّى تتحرَّك الدَّوائر الإنسانيَّة في الإطار الأخلاقيّ.
لقد انطلق الواقع الإسلاميّ قبل سنين من أجل أن تلتقي ما يسمَّى الدّول الإسلاميَّة من أجل تأسيس المؤتمر الإسلاميّ، ولكن هذا المؤتمر الإسلاميّ، بكلِّ أسف، ليس مؤتمراً ينطلق من أجل أن يقف المسلمون جميعاً في داخله لحماية القضايا الإسلاميَّة، إنَّهم لا يجتمعون إلَّا من خلال بعض الخطوط الاستكباريَّة في العالم، لأنَّ أغلب دول المؤتمر الإسلاميّ تتحرَّك في خطِّ السياسة الأمريكيَّة، فهي تنفتح على القضايا من خلال الضَّوء الأخضر الأمريكيّ، وتغلق من خلال الضَّوء الأحمر الأمريكيّ. لذلك، نحن نجد أنَّ هناك تحدّيات كبيرة، كالتحدّيات الَّتي يواجهها الواقع الفلسطينيّ والواقع العربيّ والإسلاميّ في مواجهة القضيَّة الصّهيونيَّة في المنطقة، ولكنَّهم لا يحركون ساكناً، لا يضغطون كما تضغط الصُّهيونيَّة، ولا يعملون على مواجهة تحدِّياتها، بل إنَّهم يطلقون في كلِّ يوم تصريحاً خجولاً هنا وتصريحاً خجولاً هناك. إنَّ هناك دعوة لاجتماع المؤتمر الإسلاميّ في هذه الظّروف، باعتبار أن تقف دوله للردِّ على تهويد القدس، ودعوة للجنة القدس أيضاً الَّتي نسيناها، لأنَّ الَّذين يشرفون عليها أفقدوها كلَّ الحياة، ولكنَّنا بحسب التَّجربة، نجد أنَّ مثل هذه المؤتمرات واللِّجان لا تقدِّم ولا تؤخِّر شيئاً، لأنَّهم لا ينطلقون من موقع حاجة الإسلام إلى الحركة والقوَّة.
العدوُّ يُفشِلُ المبادرة
أيُّها الأحبَّة، لا نزال نعيش في هذه الأيَّام بعض القضايا الملحَّة في الواقع الإسلاميّ، وفي مقدَّمها ما تحدَّثنا عنه مراراً، وهو مسألة التَّعسّف الصّهيونيّ الَّذي لا يزال يفرض نفسه على واقع فلسطين، وعلى واقع لبنان، وعلى الواقع العربيِّ كلِّه، ولا تزال المسألة لدى أمريكا، أنَّها تعطي إسرائيل في كلِّ يوم مهلةً جديدةً، حتَّى لا تعلنَ فشلَ المبادرة، ولا تحمِّل إسرائيلَ مسؤوليَّة هذا الفشل، لأنَّ أمريكا لا تريد أن تعلنَ تحت أيِّ ظرف مسؤوليَّة إسرائيل عن سقوط عمليَّة التَّسوية، حتى إنَّ المبادرة الأمريكيَّة الَّتي أصبح الفلسطينيّون يلهثون من أجل أن توافق إسرائيل عليها، وهي الانسحاب من 13% من الأراضي، حتَّى إنَّ هذه المبادرة تمثِّل ضعفاً في الموقف الفلسطيني، لأنَّ ما يستحقُّه الفلسطينيّون، وما كانوا ما يطالبون به هو 30% في هذه المرحلة، لكنَّهم تنازلوا إلى 13 %، ولم تستطع أمريكا أن تجبر إسرائيل على هذا الَّذي قدَّم الفلسطينيّون تنازلات كبيرة من أجله.
إنَّنا نعتقد أنَّ هناك تحالفاً إسرائيليّاً أمريكيّاً يراد من خلاله إيجاد الظروف وتمرير الوقت لكي تحقِّق إسرائيل ما تريد، ثمَّ قد تقبل بـ13 %، ولكن على أساس أن تدفع لها أمريكا والعرب ثمناً كبيراً، وأن يشعر الفلسطينيّون بأنَّهم حقَّقوا انتصاراً من الواقع الَّذي يمثِّل أكثر من هزيمة.
إنَّ إسرائيل استطاعت أن تخلط الأوراق في العالمين العربيّ والإسلاميّ، وأن تقف من أجل أن تسقط الروحيَّة العربيَّة والفلسطينيَّة والإسلاميَّة في نفوس الجميع، لأنَّ القوم في الجامعة العربيَّة، وفي المؤتمر الإسلاميّ، وفي المحافل الدَّوليَّة، لا همَّ لهم إلَّا متى تقبل إسرائيل بالمبادرة الأمريكيَّة، ومتى تضغط أمريكا، وإسرائيل تنتظر ولا تقرِّر، من مجلس وزراء إلى مجلس وزراء، وأمريكا لا تضغط، بل تعطي إسرائيل مهلةً من أسبوع إلى أسبوع، ولم يبلغ الجميع شيئاً من ذلك.
إنَّ على العرب والمسلمين أن يرتفعوا إلى مستوى انسانيَّتهم وموقعهم، لأنَّنا نخشى أن نقول للواقع العربيّ ما قاله المتنبّي:
مَن يَهُن يسهُل الهوانُ عليه ما لجُرحٍ بميِّتٍ إيلام
التَّحالفُ التّركيُّ مع إسرائيل
والمشكلة الثَّانية الَّتي نواجهها الآن هي هذا العنصر التركي في السياسة الإسلاميَّة، فلقد أصبحت تركيا من أكثر الدّول، لا في المنطقة، بل في العالم، التصاقاً بإسرائيل، ودعماً لها، وعناداً في التَّحالف معها، حتَّى على مستوى التَّحالف العسكريّ، حتَّى إنَّها رفضت الاستجابة للدَّعوة الَّتي قُدِّمت إليها من سوريا لزيارة سوريا للتَّفاهم معها على القضايا المشتركة، ولكنَّها بادرت لزيارة وزير خارجيَّتها للكيان الصّهيوني، ولم يفعل شيئاً، ولكنَّه أعطى الفلسطينيَّ أحلاماً لا معنى لها، لأنَّها لا لون لها ولا طعم ولا رائحة.
إنَّ الواقع التركيَّ هو واقعٌ يعمل ضدَّ الإسلام في الدَّاخل والخارج، يعمل ضدَّ القوَّة الإسلاميَّة مع إسرائيل ومع أمريكا للضَّغط على الواقع العربيّ، ولا سيَّما على سوريا بالذَّات، والضَّغط على الواقع الإسلاميّ، ولا سيَّما على إيران بالذَّات، ويعمل في الدَّاخل على إسقاط الرّوح الإسلاميَّة الَّتي استطاعت أن تتمرَّد على النِّظام العلمانيّ، وأصبح الإسلاميُّون يشكِّلون خطراً على هذا النِّظام، لأنَّهم باعتراف النِّظام، يمثّلون الأكثريَّة الَّتي يمكن أن تربح الانتخابات عندما يحين موعدها، بالرّغم من كلِّ وسائل القمع والضّغط ضدّ هؤلاء.
إنَّنا نعتقد أنَّ هذا الواقع التركيَّ ليس في مصلحة تركيا، ولكنَّ مشكلة تركيا، كمشكلة الكثير من البلدان الإسلاميَّة، أنَّها خضعت منذ البداية، ولا تزال تخضع للسياسة الأمريكيَّة الَّتي تريدها أن تحقِّق ارتباطاً عضويّاً بإسرائيل، وأن تعمل على إتمام الخطَّة الأمريكيَّة في تحويل المنطقة إلى منطقةٍ أمريكيَّةٍ في الدَّاخل والخارج.
اتّهاماتٌ ولا محاكمة
ونصل إلى لبنان، لنلاحظ أنَّ التخلّف في الخطاب السياسيّ لا يزال يفرض نفسه على واقع الحياة السياسيَّة في هذا البلد، بعيداً من أيّ نقاش موضوعي.
ومن اللَّافت أنَّ الاتهامات المتبادلة بين أطراف الحكم، تصل إلى مستوى الجرائم، فهذا يتَّهم ذاك بأنَّه سرق كذا، وذاك يتَّهم هذا بأنَّه أهدرت كذا، وهذه جرائم. الآن لنفترض أنَّ موظَّفاً من الموظَّفين الصِّغار، ثبت عليه أنَّه سرقَ شيئاً قليلاً من الميزانيَّة، ألا يحاكمونه ويقول الجميع ينبغي أن نطبِّق القانون؟ وإذا اتّهم أحدٌ رئيسَ الحكومةِ أو وزيراً في الحكومة، بأنّه سرق أو أهدر الملايين، ألا ينبغي أن يقدَّم إلى المحاكمة؟! فهؤلاء الأشخاص الَّذين يسرقون الملايين، على حسب ادّعاء مَنْ يتَّهمهم، لماذا لا يُحاكَمون؟ ولو أردنا أن نحصي الاتّهامات المتبادلة بين الرّؤساء والوزراء والكثير من مواقع الحكم والسياسة في البلد، لرأينا أنَّ الكثير منها يصل إلى حدِّ الخيانة العظمى، ومع ذلك، لا يتحرَّك القضاء اللّبنانيّ من أجل أن يستدعي أحداً من هؤلاء ليقدِّم مطالعته حول الأمر. وكذلك الأمر مع النَّاس، فالَّذي يتحزّب لأحد، سيدافع عنه مهما كانت الاتّهامات ضدَّه، ومن يتحزَّب ضدَّ أحد، سيقبل بكلّ الاتّهامات ضدّه، فهل يمكن أن نقول: "كما تكونون يولَّى عليكم"؟!
قد يكون واقعنا هكذا، نحن ندافع عن الخونة إذا كانوا من أصحابنا وحزبيَّاتنا وأقربائنا، ونقف ضدَّ الأبرياء إذا لم يكونوا من جماعتنا. فإذا كانت هذه أخلاقنا في الواقع، فهل تريدون أن يأتي إلينا حكَّام من الملائكة، "كما تكونون يولَّى عليكم".
ومن اللافت أن الاتهامات المتبادلة بين أطراف الحكم حول قضايا تصل إلى مستوى الجرائم، لم تشكِّل أيَّ مبرِّر لتحرك القضاء اللّبناني ضدَّ هذا المسؤول أو ذاك لحماية الشَّعب من السَّرقات والهدر للمال العالم، وتبقى الدوَّامة في دورها بإشغال اللّبنانيّين عن قضاياهم الحياتيَّة، ولا سيَّما الكهرباء، والمهجَّرين، وحقوق العمَّال والمعلِّمين، والمناطق المحرومة، إنَّها ثقافة الوحل السياسيّ الَّتي تريد للُّبنانيِّين أن يعيشوا في هذه المرحلة في جزئيَّات الصِّراع بين المسؤولين لتغييب القضايا الحيويَّة للنَّاس.
محاولةُ استهدافِ السِّلمِ الأهليّ
ولا بدَّ لنا من ملاحقة الأنباء عن شبكة التَّجسّس الإسرائيليَّة الَّتي تستهدف السِّلم الأهليّ للنَّاس في لبنان، وذلك من أجل وعي الشَّعب اللّبنانيّ كلّه للخطط الَّتي تريد إثارة الفوضى والضَّوضاء السياسيَّة والأمنيَّة للبلد، ما يفرض على كلِّ مواطن أن يكون خفيراً في اكتشاف كلِّ الخطط الإسرائيليَّة السَّاعية لإضعاف الموقف السياسيّ والأمنيّ، وإرباك العلاقات بين سوريا ولبنان، وأن يكون الوقوف مع المقاومة بكلِّ قوَّة، وملاحقة قضايا الأسرى لدى العدوّ، من أجل إيجاد ضغط دوليّ لإطلاق سراحهم. وإنَّنا نقدِّر موقف وزارة الخارجيَّة اللّبنانيَّة في هذا الاتجاه. إنَّ وحدة الموقف الوطنيّ هي السَّبيل الوحيد لتثبيت المرحلة الصَّعبة على قاعدة شعبيَّة قويَّة لحماية الحاضر والمستقبل.
والحمد لله ربِّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 10/07/1998م.