العفو أم الاستعداد للانتقام؟!

العفو أم الاستعداد للانتقام؟!
[ورد في دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين (ع):]

"اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ... وَوَفِّقْني لِطاعَةِ مِنْ سَدَّدَني ومُتابعةِ مَنْ أرْشَدني".

يا ربّ، ربما ألتقي بالنّاس الطيّبين من الرساليّين الذين يرصدون الانحراف في طريقي، والارتباك في خطواتي، والباطل في أهدافي، والخطأ في أفكاري، والاهتزاز في مواقفي، والزيف في سلوكي، فينطلقون بكلّ إخلاص ومحبّةٍ ومسؤوليّة، لتسديد أعمالي وأقوالي وعلاقاتي وخطواتي، بالنصح والتوجيه والانفتاح بي على مواقع الصّواب، والابتعاد بي عن مواقف الخطأ، ولإرشادي إلى الطّريق المستقيم والغاية المثلى، والعروة الوثقى، والهداية إلى التي هي أقوم وأزكى.

وقد يتدخّل الشّيطان في عقلي وقلبي وإرادتي وإحساسي، فيوسوس لي بالتنكّر لهؤلاء، والتمرّد عليهم، واجتناب وصاياهم وتعاليمهم وإرشادهم وتسديدهم، لأنَّه يعمل على الاستفادة من نزعة الشرّ التي تختزنها الغرائز في انحرافاتها، وتثيرها نقاط الضّعف في اهتزازاتها، فأواجه الذين سدّدوني بالعصيان، وأقابل الذين أرشدوني بالإصرار على السّير في خطّ الضّلال، اغتراراً بزخارف الحياة الدّنيا، وغفلة عن سعادة الدّار الآخرة.

اللّهمّ إنّي أسألك التوفيق لطاعة هؤلاء النّاس الناصحين في خطّ الرّسالة، الراشدين المرشدين في ساحة التقوى، المسدِّدين في طريق الصّواب، وأبعدني عن كلّ الهواجس والوساوس والنـزعات التي تحسَّن لي القبيح وتقبّح لي الحسن، وتصوّر لي الصّواب خطأً أو الخطأ صواباً، والضّلال هدى والهدى ضلالاً، فإنّني لا أملك القوّة إلا بقوّتك، ولا أتحرّك في خطّ الرّشد والصّواب والاستقامة إلا بمعونتك، فمنك كلّ التّوفيق للطّاعة، ومنك كلّ التّسديد للصّواب.

جاء في "رياض السالكين" تعليقاً على هذه الفقرات من الدّعاء، من خلال إيحاءاتها باللّجوء إلى القوّة في مواجهة الإساءات الموجَّهة إلى الإنسان من الآخرين، في الوقت الذي تجد الخطّ الأخلاقيّ يتمثّل في العفو عمّن أساء إلينا، فكيف نفسّر ذلك؟

قال: "فإن قلت: في هذا الفصل من الدّعاء ما ينافي مكارم الأخلاق، فإنّه (ع) سأل الاستعداد للقوّة على الانتقام ممن أساء إليه، وحُسن الخلق وكرمه يقتضي العفو والإعراض، بل مقابلة الإساءة بالإحسان، كما روي من الخبر المشهور بين الخاصّ والعامّ: أنّ جبرائيل (ع) جاء إلى النبيّ (ص) فقال: أتيتك يا محمّد بمكارم الأخلاق أجمعها، قال: وما تلك؟ قال: خذ العفو وأْمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين. يا محمّد، هي أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك. فأحسن (ص) تقبُّله وتلقّيه، حتى نزل قوله تعالى - ثناءً عليه - : {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم/4). والأخبار والآثار في هذا المعنى أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تُذكر.

قلت: ليس في الدّعاء ما ينافي الخبر. وبيان ذلك: أنّ من الظلم والإساءة ما يحسن العفو عنه، ومنه ما لا يحسن إلا دفاعه. فالأوّل: ما ليس على الإنسان في تحمّله والتغاضي عنه ذلّة وغضاضة، ولا عارٌ ودناءة، فهذا مما يحسن العفو عنه والحلم عليه، وهو الذي يقتضيه حسن الخلق وكرمه. والثّاني: ما أدّى إلى دنيّة وعار، فهذا مما لا يحسن إلا دفاعه والكفّ عنه، وهو المسمّى بإباء الضّيم وأنفة العار وحماية الحريم والأخذ بالثّأر، وعن هذا قال أمير المؤمنين (ع): «لا خير فيمن لا يغضب إذا غضب»، وقال تعالى حاكياً عن نبيّه لوط (ع) في التأسّف على عجزه عن دفاعه: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}(هود/80).

وقال الحكماء: إنّ القوة الغضبيّة إذا تركّبت مع العقل، استقام أمر الحماية والدّفاع والأخذ بالثّأر، وكان صاحبه عدلاً في اقتداره، محموداً في انتصاره. وإلى هذا المعنى أشار الجعدي بقوله:

ولا خيرَ في حِلْمٍ إذا لم تكنْ لَهُ           بوادرُ تحمي صفوَهُ أَنْ يُكدَّر

ولا خيرَ في جهلٍ إذا لم يكنْ لَهُ           حليمٌ إذا ما أوردَ الأمرَ أَصْدَر

وقال أبو الطيّب:

إذا قيل حِلْماً قال للحِلْم مَوضِعٌ           وَحِلْمُ الفتى في غيرِ مَوْضِعِهِ جَهْلُ

ومن هنا، قال العلماء: يجب التدبّر في أمر الإساءة والظّلم، فإن كان مما يسعه العفو والتّجاوز، كفى فيه العتاب، والعدل والعفو أحسن وأولى، وهو أقرب للتّقوى، وإن لم تسمح السياسة بالتّجافي والصّفح عنه، وحيث العقوبة بقدر الذّنب لا بقدر التشفّي.

إذا عرفت ذلك، مما سأله (ع) - عن اليد واللّسان والظّفر والاقتدار، إنّما أراد به ما يقتضيه إباء الضّيم وأنفة العار، وهو من أعلى معالي الأخلاق، لا منافٍ لها" .

وخلاصة الفكرة، أنَّ للقوَّة في مواجهة التحدّيات الظّالمة دورها الكبير في الحالات التي يتحوّل فيها الموقف إلى المستوى الّذي يمثّل فيه التّسامح لوناً من الضّعف الّذي يترك تأثيراته السلبيّة على موقع الشّخص أو الجهة التي يمثّلها، أو الخطّ الذي يتحرّك فيه، بحيث يؤدّي إلى إذلاله وسقوطه تحت تأثير الجهة الظّالمة الباغية، ولا بدَّ في هذه الحال من المواجهة، وقد يصل الأمر فيه إلى حرمة العفو والتّسامح... أمّا إذا كانت المسألة تمثّل حالة الجهل في موقف المتحدّي، بحيث يكون التعالي عنه موقفاً للقوّة، فيمكن أن تتحرّك أخلاقيّة العفو في خطّ الأخلاق العالية، الأمر الذي يفرض المزيد من الدقة في دراسة الموضوع من جميع جوانبه.

*من كتاب "في رحاب دعاء مكارم الأخلاق".

[ورد في دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين (ع):]

"اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ... وَوَفِّقْني لِطاعَةِ مِنْ سَدَّدَني ومُتابعةِ مَنْ أرْشَدني".

يا ربّ، ربما ألتقي بالنّاس الطيّبين من الرساليّين الذين يرصدون الانحراف في طريقي، والارتباك في خطواتي، والباطل في أهدافي، والخطأ في أفكاري، والاهتزاز في مواقفي، والزيف في سلوكي، فينطلقون بكلّ إخلاص ومحبّةٍ ومسؤوليّة، لتسديد أعمالي وأقوالي وعلاقاتي وخطواتي، بالنصح والتوجيه والانفتاح بي على مواقع الصّواب، والابتعاد بي عن مواقف الخطأ، ولإرشادي إلى الطّريق المستقيم والغاية المثلى، والعروة الوثقى، والهداية إلى التي هي أقوم وأزكى.

وقد يتدخّل الشّيطان في عقلي وقلبي وإرادتي وإحساسي، فيوسوس لي بالتنكّر لهؤلاء، والتمرّد عليهم، واجتناب وصاياهم وتعاليمهم وإرشادهم وتسديدهم، لأنَّه يعمل على الاستفادة من نزعة الشرّ التي تختزنها الغرائز في انحرافاتها، وتثيرها نقاط الضّعف في اهتزازاتها، فأواجه الذين سدّدوني بالعصيان، وأقابل الذين أرشدوني بالإصرار على السّير في خطّ الضّلال، اغتراراً بزخارف الحياة الدّنيا، وغفلة عن سعادة الدّار الآخرة.

اللّهمّ إنّي أسألك التوفيق لطاعة هؤلاء النّاس الناصحين في خطّ الرّسالة، الراشدين المرشدين في ساحة التقوى، المسدِّدين في طريق الصّواب، وأبعدني عن كلّ الهواجس والوساوس والنـزعات التي تحسَّن لي القبيح وتقبّح لي الحسن، وتصوّر لي الصّواب خطأً أو الخطأ صواباً، والضّلال هدى والهدى ضلالاً، فإنّني لا أملك القوّة إلا بقوّتك، ولا أتحرّك في خطّ الرّشد والصّواب والاستقامة إلا بمعونتك، فمنك كلّ التّوفيق للطّاعة، ومنك كلّ التّسديد للصّواب.

جاء في "رياض السالكين" تعليقاً على هذه الفقرات من الدّعاء، من خلال إيحاءاتها باللّجوء إلى القوّة في مواجهة الإساءات الموجَّهة إلى الإنسان من الآخرين، في الوقت الذي تجد الخطّ الأخلاقيّ يتمثّل في العفو عمّن أساء إلينا، فكيف نفسّر ذلك؟

قال: "فإن قلت: في هذا الفصل من الدّعاء ما ينافي مكارم الأخلاق، فإنّه (ع) سأل الاستعداد للقوّة على الانتقام ممن أساء إليه، وحُسن الخلق وكرمه يقتضي العفو والإعراض، بل مقابلة الإساءة بالإحسان، كما روي من الخبر المشهور بين الخاصّ والعامّ: أنّ جبرائيل (ع) جاء إلى النبيّ (ص) فقال: أتيتك يا محمّد بمكارم الأخلاق أجمعها، قال: وما تلك؟ قال: خذ العفو وأْمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين. يا محمّد، هي أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك. فأحسن (ص) تقبُّله وتلقّيه، حتى نزل قوله تعالى - ثناءً عليه - : {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم/4). والأخبار والآثار في هذا المعنى أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تُذكر.

قلت: ليس في الدّعاء ما ينافي الخبر. وبيان ذلك: أنّ من الظلم والإساءة ما يحسن العفو عنه، ومنه ما لا يحسن إلا دفاعه. فالأوّل: ما ليس على الإنسان في تحمّله والتغاضي عنه ذلّة وغضاضة، ولا عارٌ ودناءة، فهذا مما يحسن العفو عنه والحلم عليه، وهو الذي يقتضيه حسن الخلق وكرمه. والثّاني: ما أدّى إلى دنيّة وعار، فهذا مما لا يحسن إلا دفاعه والكفّ عنه، وهو المسمّى بإباء الضّيم وأنفة العار وحماية الحريم والأخذ بالثّأر، وعن هذا قال أمير المؤمنين (ع): «لا خير فيمن لا يغضب إذا غضب»، وقال تعالى حاكياً عن نبيّه لوط (ع) في التأسّف على عجزه عن دفاعه: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}(هود/80).

وقال الحكماء: إنّ القوة الغضبيّة إذا تركّبت مع العقل، استقام أمر الحماية والدّفاع والأخذ بالثّأر، وكان صاحبه عدلاً في اقتداره، محموداً في انتصاره. وإلى هذا المعنى أشار الجعدي بقوله:

ولا خيرَ في حِلْمٍ إذا لم تكنْ لَهُ           بوادرُ تحمي صفوَهُ أَنْ يُكدَّر

ولا خيرَ في جهلٍ إذا لم يكنْ لَهُ           حليمٌ إذا ما أوردَ الأمرَ أَصْدَر

وقال أبو الطيّب:

إذا قيل حِلْماً قال للحِلْم مَوضِعٌ           وَحِلْمُ الفتى في غيرِ مَوْضِعِهِ جَهْلُ

ومن هنا، قال العلماء: يجب التدبّر في أمر الإساءة والظّلم، فإن كان مما يسعه العفو والتّجاوز، كفى فيه العتاب، والعدل والعفو أحسن وأولى، وهو أقرب للتّقوى، وإن لم تسمح السياسة بالتّجافي والصّفح عنه، وحيث العقوبة بقدر الذّنب لا بقدر التشفّي.

إذا عرفت ذلك، مما سأله (ع) - عن اليد واللّسان والظّفر والاقتدار، إنّما أراد به ما يقتضيه إباء الضّيم وأنفة العار، وهو من أعلى معالي الأخلاق، لا منافٍ لها" .

وخلاصة الفكرة، أنَّ للقوَّة في مواجهة التحدّيات الظّالمة دورها الكبير في الحالات التي يتحوّل فيها الموقف إلى المستوى الّذي يمثّل فيه التّسامح لوناً من الضّعف الّذي يترك تأثيراته السلبيّة على موقع الشّخص أو الجهة التي يمثّلها، أو الخطّ الذي يتحرّك فيه، بحيث يؤدّي إلى إذلاله وسقوطه تحت تأثير الجهة الظّالمة الباغية، ولا بدَّ في هذه الحال من المواجهة، وقد يصل الأمر فيه إلى حرمة العفو والتّسامح... أمّا إذا كانت المسألة تمثّل حالة الجهل في موقف المتحدّي، بحيث يكون التعالي عنه موقفاً للقوّة، فيمكن أن تتحرّك أخلاقيّة العفو في خطّ الأخلاق العالية، الأمر الذي يفرض المزيد من الدقة في دراسة الموضوع من جميع جوانبه.

*من كتاب "في رحاب دعاء مكارم الأخلاق".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية