اللّهمّ اجعلني من أهل الثّقة

اللّهمّ اجعلني من أهل الثّقة
[ورد في دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين (ع):]

"اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَآلِه، وَأبدِلْنِي مِنْ... ظِنَّةِ أهْلِ الصَّلاَحِ الثِّقةَ".

يا ربّ، قد تدخل حياتي في الضّباب، فيغيب عن النّاس من فضائلي وحسناتي ما يمكن أن يحقّق لي الموقع الذي أستحقّه في مواقع الثّقة عندهم، وقد تشتبه الصّورة التي تمثلني لديهم، فتوحي بعض ملامحها بغير الحقيقة، أو تثير بعض إيحاءاتها الإحساس الخاطئ بغير ما أنا فيه في واقع أمري، فيبادرون إلى اتهامي بغير الحقّ، ويسيئون الظنّ بما أستقبله من أموري، وقد تصدر عني بعض الأخطاء أو الخطايا الّتي قد تكون حالةً طارئة في حياتي، لا أثر لها في أخلاقيّاتي وأفكاري، الأمر الذي يجعلها بعيدةً من الجذور الضاربة في أعماق كياني، المؤمن بك وبرسلك، فيخيّل إلى النّاس أنّ الخطأ الطّارئ يعني غياب الصّواب عن فكري، تماماً كما لو كان حالةً أصيلةً في الذّات، وأنّ الخطيئة تمثّل ابتعاد التقوى عن التزاماتي، كما لو كانت حالةً عميقة في الشخصيّة، ونهجاً مستمرّاً في السّلوك، بينما هي في الحقيقة وضع طارئ، لا ينفذ إلى العمق في الفكر والنهج والسّلوك.

وقد تكون المشكلة لديّ، أنّ هؤلاء الذين يظنون بي السوء، أو يبتعدون عن الثّقة بأفكاري وأخلاقي، ويحذرون منّي ومن خطواتي في الواقع الاجتماعي المتنوّع بأبعاده، هم من أهل الصّلاح الطيّبين الواعين، الأمر الذي قد ينعكس سلباً عليَّ في موقعي الخاصّ في المجتمع، فيؤدّي إلى عزلتي عن عقول النّاس وقلوبهم، وبالتّالي، إلى ابتعادي عن مجالات التّأثير الإيجابي في أوساطهم وساحاتهم.

وقد لا يكون هؤلاء منحرفين عن خطّك المستقيم الذي أمرت به عبادك المؤمنين من حسن الظنّ بالمسلمين، كما جاء عن نبيّك محمّد (ص)، إذ روي عنه أنّه قال: «إنّ الله تعالى حرّم من المسلم دمه وماله وأن يظّن به ظنّ السّوء»[1]، وجاء عن أئمّة أهل البيت (ع)، كما روي عن الإمام جعفر الصّادق (ع): «إذا اتّهم المؤمن أخاه، انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء»[2].

وكما جاء عن أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (ع): «ضع أمر أخيك على أحسنه، حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظنّنّ بكلمةٍ خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً»[3]. وهذا هو ما تعارف عليه العلماء من قاعدة حمل أفعال المسلمين على الصحة.

إنّ المسألة عندهم ليست هي الحكم على المؤمنين بما يتبادر إلى أذهانهم من صورة أفعالهم، وطبيعة سلوكهم، من دون قيام البيّنة على ذلك بالدّرجة التي تؤكّد الحُجّة على الواقع، بحيث تبرّر إصدار الحكم الشّرعيّ عليهم، بل المسألة هي عدم الثقة الداعية إلى الاطمئنان بالنّاس من دون أساس واضح، ليكون الموقف هو الحذر المانع من الركون إلى الأشخاص، انطلاقاً من الانتماء الشّكلي إلى الإيمان والإسلام، ومن الصّورة الظاهرة التي يتحرّك بها الإنسان بشكل سطحيّ، الأمر الذي يوحي بالتحفظ في الحكم الإيجابي، تماماً كما هو التحفظ في الحكم السلبي، حتى يلجأ المؤمن في ذلك إلى ركن وثيق من الأسس الثابتة الباعثة على الثقة، في دائرة الدراسة الواعية الشاملة.

وهذا هو المرويّ عن الإمام عليّ بن أمير المؤمنين (ع)، قال: «والطّمأنينة إلى كلّ أحد قبل الاختبار له عجز»[4]. وفي الخبر المشهور: «الحزم سوء الظنّ»[5]. وفي الكافي عن الإمام جعفر الصّادق (ع): «الحزم مساءة الظّنّ»[6]، فإنّ المقصود بذلك، كما قال بعض الشّارحين للكافي: «أنّ جودة الرأي وإحكام الأمر والأخذ بالثّقة، يقتضي سوء الظنّ بالنّاس، يعني تجويز السّوء منهم، والتثبّت في ما يأتون به، حتى يتبيّن الحقّ من الباطل، والصّدق من الكذب، والعلم من الشّبهة، ولو وجب القبول منهم والثقة بهم من غير حزم، ولم يجز نسبة السّوء إليهم، لوقع الهرج والمرج، وبطل الدّين، ورجع كما كان قبل البعثة. وبالجملة، فالحزم يوجب أن يُبنى الحال على تجويز السوء منهم حتى يتبين الحقّ ويحصل الإذعان به. وفيه تنبيه على أنّه لا ينبغي متابعة الغير في أمر من الأمور وتجويز كون ذلك الأمر خطأً، بل لا بدّ من كمال الاحتياط فيه، وإنما قلنا على جواز السوء منهم، لأنّه الذي يقتضيه الحزم والاحتياط، فلا ينافي ما ورد من النهي عن مساءة الظنّ بالخلق»[7]، انتهى كلامه.

وفي ضوء ذلك، لا نجد إشكالاً فكريّاً بين حمل فعل المسلم على الصحّة، بمعنى عدم الحكم عليه بالسّوء، وبين إساءة الظّنّ بالنّاس، بمعنى عدم الاستسلام للظّاهر بالحذر من الباطن.

اللّهمّ أبدلني من أجواء التّهمة التي تثيرها بعض أقوالي وأفعالي، أو يدفع إليها الجوّ الغائم الّذي يطوف في ساحات حياتي، فأفقد الثّقة لدى المؤمنين، ولا سيما الصالحين منهم، بالثّقة المنطلقة مما تعرفه - يا ربّ - من صدق نيَّاتي، واستقامة خطي وسلوكي، واجعلني من الذين يؤكّدون الثقة في وعي النّاس، من خلال مواقع الثّقة الثّابتة في أفكارهم وأعمالهم.

* من كتاب "في رحاب دعاء مكأه الصارم الأخلاق".


[1] بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج:75، باب:62، ص:201، رواية:21.

[2] البحار، ج:75، باب:62، ص:198، رواية:19.

[3] نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، قصار الحكم/360، ص:405.

[4] نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، قصار الحكم/384، ص:410.

[5] البحار، ج :77، باب:8، ص:229، رواية:2.

[6] البحار، ج:75، باب:57، ص:166، رواية:38.

[7] رياض السالكين، ج:3، ص:322.

[ورد في دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين (ع):]

"اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَآلِه، وَأبدِلْنِي مِنْ... ظِنَّةِ أهْلِ الصَّلاَحِ الثِّقةَ".

يا ربّ، قد تدخل حياتي في الضّباب، فيغيب عن النّاس من فضائلي وحسناتي ما يمكن أن يحقّق لي الموقع الذي أستحقّه في مواقع الثّقة عندهم، وقد تشتبه الصّورة التي تمثلني لديهم، فتوحي بعض ملامحها بغير الحقيقة، أو تثير بعض إيحاءاتها الإحساس الخاطئ بغير ما أنا فيه في واقع أمري، فيبادرون إلى اتهامي بغير الحقّ، ويسيئون الظنّ بما أستقبله من أموري، وقد تصدر عني بعض الأخطاء أو الخطايا الّتي قد تكون حالةً طارئة في حياتي، لا أثر لها في أخلاقيّاتي وأفكاري، الأمر الذي يجعلها بعيدةً من الجذور الضاربة في أعماق كياني، المؤمن بك وبرسلك، فيخيّل إلى النّاس أنّ الخطأ الطّارئ يعني غياب الصّواب عن فكري، تماماً كما لو كان حالةً أصيلةً في الذّات، وأنّ الخطيئة تمثّل ابتعاد التقوى عن التزاماتي، كما لو كانت حالةً عميقة في الشخصيّة، ونهجاً مستمرّاً في السّلوك، بينما هي في الحقيقة وضع طارئ، لا ينفذ إلى العمق في الفكر والنهج والسّلوك.

وقد تكون المشكلة لديّ، أنّ هؤلاء الذين يظنون بي السوء، أو يبتعدون عن الثّقة بأفكاري وأخلاقي، ويحذرون منّي ومن خطواتي في الواقع الاجتماعي المتنوّع بأبعاده، هم من أهل الصّلاح الطيّبين الواعين، الأمر الذي قد ينعكس سلباً عليَّ في موقعي الخاصّ في المجتمع، فيؤدّي إلى عزلتي عن عقول النّاس وقلوبهم، وبالتّالي، إلى ابتعادي عن مجالات التّأثير الإيجابي في أوساطهم وساحاتهم.

وقد لا يكون هؤلاء منحرفين عن خطّك المستقيم الذي أمرت به عبادك المؤمنين من حسن الظنّ بالمسلمين، كما جاء عن نبيّك محمّد (ص)، إذ روي عنه أنّه قال: «إنّ الله تعالى حرّم من المسلم دمه وماله وأن يظّن به ظنّ السّوء»[1]، وجاء عن أئمّة أهل البيت (ع)، كما روي عن الإمام جعفر الصّادق (ع): «إذا اتّهم المؤمن أخاه، انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء»[2].

وكما جاء عن أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (ع): «ضع أمر أخيك على أحسنه، حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظنّنّ بكلمةٍ خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً»[3]. وهذا هو ما تعارف عليه العلماء من قاعدة حمل أفعال المسلمين على الصحة.

إنّ المسألة عندهم ليست هي الحكم على المؤمنين بما يتبادر إلى أذهانهم من صورة أفعالهم، وطبيعة سلوكهم، من دون قيام البيّنة على ذلك بالدّرجة التي تؤكّد الحُجّة على الواقع، بحيث تبرّر إصدار الحكم الشّرعيّ عليهم، بل المسألة هي عدم الثقة الداعية إلى الاطمئنان بالنّاس من دون أساس واضح، ليكون الموقف هو الحذر المانع من الركون إلى الأشخاص، انطلاقاً من الانتماء الشّكلي إلى الإيمان والإسلام، ومن الصّورة الظاهرة التي يتحرّك بها الإنسان بشكل سطحيّ، الأمر الذي يوحي بالتحفظ في الحكم الإيجابي، تماماً كما هو التحفظ في الحكم السلبي، حتى يلجأ المؤمن في ذلك إلى ركن وثيق من الأسس الثابتة الباعثة على الثقة، في دائرة الدراسة الواعية الشاملة.

وهذا هو المرويّ عن الإمام عليّ بن أمير المؤمنين (ع)، قال: «والطّمأنينة إلى كلّ أحد قبل الاختبار له عجز»[4]. وفي الخبر المشهور: «الحزم سوء الظنّ»[5]. وفي الكافي عن الإمام جعفر الصّادق (ع): «الحزم مساءة الظّنّ»[6]، فإنّ المقصود بذلك، كما قال بعض الشّارحين للكافي: «أنّ جودة الرأي وإحكام الأمر والأخذ بالثّقة، يقتضي سوء الظنّ بالنّاس، يعني تجويز السّوء منهم، والتثبّت في ما يأتون به، حتى يتبيّن الحقّ من الباطل، والصّدق من الكذب، والعلم من الشّبهة، ولو وجب القبول منهم والثقة بهم من غير حزم، ولم يجز نسبة السّوء إليهم، لوقع الهرج والمرج، وبطل الدّين، ورجع كما كان قبل البعثة. وبالجملة، فالحزم يوجب أن يُبنى الحال على تجويز السوء منهم حتى يتبين الحقّ ويحصل الإذعان به. وفيه تنبيه على أنّه لا ينبغي متابعة الغير في أمر من الأمور وتجويز كون ذلك الأمر خطأً، بل لا بدّ من كمال الاحتياط فيه، وإنما قلنا على جواز السوء منهم، لأنّه الذي يقتضيه الحزم والاحتياط، فلا ينافي ما ورد من النهي عن مساءة الظنّ بالخلق»[7]، انتهى كلامه.

وفي ضوء ذلك، لا نجد إشكالاً فكريّاً بين حمل فعل المسلم على الصحّة، بمعنى عدم الحكم عليه بالسّوء، وبين إساءة الظّنّ بالنّاس، بمعنى عدم الاستسلام للظّاهر بالحذر من الباطن.

اللّهمّ أبدلني من أجواء التّهمة التي تثيرها بعض أقوالي وأفعالي، أو يدفع إليها الجوّ الغائم الّذي يطوف في ساحات حياتي، فأفقد الثّقة لدى المؤمنين، ولا سيما الصالحين منهم، بالثّقة المنطلقة مما تعرفه - يا ربّ - من صدق نيَّاتي، واستقامة خطي وسلوكي، واجعلني من الذين يؤكّدون الثقة في وعي النّاس، من خلال مواقع الثّقة الثّابتة في أفكارهم وأعمالهم.

* من كتاب "في رحاب دعاء مكأه الصارم الأخلاق".


[1] بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج:75، باب:62، ص:201، رواية:21.

[2] البحار، ج:75، باب:62، ص:198، رواية:19.

[3] نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، قصار الحكم/360، ص:405.

[4] نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، قصار الحكم/384، ص:410.

[5] البحار، ج :77، باب:8، ص:229، رواية:2.

[6] البحار، ج:75، باب:57، ص:166، رواية:38.

[7] رياض السالكين، ج:3، ص:322.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية