[من دعاء الإمام زين العابدين (ع) في مكارم الأخلاق:]
"اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَآلِه، وَأبدِلْنِي مِنْ بِغْضَةِ أَهْلِ الشّنآنِ الْمَحَبَّةَ، وَمِنْ حَسَدِ أَهْلِ الْبَغْيِ الْمَوَدَّةَ...".
يا ربّ، لقد خلقتني إنساناً منفتحاً على النّاس، بحسب طبيعته وحاجاته، فلا غنى له عنهم، كما قد لا يكون لهم غنى عنه، فقد جعلت الحياة في خطّ التّكامل بين خلقك، فلا يملك أحد أن يحصل على كلّ حاجاته بنفسه، فلا بدَّ له من الاستعانة بغيره، وهذا ما يجعل الموقع الاجتماعي للإنسان قضيّةً حيويّةً في حياته، فإذا كان قريباً إلى النّاس، محبوباً منهم، متواصلاً معهم، موثوقاً منهم، آمناً من عدوانهم، واثقاً من نصرتهم، سعيداً في عشرتهم، حاصلاً على ولايتهم، منفتحاً عليهم، في مواقع انفتاحهم عليه، كانت حياته متوازنةً في أوضاعها، منسجمةً مع مآربها ومقاصدها، منطلقةً مع طموحاتها وتطلّعاتها، لأنّ النتيجة الطبيعيّة في مثل هذا المستوى من العلاقات الاجتماعيّة الإيجابيّة، يفرض تعاون الآخرين معه على كلّ أموره المرتبطة بهم، بينما تمثّل العلاقات السلبيّة مشكلةً لكلّ مواقع حركته في المجتمع، لأنَّ ابتعاد الناس عنه، ومقاطعتهم له، واتهامهم له، وعداوتهم له، وسوء عشرتهم، وبغيهم عليه، وغير ذلك، يؤدّي إلى أن يعيش الانفصال عن الواقع الاجتماعي، فيكون وحيداً منبوذاً من كلّ الناس حوله، فلا يملك تحريك أوضاعه في الاتجاه السليم.
اللّهمّ إنّي أسألك أن تجعلني الإنسان المنفتح على عبادك في خطّ انفتاحهم عليه، حتى أملك، من خلال ذلك، القدرة على التحرّك في ساحاتهم بحريّة وراحة، بحيث أكون الإنسان الّذي يعمل على إنتاج المسؤوليّة في جهده، من خلال مشاركة الآخرين له في جهودهم المتعاونة معه.
اللّهمّ إنّك تملك من قلوب النّاس ما لا أملك، وتهيمن على أمورهم بما لا أستطيع، فقد قلت لرسولك في محكم كتابك: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}(الأنفال: 63)، وجعلت ذلك منّةً عليه، ونعمةً عليهم، فهل لي أن أطلب منك أن تفتح قلوبهم عليّ، وتوجّه جهودهم إليَّ، وأن تمنحني القدرة والوعي والإرادة على أن أغيّر نفسي في هذا الاتجاه، على الصّورة التي تجعل من أفكاري وعواطفي ومشاعري وخطواتي، العناصر الحيّة التي تؤدّي بي إلى تحقيق ذلك، في الأمور التي ترتبط بالخطّة الواقعيّة التي تجذب النّاس إلى النّاس، وتجمع بينهم على أساس العلاقات الجدّية الحميمة المفتوحة على إنسانيّة الإنسان في حياته الاجتماعيّة، لأنّني _ يا ربّ _ لا أقف في موقف سلبيّ في مسؤولياتيّ في إصلاح نفسي في الأمور التي تنطلق تعقيداتها في صلتي بالنّاس، من خلال نقاط الضّعف لديّ، فلا أكتفي بمسألتك، لأبتعد عن الحركة السّائرة في خطّ التغيير الذاتي، لأنّك علمتنا من خلال وحيك إلى رسولك، أنّك تقدّر للنّاس تغيير حياتهم، وتسهّل ذلك لهم من خلال مبادرتهم إلى تغيير أنفسهم، وذلك في قولك - سبحانك - : {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرّعد: 11).
فإنّك لا تريد للإنسان أن يقف موقف العاجز، فيهمل ما أعطيته من القدرة على تغيير نفسه في المؤثّرات المتّصلة بأوضاعه العامّة والخاصّة، ويكتفي بالتوجّه إليك بالدّعاء لتحلّ له مشكلته مع النّاس، فقد جعلت أمثال هذا ممن لا يستجاب دعاؤهم، لأنّك لم تجعل الدّعاء بديلاً من الجهد الإنساني الذاتي، بل جعلته مكمِّلاً له، مما قد يفاجئ الإنسان من المتغيّرات التي ينتظرها، أو الصّعوبات التي لا يستطيع تجاوزها، فيلجأ إليك من موقع العجز الّذي لم يختره، ومن موقع المشكلة التي لا يملك حلّها بقدراته الخاصّة.
يا ربّ، ربما أواجه في حياتي بعض النّاس الذين يشعرون بالبغض الشّديد لي، انطلاقاً من عقدة ذاتيّةٍ ضدي، أو من خطأ في أعمالي وأقوالي، أو من خلال بعض الأجواء المحيطة بي، المثيرة للأحاسيس المضادّة، أو غير ذلك من الأمور التي تعقّد النّاس من بعضهم البعض، فأحاول تغيير ذلك من أنفسهم، فلا أستطيع إلى ذلك سبيلاً، فترتبك حياتي من خلال هذا الارتباك في علاقات النّاس بي من خلال نظرتهم السلبيّة إليّ، فهل أطمع _ يا ربّ _ أن تبدّل بغضاءهم القاسية الشّديدة إلى محبّة تزيل عنهم أوهامهم التي يحملونها عنّي، وتجلو عنّي صدأ الخطأ الذي قد يكون سبباً في ذلك، وأنت القادر على ذلك، يا مقلِّب القلوب والأبصار؟!
اجعلني - يا رب - محبوباً عند النّاس من هؤلاء وغيرهم، لأنّك تعلم أنّ المحبّة هي القاعدة التي يمكن أن تغني الحياة بكلّ مشاعرها الحلوة، والتي تمنح القلب حلاوة الإحساس، والعلاقات حلاوة التواصل الروحي المنفتح على الإنسانيّة الإيجابيّة في الواقع الإنساني.
*من كتاب "في رحاب دعاء مكارم الأخلاق"