التوسّل بقوّة الله تعالى

التوسّل بقوّة الله تعالى

ورد في دعاء كميل بن زياد عن أمير المؤمنين عليّ (ع) قوله: "وبِقُوَّتِكَ التي قَهَرْتَ بَها كلَّ شيء، وخَضَعَ لها كلّ شيء، وذَلَّ لها كلّ شيء."

يتحدّث سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (رض) حول هذه الفقرة من الدعاء، وما فيها من الإشارات والتوجيهات الإيمانيّة والروحيّة، فيقول:

"بعد أن جعل (ع) التوسّل بالرحمة الإلهيّة التي "وَسِعَتْ كلّ شيء" مدخلاً لأسئلته، جعل التوسّل بقوّة الله سبحانه وتعالى الّتي قهر "بها كلَّ شيء، وخَضَعَ لها كلّ شيء، وذَلَّ لها كلّ شيء". لقد أراد الإمام (ع) الاستعانة بقوّة الله سبحانه وتعالى، لا مباشرةً، وإنّما من باب الرَّحمة. أي كأنّه (ع)، أراد التوسّل هنا بالقوَّة من باب الرّحمة، ذلك أنّ القوّة قد تستخدم في مجال النَّكال والانتقام، وتكون عندها تعبيراً عن غضب الله تعالى وسخطه، كما قد تكون تعبيراً عن رضى الله تعالى.

ولذا، ولج (ع)، إلى القوّة من باب الرّحمة، لكي يكون توسّله بها رفعاً للنقمة، وتسبيباً لما يرضي الله تعالى. هذا في جانب، وفي جانبٍ آخر، حدَّد، (ع) للقوَّة ثلاث نتائج رئيسة، تعكس في مجموعها مظهراً من مظاهر توحيد الله تعالى. هذه النّتائج هي:

أ ـ كلّ شيء مقهور بها.

ب ـ كلّ شيء خاضع لها.

ج ـ كلّ شيء مذلول لها. وكلّ من هذه النّتائج مترتّب على الآخر. فبالقوَّة تتمّ عمليّة القهر، والقهر يفضي إلى الخضوع، والخضوع يؤدّي إلى الإذلال. وهذا يعني أنْ لا شيء خارج نطاق قوّة الله، ما دام كلّ شيء مقهوراً بها، وخاضعاً لها، ومذلولاً لها. فكلّ شيء طوع يدي الله، وكلّ شيء مسحوق أمام قوّة الله، لأنّ الله وحده القويّ حقّاً. وإنَّ كلّ القوّة له وحده لا لأحد سواه. وما من قوّة لدى قويّ، مهما كان صنفها، أو لونها، أو حجمها، أو سببها، أو كيفيّتها، إلّا وهي ظلّ من ظلال قوّته تعالى. يقول الله تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}. فالله، سبحانه وتعالى، هو المالك حقّاً للقوّة وأسبابها، فهو مصدر كلّ قوَّة ومنتهى كلّ قوَّة.

فما فينا من قوّة الحياة, وقوّة الفكر والعمل والإنتاج، وما فينا من قوّة العافية والصحّة والأمن والأمان، وما فينا من قوّة في الاقتصاد والسياسة والأمن والنظام... كلّها مظاهر لقوّة الله سبحانه وتعالى التي أيّدنا بها.

إذاً، من الله سبحانه وتعالى نستمدّ كلّ قوّة. لكن كيف السبيل إلى الالتحام بقوّة الله سبحانه وتعالى؟ كيف السّبيل للالتحام بقوَّة الله وأسباب قوَّة الله وعناصر قوَّة الله سبحانه وتعالى؟ أليس القهر والخضوع والإذلال يكمن في حجم حضور القوّة.. ومن إفرازات القوّة ونتائجها؟ وبالتالي، أليس الشّعور بالقهر والخضوع والإذلال هو المدخل المنطقي والموضوعي للشّعور بالقوّة؟ فنحن لا نشعر بالقهر والخضوع والإذلال إلّا أمام القويّ. وبقدر ما تكون قوّة القويّ عظيمة، يكون الشعور بالقهر والخضوع والإذلال عظيماً...

فإذا كانت القوّة لله جميعاً، فهذا يعني حتماً، أنّ أيّ انقهار أو خضوع أو تذلّل لغير الله، سبحانه وتعالى، هو انقهار وخضوع وإذلال خاطئ وفي غير محلّه، وبالتّالي غير جائز .فكما أنّ القوّة هي لله فقط، فإنّ الخضوع والانقهار والإذلال لا يكون لغير الله.

ولذا، كان الامتلاء بالشعور بعظمة قوّة الله، سبحانه وتعالى، فعل تحرّر من كلّ ما هو قوّة باطلة تسعى لفرض وجودها على حياتنا، سواء أكانت هذه القوّة اقتصادية أم سياسية أم ثقافية أم عسكرية، أم كلّ هذه مجتمعة، وبقدر امتلائنا بالشّعور بعظمة قوّة الله، سبحانه وتعالى، ينبثق منّا فعل مقارعة قوى الظلم والظلام بكلّ أنواعه، يوقظ فينا قوّة بناء لا تستكين، لأنّها تستمدّ مددها من معين كلّ قوّة الذي هو الله سبحانه وتعالى...

من هنا، وفي هذا السياق، يمكن أن نضع أمر الله سبحانه وتعالى لنا، بأن نعدَّ كلّ موارد القوّة المستطاعة ومظاهرها في وجودنا، في سبيل نشر الخوف والرّهبة في قلوب أعداء الله. قال الله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ}.

فالمطلوب إعداد وتجهيز كلّ ما يدخل في دائرة استطاعة الإنسان من قوّة، ولا سيّما تلك القوة التي تبثّ الرّعب والخوف في قلوب الأعداء، فتردعهم ليس فقط عن القيام بالعدوان، بل حتّى عن مجرّد التفكير فيه، وكأنّ هذه الآية ناظرة إلى ما نسمّيه اليوم بحفظ الأمن القومي للمجتمع والدّولة، وإلى ما يسمّى باستراتيجية الردع. فالإعداد والتجهيز المستمرّان لمصادر القوّة، وتعبئتها وصيانتها، والمحافظة المستمرّة على تطوُّرها وفاعليّة أدائها، كلّها من مستلزمات استراتيجية الرّدع.

ومن هنا، لم تكن الاستطاعة في فنّ الممكن فحسب، وإنَّما هي فنّ تطوير الإمكانات والطاقات والقدرات وتوسيعها.

ولذا، لم يُرد من الاستطاعة الستاتيكيّة السكونيّة، وإنّما الاستطاعة المتحرّكة التي تسعى دائماً نحو الأفضل والأكفأ في كلّ المجالات.

وإذا كان المطلوب إعداد ما هو في متناول استطاعة الإنسان، فللاستطاعة مصاديق وعناوين متنوّعة؛ فالعلم مظهر من مظاهر القوّة، والتكنولوجيا مظهر من مظاهر القوّة، والاقتصاد المتين القائم على بنى تحتيّة صناعية وتجارية وزراعية قويّة مظهر من مظاهر القوّة، والثقافة الرائدة المتماسكة مظهر من مظاهر القوّة، والتخطيط الواعي والعلمي، والأداء الإداري المتميّز، والبرمجة الدقيقة، كلّها من مظاهر القوّة، والكفاءة والتجهيزات العسكرية والأمنية مظهر من مظاهر القوّة... إلخ..

نعود، الآن، إلى سياق الدعاء. وعليّ (ع) يقول: أسألك يا الله، أتوسّل إليك "بقوّتك"، لأنّك أنتَ القويّ يا ربّ، وأنا الضّعيف، ولذا أريد أن أسألك "بقوّتك التي قهرتَ بها كلّ شيء". فحتى المتمرّدون والمتكبّرون الذين يعيشون الاستعلاء والعنفوان، خضعوا لقوّتك حين داهمهم المرض والبلاء أو الموت، وهم مهما ضخَّموا من شخصيّاتهم، فستصغر شخصيّاتهم وسيذلّون أمام قوّتك، هذه القوَّة "التي قَهَرْتَ بها كلّ شيء"، فكلّ شيء مقهور في النهاية لديك يا الله: "فسبحان مَنْ تعزَّز بالقدرة والبقاء، وقهَرَ عباده بالموت والفناء".

"وذلّ لها كلّ شيء"، كلّ الأشياء تذلّ أمام الله وتخضع، لأنّها محكومة لقدرته في كلّ شيء. فأجسادنا محتاجة إلى الله في كلّ ما أودع فيها من قوانين، فهي تذلّ إذا جاعت، فمن منّا يستطيع أن يتمرّد على الجوع. مَنْ منّا يمكن أن يتمرّد على الظمأ؟ الله أذلّك إذ جعلك تشعر بالظَّمأ والجوع، وذلك لتشعر بأنّك كائن محتاج دوماً إلى الله في كلّ مفردة من مفردات وجودك، فأنتَ تشعر باحتياجك إلى الغذاء الذي خلقه الله، وإلى الماء والهواء اللّذين خلقهما الله أيضاً. والإنسان مقهور بحوائجه مذلول لها، ولذلك كان الإنسان مقهوراً ومذلولاً أمام مَن يمسك بوجوده وحوائج هذا الوجود، وهو الله سبحانه وتعالى.

يقال إنَّ أحد الزهَّاد كان حاضراً مجلساً للخليفة العباسي هارون الرشيد، هذا الخليفة الذي كان يقول للغمامة: أمطري أينما شئتِ فسيأتيني خراجك، أي الضّريبة المستحقّة على نتائج الأرض. وطلب الرّشيد ماءً ليشرب، فجيء له بالكأس، لكن قبل أن يهمّ بشرب الماء، قال له الزاهد: يا هارون، قبل أن تشرب الماء، أحبّ أنْ أسألك مسألة. فقال له: سل. قال له الزّاهد: ماذا لو منعت من شرب هذا الماء، فبكم تشتريه؟ قال: بنصف ملكي.

قال: فاشرب، وبعد أن شرب هارون قال له الزّاهد: ها إنّ الماء دخل إلى جوفك، ولو امتنع عليك إخراجه من جوفك، فكم تدفع لإخراجه؟ قال: أدفع نصف ملكي. فعلّق عندها الزّاهد على هذا الموقف قائلاً: إذاً ما قيمة ملك يشتريه الإنسان ببوله؟!

هذه نقاط ضعف يعرف من خلالها الإنسان كيف يكون محتاجاً إلى الله سبحانه وتعالى. هناك من إذا أصبح ولديه مال أو قوّة، أو سلاح، أو جاه، أو سلطة، فإنّه يشعر بضخامة شخصيّته، فيخيَّل إليه وكأنّه لا يحتاج إلى الله سبحانه وتعالى. الله يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ* إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ* وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ}.

وثمّة رواية أخرى تُروى عن الإمام الصّادق (ع). وتفيد الرواية أنّه كان جالساً ذات يوم مع أبي جعفر المنصور ـ الخليفة الثاني من خلفاء بني العبّاس ـ فجاءت ذبابة، حطَّت مرّة على رأسه ومرّة على جبهته، فانزعج منها قائلاً: لماذا خلق الله الذّباب؟ متسائلاً عن فائدة هذا المخلوق المزعج. فقال له الإمام الصّادق (ع) "ليذلّ به الجبابرة"، لأنّ الإنسان الجبّار يرى نفسه في عظمة لا تسعه الدنيا، فتأتي ذبابة صغيرة لتذكّره كم هو مخلوق ضعيف وحقير، حتّى إنّ أتفه المخلوقات يمكن أن تسبّب له الانزعاج والتوتّر.[من كتاب "في رحاب دعاء كميل"].

ورد في دعاء كميل بن زياد عن أمير المؤمنين عليّ (ع) قوله: "وبِقُوَّتِكَ التي قَهَرْتَ بَها كلَّ شيء، وخَضَعَ لها كلّ شيء، وذَلَّ لها كلّ شيء."

يتحدّث سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (رض) حول هذه الفقرة من الدعاء، وما فيها من الإشارات والتوجيهات الإيمانيّة والروحيّة، فيقول:

"بعد أن جعل (ع) التوسّل بالرحمة الإلهيّة التي "وَسِعَتْ كلّ شيء" مدخلاً لأسئلته، جعل التوسّل بقوّة الله سبحانه وتعالى الّتي قهر "بها كلَّ شيء، وخَضَعَ لها كلّ شيء، وذَلَّ لها كلّ شيء". لقد أراد الإمام (ع) الاستعانة بقوّة الله سبحانه وتعالى، لا مباشرةً، وإنّما من باب الرَّحمة. أي كأنّه (ع)، أراد التوسّل هنا بالقوَّة من باب الرّحمة، ذلك أنّ القوّة قد تستخدم في مجال النَّكال والانتقام، وتكون عندها تعبيراً عن غضب الله تعالى وسخطه، كما قد تكون تعبيراً عن رضى الله تعالى.

ولذا، ولج (ع)، إلى القوّة من باب الرّحمة، لكي يكون توسّله بها رفعاً للنقمة، وتسبيباً لما يرضي الله تعالى. هذا في جانب، وفي جانبٍ آخر، حدَّد، (ع) للقوَّة ثلاث نتائج رئيسة، تعكس في مجموعها مظهراً من مظاهر توحيد الله تعالى. هذه النّتائج هي:

أ ـ كلّ شيء مقهور بها.

ب ـ كلّ شيء خاضع لها.

ج ـ كلّ شيء مذلول لها. وكلّ من هذه النّتائج مترتّب على الآخر. فبالقوَّة تتمّ عمليّة القهر، والقهر يفضي إلى الخضوع، والخضوع يؤدّي إلى الإذلال. وهذا يعني أنْ لا شيء خارج نطاق قوّة الله، ما دام كلّ شيء مقهوراً بها، وخاضعاً لها، ومذلولاً لها. فكلّ شيء طوع يدي الله، وكلّ شيء مسحوق أمام قوّة الله، لأنّ الله وحده القويّ حقّاً. وإنَّ كلّ القوّة له وحده لا لأحد سواه. وما من قوّة لدى قويّ، مهما كان صنفها، أو لونها، أو حجمها، أو سببها، أو كيفيّتها، إلّا وهي ظلّ من ظلال قوّته تعالى. يقول الله تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}. فالله، سبحانه وتعالى، هو المالك حقّاً للقوّة وأسبابها، فهو مصدر كلّ قوَّة ومنتهى كلّ قوَّة.

فما فينا من قوّة الحياة, وقوّة الفكر والعمل والإنتاج، وما فينا من قوّة العافية والصحّة والأمن والأمان، وما فينا من قوّة في الاقتصاد والسياسة والأمن والنظام... كلّها مظاهر لقوّة الله سبحانه وتعالى التي أيّدنا بها.

إذاً، من الله سبحانه وتعالى نستمدّ كلّ قوّة. لكن كيف السبيل إلى الالتحام بقوّة الله سبحانه وتعالى؟ كيف السّبيل للالتحام بقوَّة الله وأسباب قوَّة الله وعناصر قوَّة الله سبحانه وتعالى؟ أليس القهر والخضوع والإذلال يكمن في حجم حضور القوّة.. ومن إفرازات القوّة ونتائجها؟ وبالتالي، أليس الشّعور بالقهر والخضوع والإذلال هو المدخل المنطقي والموضوعي للشّعور بالقوّة؟ فنحن لا نشعر بالقهر والخضوع والإذلال إلّا أمام القويّ. وبقدر ما تكون قوّة القويّ عظيمة، يكون الشعور بالقهر والخضوع والإذلال عظيماً...

فإذا كانت القوّة لله جميعاً، فهذا يعني حتماً، أنّ أيّ انقهار أو خضوع أو تذلّل لغير الله، سبحانه وتعالى، هو انقهار وخضوع وإذلال خاطئ وفي غير محلّه، وبالتّالي غير جائز .فكما أنّ القوّة هي لله فقط، فإنّ الخضوع والانقهار والإذلال لا يكون لغير الله.

ولذا، كان الامتلاء بالشعور بعظمة قوّة الله، سبحانه وتعالى، فعل تحرّر من كلّ ما هو قوّة باطلة تسعى لفرض وجودها على حياتنا، سواء أكانت هذه القوّة اقتصادية أم سياسية أم ثقافية أم عسكرية، أم كلّ هذه مجتمعة، وبقدر امتلائنا بالشّعور بعظمة قوّة الله، سبحانه وتعالى، ينبثق منّا فعل مقارعة قوى الظلم والظلام بكلّ أنواعه، يوقظ فينا قوّة بناء لا تستكين، لأنّها تستمدّ مددها من معين كلّ قوّة الذي هو الله سبحانه وتعالى...

من هنا، وفي هذا السياق، يمكن أن نضع أمر الله سبحانه وتعالى لنا، بأن نعدَّ كلّ موارد القوّة المستطاعة ومظاهرها في وجودنا، في سبيل نشر الخوف والرّهبة في قلوب أعداء الله. قال الله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ}.

فالمطلوب إعداد وتجهيز كلّ ما يدخل في دائرة استطاعة الإنسان من قوّة، ولا سيّما تلك القوة التي تبثّ الرّعب والخوف في قلوب الأعداء، فتردعهم ليس فقط عن القيام بالعدوان، بل حتّى عن مجرّد التفكير فيه، وكأنّ هذه الآية ناظرة إلى ما نسمّيه اليوم بحفظ الأمن القومي للمجتمع والدّولة، وإلى ما يسمّى باستراتيجية الردع. فالإعداد والتجهيز المستمرّان لمصادر القوّة، وتعبئتها وصيانتها، والمحافظة المستمرّة على تطوُّرها وفاعليّة أدائها، كلّها من مستلزمات استراتيجية الرّدع.

ومن هنا، لم تكن الاستطاعة في فنّ الممكن فحسب، وإنَّما هي فنّ تطوير الإمكانات والطاقات والقدرات وتوسيعها.

ولذا، لم يُرد من الاستطاعة الستاتيكيّة السكونيّة، وإنّما الاستطاعة المتحرّكة التي تسعى دائماً نحو الأفضل والأكفأ في كلّ المجالات.

وإذا كان المطلوب إعداد ما هو في متناول استطاعة الإنسان، فللاستطاعة مصاديق وعناوين متنوّعة؛ فالعلم مظهر من مظاهر القوّة، والتكنولوجيا مظهر من مظاهر القوّة، والاقتصاد المتين القائم على بنى تحتيّة صناعية وتجارية وزراعية قويّة مظهر من مظاهر القوّة، والثقافة الرائدة المتماسكة مظهر من مظاهر القوّة، والتخطيط الواعي والعلمي، والأداء الإداري المتميّز، والبرمجة الدقيقة، كلّها من مظاهر القوّة، والكفاءة والتجهيزات العسكرية والأمنية مظهر من مظاهر القوّة... إلخ..

نعود، الآن، إلى سياق الدعاء. وعليّ (ع) يقول: أسألك يا الله، أتوسّل إليك "بقوّتك"، لأنّك أنتَ القويّ يا ربّ، وأنا الضّعيف، ولذا أريد أن أسألك "بقوّتك التي قهرتَ بها كلّ شيء". فحتى المتمرّدون والمتكبّرون الذين يعيشون الاستعلاء والعنفوان، خضعوا لقوّتك حين داهمهم المرض والبلاء أو الموت، وهم مهما ضخَّموا من شخصيّاتهم، فستصغر شخصيّاتهم وسيذلّون أمام قوّتك، هذه القوَّة "التي قَهَرْتَ بها كلّ شيء"، فكلّ شيء مقهور في النهاية لديك يا الله: "فسبحان مَنْ تعزَّز بالقدرة والبقاء، وقهَرَ عباده بالموت والفناء".

"وذلّ لها كلّ شيء"، كلّ الأشياء تذلّ أمام الله وتخضع، لأنّها محكومة لقدرته في كلّ شيء. فأجسادنا محتاجة إلى الله في كلّ ما أودع فيها من قوانين، فهي تذلّ إذا جاعت، فمن منّا يستطيع أن يتمرّد على الجوع. مَنْ منّا يمكن أن يتمرّد على الظمأ؟ الله أذلّك إذ جعلك تشعر بالظَّمأ والجوع، وذلك لتشعر بأنّك كائن محتاج دوماً إلى الله في كلّ مفردة من مفردات وجودك، فأنتَ تشعر باحتياجك إلى الغذاء الذي خلقه الله، وإلى الماء والهواء اللّذين خلقهما الله أيضاً. والإنسان مقهور بحوائجه مذلول لها، ولذلك كان الإنسان مقهوراً ومذلولاً أمام مَن يمسك بوجوده وحوائج هذا الوجود، وهو الله سبحانه وتعالى.

يقال إنَّ أحد الزهَّاد كان حاضراً مجلساً للخليفة العباسي هارون الرشيد، هذا الخليفة الذي كان يقول للغمامة: أمطري أينما شئتِ فسيأتيني خراجك، أي الضّريبة المستحقّة على نتائج الأرض. وطلب الرّشيد ماءً ليشرب، فجيء له بالكأس، لكن قبل أن يهمّ بشرب الماء، قال له الزاهد: يا هارون، قبل أن تشرب الماء، أحبّ أنْ أسألك مسألة. فقال له: سل. قال له الزّاهد: ماذا لو منعت من شرب هذا الماء، فبكم تشتريه؟ قال: بنصف ملكي.

قال: فاشرب، وبعد أن شرب هارون قال له الزّاهد: ها إنّ الماء دخل إلى جوفك، ولو امتنع عليك إخراجه من جوفك، فكم تدفع لإخراجه؟ قال: أدفع نصف ملكي. فعلّق عندها الزّاهد على هذا الموقف قائلاً: إذاً ما قيمة ملك يشتريه الإنسان ببوله؟!

هذه نقاط ضعف يعرف من خلالها الإنسان كيف يكون محتاجاً إلى الله سبحانه وتعالى. هناك من إذا أصبح ولديه مال أو قوّة، أو سلاح، أو جاه، أو سلطة، فإنّه يشعر بضخامة شخصيّته، فيخيَّل إليه وكأنّه لا يحتاج إلى الله سبحانه وتعالى. الله يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ* إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ* وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ}.

وثمّة رواية أخرى تُروى عن الإمام الصّادق (ع). وتفيد الرواية أنّه كان جالساً ذات يوم مع أبي جعفر المنصور ـ الخليفة الثاني من خلفاء بني العبّاس ـ فجاءت ذبابة، حطَّت مرّة على رأسه ومرّة على جبهته، فانزعج منها قائلاً: لماذا خلق الله الذّباب؟ متسائلاً عن فائدة هذا المخلوق المزعج. فقال له الإمام الصّادق (ع) "ليذلّ به الجبابرة"، لأنّ الإنسان الجبّار يرى نفسه في عظمة لا تسعه الدنيا، فتأتي ذبابة صغيرة لتذكّره كم هو مخلوق ضعيف وحقير، حتّى إنّ أتفه المخلوقات يمكن أن تسبّب له الانزعاج والتوتّر.[من كتاب "في رحاب دعاء كميل"].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية