سرّ الصّبر وحقيقة القناعة

سرّ الصّبر وحقيقة القناعة

[من دعاء الإمام زين العابدين (ع) في الاستعاذة من المكاره، وسيّئ الأخلاق، ومذامّ الأفعال]:

"اللّهمَّ إني أعوذ بك من ضعف الصبر، وقلّة القناعة".

يا ربّ، لقد خلقت الحياة، وخلقتنا في داخلها، لتتحرّك الحياة بنا، ونتحرّك معها، لنحقّق لها مضمونها الحيّ في كلّ مواقعها ومواردها وشكلها ومضمونها، من خلال ما نملكه من فكر في عقولنا، وعاطفةٍ في قلوبنا، وقوّة في كياننا، وحركةٍ في أجسادنا، وانفتاحٍ في خيالاتنا، لتكون الحياة - بنا - أعمق وأوسع وأكبر امتداداً، ولتحقّق لنا نموّاً في علومنا، وعمقاً في تجاربنا، واتّساعاً في ساحاتنا، ورحابةً في آفاقنا.

ثم كانت المسؤوليّات الصّغيرة والكبيرة التي حملتها لنا من خلال رسلك ورسالاتك، لنطيعك في ذلك كلّه في ما تريد لنا أن نفعله أو نتركه، ولنبني الحياة على الأسس التي أردت لها أن تكون القاعدة الثابتة في الوجود المنفتح على رضاك، في ما يمثّله ذلك من معنى خلافة الإنسان في الأرض.

سرّ الصّبر

وكانت القضيَّة في ما أودعت فينا من عناصر الضّعف، وأودعت في الحياة من عناصر الصّلابة والشدّة والقسوة، وركّبت فينا سرّ الغريزة في الجسد، ومعنى الشّهوة في الغريزة، ونزعة التمرّد في الإحساس، وإحساس الهروب في الذات، وصرخة الألم في الكيان، ولوعة الحزن في القلب، ولهثة الأنفاس في الصّدر. ومن خلال ذلك، كنّا نتهرب من المسؤولية عندما تتمرّد فينا الغريزة، ونسقط أمام القوّة عندما يضغط علينا التحدّي، ويتألم الجسد، ويحزن القلب، وتجزع الإرادة، وعندما تقسو علينا الحياة، وتشتدّ بنا المصائب، ويقسو علينا البلاء. إنّها مشكلة ضعف الثّبات فينا أمام مسألة الصّبر الّتي تتماسك مع المشاعر، وتثبّت المواقف، وتصلّب الإرادة، وقد قلت لنا في كتابك عن الصّبر: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(لقمان/17).

إنّها قضيّة الحياة في ثباتها، والمسؤوليّة في حركتها، والإنسان في إرادته، والوجود في عمقه وامتداده، بينما الجزع حالة موت وهلاك، وإحساس سقوط وانهيار.

أعطني، يا ربّ، من وعي الأشياء في نهاياتها لا في بداياتها، ومن إرادة الحقّ في مضمونه، ومن معنى النتائج في المقدّمات، أعطني - يا ربّ - سرّ الصبر الذي يجعلني أتابع السير في الوجود، لألتقي بك في مواقف القرب من الطاعة، والبعد عن المعصية، والتماسك في البلاء، لأكون قوياً في منطق الصبر، بدلاً من أكون ضعيفاً في منطق الجزع.

حقيقة القناعة

يا ربّ، قد تكون مشكلتنا في وجودنا الإنساني أنّنا نتجاوز في رغباتنا الذاتيّة حالة التوازن الواقعي لما نحبّه ونريده، فنحن قد نعيش ظروفاً معيشيّة ذات نتائج محدودةٍ في متطلّبات الحياة، وحاجات العيش، ممّا قد يبتعد عن مستوى الرّغبة في الحجم والكمّ والنوع، ولا سيّما إذا رأينا أنّ الآخرين يملكون أكثر ممّا نملك، ويحصلون على أكبر مما نحصل عليه في فرص الحياة ولذّات العيش ومستوى الموقع، فنطمع بالمزيد الّذي لا نستطيع تحقيقه بقدراتنا المحدودة، فيقودنا ذلك إلى أن ننحرف عن مبادئنا، أو نتخلّى عن مواقفنا، أو نبتعد عن مواقعنا، أو نتنازل عن كرامتنا، أو نبيع أنفسنا، لنحصل على شيء مما ليس عندنا من ذلك، أو لنستزيد منه، في الوقت الذي نستطيع الاكتفاء بما لدينا من خلال تصغير حاجاتنا، وتحديد رغباتنا، وتحجيم مطامعنا... ثمّ العمل على تطوير قدراتنا، وتنمية كفاءاتنا، وتحسين ظروفنا، وتقوية الفرص المتنوّعة الكفيلة بتحقيق ما نريده أو نحتاجه من قضايا العيش وشؤون الحياة، ونبقى في عمليّة حركةٍ دائبةٍ، وجهاد مستمرّ لنبلغ الغاية، ونستزيد من النتائج الإيجابيّة، مستعينين على ذلك كلّه في ما نرجوه من لطفك وعونك ورحمتك وكرمك...

يا ربّ، إنَّ الشّيطان قد يبتعد بنا عن وضوح الرّؤيا للأشياء، فيخلط بين الحسن والقبيح، لننطلق نحو القبيح من موقع تصوّرنا أنّه الحسن، وقد يتلاعب بعقولنا ومشاعرنا، ليدفعنا إلى الاندفاع نحو الحصول على رغباتنا وحاجاتنا، من دون أن نتلمّس الطريق الطبيعي إليها، فيسلك بنا مسالك المهالك التي تؤدّي بنا إلى السّقوط في حبائله، والبعد عن مصالحنا، والانحراف عن خطّ رضاك...

إنّ القناعة تعني تحديد الحاجة في مستوى الإمكانات، ليحقّق الإنسان لنفسه الهدوء العقلي، لإيجاد الجوّ الملائم لدراسة الواقع في ما يملكه من المفردات المحدودة، وفي ما يختزنه من الإمكانات الواحدة، للحصول على فرص جديدة لنتائج مستقبليّة واقعية، ليبدأ التخطيط في عملية التنمية والتطوير على أساس النموّ الطبيعي للأشياء، وهكذا دواليك، في خطّ تصاعدي نحو الطموح في دائرة الواقع، فتكون المسألة حركة إنسانيّة توصي الإنسان - من وحي الرسالة - بأنّ عليه أن يضغط على حاجاته لمصلحة إمكاناته، وأن يطوّر قدراته في طريق حاجاته في المستقبل، فلا يسمح لحاجاته بأن تضغط على مبادئه ومواقفه في نزوة استعجال وحالة انفعال، وبذلك تكون القناعة نقطة ارتكاز لإبقاء الطموح في آفاقه الواسعة، وتحقيق الإنسان إنسانيّته في ذاته في خط التوازن، فلا يطغى شيء على شيء، بل تتحقّق عناصر الشخصيّة في ما هي الرغبات الجسدية والحاجات الروحية، والطموح العملي للأشياء، والواقعية المدروسة في قضية الإحساس والحركة، ما يجعل من القناعة كنزاً لا يفنى، ومالاً لا ينفد، ويجعل من الطمع رقّاً مؤبّداً، ومن الطموح حالة من الجهاد في سبيل الله على صعيد المسؤوليّات المتحرّكة في طاقات الإنسان.

اللّهمّ إنّنا نبتهل إليك أن تطلّ على مواقع الرغبة فينا برحمتك، وعلى مكامن الإحساس في شخصيّاتنا بقدرتك، وعلى مجالات الحركة في ساحاتنا بعونك، لتعيذنا من قلة القناعة، وتوجّهنا إلى التّوازن في كلّ حالاتنا، يا أرحم الرّاحمين.

 *من كتاب "آفاق الروح"، ج1.

[من دعاء الإمام زين العابدين (ع) في الاستعاذة من المكاره، وسيّئ الأخلاق، ومذامّ الأفعال]:

"اللّهمَّ إني أعوذ بك من ضعف الصبر، وقلّة القناعة".

يا ربّ، لقد خلقت الحياة، وخلقتنا في داخلها، لتتحرّك الحياة بنا، ونتحرّك معها، لنحقّق لها مضمونها الحيّ في كلّ مواقعها ومواردها وشكلها ومضمونها، من خلال ما نملكه من فكر في عقولنا، وعاطفةٍ في قلوبنا، وقوّة في كياننا، وحركةٍ في أجسادنا، وانفتاحٍ في خيالاتنا، لتكون الحياة - بنا - أعمق وأوسع وأكبر امتداداً، ولتحقّق لنا نموّاً في علومنا، وعمقاً في تجاربنا، واتّساعاً في ساحاتنا، ورحابةً في آفاقنا.

ثم كانت المسؤوليّات الصّغيرة والكبيرة التي حملتها لنا من خلال رسلك ورسالاتك، لنطيعك في ذلك كلّه في ما تريد لنا أن نفعله أو نتركه، ولنبني الحياة على الأسس التي أردت لها أن تكون القاعدة الثابتة في الوجود المنفتح على رضاك، في ما يمثّله ذلك من معنى خلافة الإنسان في الأرض.

سرّ الصّبر

وكانت القضيَّة في ما أودعت فينا من عناصر الضّعف، وأودعت في الحياة من عناصر الصّلابة والشدّة والقسوة، وركّبت فينا سرّ الغريزة في الجسد، ومعنى الشّهوة في الغريزة، ونزعة التمرّد في الإحساس، وإحساس الهروب في الذات، وصرخة الألم في الكيان، ولوعة الحزن في القلب، ولهثة الأنفاس في الصّدر. ومن خلال ذلك، كنّا نتهرب من المسؤولية عندما تتمرّد فينا الغريزة، ونسقط أمام القوّة عندما يضغط علينا التحدّي، ويتألم الجسد، ويحزن القلب، وتجزع الإرادة، وعندما تقسو علينا الحياة، وتشتدّ بنا المصائب، ويقسو علينا البلاء. إنّها مشكلة ضعف الثّبات فينا أمام مسألة الصّبر الّتي تتماسك مع المشاعر، وتثبّت المواقف، وتصلّب الإرادة، وقد قلت لنا في كتابك عن الصّبر: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(لقمان/17).

إنّها قضيّة الحياة في ثباتها، والمسؤوليّة في حركتها، والإنسان في إرادته، والوجود في عمقه وامتداده، بينما الجزع حالة موت وهلاك، وإحساس سقوط وانهيار.

أعطني، يا ربّ، من وعي الأشياء في نهاياتها لا في بداياتها، ومن إرادة الحقّ في مضمونه، ومن معنى النتائج في المقدّمات، أعطني - يا ربّ - سرّ الصبر الذي يجعلني أتابع السير في الوجود، لألتقي بك في مواقف القرب من الطاعة، والبعد عن المعصية، والتماسك في البلاء، لأكون قوياً في منطق الصبر، بدلاً من أكون ضعيفاً في منطق الجزع.

حقيقة القناعة

يا ربّ، قد تكون مشكلتنا في وجودنا الإنساني أنّنا نتجاوز في رغباتنا الذاتيّة حالة التوازن الواقعي لما نحبّه ونريده، فنحن قد نعيش ظروفاً معيشيّة ذات نتائج محدودةٍ في متطلّبات الحياة، وحاجات العيش، ممّا قد يبتعد عن مستوى الرّغبة في الحجم والكمّ والنوع، ولا سيّما إذا رأينا أنّ الآخرين يملكون أكثر ممّا نملك، ويحصلون على أكبر مما نحصل عليه في فرص الحياة ولذّات العيش ومستوى الموقع، فنطمع بالمزيد الّذي لا نستطيع تحقيقه بقدراتنا المحدودة، فيقودنا ذلك إلى أن ننحرف عن مبادئنا، أو نتخلّى عن مواقفنا، أو نبتعد عن مواقعنا، أو نتنازل عن كرامتنا، أو نبيع أنفسنا، لنحصل على شيء مما ليس عندنا من ذلك، أو لنستزيد منه، في الوقت الذي نستطيع الاكتفاء بما لدينا من خلال تصغير حاجاتنا، وتحديد رغباتنا، وتحجيم مطامعنا... ثمّ العمل على تطوير قدراتنا، وتنمية كفاءاتنا، وتحسين ظروفنا، وتقوية الفرص المتنوّعة الكفيلة بتحقيق ما نريده أو نحتاجه من قضايا العيش وشؤون الحياة، ونبقى في عمليّة حركةٍ دائبةٍ، وجهاد مستمرّ لنبلغ الغاية، ونستزيد من النتائج الإيجابيّة، مستعينين على ذلك كلّه في ما نرجوه من لطفك وعونك ورحمتك وكرمك...

يا ربّ، إنَّ الشّيطان قد يبتعد بنا عن وضوح الرّؤيا للأشياء، فيخلط بين الحسن والقبيح، لننطلق نحو القبيح من موقع تصوّرنا أنّه الحسن، وقد يتلاعب بعقولنا ومشاعرنا، ليدفعنا إلى الاندفاع نحو الحصول على رغباتنا وحاجاتنا، من دون أن نتلمّس الطريق الطبيعي إليها، فيسلك بنا مسالك المهالك التي تؤدّي بنا إلى السّقوط في حبائله، والبعد عن مصالحنا، والانحراف عن خطّ رضاك...

إنّ القناعة تعني تحديد الحاجة في مستوى الإمكانات، ليحقّق الإنسان لنفسه الهدوء العقلي، لإيجاد الجوّ الملائم لدراسة الواقع في ما يملكه من المفردات المحدودة، وفي ما يختزنه من الإمكانات الواحدة، للحصول على فرص جديدة لنتائج مستقبليّة واقعية، ليبدأ التخطيط في عملية التنمية والتطوير على أساس النموّ الطبيعي للأشياء، وهكذا دواليك، في خطّ تصاعدي نحو الطموح في دائرة الواقع، فتكون المسألة حركة إنسانيّة توصي الإنسان - من وحي الرسالة - بأنّ عليه أن يضغط على حاجاته لمصلحة إمكاناته، وأن يطوّر قدراته في طريق حاجاته في المستقبل، فلا يسمح لحاجاته بأن تضغط على مبادئه ومواقفه في نزوة استعجال وحالة انفعال، وبذلك تكون القناعة نقطة ارتكاز لإبقاء الطموح في آفاقه الواسعة، وتحقيق الإنسان إنسانيّته في ذاته في خط التوازن، فلا يطغى شيء على شيء، بل تتحقّق عناصر الشخصيّة في ما هي الرغبات الجسدية والحاجات الروحية، والطموح العملي للأشياء، والواقعية المدروسة في قضية الإحساس والحركة، ما يجعل من القناعة كنزاً لا يفنى، ومالاً لا ينفد، ويجعل من الطمع رقّاً مؤبّداً، ومن الطموح حالة من الجهاد في سبيل الله على صعيد المسؤوليّات المتحرّكة في طاقات الإنسان.

اللّهمّ إنّنا نبتهل إليك أن تطلّ على مواقع الرغبة فينا برحمتك، وعلى مكامن الإحساس في شخصيّاتنا بقدرتك، وعلى مجالات الحركة في ساحاتنا بعونك، لتعيذنا من قلة القناعة، وتوجّهنا إلى التّوازن في كلّ حالاتنا، يا أرحم الرّاحمين.

 *من كتاب "آفاق الروح"، ج1.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية