بعد وفاة أبي طالب عمّ الرَّسول(ص)، والسيِّدة خديجة بنت خويلد زوجة الرّسول(ص) في السنة العاشرة من البعثة النبويّة المباركة، ورغم أنَّ هذا العام كان عام الحزن على قلب المصطفى(ص)، فإنَّه لم يرضخ للضّغوطات الَّتي زادت عليه من قِبَل قريش وأتباعها، الَّذين استغلّوا وفاة حاميه وظهيره أبي طالب، بل سعى إلى الخروج من مكَّة المكرَّمة إلى الطائف، علّه يجد هناك النّاصر والمدافع والمؤمن برسالة الله، ولكنَّ فصول المأساة تكرَّرت معه في الطّائف.
فقد جاء في طبقات ابن سعد، قال: "لما توفّي أبو طالب، تناولت قريش من الرسول(ص) واجترأوا، فخرج إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة، وذلك في ليالٍ بقين من شوّال سنة عشر من حين نُبِّئ رسول الله(ص)، فأقام بالطائف عشرة أيّام لا يدع أحداً من أشرافهم إلا جاءه وكلّمه، فلم يجيبوه وخافوا على أحداثهم، فقالوا: يا محمَّد، اخرج من بلدنا والحق بمُجابك من الأرض، وأغروا به سفاءهم، فجعلوا يرمونه بالحجارة، حتى إنَّ رِجلي رسول الله(ص) لتدميان، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، فانصرف رسول الله(ص) من الطائف راجعاً إلى مكَّة وهو محزون لم يستجب له رجل واحد ولا امرأة، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم ـ يعني قريشاً ـ وهم أخرجوك.. فقال: يا زيد، إنَّ الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإنّ الله ناصر دينه ومظهر نبيّه".[طبقات ابن سعد، ج 1، ص 211، 212].
ويروي ابن هشام في سيرته نصّاً رائعاً عن رسول الرّحمة(ص)، يتبيّن منه عمق الإيمان وروعة الصَّبر وروح الشَّجاعة والتّحدّي والجهاد في سبيل الله تعالى. يروي ابن هشام في سيرته: "اطمأنّ رسول الله(ص) إلى حائطٍ لعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وقال ـ فيما ذكر له ـ اللّهمّ إليك أشكو المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكِلُني، إلى بعيدٍ يتجهّمني، أم إلى عدوٍّ ملّكته أمري!؟ إن لم يكُن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكنّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الّذي أشرقت له الظّلمات، وصلُح عليه أمر الدّنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحلّ عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلا بك". [سيرة ابن هشام، ج 1، ص 286].
في أشدّ المواقف وأحلك الظّروف، يعلِّمنا رسول الله(ص) أن لا تكون شكوانا إلا إلى الله تعالى، موضع الشَّكوى الحقيقيَّة، والذي بيده مقاليد السَّماوات والأرض، فلا نتوجَّه بشكوانا إلا إليه، فهو السَّميع البصير، وبيده قضاء الحاجات وتقليب الأمور وتصريفها.
ويعلّمنا رسول الله(ص) أن نجعل مقياس أعمالنا وحركتنا في الحياة رضا الله وغضبه، فنبتعد عن مواضع غضبه لنحصل على توفيقه ورضاه، فإذا لم يغضب الله علينا، فهنا غاية التّوفيق والتَّسديد الإلهيّ، ولم نعد بحاجةٍ إلى المبالاة بأيّ شيء ما دمنا مع الله، والله معنا أينما كنّا.
يعلّمنا رسول الله(ص) كيف نلوذ بالله ونعوذ به من شياطين الإنس والجنّ، وما دمنا متوجِّهين إليه بنياتٍ صادقة ومخلصة، فإنَّنا في حصنٍ من أمنه ورحمته، فلا نخاف من كيد الكائدين وبغي الظّالمين، إذ إنَّ طريق الله تعالى واضحٌ بيِّنٌ ينير لنا الدّروب، ويقينا شرور ظلمات الجهل ومؤامرات الظّلمة والمستكبرين.
ويشير المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) إلى ما تحمله كلمات رسول الله(ص) ومواقفه فيما خصَّ ما جرى معه في الطّائف وغيرها، بقوله: "ونقف مع هذه القضيَّة وقفة التَّقديس لهذا الموقف الرّساليّ الَّذي يبقى مع الرّسالة في تجربة المواقف، وفي إقامة الحجّة، فلا مجال لهدوء، ولا مكان للرّاحة ولحبّ السَّلامة.. فإنَّ هاجس الدَّعوة في قلبه ودمه لا يتركه لحظةً في نومه وفي يقظته.. إنَّه يدعوه إلى البحث عن منطلقٍ جديدٍ وموقعٍ جديدٍ يتحرّك فيه من مركز القوَّة.. وليست القضيَّة أن يستكمل عناصر النَّجاح منذ البداية سلفاً، بل يكفيه أن يلاحق احتمالات النّجاح، حتى إذا تمَّ له ذلك، كان هو الَّذي أراده، وإذا لم يتمّ له ما يريد، فحسبه أنه أدّى الرّسالة وأقام الحجَّة.. وتلك هي قضيَّة الرّسالة.. وقضيّة الرّسل.. فهم يلاحقون التَّجربة لتنتج موقفاً أو لتفتح قلباً أو لتسمع أذناً.. لأنَّ مهمَّتهم أن يشقّوا الطّريق للحقّ، ويصنعوا أجواء الرّسالة، ويفتحوا العقول على مبادئ الدَّعوة ومفاهيمها، لتبدأ رحلة التّفكير لها أو عليها، كمرحلة من مراحل الإيمان الَّذي ينتظر المستقبل من خلال مواقف الحاضر"... [كتاب "خطوات على طريق الإسلام"، ص 397، 398].
قال لنا الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: 21]، فلنتعلّم من قدوتنا رسول الله(ص)، كيف يكون الإيمان الَّذي يتملّك الرّوح والقلب والعقل، وكيف تكون إرادة التّحدّي ومواجهة الضّغوطات والمؤامرات، وكيف يكون السّعي الدّائم من أجل نيل رضا الله ومحبّته وخشيته، فنحن بحاجةٍ إلى تمثّل رسول الله(ص) في كلّ الميادين وكلّ السَّاحات، وفي كلّ أخلاقيّاتنا ومواقفنا وحركتنا في الحياة...
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.
بعد وفاة أبي طالب عمّ الرَّسول(ص)، والسيِّدة خديجة بنت خويلد زوجة الرّسول(ص) في السنة العاشرة من البعثة النبويّة المباركة، ورغم أنَّ هذا العام كان عام الحزن على قلب المصطفى(ص)، فإنَّه لم يرضخ للضّغوطات الَّتي زادت عليه من قِبَل قريش وأتباعها، الَّذين استغلّوا وفاة حاميه وظهيره أبي طالب، بل سعى إلى الخروج من مكَّة المكرَّمة إلى الطائف، علّه يجد هناك النّاصر والمدافع والمؤمن برسالة الله، ولكنَّ فصول المأساة تكرَّرت معه في الطّائف.
فقد جاء في طبقات ابن سعد، قال: "لما توفّي أبو طالب، تناولت قريش من الرسول(ص) واجترأوا، فخرج إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة، وذلك في ليالٍ بقين من شوّال سنة عشر من حين نُبِّئ رسول الله(ص)، فأقام بالطائف عشرة أيّام لا يدع أحداً من أشرافهم إلا جاءه وكلّمه، فلم يجيبوه وخافوا على أحداثهم، فقالوا: يا محمَّد، اخرج من بلدنا والحق بمُجابك من الأرض، وأغروا به سفاءهم، فجعلوا يرمونه بالحجارة، حتى إنَّ رِجلي رسول الله(ص) لتدميان، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، فانصرف رسول الله(ص) من الطائف راجعاً إلى مكَّة وهو محزون لم يستجب له رجل واحد ولا امرأة، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم ـ يعني قريشاً ـ وهم أخرجوك.. فقال: يا زيد، إنَّ الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإنّ الله ناصر دينه ومظهر نبيّه".[طبقات ابن سعد، ج 1، ص 211، 212].
ويروي ابن هشام في سيرته نصّاً رائعاً عن رسول الرّحمة(ص)، يتبيّن منه عمق الإيمان وروعة الصَّبر وروح الشَّجاعة والتّحدّي والجهاد في سبيل الله تعالى. يروي ابن هشام في سيرته: "اطمأنّ رسول الله(ص) إلى حائطٍ لعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وقال ـ فيما ذكر له ـ اللّهمّ إليك أشكو المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكِلُني، إلى بعيدٍ يتجهّمني، أم إلى عدوٍّ ملّكته أمري!؟ إن لم يكُن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكنّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الّذي أشرقت له الظّلمات، وصلُح عليه أمر الدّنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحلّ عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلا بك". [سيرة ابن هشام، ج 1، ص 286].
في أشدّ المواقف وأحلك الظّروف، يعلِّمنا رسول الله(ص) أن لا تكون شكوانا إلا إلى الله تعالى، موضع الشَّكوى الحقيقيَّة، والذي بيده مقاليد السَّماوات والأرض، فلا نتوجَّه بشكوانا إلا إليه، فهو السَّميع البصير، وبيده قضاء الحاجات وتقليب الأمور وتصريفها.
ويعلّمنا رسول الله(ص) أن نجعل مقياس أعمالنا وحركتنا في الحياة رضا الله وغضبه، فنبتعد عن مواضع غضبه لنحصل على توفيقه ورضاه، فإذا لم يغضب الله علينا، فهنا غاية التّوفيق والتَّسديد الإلهيّ، ولم نعد بحاجةٍ إلى المبالاة بأيّ شيء ما دمنا مع الله، والله معنا أينما كنّا.
يعلّمنا رسول الله(ص) كيف نلوذ بالله ونعوذ به من شياطين الإنس والجنّ، وما دمنا متوجِّهين إليه بنياتٍ صادقة ومخلصة، فإنَّنا في حصنٍ من أمنه ورحمته، فلا نخاف من كيد الكائدين وبغي الظّالمين، إذ إنَّ طريق الله تعالى واضحٌ بيِّنٌ ينير لنا الدّروب، ويقينا شرور ظلمات الجهل ومؤامرات الظّلمة والمستكبرين.
ويشير المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) إلى ما تحمله كلمات رسول الله(ص) ومواقفه فيما خصَّ ما جرى معه في الطّائف وغيرها، بقوله: "ونقف مع هذه القضيَّة وقفة التَّقديس لهذا الموقف الرّساليّ الَّذي يبقى مع الرّسالة في تجربة المواقف، وفي إقامة الحجّة، فلا مجال لهدوء، ولا مكان للرّاحة ولحبّ السَّلامة.. فإنَّ هاجس الدَّعوة في قلبه ودمه لا يتركه لحظةً في نومه وفي يقظته.. إنَّه يدعوه إلى البحث عن منطلقٍ جديدٍ وموقعٍ جديدٍ يتحرّك فيه من مركز القوَّة.. وليست القضيَّة أن يستكمل عناصر النَّجاح منذ البداية سلفاً، بل يكفيه أن يلاحق احتمالات النّجاح، حتى إذا تمَّ له ذلك، كان هو الَّذي أراده، وإذا لم يتمّ له ما يريد، فحسبه أنه أدّى الرّسالة وأقام الحجَّة.. وتلك هي قضيَّة الرّسالة.. وقضيّة الرّسل.. فهم يلاحقون التَّجربة لتنتج موقفاً أو لتفتح قلباً أو لتسمع أذناً.. لأنَّ مهمَّتهم أن يشقّوا الطّريق للحقّ، ويصنعوا أجواء الرّسالة، ويفتحوا العقول على مبادئ الدَّعوة ومفاهيمها، لتبدأ رحلة التّفكير لها أو عليها، كمرحلة من مراحل الإيمان الَّذي ينتظر المستقبل من خلال مواقف الحاضر"... [كتاب "خطوات على طريق الإسلام"، ص 397، 398].
قال لنا الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: 21]، فلنتعلّم من قدوتنا رسول الله(ص)، كيف يكون الإيمان الَّذي يتملّك الرّوح والقلب والعقل، وكيف تكون إرادة التّحدّي ومواجهة الضّغوطات والمؤامرات، وكيف يكون السّعي الدّائم من أجل نيل رضا الله ومحبّته وخشيته، فنحن بحاجةٍ إلى تمثّل رسول الله(ص) في كلّ الميادين وكلّ السَّاحات، وفي كلّ أخلاقيّاتنا ومواقفنا وحركتنا في الحياة...
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.