يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ}[1].
تؤكِّد هذه الآية خطّ الرسالات الإلهيّة، وتركّز على التوحيد في جانبه العملي، وهو عبادة الله وحده، من خلال الإيمان بالألوهيّة المطلقة التي لا تلتقي مع أيّ إله غيره، مع ما يستتبعه ذلك من الطاعة لأوامر الله ونواهيه، ومن السير مع خطّ الشريعة في كلّ أحكامها الفرديّة والاجتماعيّة والتزاماتها الخاصّة والعامّة، ورجوع الناس إليها في كلّ خلافاتهم ومنازعاتهم، كما جاء في قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}[2].
وفي مقابل هذه الدعوة الرسوليّة إلى عبادة الله، كانت الدعوة إلى اجتناب الطاغوت في إيحاءاتها الفكرية والعملية، بمعنى الابتعاد عنه بكلّ حالات البعد، فلا يلتقي الإنسان الذي يعبد الله بالطاغوت من قريب أو بعيد، بكل ما يمثله مفهوم عبادة الله الذي يتسع لكل قضايا الإنسان، في الفكرة والانتماء والحركة والموقع والموقف، بحيث يعيش حالة براءةٍ مطلقة من الطاغوت في مقابل توليه لله ورسوله.
وهذا ما تصوره الفقرة التالية التي تتحدث عن الواقع الإيجابي والسلبي في مسألة الإيمان والكفر، والهدى والضلالة: {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ}[3]، بما هيأه من وسائل الهداية، {وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ}، وثبتت في حياته، لأخذه بأسبابها، كنتيجة حتمية تفرضها علاقة المسبب بالأسباب. أما الملتزمون، فهم الذين تحدث عنهم القرآن الكريم في خط الالتزام بعبادة الله، والإنابة إليه، واجتناب الطاغوت، وذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى}[4] في هذا الخيار الإيماني الإيجابي في خط التوحيد الشامل، والسلبي في خط الكفر والشرك، والرفض المطلق لمعطياتهما الانتمائية والعملية.
وتتابع الآيات في إيحاءاتها الحديث عن الذين يستحقون البشارة، وهم الذين يملكون الوعي الروحي والثقافي، لاستماعهم إلى الكلمات التوجيهية والوعظية والرسالية، إلى جانب الكلمات الأخرى، فيتأملون ويفكّرون ويختارون، من خلال الدراسة العمليّة المنفتحة على الفكر الأحسن والانتماء الأفضل، فيلتزمونه، {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ}[5]، فيدقّقون في كلّ الكلمات، {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، لأنهم انفتحوا على هدى الله في التزاماتهم العقيديّة، وفي عبادتهم التوحيديّة لله، وطاعتهم له، من خلال الحرية الفكرية المسؤولة، ولا سيما ما يرتبط بقضية المصير. وقد كان هذا الانفتاح على هدى الله منطلقاً من تميزهم بالعقل المفكّر، الذي يتحرك بالمعادلات الفكرية التي ترتكز على أساس عناصر الحق التي تلتقي بالإيمان بالله، وذلك هو قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[6].
الابتعاد عن عناصر الضّعف
وقد تحدّث الله عن هذين الجانبين في عالم الانتماء في مسألة الإيمان والكفر، وذلك هو قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[7].
إنّ حبل الإيمان بالله قوي وشديد ومتماسك، وجذور الإيمان بالله عميقة عمق الحياة الممتدة في الكون، فمن آمن به، فقد استمسك حينئذ بالقوّة التي لا مجال فيها لضعف أو انحلال، ومن كفر بالطاغوت فقد ابتعد عن كلّ عوامل الضّعف والفساد والخذلان؛ لأنّ الطاغوت يمثل ما يعنيه الطغاة من كلّ معاني الانحراف المنفصلة عن كلّ ما تمثله الإنسانيّة من قوّة وعمق وامتداد.
إنها دعوة إلى الكفر بالطّاغوت في جميع مجالاته الّتي يتحرّك فيها في حياة الناس، في مجالات الفكر والعقيدة والحكم والسياسة والاجتماع، فالقوى التي تمثّل الفكر الباطل، أو الحكم الباطل، أو السّياسة الباطلة، أو القوّة الغاشمة المعتدية، هي قوى طاغوتيّة في مفهوم الإسلام؛ لأنها تتنافى مع الفكر الحقّ، والحكم الحقّ، والسّياسة الحقّة، والقوّة العادلة المنفتحة على كلّ حركة الإنسانية في الحياة. ولذلك، فهي ضدّ الإيمان بالله، بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى.
رفض الطاغوت الحاكم
وربما كان التركيز على رفض الطاغوت الحاكم من الأمور الحيويّة، لأن خطورته تتمثل في سيطرته على مقدّرات الواقع كله، من الناحية الثقافيّة أو السياسيّة أو الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة أو الأمنيّة، باعتبار أن ذلك يمكّنه من احتواء الساحة كلها في جميع جوانبها، وتأكيده للمفاهيم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تفتح له آفاق الذهنية العامة للناس على عناصر الفساد المتنوعة، الداخلية والخارجية، بحيث يتحركون تبعاً لإيحاءاتها ومعطياتها ونتائجها؛ لأن الحاكم الطاغوتي الذي يرتكز حكمه على قاعدة ثقافية ذهنية عامة، أكثر قوةً من الحاكم الذي ينطلق بالقوّة وحدها في فرض سيطرته عليهم.
وبذلك، يقف الإنسان المسلم في الحياة أمام خيارين لا ثالث لهما: الإيمان بالطاغوت، الذي يعني الارتباط بخطّ الكفر والباطل، ويؤدّي إلى الكفر بالله، أو الإيمان بالله الّذي يعني الانطلاق في حركة الحياة من موقع الحقّ، فيما يمثّله من امتداد ومسؤوليّة وشمول، وفيما يدلّ عليه من كفر بكلّ ما عدا الله.
الكفر بالطّاغوت والإيمان بالله
وربما ينطلق التّساؤل: لماذا هذا الحديث عن الكفر بالطّاغوت قبل الإيمان بالله في هذه الآية؟ كما هو الأسلوب نفسه في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى}[8].
والجواب: إنَّ الإيمان ينطلق من انفتاح القلب والعقل على الله، بحيث لا يكون في داخله أيّ موقع لغيره، حتى يكون الإيمان صافياً نقيّاً خالصاً في إيحاءاته وخلفيّاته ومعطياته، لئلا يلوّث الجوّ الداخلي في زحف المشاعر الخفيّة السلبيّة إليه، فتختلط الصورة، ويرتبك الإحساس، ويمتزج الحقّ بالباطل، ويعيش الإنسان الازدواجية بين بقايا الطاغوت في الفكر وحركة الإنسان في الذات، وبذلك تضطرب الخطوات، وتنحرف يميناً وشمالاً.
ولهذا، كانت الخطة الإلهيّة في تعميق الإيمان وتصفيته، تتمثّل في طرد الطّاغوت من عقيدة الإنسان، كوسيلة من وسائل طرده من حياته، ليكون القلب فارغاً من كلّ المؤثّرات السلبيّة، ليدخل الإيمان فيه، فيستولي على الذات كلّها. ولعلّ هذا ما توحيه كلمة الإيمان التي هي أساس الإسلام، وهي شهادة التّوحيد (لا إله إلا الله)، التي تتضمّن مفهوماً يحمل معنى سلبيّاً، ويتمثل في نفي أيّ إله غير الله ممن يتخذهم الناس آلهةً في الذّهن وفي الواقع، ومفهوماً إيجابيّاً، ويتمثل في إثبات الألوهيّة الواحدة؛ لأنّ الوحدانيّة هي في العمق؛ لأنها تعني سلب العدد الآخر والاقتصار على الواحد.
ولا بدَّ لنا ـ في هذا الاتجاه ـ من تخطيط منهجيّة تربويّة تنطلق في حركتها من تفريغ ذهنيّة الإنسان الّذي ندعوه إلى الله، أو نهديه إلى الإسلام وإلى التّقوى، من الأفكار الضارّة، والمشاعر السيئة، والانطباعات الشريرة، وعزل ذاته عن كلّ شخصٍ طاغٍ أو منحرفٍ أو ضالّ، حتى لا يؤثّر في نفسيته، أو يشوّش خاطره، فإذا طهّرنا ذاته من ذلك كلّه، أمكننا أن نزرع فيها الإيمان والخير والتقوى بأسلوبٍ صافٍ، بعيداً عن التأثّر والامتزاج بأيّ شيء مضادّ، والله العالم.
*ندوة الشام الأسبوعية، فكر وثقافة
[1] (النحل: 36).
[2] (النساء: 65).
[3] (النحل: 36).
[4] (الزمر: 17).
[5] (الزمر: 17، 18).
[6] (الزمر: 18).
[7] (البقرة: 256).
[8] (الزمر: 17).