استشارة...
أنا شاب ملتزم بشكل عام، وعلى قدر جيد من الإيمان، ولكن في الآونة الأخيرة، وبسبب صعوبات حياتيَّة مختلفة، بدأ إيماني يضعف وتراجعت علاقتي بالله، لأنَّ هذه الصعوبات جعلتني أطرح تساؤلات لا أجد جواباً منطقيا لها، الأمر الَّذي جعلني أشك في أمور متعلقة بالله سبحانه وتعالى.
أولاً: لماذا خلق الله الإنسان والكون؟ وما الحكمة من ذلك؟ وإذا كانت الجواب هو {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56]، أو من أجل خلافة الأرض وإعمارها، فلماذا يخلق الله مخلوقات، مثل الإنسان، ويعرضها لشتى أنواع الابتلاءات والامتحانات، وقد ينتهي بها المطاف خالدةً في العذاب من أجل عبادته وتقديسه، ونحن نعلم أنه غير محتاج إلى ذلك؟ وحتى لو كان محتاجاً ـ حاشاه ـ فليس عدلاً أن نعاني من أجل سدِّ هذه الحاجة.
ولماذا يخلق الله أرضاً من الأساس كي تكون هناك حاجة لعمارتها؟ ولماذا عليَّ أن أعاني في هذه الحياة من أجل إعمار الأرض التي أنشأها الله، والَّتي لو لم يخلقني عليها لما كان لي شأن بها أصلاً؟ أليس كلّ ذلك منافياً للعدل والرحمة؟
ثانياً: قلت إنني أعاني مشكلات ومنها: سلس البول والغائط، وبطء تخثر الدم وانقطاعه عندما الإصابة بجرح، إضافةً إلى الوسواس، وهذه الأمور مجتمعة، تجعل عمليَّة الحفاظ على الطهارة أمرا ًفي غاية الصعوبة، وبالتالي تصبح الأمور العباديَّة الروتينيَّة، مثل الصَّلاة والوضوء، أمراً شاقاً، وقد كنت لسنوات لا أصلي بسبب المشقّة والعناء. وهنا أتساءل: هذه الابتلاءات كلّها من عند الله، وليس لي يد فيها، بما في ذلك الوسواس الذي يقول العلم الحديث اليوم عنه، إنه مرتبط بتركيبة الدماغ الكيميائيَّة وما إلى ذلك، ألا يتنافى ذلك مع العدل الإلهي؟ ولماذا يبتليني الله بكل تلك الأمور التي تعيقني عن القيام بفروضي الدينية ثم يأمرني بأدائها كاملة؟ ألا يشبه ذلك قطع يد إنسان أو رجله وإلقاءه في البحر والطَّلب منه بأن يسبح؟ ربما يتمكَّن من ذلك، ولكن الأمر سيكون شاقاً جداً عليه، ومضراً له من نواحٍ كثيرة، كما أنَّ ذلك منافٍ للعدل والرحمة.
ثالثاً: أنا قلق من هذه التَّساؤلات، وأخشى أن تخرجني من الإسلام، لأنها تصل إلى حد التشكيك في كثير من الأمور، كما أنني في بعض الأحيان أتجاسر على الله، وأخاطبه بشكل غير لائق، كأن أتهمه بأنه لا يريد لي الراحة والسعادة، أو أقول له كلمات، من قبيل: "أن لا تسمعني ولا تجيبني أبداً"، و"لماذا تفعل هذا بي"، فأين أنا بعد ذلك من الإيمان والإسلام؟
وجواب..
أخي الكريم، بما أنَّك تملك قدراً من الإيمان كما قلت، فلا تقنط ولا تيأس، حتى لو كنت تعاني من حالة نفسيَّة صعبة دفعت بك إلى هذه الشّكوك، فالشكّ الذي يقودك إلى البعد عن الله، يقودك أيضاً إلى اليقين به والقرب منه.
أما لماذا خلق الله الإنسان والكون؟ وما الحكمة من ذلك؟! فذلك سؤال يتبادر إلى أذهان كثير من الناس، وكل يجيب عنه بشكلٍ يتناسب مع شعوره، فمنهم من يقول: وجدنا لكي نأكل ونشرب ونتلذذ في هذه الحياة ونفنى، لذلك يحاول أن يزداد تلذذاً وسروراً، فيسعى ليأكل لذيذاً، ويشرب مريئاً، وينام هنيئاً، وليست له غاية سوى الأكل والشرب والنوم.
ومنهم من يقول: وجدنا لكي نخدم الغير، فهو يعمل لخدمة الآخرين، دون أن يخدم نفسه، وقد يكون هو أحوج الناس إلى الإصلاح لما في نفسه من الدنس والرجس.
ومنهم من يقول: وجدنا للشقاء، فالحياة كلها شقاء، فهو متشائم معذب.
ونريد الآن أن نتحقَّق السبب الذي وجدنا الله لأجله، فإذا علمنا سبب وجودنا، والغاية من خلقنا، عملنا وفق تلك الغاية، ونلنا السعادة، لأن السعادة إنما تتجلى بالعمل وفق الهدف المقصود والغاية المنشودة.
وعندما ننظر إلى ما حولنا من نبات وحيوان وجماد، سنجد أنها خلقت لأجلنا. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ* وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل: 10 ـ 14].
أما الحيوانات، فقد سُخّرت لنا للأكل والركوب والسّتر، قال تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[النحل: 5 ـ 8].
وأما الجماد، فسخَّره لنا للبناء والزينة والتداوي، وله فوائد أخرى لا تعد ولا تحصى. يقول تعالى: {وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}[النحل:65].
وإذا كانت الحيوانات تنام وتأكل وتشرب، وقد خلقت لأجلنا، وكذا الجماد والنبات، فلماذا خلقنا نحن مع علمنا أننا غير مسخرين لموجودات أخرى؟ وكلها مسخرة لنا؟ إذاً ما الغاية من وجودنا؟!
والجواب: إنما خلقنا لنتكامل، والتكامل يتحقَّق بتطبيق ما أمرنا الله به، واجتناب ما نهانا عنه، فنزداد معرفة بالله تعالى، فإنَّ معرفة الله تتناسب مع الكمال النفسي، "من عرف نفسه فقد عرف ربه"، ولا تتأتى هذه المعرفة إلا بعبادة الله حق العبادة، فكلَّما عبد الإنسان ربه بخشوع وخضوع، ضمن أن تكون صلاته مقبولة، وحجه مقبولاً، وزكاته وصدقاته مقبولة، وجهاده مقبولاً، وكان أقرب إلى الله تبارك وتعالى، وقريباً من الغاية التي وجد لأجلها، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56]، والله تعالى ليس بحاجة إلى عبادتنا، فإنها تعني بداهة "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعرفون"، لأنه لا عبادة بلا معرفة. والمعنى أنه خلقنا لنعرفه، فإذا عرفناه عبدناه، وإذا عبدناه تفاضلت عباداتنا، وتفاضل إيماننا وإنكارنا، وتفاضلت منازلنا، وبالتالي، تفاضلت استحقاقاتنا حسب ما نتعرض له من امتحانات في الدنيا، وبالتالي تفاضل العطاء من المعطي. وعطاء الله مبذول للكل. {كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً}[الإسراء: 20]، فالله خلق ليعطي، وكلنا مستحقون للعطاء بحكم رتبة العبودية، وكل هذه المعاني باطنة في كلمة (ليعبدون)، فإن الله لم يخلقنا إلا لأجله، أي لأجل أن نعرفه ونزداد معرفة به يوماً بعد يوم، فقد جاء في حديث قدسي: "خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي"، وفي حديث آخر: "كنت كنزاً مخفيا ًفأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق لكي أعرف".
وبعد ذلك، نذهب من هذه الدنيا المؤقتة، من دار العمل والامتحان إلى حياة دائمة خالدة، إلى روح وريحان، إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. فعلى الإنسان أن يتقدم في معرفة الله تعالى، وأن يعمل لتقوية هذه المعرفة وبلوغ الغاية التي خلق لأجلها، فهذه المعرفة التي نالها الإنسان في هذه الدنيا نتيجة العمل الصالح، والعبادة الخالصة لوجهه الكريم، أكرم الوجوه وأعز الوجوه، تكون نوراً يهدي هذا الإنسان إلى روح وريحان، إلى جنات عدن، قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[الحديد: 12]، فلا قيمة لهذه الدنيا، لأنها دار من لا دار له، ولها يعمل من لا عقل له، إلا إذا كان يريد بعمله هذا وجه الله تعالى، وخدمة الآخرين، والأخذ بيد المحتاجين والبائسين، ونشر معالم الدين. فلنكن من أولئك المتفكرين الذين يجعلون هذه الآية المباركة دستوراً لعملهم في هذه الحياة الدنيا: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[يونس: 24].
ونحن لم نخلق لهذه الدنيا، وإنما سنرجع إلى الله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون: 115]، والخطاب موجَّه بظاهره لمن أنكر البعث، والمراد منه في الواقع كل من عصى الله وأفسد في الأرض، سواء أجحد البعث من الأساس، أم آمن به ولم يعمل له. والعبث ما لا فائدة فيه، ولا حكمة من وجوده، والله سبحانه منزّه عن العبث، ولو لم يبعث الإنسان بعد الموت، ويميز الخبيث من الطيب، ويجز كلاً ما يستحقّ، لكان خلق الإنسان عبثاً لا جدوى منه {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}[المؤمنون: 116]. الملك أي القادر القاهر. والحق يزهق العبث والباطل. وإذا كان الحق بالذات هو الذي خلق الإنسان وأوجده فكيف يكون خلقه سدى؟ وكيف يتركه عبثاً دون تكليف وحساب، ودون سؤال وجواب، أساء أو أحسن؟ قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك: 2].
أما قولك: "لماذا عليَّ أنا مثلاً أن أعاني في هذه الحياة من أجل إعمار الأرض التي أنشأها الله، والتي لو لم يخلقني عليها لما كان لي شأن بها أصلاً؟ أليس كل ذلك منافياً للعدل والرحمة؟"
فأقول: إن الله تعالى وصف نفسه في آيات جمة بـ"الرحمن الرحيم"، وهو القائل: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}[الأنعام: 54]. فكل ما صدر عن الله تعالى، إنما هو لتكميل هذا البشر الناقص، وإبلاغه أسمى مراتب الكمال البشري، وهو القائل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}[الأعراف: 156]. وبديهي أنه لا يصدر من الرحمن الرحيم إلا الرحمة، فخلقه لكلّ شيء لطف ورحمة، وأما خلقه للإنسان فرحمة ما بعدها رحمة، ولو علم الإنسان ما يبلغ إليه من مراتب رفيعة، ومقامات تفوق مقام الملائكة المقربين، نتيجة الطاعة، لعلم أنَّ خلقه من جانب الله رحمة لا تتناهى ولا تحد، فأنت تريد أن تتهرب من تحمل المسؤولية، بل إنَّ أعمار الأرض ليس متوقفاً عليك وحدك، والمطلوب هو أن تقوم بدورك المحدود وفق قدرتك واستطاعتك، وأن تؤدي الواجب المطلوب منك تجاه نفسك وعلاقتك بالله وبالناس من حولك.
يا من عدى ثم اعتدى ثم اقترف ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف
أبشر بقول الله في آياته إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
أما قولك إنك مصاب بداء السلس والتغوط وما شابه ذلك، وإنك لا تستطيع القيام بالعبادة على أكمل وجه، وإنه تكليف بما لا يطاق، فأنت تغالي في هذا القول، وربما لا تفقه أمور الطهارة والعبادة، فالله تعالى رخَّص لك القيام بالعبادة مع وجود سلس البول وغير ذلك، إذا لم يكن هناك فترة للعبادة تكون فيها طاهراً بشكل كامل، كما أنك إذا لم تستطع الوضوء تتيمم، وإذا لم تستطع الصلاة من قيام تصلي من جلوس، وإذا لم تستطع الذهاب إلى الحج فلا يجب عليك، {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عمران: 97] وهكذا {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا}[البقرة: 286]، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن: 16].
وعندما تؤدي عبادتك وواجباتك وأنت مبتلى بهذه الأمور، فالله تعالى يجزيك عليها جزاء لا تعلمه، لأن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، وكلَّما كان البلاء عظيماً كان الصَّبر أعظم، وكلَّما كان الصبر عظيماً كان الثواب أعظم. فالابتلاء امتحان للإنسان في طريق تكامله وارتقائه. والحوادث والأيام بما تحمل من متاعب ومصاعب وشدة وعسر، وكذا من أفراح وأتراح، ولين ويسر، كلها محطات امتحان للإنسان، ليرى أيشكر أم يكفر. ولقد جرت سنة الله في عباده المؤمنين أن يبتليهم ابتلاء يقوى بقوة الإيمان ويضعف بضعفه، يقول(ص): "أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً زيد له في البلاء". وقال(ص): "إذا أحب الله عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن رضي اصطفاه"، يبتليهم تعالى ابتلاءً ليس ابتلاء إهانة وتعذيب، ولكنه ابتلاء تمحيص وتهذيب.
إنَّ الإيمان ليس كلمة تقال، إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر واحتمال، فلا يكفي أن يقول الناس آمنا، وهم لا يتركون لهذه الدعوة، حتى يتعرضوا للفتنة، فيثبتوا عليها، ويخرجوا منها صافية عناصرهم، خالصة قلوبهم، وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب. وبعد هذا، فماذا على العبد أن يفعل إذا ما وقع عليه البلاء، وتعرض للامتحان ودخلت عليه الهموم والأحزان من كل باب؟ هل يسارع إلى الشكوى والتذمر والجزع أم يصبر ويحتسب؟! نعم، لا بدَّ من الصَّبر والرضى بقضاء الله. قال رسول الله(ص): "عجباً لأمر المؤمن، إنَّ أمره كلَّه خيرٌ، وليس ذلك لأحد إلاَّ للمؤمن، إنْ أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له، وإنْ أصابته ضرَّاء صبر فكان خيراً له". واعلم أنه لا يطفئ نار مصيبتك، مثل برد التأسي بأهل المصائب، ولتنظر يمنةً، فهل ترى إلا محنةً!؟ ثم لتعطف يسرةً، فهل ترى إلا حسـرةً؟! ولو فتشت العالم لم تر فيهم إلا مبتلى إمَّا بفوات محبوب، أو حصول مكروه. ومن رأى مصائب الناس هانت عليه مصائبه.
أنست رزيتكم رزايانا التي سلفت، وهونت الرزايا الآتيه
وإن ما يصيب الإنسان في حياته الدنيوية من فقر وسقم، إنما هو لتطهيره وتزكيته وتكفير ذنوبه، عن الإمام الصادق(ع) قال: "قال رسول الله(ص): إن الله تعالى يقول: "وعزتي وجلالي، لا أخرج عبداً من الدنيا وأنا أريد أن أرحمه حتى أستوفي منه كل خطيئة عملها، إما بسقم في جسده، أو بضيق في رزقه، وإما بخوف في دنياه، فإن بقيت عليه بقية شددت عليه عند الموت حتى يأتي ولا ذنب عليه فأدخله الجنة".
إنَّ دين الإسلام هو دين التكامل البشري بكل ما في التكامل من معنى سامٍ رفيع، تكامل في عالم النفس والروح، لا في عالم المادة فحسب، ذلك لأنَّ الإنسان إنسان بنفسه وروحه، وليست المادة من حقيقة الإنسانية في شيء، لذلك جاء في الحديث: "الصلاة معراج المؤمن"، والتقوى أساس التكامل النفسي، قال رسول الله(ص): "ما اتقى الله امرؤ إلا جعل الله له مخرجاً من الفتن، ونوراً من الظلم، ورزقه من حيث لا يحتسب"، والتزكية هي نوع تكامل، ولولا التزكية والتطهير لما حصل تكامل أبداً، فالعمل بما أنزل الله مؤد إلى التزكية والتطهير، وإعطاء الزكاة مزك للمال ومزك للنفوس، والكفارات ورد المظالم مزكية للنفوس عن الذنوب، والحدود والقصاص كذلك، وكلها مراحل يدرج فيها الإنسان في ساحات الكمال، فالكمال الذي منَّ الله به على الإنسان كمال لا يعلم مداه إلا الله تعالى، حتى يكون مصداق هذا الحديث القدسي: "عبدي أطعني أجعلك مثلي تقول للشَّيء كن فيكون".
أخي الكريم، لا داعي لليأس والقنوط، إنما هي وساوس الشَّيطان تحاول أن تحرفك عن دينك وإيمانك، فالله تعالى ليس عادلاً فحسب، بل هو أرحم الراحمين، ومن رحمته أنه أوجدك وأعطاك ورعاك ولا يزال، ولو عاملك بعدله فحسب، فأنت لا تستحق البقاء والوجود. إذاً خلقنا الله لنعرفه، فإذا عرفناه عبدناه حق العبادة، وهي تشمل كل ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، فإقامة الشعائر عبادة، وبر الوالدين عبادة، وفعل الخير والدعوة إليه، والجهاد في سبيل الله، كلها عبادة. هذه هي مهمّة الإنسان في هذه الحياة، وإذا لم يقم بها، كان أضل من الأنعام سبيلاً، لأنه إذا لم يفقه بقلبه مهمته التي خلق لها، ولم يعرف الخالق الذي أوجده، فإن قلبه لم يعد قلباً، فهو أعمى. وقد خلق الله الإنسان وخلق فيه العقل والغريزة، فمن غلبت غريزته عقله فالحيوان خير منه، ومن غلب عقله غريزته فهو خير من الملائكة.
ومن هنا، ماذا تقول في هؤلاء النّاس الَّذين يعيشون ويموتون ولم يعرفوا الله؟ ما قيمة هؤلاء؟ هذا التراب الذي يأكل من التراب، ويمشي على التراب، وينتهي إلى التراب، هؤلاء الذين يعبّون من الشهوات، ويركضون وراء اللذات، الذين {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً}[مريم: 59]، ما رسالة هؤلاء؟ وما رسالتك أيها الإنسان؟ أخلقت لمجرد أن تأكل وتشرب؟! ما قيمتك أيها الإنسان إذا لم تكن لك مهمة أعظم وأرقى؟ وما قيمتك إذا لم تعرف الله ولم تعبد الله؟ إذا عاش الإنسان ولا يعرف لماذا يعيش، وما هي رسالته فما هو بإنسان! بعض الناس يعيش موجوداً كمفقود، حياً كميت، حاضراً كغائب، هذا ليس بإنسان. هل تعرف كم ثمنك؟ وهل تعرف ما هي قيمتك؟ وهل تعرف كم هو وزنك؟ أقول لك أيها الإنسان: إنَّ ثمنك وقيمتك من الناحية المادية هي بضع دولارات. وإذا كنت تريد أن تعرف كم وزنك، فأنت لا شيء، إذا كانت الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، إذاً أنت كم تعدل أيها الإنسان؟ وأقول لك أيها الإنسان، إذا أردت أن تكون ذا ثمن غال، وذا قيمة، ويكون وزنك ثقيلاً لا يعدله وزن، فسأقول لك كيف: إنَّ الإنسان المؤمن بربه، المؤمن بعقيدته، المؤمن بقيمه، لا يقدر بثمن.
إنَّ الإنسان الَّذي يعي معنى وجوده ولماذا خلق، هذا الإنسان لا يقدر بثمن. واعلم أيها الإنسان أنك بدون عقيدتك، وبدون قيمك، لا تساوي أي شيء، فالإنسان الحقيقي هو الإنسان المؤمن، وإلا فلا يستحق لقب إنسان.
نعم، إذا تصوَّرنا هذا العالم بدون العالم الآخر، لظهر لنا أنَّ عالمنا فارغ ولا معنى له. إنَّه أشبه ما يكون بافتراض دورة حياة الجنين بدون خروجه من تلك الحياة إلى هذه الحياة الدنيا. إنَّ الجنين الذي يعيش في رحم أمّه، ويقضي في هذا السجن الضيق والمظلم شهوراً عدة، ليأخذه العجب حقّاً لو أنه أوتي عقلاً وحكمة ليتفكر بهما في أمره وكونه في سجنه ذاك: لماذا أنا حبيس في هذا السجن المظلم؟ لماذا علي أنْ أخوض في هذه المياه والدماء؟ ما نتيجة ذلك؟ من الذي أرسلني؟ ولماذا؟
أما إذا قيل له: إنَّك تقضي هنا فترة مؤقتة، تتشكَّل فيها أعضاؤك، فتقوى وتصبح قادراً على الحركة والسعي في عالم كبير آخر، وإنَّ قرار خروجك من هذا السجن سوف يصدر بعد انقضاء تسعة أشهر، فتضع قدمك في دنيا فيها شمس ساطعة، وقمر منير، وأشجار خضر، ومياه جارية، وكثير من النعم الأخرى، عندئذ سيتنفس الجنين الصعداء، ويقول: الآن أدركت الحكمة من وجودي في هذا السجن، فهذه الدّنيا مقدّمة، إنها منصة القفز، إنها المدرسة التي تعدّ المرء لدخول الجامعة الكبيرة. أما إذا قطعت علاقة حياة الجنين بالحياة في هذه الدنيا، لغرق كل شيء في الظلام ولم يعد له أي معنى، ولكان السجن رهيباً ومستقبل السّجين أليماً. كذلك هي العلاقة بين الحياة في هذه الدنيا والحياة بعد الموت. فما الداعي الذي يدعونا لأنْ نظل نتقلب في هذه الدنيا سبعين سنة، أو أقل أو أكثر، متحملين العذاب والعناء، نقضي فترة أخرى ندرس ونتعلم، وما أنْ تنتهي مرحلة النضج والتعلم حتى نجد ثلج الكهولة قد حط على رؤوسنا! ثم ما الهدف من كل هذا؟ ألكي نأكل ونلبس وننام، ثم لكي نكرر هذا عشرات السنين؟ أفهل هذه السماء الشاسعة، وهذه الأرض الواسعة، وكل هذه المقدمات والدرس واختزان المعلومات والتجارب، وكل هؤلاء الأساتذة والمربين، لم يكونوا إلاّ للأكل والشرب واللبس في هذه الحياة المنحطة المتكررة؟ هنا تتأكد عبثية هذه الحياة وفراغها عند أولئك الذين لا يؤمنون بالمعاد.
لذلك نجد أنَّ كثيراً من هؤلاء يلجأون إلى الانتحار للخلاص من حياة عديمة المعنى والهدف. أمّا إذا صدّقنا أنَّ الحياة "مزرعة" الآخرة، وأنَّ علينا أنْ نباشر بالبذر هنا حتى نحصد الغلة في حياة أبدية خالدة، وإذا علمنا أنَّ الدّنيا "جامعة"، علينا أنْ نكتسب منها المعرفة لنعد أنفسنا للعيش في دنيا خالدة، وأنَّ هذه الدنيا ليست سوى "جسر" للعبور، عندئذ لا تكون هذه الدنيا فارغة، ولا عبثاً لا معنى له، بل سوف نراها فترة تمهيدية إعدادية لحياة خالدة وأبدية تستحق منّا أكثر من كل هذا الذي نبذله من أجلها. نعم، إنَّ الايمان بالمعاد يمنح الحياة معنى ومفهوماً، ويخلصها من "الاضطراب" و"القلق" و"العبثية". يا أيها الإنسان: اعرف نفسك، واعرف ربك، واعرف غايتك، واعرف رسالتك، وجند نفسك لهذه الغاية، لتسعد في الدنيا والآخرة.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
رقم المكتب الشَّرعي في مؤسَّسة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله: 275075/01، 275077/01.
مرسل الاستشارة: محمد.
المجيب عن الاستشارة: السيد شريف سيد، عالم دين وباحث ومؤلف، عضو المكتب الشّرعي في مؤسّسة العلامة المرجع السيّد محمَّد حسين فضل الله(رض).
التاريخ: 3 تموز 2013م.
نوع الاستشارة: دينية.