هكذا هو السيد فضل الله، مؤسسات تتحرك على الأرض، عطاء بلا حدود، فكر وثقافة، تحت عباءته يتدثّر الآلاف من الأيتام، ويده الحانية البيضاء لامست الآلاف من العوائل الفقيرة والمحتاجين، وما بينهما استقرّ الأطفال والمعوّقون من أصحاب الاحتياجات الخاصة. لقد استطاع الرجل طيلة 25 عاماً - من خلال تدشين المبرات - أن يحمل عبئاً كبيراً عن الدولة اللبنانية، ويذيب الكثير من الاحتقانات عبر هذه المؤسسات الخيرية. كثيرون هم محبّو السيد فضل الله، ولكن الذين قد يختلفون معه ليس بوسعهم إلا أن يرفعوا تحية تقدير إلى مؤسساته الخيرية والثقافية، لأنها تلامس آلام الناس وأوجاع المجتمع اللبناني.
عندما تقرأ المؤسسات، تتيقّن أن وراءها رجلاً كبيراً منفتحاً على الحياة العصرية، من دون أن يلغي ثوابت التاريخ والتراث. عندما تحاوره، تجد نفسك مضطراً إلى أن تحترمه في أفكاره وأدائه وكذلك تاريخه. تتلمّس في حديثه روحية الشاب، لكنها الروحية التي تتكئ على خبرة الشيخ الكبير الطاعن في التجربة والتحدي.
وتلك هي الأيام، عندما يكون العمل لله وللأمة وللفقراء، يكبو الزمن، ووحده التاريخ يشهد بعمق التجربة وحضارة الهدف.
ومع السيد لنكمل الحوار الثقافي الذي بدأناه معه...
* مَن مِن الشعراء أعجبت به؟ هل قرأت مثلاً شعر نزار قباني السياسي؟
- ليس هناك شاعر واحد أقرأه. طبعاً في البداية كان أكثر الشعراء ممّن تأثرت بهم هو الشاعر الأخطل الصغير "بشارة الخوري"، وكنت أقرأ لشوقي، وحافظ إبراهيم، وأقرأ للجواهري.
* هل ناقشت أحداً من المفكِّرين ممن تناولوا القضايا الإسلامية في شكل غير صحيح؟
- بعد أن كُفِّر نصر حامد أبو زيد، زارني في الشام وطلب كتبي وأعطيته إيّاها، وقد ناقشته في قوله: إن فهم القرآن فهم بشري، فدور النبي(ص) إضافةً إلى تلقّي الوحي وتبليغه، هو أن يعلِّمهم الكتاب والحكمة. وهو كما يعلم النص، يعلِّم المفهوم "معنى النص"... المهم أنّني حاورته وناقشته في أطروحاته، وكذلك زارني الجابري وأركون وناقشتهما في أطروحاتهما.
* سماحة السيد، دخلت مكتبتكم العامة التي فتحت قريباً، ووجدت فيها شباباً يقرأون، وكتباً متنوّعة موجودة على الرفوف، وكتباً مترجمة وكتباً في العلوم الإنسانية، كيف تتعاطى مع الوضع؟
- أنا عندي نظرية في الحرية تجدها في بعض كتبي، وقد بيّنت فيها رأيي في مسألة حفظ كتب الضلال... حيث يوجد بحث في كتاب المكاسب، وهو أنه يجب حرقها لأنها كتب ضلال. وعلى الرغم من أنه لا يوجد نصّ فيها، فإنهم يقولون إن حكم العقل هو وراء الحرمة... وأنا أقول إنه لربّما كان يمكن سابقاً محاصرة كتب الضلال واضطهادها، أما الآن فالعالم أصبح قرية واحدة، وأصبح اضطهاد الضلال يساهم في نشره، ويحوّل أصحابه إلى أبطال للحرية الفكرية. ثمّ لقد ترجمت كتب هؤلاء إلى معظم اللغات حتى اللغات البدائية. مثلاً صادق جلال العظم في الخمسينات نشر كتاب "نقد الفكر الديني" فيه النظريات المادية المكتوبة نفسها قبل 200-300 سنة... لم يقرأه أحد، فقام الشيخ حسن خالد مفتي الجمهورية وقدّم دعوى ضده، فانتشر الكتاب بصورة غير طبيعية وهكذا... الآن عندما تضطهد الفكر تنشره... الإعلام ليس بيدك، النوادي الثقافية ليست بيدك، لكن دعه يعيش وناقشه كفكر يناقش فكراً. لهذا أنا أؤمن أن نجعل الفكر المضاد يأخذ حريته، ولكن شرط أن نناقشه.
* هل تؤمن بالشعر الحداثي؟
- أنا أؤمن أن الشعر لابد أن يكون فيه موسيقى و...
* قافية ووزن؟
- موسيقى ولو بالتفعيلات، لكن لابد أن يكون فيه موسيقى، وأن يعتمد على اللمحة والإيحاء، وألا يكون غامضاً.
* على طريقة أدونيس تقصد بالغامض، كونه رمزياً في شعره؟
- الشعر الحداثوي يوجد فيه غموض.
* هل تقرأ الكتب التي تتناول علوم الانثروبولوجيا "العلوم الإنسانية"، وهل عندك تواصل في ذلك؟
- عندي تواصل وأقرأ ذلك.
* دُبِّرت لك أكثر من محاولة اغتيال، ورغم ذلك واصلت نشاطاتك؟
- أنا أؤمن بالله، وإيماني بالله يفرض عليَّ أن أقول كلمة الحق. الرسالة تفرض على الإنسان أن يكون له حضور دائم. أنا عندما أجلس مع الطفل الصغير يسألني فأجيبه وأناقشه، وعندما أذهب إلى مبرات الأيتام وأجلس مع الأيتام وهم في سنّ التسع سنوات ، أتكلّم معهم بلغة طفولية كطفل يتكلم مع أطفال حتى يفهموني. الرسالي يجب ألا يتكبّر عن أي سؤال، وأنا أؤمن بأنه "لا مقدسات في الحوار"، وأنّه ليس هناك سؤال تافه، وليس هناك سؤال ليس له جواب.
يأتيني الكثير من الناس... بعضهم نساء من أطياف متنوّعة وأناقشهن... من الجامعة وغير الجامعة.
* هل تحمل رؤية نقدية لأفكارك؟ هل تحمل ثقافة المراجعة؟
- كثيراً... حتى في الفتاوى الفقهية... أفتيت فتاوى وبعد ذلك تراجعت عنها.
* هل هناك رقابة إدارية ومالية على مؤسساتك؟
- المؤسّسات لديها جهاز جيد، أنا قلت للناس أي فرد عنده أية ملاحظات فليخبرني وأنا أراجع ذلك. لا أدّعي أن كل شيء 100 في المئة.
* على مستوى العراق، هناك من استشعر أن خطابك يميل نسبياً إلى السيد مقتدى الصدر؟
- مقتدى هو شاب ليس عنده خبرة ولا تجربة وجمهوره متنوّع... أنا قدَّرت فيه مواجهته للمحتل.
* ولكن ألا تعتقد أن التيّار الإسلامي، وخصوصاً الشيعي، يدخل دائماً في محارق، وفي نهاية المطاف لا يحصل على شيء؟
- السيد مقتدى استفزّ من قبل المحتلّ. والمحتل لا يريد أن تكون هناك قوة في هذا الخصوص. كما أن السيد مقتدى لم يكن في تخطيطه أن يدخل في ذلك، لكن عندما حدث هذا الشيء، أيّدنا هذا الجانب فقط.
انتهى اللقاء مع السيد فضل الله، إذ كان اللقاء مثمراً وجميلاً. عندما حاورته، لم أتلكّأ في طرح أي سؤال، وخرجت مقتنعاً بأن الحقيقة بنت الحوار، ولا مقدَّسات في الحوار.
بيروت: سيد ضياء الموسوي
19 - 10 - 2004