دراستي وأشخاص تأثّرت بهم

دراستي وأشخاص تأثّرت بهم
أساتذتي الأوائل

من الطّبيعيّ أنّ أستاذي الأوّل هو المغفور له والدي، الّذي درست عنده منذ بداية الدّراسة التقليديّة في النّجف الأشرف، حتّى أكملت عنده ما يسمّى في المصطلح "دراسة السّطوح"، وهي الدّراسات الّتي يقرأ فيها الإنسان في الكتاب ليشرحه له أستاذه، وقد قطعت مرحلة دراسة اللّغة العربيّة، في النّحو والصّرف والمعاني والبيان، والمنطق والأصول والفقه، عند والدي، ولم يكن لي أستاذ آخر غيره في تلك المرحلة، إلا أحد الأساتذة الإيرانيّين، الّذي درست عنده "الكفاية"، وهو الجزء الثاني.
بعد ذلك، انتقلت إلى ما يسمَّى بالبحث الخارج، وهو الدَّرس الّذي يقوم بإلقائه أستاذ كبير من المراجع الدّينيّة، أو من الّذين يقتربون من درجة المراجع، بشكل محاضرات، لينطلق بعد ذلك الطلاب، ليكتبوها ويفتّشوا في الكتب عن المصادر الّتي اعتمدها الأستاذ، ويفكّروا كيف يناقشونه بما طرحه من أفكار وآراء، ولعلّنا نستطيع أن نعتبر هذه المرحلة هي المرحلة الجامعيّة في النّجف، إذا أردنا أن نخضعها للمصطلحات الحديثة.
وقد بدأت دراستي آنذاك على يد المرجع الدّيني الشيعيّ، السيّد أبو القاسم الخوئي، والسيّد محسن الحكيم، والسيّد محمود الشّهرودي، والشّيخ حسين الحلّي، وهؤلاء جميعاً من الشخصيّات العلميّة الكبيرة في النّجف الأشرف، كما درست قسماً من الفلسفة في كتاب الأسفار للملا صدرا عند الملاصدرا البازوري.
هذه هي دراستي العامّة، في مراحلها المتعدّدة في النّجف الأشرف، وهؤلاء هم أساتذتي.

شخصيّات ألهمتني

لقد تأثَّرت كثيراً في النّجف الأشرف، منذ بداية حياتي هناك، بشخصيّتين لا أزال أحمل لهما المشاعر العميقة في احترام علمهما، واحترام استقامتهما وسلوكهما، وابتعادهما عن كلّ مظاهر الجاه، وهما المغفور له عمّي السيّد محمد سعيد فضل الله، وقد كان من المجتهدين الكبار في النّجف الأشرف، وكان محلّ ثقة النّجف كلّها في علمه وزهده وتقواه، وكان مرشّحاً للمرجعيّة في النّجف، لكنّه رفض ذلك لزهده في الدّنيا، ومات ودفن في النّجف الأشرف.
لقد كنت أجلس إليه وأنا طفل، أتحدَّث معه أحاديث أكبر من سنّي، وكان ينفتح عليّ في ذلك الجوّ، وكان يحدّثني الأحاديث الّتي تعتبر أكبر من سنّي، لأنّي كنت أحسّ منه بأنّه يأمل بي خيراً في مستقبل أيّامي، حتّى إنّه كان يقول لبعض أقربائي بأنَّ هذا الولد ـ وهو يشير إليّ ـ هو الّذي سوف يهيّئ لنا في المستقبل الموقع المتقدّم الّذي تملكه العائلة في تاريخها.. ولذلك كان يشجّعني كثيراً، حتّى إنّني عندما كنت أمارس الشّعر مبكراً في النّجف، كان بعض النّاس يعتبرون ذلك سلبيّاً، على أساس أنهم ينظرون إلى الإنسان الّذي ينظم الشّعر على أنّه غير محصِّل وغير مشتغل، لأنّ الشّعر يشغله عن دراسته.
وعندما ذهبت إليه لأتحدَّث معه وأعرف نصيحته لي بالاستمرار في نظم الشّعر أو تركه، شجّعني على الاستمرار في ذلك، لأنّه قال لي بأنّ الاجتهاد يحتاج إلى ذوقٍ صافٍ سليم في فهم اللّغة، وأنّ الأدب يعين على صفاء الفهم الواعي والذّوق السّليم في هذا الاتجاه، لأنَّ الاجتهاد ينطلق في فهم الكتاب والسنَّة من ثقافة أدبيَّة تستطيع أن تتفهّم إيحاءات الكلام إلى جانب مضمونه، ولذلك فقد شجّعني على الاستمرار في هذا الخطّ الأدبيّ، ولهذا كنت أقول في رثائه:
"ألهمتني وحي الحياة، فمن دنياك يملأ روحي الأدب"
لقد تأثّرت بشخصيّته كثيراً، وكنت أختزن في داخلي الكثير من معاني الرّوحانيّة الّتي كنت أتحسّسها في الجلوس بين يديه، كما أنّني كنت أعيش الآفاق العالية الّتي كان يمثّلها موقعه العلميّ، لأفكّر في أنّ عليّ أن أصل إلى هذا المستوى أو أتجاوزه، وقد أثّرت وفاته بي تأثيراً عميقاً جدّاً.

التأثّر بالوالد

الشّخصيَّة الثَّانية الّتي تأثَّرت بها، هي شخصيَّة المغفور له والدي، الّذي عشت معه منذ طفولتي كصديق، لم يضربني مرّةً في حياتي، ولم يؤنِّبني مرّةً واحدة، ولم يوجّه إليّ كلمة قاسية مرّة واحدة، كان إذا غضب منّي في شيء، فإنَّ أقسى أساليبه معي كانت بأن يهملني، وأن لا يتكلّم معي حتّى أعود إليه معتذراً، من خلال قسوة هذه الحالة عليّ، وكان يفسح لي المجال لأن أناقشه في كلّ شيء، ولعلّ الشّخص الوحيد الّذي عشت كلّ حرّيتي في النّقاش معه، بكلّ شيء حتّى في المحرّمات من النّقاش، هو المرحوم والدي، لأنَّه كان يملك الأفق الواسع المنفتح الّذي لا يتصوّره النّاس الّذين كانوا يتردّدون إليه، وهو يمثّل العالم الرّوحانيّ الّذي ينطلق النّاس إليه في أجواء القداسة، وقد يتصوّرونه شخصاً بعيداً عن الحياة، وبعيداً عن الانفتاح.
كنت أتحدَّث معه في بعض الحالات بطريقة "النّكتة"، وأقول له: يا سيّدنا تعال لنتحدّث في "الكفريّات"، كدلالة على الأشياء الّتي لا يمكن للإنسان أن يناقشها مع النّاس، لأنهم قد يتّهمونه بالمروق أو بالكفر، عندما يطرح السّؤال ولو من أجل إثارة المناقشة العلميّة حوله، ليصل إلى النتائج الإيجابيّة، على أساس أنّ الشّكّ هو الخطوة الأولى نحو اليقين، كان يستمع إليّ في كلّ ما يدور في ذهني من أفكار وأوهام وخيالات، ويناقشني كما لو كنت إنساناً أملك فكراً ناضجاً، وكانت المناقشات تمتدّ بيني وبينه، حتّى إنّنا كنّا نثقل أجواء العائلة، ونحن على مائدة الغداء أو العشاء، لأنّ طريقتنا كانت تتحرّك لإثارة ما أحتاجه من مناقشات في ذلك الجوّ، وكان يستجيب لي.
وأذكر أنّ هذا الحوار الدّائم المستمرّ في القضايا الفكريّة والقضايا الأصوليّة والقضايا الفلسفية والقضايا السياسية والاجتماعية، لم يفارق حياتي معه حتّى آخر ليلة من حياته، فقد كنت أتحدّث معه في مناقشة علميّة حول مسألة فقهيّة في صبيحة اللّيلة الّتي توفّي فيها.. ولذلك فإنّني أعتقد أنّ الإنسان الذي جعلني منفتحاً على كلّ الفكر، وكان واسع الصّدر في كلّ المناقشات، مهما كانت معقّدة، واحترام الرّأي الآخر والإنسان الآخر، هو المرحوم والدي.
كان أسلوبه الّذي تعلّمته منه، هو أنَّ كثيراً من القضايا الّتي يواجهها الإنسان في الحياة، من خلال بعض التحدّيات الّتي تريد أن تقوده إلى معركة شخصيَّة، على أساس الفعل وردّ الفعل، كان أسلوبه الّذي يتحرّك به في حياته، هو أن يهمل المسألة ويقول تعليقاً على موقفه هذا: "إن كثيراً من القضايا تحلّ بإهمالها"، فعندما يشتم النّاس أو يحاولون إثارة الآخرين، فإنّ السّكوت وإهمال أمرهم وعدم التحدّث عنهم، يجععلهم يتعبون ويشعرون بالخزي والعار، وهذا أمر عشته في حياتي في أكثر التحدّيات الّتي واجهتني، فقد تعلّمت منه أن لا أردّ على سباب أو شتائم، ولا على جزئيّات صغيرة، بل أحاول أن أهمل القضايا لتموت بنفسها على حسب تعبيره..
إنّ كثيراً من القضايا يكون إماتتها في إهمالها، هذا ما تعلّمته منه، وتعلّمت منه الانفتاح على الصّغير والكبير، فقد كان وهو في السّنّ المتقدّمة من العمر، يجلس إليه شباب المقاومة في بنت جبيل، ومن كلّ القوى المحيطة بالبلدة، وهم يتحرَّكون بشكل طبيعيّ، وكان يفتح لهم قلبه، وكانوا يسألونه في المسائل الشرعيَّة فيما يتّصل بالمقاومة، وكان يحدّثهم بطريقة وبأخرى، بما يرضي حاجتهم إلى المعرفة في ذلك كلّه، كان الصّغار والكبار يجلسون إليه وهو ابن الثّمانين، فيأنسون به، ويحدّثهم بشكل طبيعيّ، وكان يحترم الناس كلّهم، وكان يثقل على نفسه من خلال احترامه للنّاس، وكان لا يفرّق بين إنسان كبير وإنسان صغير في حياته كلّها.
وقد تعلّمت منه أيضاً إلى جانب ذلك، العفّة، وعدم السعي للحصول على المال عندما أعيش في حالة ضيق، وكان يحتمل أقسى ما يمكن حمله، ولذلك عشنا طفولتنا في النّجف في فقر مدقع، ولم يكن هناك حلّ لهذا، إلا أن يسعى لبعض النّافذين من العلماء الذين قد يرتاح إليهم ليقدّم تنازلاته إليهم، ليحصل على المال الكثير الّذي يمكن أن يحلّ مشكلته المالية، ولكنه كان يأبى ذلك، وكنّا نعيش الجوع في طفولتنا من خلال ذلك.
تعلّمت منه هذا الأمر، ومن هنا، فإنني نشأت وأنا أحمل عقدة ضد الأغنياء، لا أقصد عقدة الاحتقار، ولكن عقدة عدم احترام الغنيّ لغناه، ومن هنا، فإنّني عندما انطلقت في كلّ مشاريعي، لم أحاول أن أخاطب كلّ هؤلاء الأغنياء، من مغتربين أو غيرهم، لأمدحهم بكلمة كما يمدحهم الآخرون، لأقدّم لهم تنازلات، لأنّني لم أكن أحترم إحساسهم بالقيمة الكبيرة للمال الّذي يملكونه، أو إحساس النّاس بالقيمة الكبيرة لهم للنّتيجة نفسها.

وأعتقد أنّني نجحت في هذا الامتحان، لأنّ الله سبحانه وتعالى قد هيّأ لي الأجواء التي أستطيع أن أقوم فيها بكلّ مشاريعي، من دون أن أنحني لأحد، ومن دون أن أعمل لأقدِّم أيّ حساب من حسابات المدح والثّناء لأحد.
لقد تعلّمت من الانفتاح على الله سبحانه وتعالى، في حالات الصّفاء الرّوحيّ، وتعلّمت منه الصّدق في المواقف مهما كانت صعوبتها، وأعتقد أنّ أكثر النّاس الّذين أثّروا في حياتي تأثيراً كبيراً جداً، هو المرحوم والدي، لأنّني عشت معه حتّى وفاته خمسين سنة، لم تكن عيشة مفصولة عن أيّة قضيّة، بل كانت كلّ القضايا تتحرّك في داخلها، حتى عندما انطلقت الثّورة الإسلاميّة في إيران، كان من أشدّ المتحمّسين لها على طريقته الخاصّة، وكان يؤمن بهذا الانفتاح الإسلامي بشكل وبآخر، وربما كان بعض النّاس يتصوّرون أنّ طريقتي في العمل الإسلاميّ كانت لا ترضي المرحوم والدي، ولكنّه فيما يعرفه أقرب النّاس إليّ، كان يشجّعني على ذلك، وكنت أتحدّث إليه في كلّ ما أنا فيه، حتّى عندما كان يلاحظ بعض الملاحظات الّتي قد يعتبرها سلبيّة، كنّا نتناقش فيها بشكل وبآخر، لذلك فإنّ تأثيره كان كبيراً في حياتي.

أقرباء تأثّرت بهم
ومن الأشخاص الّذين تأثّرت بهم في طفولتي تأثّراً روحيّاً، المرحوم جدّي والد أمّي، الحاج حسن بزّي، الّذي كان من الصّالحين، وكان يمثّل الإنسان القدوة في صلاحه وفي عبادته، وإخلاصه لله سبحانه وتعالى، لأنّني عشت معه الأيّام الّتي كان يأتي بها آخر عمره إلى النّجف الأشرف، وكنت أجلس إليه وهو مريض، لأقرأ له قصص الأنبياء وما إلى ذلك من الأمور، وقد تأثرت بشخصيّته في هذا المجال.
ومن الشخصيّات الأخرى الّتي تأثّرت بها إلى حدّ ما، المرحوم خالي، الأستاذ علي بزّي، الّذي وجدت فيه الكثير من الصفات الطيّبة الجيّدة، ولا سيّما عندما كنّا نتناقش في الأمور السياسيّة بشكل وبآخر، لا أقول إنّني تأثّرت بشخصيّته في مفاهيمه السياسيّة، لأنّنا كنّا نختلف في المفاهيم السياسيّة عندما نتحدّث، ولكنّني كنت أقدّر عفّته، وأقدّر صدقه، وهذا هو السّرّ في موته فقيراً، بالرّغم من أنّه كان يملك الكثير من مواقع السّاحة، كانت قيمته في أنّه كان يحترم نفسه، في الوقت الّذي لا يحترم الكثيرون أنفسهم.
ومن الأشخاص الّذين تأثّرت بهم من أقربائي أيضاً، هو المرحوم خال والدتي، المرجع الدّيني الأعلى، السيّد محسن الحكيم، فقد تأثّرت به في حركة مرجعيّته المنفتحة على الواقع الإسلاميّ العام، في الوقت الّذي كانت المرجعيّات تعيش في دائرة مغلقة خاصّة، ولعلّ هذه هي أكثر الأسماء الّتي تركت تأثيراتها في حياتي من أقربائي بعض الشّيء...
   
يقول العلامة فضل الله: لقد تأثّرت بالجوّ الّذي كنت أعيشه بشكل طبيعيّ، حتّى إنّ مسألة تحرّكي في هذا الاتجاه، كان عفويّاً طبيعيّاً، ناشئاً عن رغبة، وربما كانت رغبة الإنسان الذي يشعر بانسجامه مع مجتمعه، عندما يتحرّك في هذا الاتجاه، وربما كانت المسألة تتحرّك على أساس أنّ الإنسان يعيش مع رفاقه الّذين كانوا ينطلقون في هذا الاتجاه، فيحب أن ينطلق معهم في الاتجاه نفسه، ما قد يجعله يشعر بالأهميّة، ولذلك لبست العمامة في سنّ مبكرة هي الثّانية عشرة والنصف من عمري، باعتبار أنّ العمامة كانت زياً لطلاب العلم، ولا يشترط فيها أن يصل الإنسان إلى مرتبة متقدّمة من العمر، فيما هي التّقاليد بالزيّ الدّيني، في النجف الأشرف وأمثاله.

الدّخول إلى الحوزة الدينيّة
أستطيع القول إنني انتسبت إلى الحوزة الدينيّة حوالى سنة 1363هـ، وكان عمري آنذاك إحدى عشرة سنة، وقد استمرّت دراستي حتى سنة 1385هـ، أي أنّ دراستي في الحوزة الدينيّة استغرقت حوالى اثنتين وعشرين سنة.
من الطبيعيّ أنّ المرحلة الدراسية التي كنا نعيشها، كانت تتحرّك في نطاق الأجواء العلمية في النجف الأشرف، وإنّني أتذكّر طريقة الدراسة في النجف، حيث كان التلميذ يحضّر درسه تماماً كما يحضّر الأستاذ درسه، وكنّا نحاول أن نطالع دروسنا، ونطالع ما هناك من شروحات وحواشي في الكتاب، لنحاول أن نفهم الدّرس قبل أن يلقيه الأستاذ علينا، لنناقش أستاذنا فيما قد نأخذه عليه في أثناء شرحه للدّرس، سواء في شرحه للعبارة لنناقشه في فهمه، أو شرحه للمطالب لنناقشه فيه.
وكانت الطّريقة أيضاً، أن ينطلق الطالب بعد درسه، ليذاكر طالباً آخر زميلاً له في الدّرس، ليلقي أحدهما على الآخر شرح الدّرس، كما لو كان أستاذاً له في هذا اليوم، ليأتي الآخر في اليوم الثاني ليلقي شرح الدّرس الثاني وما إلى ذلك.
وكنا نجتمع كطلاب في ليالي الخميس والجمعة، حيث كانت تُقام مجالس بعنوان "مجالس التعزية"، الّتي يلتقي فيها العلماء والطلاب لدى بعض العلماء الّذين يقيمون هذه المجالس، فكنّا نذهب إلى هناك، وقد حضَّر كلّ واحد منّا بعض الإشكالات والمناقشات الّتي يوجّهها إلى أساتذته، أو ليوجّهها إلى زملائه من الطلاب، وكانت المناقشات تحتدّ بشكل يرتفع فيه الصّياح، وكانت تمتد ستّ ساعات أو أكثر، حيث يكتشف الإنسان في نفسه بعض الإمكانات الفكريّة الّتي قد يلتفت إليها في أثناء المناقشة، من خلال تماس بين الأفكار الّتي قد تخلق أفكاراً جديدة.

وأذكر أنّنا كنّا في بعض الحالات نكتشف في أنفسنا أفكاراً لم نبلغ درجتها، لأنّ هذا التوتّر الفكريّ في أثناء المناقشة، يجعل الإنسان ينتقل من فكرة إلى فكرة، على أساس أنّه يريد أن يدافع عن فكرته ليتغلّب على الطرف الآخر.. ومن هنا، قد يحصل الإنسان على نتائج فكريّة مهمّة، لم يكن قد فكّر فيها سابقاً، وهذه الطّريقة في الدرس وفي إدارة الحركة العلميّة، هي التي جعلت من الطالب النجفي عميقاً في تفكيره، بحيث يستطيع أن يناقش أيّ فكر آخر، حتى لو لم يكن له سابق عهد به، لأنّه تعوّد على أن لا يستظهر الأفكار، بل أن يصنعها.

لقد كان أساتذتنا يعلّموننا ذلك منذ الطّفولة، وهذا ما تعلّمته من المرحوم عمي، السيّد محمد سعيد فضل الله، إذ كان يقول لي إنّه ينبغي أن يكون لك رأي ذاتي في كلّ درس تدرسه، بحيث لا تحاول أن تأخذ رأي الأستاذ فقط، أو رأي صاحب الكتاب، بل تحاول أن تفكّر فيه لتقتنع به أو ترفضه، ولو بحجمك من الطاقة الفكريّة العلميّة.

لم تكن التربية الحوزويّة في النجف، تربيةً تقوم على الاستظهار والحفظ، فربما تجد أنّ كثيراً من العلماء لا يحفظون آيات القرآن، وربما يقرأه بعضهم خطأً نتيجة نسيانه، أو لا يحفظون الأحاديث بشكل أو بآخر، ولكنّهم عندما يقدّم لهم حديث أو آية، فإنهم يناقشونها مناقشة دقيقة وعميقة.

وينقل أنّ هناك أحد الأشخاص ممن يحفظون الأحاديث النبويّة الشريفة أو أحاديث الأئمة، سأل أحد المجتهدين من المراجع: كم تحفظ من الأحاديث، هل تحفظ ألف حديث؟ قال لا. هل تحفظ مئة حديث؟ قال لا. عشرة أحاديث بأسانيدها طبعاً المتّصلة بالنبيّ؟ قال لا، بل أحفظ حديثاً واحداً، لكن لا أحفظ أسانيده عن فلان وفلان. فقال له: كيف تكون من المجتهدين والمراجع، فأنا أحفظ ثلاثين ألف حديث؟ فقال له المجتهد: اعرض عليّ حديثاً من هذه الأحاديث الّتي تحفظها، فعرض عليه حديثا، فبدأ هذا المجتهد يناقش سند الحديث، ويناقش متن الحديث ودلالاته، حتّى وقف ذلك الشخص الحافظ للأحاديث حائراً مربوطاً، لا يقدر أن يعلّق على أيّ كلمة، باعتبار أنّ هذا العالم المجتهد حاصره في كلّ ما أثاره من أفكار ومفردات، عند ذلك تحدّث معه هذا المجتهد الكبير بطريقة النكتة، وقال له: إذا اجتمعت أنت وأنا، نصبح عالماً ممتازاً، بمعنى إذا كان لي حفظك، وكان لك عمقي واجتهادي، فيمكن أن نكون عالماً جيّداً.

لذلك، لم يكن المهمّ أن يحفظ الطالب، ولكن المهمّ أن يتعمّق الطالب وأن يفكّر وأن يحصل على شخصيّة عميقة في التّفكير، حتّى يستطيع أن يواجه كلّ التحدّيات في الأفكار، الّتي قد لا يكون له سابق عهد بها، وهذا ما يجعل من علماء الشّيعة علماء عميقين في المسألة العلميّة...
 
المصدر: كتاب "العلامة فضل الله وتحدّي الممنوع"
 
 
 
أساتذتي الأوائل

من الطّبيعيّ أنّ أستاذي الأوّل هو المغفور له والدي، الّذي درست عنده منذ بداية الدّراسة التقليديّة في النّجف الأشرف، حتّى أكملت عنده ما يسمّى في المصطلح "دراسة السّطوح"، وهي الدّراسات الّتي يقرأ فيها الإنسان في الكتاب ليشرحه له أستاذه، وقد قطعت مرحلة دراسة اللّغة العربيّة، في النّحو والصّرف والمعاني والبيان، والمنطق والأصول والفقه، عند والدي، ولم يكن لي أستاذ آخر غيره في تلك المرحلة، إلا أحد الأساتذة الإيرانيّين، الّذي درست عنده "الكفاية"، وهو الجزء الثاني.
بعد ذلك، انتقلت إلى ما يسمَّى بالبحث الخارج، وهو الدَّرس الّذي يقوم بإلقائه أستاذ كبير من المراجع الدّينيّة، أو من الّذين يقتربون من درجة المراجع، بشكل محاضرات، لينطلق بعد ذلك الطلاب، ليكتبوها ويفتّشوا في الكتب عن المصادر الّتي اعتمدها الأستاذ، ويفكّروا كيف يناقشونه بما طرحه من أفكار وآراء، ولعلّنا نستطيع أن نعتبر هذه المرحلة هي المرحلة الجامعيّة في النّجف، إذا أردنا أن نخضعها للمصطلحات الحديثة.
وقد بدأت دراستي آنذاك على يد المرجع الدّيني الشيعيّ، السيّد أبو القاسم الخوئي، والسيّد محسن الحكيم، والسيّد محمود الشّهرودي، والشّيخ حسين الحلّي، وهؤلاء جميعاً من الشخصيّات العلميّة الكبيرة في النّجف الأشرف، كما درست قسماً من الفلسفة في كتاب الأسفار للملا صدرا عند الملاصدرا البازوري.
هذه هي دراستي العامّة، في مراحلها المتعدّدة في النّجف الأشرف، وهؤلاء هم أساتذتي.

شخصيّات ألهمتني

لقد تأثَّرت كثيراً في النّجف الأشرف، منذ بداية حياتي هناك، بشخصيّتين لا أزال أحمل لهما المشاعر العميقة في احترام علمهما، واحترام استقامتهما وسلوكهما، وابتعادهما عن كلّ مظاهر الجاه، وهما المغفور له عمّي السيّد محمد سعيد فضل الله، وقد كان من المجتهدين الكبار في النّجف الأشرف، وكان محلّ ثقة النّجف كلّها في علمه وزهده وتقواه، وكان مرشّحاً للمرجعيّة في النّجف، لكنّه رفض ذلك لزهده في الدّنيا، ومات ودفن في النّجف الأشرف.
لقد كنت أجلس إليه وأنا طفل، أتحدَّث معه أحاديث أكبر من سنّي، وكان ينفتح عليّ في ذلك الجوّ، وكان يحدّثني الأحاديث الّتي تعتبر أكبر من سنّي، لأنّي كنت أحسّ منه بأنّه يأمل بي خيراً في مستقبل أيّامي، حتّى إنّه كان يقول لبعض أقربائي بأنَّ هذا الولد ـ وهو يشير إليّ ـ هو الّذي سوف يهيّئ لنا في المستقبل الموقع المتقدّم الّذي تملكه العائلة في تاريخها.. ولذلك كان يشجّعني كثيراً، حتّى إنّني عندما كنت أمارس الشّعر مبكراً في النّجف، كان بعض النّاس يعتبرون ذلك سلبيّاً، على أساس أنهم ينظرون إلى الإنسان الّذي ينظم الشّعر على أنّه غير محصِّل وغير مشتغل، لأنّ الشّعر يشغله عن دراسته.
وعندما ذهبت إليه لأتحدَّث معه وأعرف نصيحته لي بالاستمرار في نظم الشّعر أو تركه، شجّعني على الاستمرار في ذلك، لأنّه قال لي بأنّ الاجتهاد يحتاج إلى ذوقٍ صافٍ سليم في فهم اللّغة، وأنّ الأدب يعين على صفاء الفهم الواعي والذّوق السّليم في هذا الاتجاه، لأنَّ الاجتهاد ينطلق في فهم الكتاب والسنَّة من ثقافة أدبيَّة تستطيع أن تتفهّم إيحاءات الكلام إلى جانب مضمونه، ولذلك فقد شجّعني على الاستمرار في هذا الخطّ الأدبيّ، ولهذا كنت أقول في رثائه:
"ألهمتني وحي الحياة، فمن دنياك يملأ روحي الأدب"
لقد تأثّرت بشخصيّته كثيراً، وكنت أختزن في داخلي الكثير من معاني الرّوحانيّة الّتي كنت أتحسّسها في الجلوس بين يديه، كما أنّني كنت أعيش الآفاق العالية الّتي كان يمثّلها موقعه العلميّ، لأفكّر في أنّ عليّ أن أصل إلى هذا المستوى أو أتجاوزه، وقد أثّرت وفاته بي تأثيراً عميقاً جدّاً.

التأثّر بالوالد

الشّخصيَّة الثَّانية الّتي تأثَّرت بها، هي شخصيَّة المغفور له والدي، الّذي عشت معه منذ طفولتي كصديق، لم يضربني مرّةً في حياتي، ولم يؤنِّبني مرّةً واحدة، ولم يوجّه إليّ كلمة قاسية مرّة واحدة، كان إذا غضب منّي في شيء، فإنَّ أقسى أساليبه معي كانت بأن يهملني، وأن لا يتكلّم معي حتّى أعود إليه معتذراً، من خلال قسوة هذه الحالة عليّ، وكان يفسح لي المجال لأن أناقشه في كلّ شيء، ولعلّ الشّخص الوحيد الّذي عشت كلّ حرّيتي في النّقاش معه، بكلّ شيء حتّى في المحرّمات من النّقاش، هو المرحوم والدي، لأنَّه كان يملك الأفق الواسع المنفتح الّذي لا يتصوّره النّاس الّذين كانوا يتردّدون إليه، وهو يمثّل العالم الرّوحانيّ الّذي ينطلق النّاس إليه في أجواء القداسة، وقد يتصوّرونه شخصاً بعيداً عن الحياة، وبعيداً عن الانفتاح.
كنت أتحدَّث معه في بعض الحالات بطريقة "النّكتة"، وأقول له: يا سيّدنا تعال لنتحدّث في "الكفريّات"، كدلالة على الأشياء الّتي لا يمكن للإنسان أن يناقشها مع النّاس، لأنهم قد يتّهمونه بالمروق أو بالكفر، عندما يطرح السّؤال ولو من أجل إثارة المناقشة العلميّة حوله، ليصل إلى النتائج الإيجابيّة، على أساس أنّ الشّكّ هو الخطوة الأولى نحو اليقين، كان يستمع إليّ في كلّ ما يدور في ذهني من أفكار وأوهام وخيالات، ويناقشني كما لو كنت إنساناً أملك فكراً ناضجاً، وكانت المناقشات تمتدّ بيني وبينه، حتّى إنّنا كنّا نثقل أجواء العائلة، ونحن على مائدة الغداء أو العشاء، لأنّ طريقتنا كانت تتحرّك لإثارة ما أحتاجه من مناقشات في ذلك الجوّ، وكان يستجيب لي.
وأذكر أنّ هذا الحوار الدّائم المستمرّ في القضايا الفكريّة والقضايا الأصوليّة والقضايا الفلسفية والقضايا السياسية والاجتماعية، لم يفارق حياتي معه حتّى آخر ليلة من حياته، فقد كنت أتحدّث معه في مناقشة علميّة حول مسألة فقهيّة في صبيحة اللّيلة الّتي توفّي فيها.. ولذلك فإنّني أعتقد أنّ الإنسان الذي جعلني منفتحاً على كلّ الفكر، وكان واسع الصّدر في كلّ المناقشات، مهما كانت معقّدة، واحترام الرّأي الآخر والإنسان الآخر، هو المرحوم والدي.
كان أسلوبه الّذي تعلّمته منه، هو أنَّ كثيراً من القضايا الّتي يواجهها الإنسان في الحياة، من خلال بعض التحدّيات الّتي تريد أن تقوده إلى معركة شخصيَّة، على أساس الفعل وردّ الفعل، كان أسلوبه الّذي يتحرّك به في حياته، هو أن يهمل المسألة ويقول تعليقاً على موقفه هذا: "إن كثيراً من القضايا تحلّ بإهمالها"، فعندما يشتم النّاس أو يحاولون إثارة الآخرين، فإنّ السّكوت وإهمال أمرهم وعدم التحدّث عنهم، يجععلهم يتعبون ويشعرون بالخزي والعار، وهذا أمر عشته في حياتي في أكثر التحدّيات الّتي واجهتني، فقد تعلّمت منه أن لا أردّ على سباب أو شتائم، ولا على جزئيّات صغيرة، بل أحاول أن أهمل القضايا لتموت بنفسها على حسب تعبيره..
إنّ كثيراً من القضايا يكون إماتتها في إهمالها، هذا ما تعلّمته منه، وتعلّمت منه الانفتاح على الصّغير والكبير، فقد كان وهو في السّنّ المتقدّمة من العمر، يجلس إليه شباب المقاومة في بنت جبيل، ومن كلّ القوى المحيطة بالبلدة، وهم يتحرَّكون بشكل طبيعيّ، وكان يفتح لهم قلبه، وكانوا يسألونه في المسائل الشرعيَّة فيما يتّصل بالمقاومة، وكان يحدّثهم بطريقة وبأخرى، بما يرضي حاجتهم إلى المعرفة في ذلك كلّه، كان الصّغار والكبار يجلسون إليه وهو ابن الثّمانين، فيأنسون به، ويحدّثهم بشكل طبيعيّ، وكان يحترم الناس كلّهم، وكان يثقل على نفسه من خلال احترامه للنّاس، وكان لا يفرّق بين إنسان كبير وإنسان صغير في حياته كلّها.
وقد تعلّمت منه أيضاً إلى جانب ذلك، العفّة، وعدم السعي للحصول على المال عندما أعيش في حالة ضيق، وكان يحتمل أقسى ما يمكن حمله، ولذلك عشنا طفولتنا في النّجف في فقر مدقع، ولم يكن هناك حلّ لهذا، إلا أن يسعى لبعض النّافذين من العلماء الذين قد يرتاح إليهم ليقدّم تنازلاته إليهم، ليحصل على المال الكثير الّذي يمكن أن يحلّ مشكلته المالية، ولكنه كان يأبى ذلك، وكنّا نعيش الجوع في طفولتنا من خلال ذلك.
تعلّمت منه هذا الأمر، ومن هنا، فإنني نشأت وأنا أحمل عقدة ضد الأغنياء، لا أقصد عقدة الاحتقار، ولكن عقدة عدم احترام الغنيّ لغناه، ومن هنا، فإنّني عندما انطلقت في كلّ مشاريعي، لم أحاول أن أخاطب كلّ هؤلاء الأغنياء، من مغتربين أو غيرهم، لأمدحهم بكلمة كما يمدحهم الآخرون، لأقدّم لهم تنازلات، لأنّني لم أكن أحترم إحساسهم بالقيمة الكبيرة للمال الّذي يملكونه، أو إحساس النّاس بالقيمة الكبيرة لهم للنّتيجة نفسها.

وأعتقد أنّني نجحت في هذا الامتحان، لأنّ الله سبحانه وتعالى قد هيّأ لي الأجواء التي أستطيع أن أقوم فيها بكلّ مشاريعي، من دون أن أنحني لأحد، ومن دون أن أعمل لأقدِّم أيّ حساب من حسابات المدح والثّناء لأحد.
لقد تعلّمت من الانفتاح على الله سبحانه وتعالى، في حالات الصّفاء الرّوحيّ، وتعلّمت منه الصّدق في المواقف مهما كانت صعوبتها، وأعتقد أنّ أكثر النّاس الّذين أثّروا في حياتي تأثيراً كبيراً جداً، هو المرحوم والدي، لأنّني عشت معه حتّى وفاته خمسين سنة، لم تكن عيشة مفصولة عن أيّة قضيّة، بل كانت كلّ القضايا تتحرّك في داخلها، حتى عندما انطلقت الثّورة الإسلاميّة في إيران، كان من أشدّ المتحمّسين لها على طريقته الخاصّة، وكان يؤمن بهذا الانفتاح الإسلامي بشكل وبآخر، وربما كان بعض النّاس يتصوّرون أنّ طريقتي في العمل الإسلاميّ كانت لا ترضي المرحوم والدي، ولكنّه فيما يعرفه أقرب النّاس إليّ، كان يشجّعني على ذلك، وكنت أتحدّث إليه في كلّ ما أنا فيه، حتّى عندما كان يلاحظ بعض الملاحظات الّتي قد يعتبرها سلبيّة، كنّا نتناقش فيها بشكل وبآخر، لذلك فإنّ تأثيره كان كبيراً في حياتي.

أقرباء تأثّرت بهم
ومن الأشخاص الّذين تأثّرت بهم في طفولتي تأثّراً روحيّاً، المرحوم جدّي والد أمّي، الحاج حسن بزّي، الّذي كان من الصّالحين، وكان يمثّل الإنسان القدوة في صلاحه وفي عبادته، وإخلاصه لله سبحانه وتعالى، لأنّني عشت معه الأيّام الّتي كان يأتي بها آخر عمره إلى النّجف الأشرف، وكنت أجلس إليه وهو مريض، لأقرأ له قصص الأنبياء وما إلى ذلك من الأمور، وقد تأثرت بشخصيّته في هذا المجال.
ومن الشخصيّات الأخرى الّتي تأثّرت بها إلى حدّ ما، المرحوم خالي، الأستاذ علي بزّي، الّذي وجدت فيه الكثير من الصفات الطيّبة الجيّدة، ولا سيّما عندما كنّا نتناقش في الأمور السياسيّة بشكل وبآخر، لا أقول إنّني تأثّرت بشخصيّته في مفاهيمه السياسيّة، لأنّنا كنّا نختلف في المفاهيم السياسيّة عندما نتحدّث، ولكنّني كنت أقدّر عفّته، وأقدّر صدقه، وهذا هو السّرّ في موته فقيراً، بالرّغم من أنّه كان يملك الكثير من مواقع السّاحة، كانت قيمته في أنّه كان يحترم نفسه، في الوقت الّذي لا يحترم الكثيرون أنفسهم.
ومن الأشخاص الّذين تأثّرت بهم من أقربائي أيضاً، هو المرحوم خال والدتي، المرجع الدّيني الأعلى، السيّد محسن الحكيم، فقد تأثّرت به في حركة مرجعيّته المنفتحة على الواقع الإسلاميّ العام، في الوقت الّذي كانت المرجعيّات تعيش في دائرة مغلقة خاصّة، ولعلّ هذه هي أكثر الأسماء الّتي تركت تأثيراتها في حياتي من أقربائي بعض الشّيء...
   
يقول العلامة فضل الله: لقد تأثّرت بالجوّ الّذي كنت أعيشه بشكل طبيعيّ، حتّى إنّ مسألة تحرّكي في هذا الاتجاه، كان عفويّاً طبيعيّاً، ناشئاً عن رغبة، وربما كانت رغبة الإنسان الذي يشعر بانسجامه مع مجتمعه، عندما يتحرّك في هذا الاتجاه، وربما كانت المسألة تتحرّك على أساس أنّ الإنسان يعيش مع رفاقه الّذين كانوا ينطلقون في هذا الاتجاه، فيحب أن ينطلق معهم في الاتجاه نفسه، ما قد يجعله يشعر بالأهميّة، ولذلك لبست العمامة في سنّ مبكرة هي الثّانية عشرة والنصف من عمري، باعتبار أنّ العمامة كانت زياً لطلاب العلم، ولا يشترط فيها أن يصل الإنسان إلى مرتبة متقدّمة من العمر، فيما هي التّقاليد بالزيّ الدّيني، في النجف الأشرف وأمثاله.

الدّخول إلى الحوزة الدينيّة
أستطيع القول إنني انتسبت إلى الحوزة الدينيّة حوالى سنة 1363هـ، وكان عمري آنذاك إحدى عشرة سنة، وقد استمرّت دراستي حتى سنة 1385هـ، أي أنّ دراستي في الحوزة الدينيّة استغرقت حوالى اثنتين وعشرين سنة.
من الطبيعيّ أنّ المرحلة الدراسية التي كنا نعيشها، كانت تتحرّك في نطاق الأجواء العلمية في النجف الأشرف، وإنّني أتذكّر طريقة الدراسة في النجف، حيث كان التلميذ يحضّر درسه تماماً كما يحضّر الأستاذ درسه، وكنّا نحاول أن نطالع دروسنا، ونطالع ما هناك من شروحات وحواشي في الكتاب، لنحاول أن نفهم الدّرس قبل أن يلقيه الأستاذ علينا، لنناقش أستاذنا فيما قد نأخذه عليه في أثناء شرحه للدّرس، سواء في شرحه للعبارة لنناقشه في فهمه، أو شرحه للمطالب لنناقشه فيه.
وكانت الطّريقة أيضاً، أن ينطلق الطالب بعد درسه، ليذاكر طالباً آخر زميلاً له في الدّرس، ليلقي أحدهما على الآخر شرح الدّرس، كما لو كان أستاذاً له في هذا اليوم، ليأتي الآخر في اليوم الثاني ليلقي شرح الدّرس الثاني وما إلى ذلك.
وكنا نجتمع كطلاب في ليالي الخميس والجمعة، حيث كانت تُقام مجالس بعنوان "مجالس التعزية"، الّتي يلتقي فيها العلماء والطلاب لدى بعض العلماء الّذين يقيمون هذه المجالس، فكنّا نذهب إلى هناك، وقد حضَّر كلّ واحد منّا بعض الإشكالات والمناقشات الّتي يوجّهها إلى أساتذته، أو ليوجّهها إلى زملائه من الطلاب، وكانت المناقشات تحتدّ بشكل يرتفع فيه الصّياح، وكانت تمتد ستّ ساعات أو أكثر، حيث يكتشف الإنسان في نفسه بعض الإمكانات الفكريّة الّتي قد يلتفت إليها في أثناء المناقشة، من خلال تماس بين الأفكار الّتي قد تخلق أفكاراً جديدة.

وأذكر أنّنا كنّا في بعض الحالات نكتشف في أنفسنا أفكاراً لم نبلغ درجتها، لأنّ هذا التوتّر الفكريّ في أثناء المناقشة، يجعل الإنسان ينتقل من فكرة إلى فكرة، على أساس أنّه يريد أن يدافع عن فكرته ليتغلّب على الطرف الآخر.. ومن هنا، قد يحصل الإنسان على نتائج فكريّة مهمّة، لم يكن قد فكّر فيها سابقاً، وهذه الطّريقة في الدرس وفي إدارة الحركة العلميّة، هي التي جعلت من الطالب النجفي عميقاً في تفكيره، بحيث يستطيع أن يناقش أيّ فكر آخر، حتى لو لم يكن له سابق عهد به، لأنّه تعوّد على أن لا يستظهر الأفكار، بل أن يصنعها.

لقد كان أساتذتنا يعلّموننا ذلك منذ الطّفولة، وهذا ما تعلّمته من المرحوم عمي، السيّد محمد سعيد فضل الله، إذ كان يقول لي إنّه ينبغي أن يكون لك رأي ذاتي في كلّ درس تدرسه، بحيث لا تحاول أن تأخذ رأي الأستاذ فقط، أو رأي صاحب الكتاب، بل تحاول أن تفكّر فيه لتقتنع به أو ترفضه، ولو بحجمك من الطاقة الفكريّة العلميّة.

لم تكن التربية الحوزويّة في النجف، تربيةً تقوم على الاستظهار والحفظ، فربما تجد أنّ كثيراً من العلماء لا يحفظون آيات القرآن، وربما يقرأه بعضهم خطأً نتيجة نسيانه، أو لا يحفظون الأحاديث بشكل أو بآخر، ولكنّهم عندما يقدّم لهم حديث أو آية، فإنهم يناقشونها مناقشة دقيقة وعميقة.

وينقل أنّ هناك أحد الأشخاص ممن يحفظون الأحاديث النبويّة الشريفة أو أحاديث الأئمة، سأل أحد المجتهدين من المراجع: كم تحفظ من الأحاديث، هل تحفظ ألف حديث؟ قال لا. هل تحفظ مئة حديث؟ قال لا. عشرة أحاديث بأسانيدها طبعاً المتّصلة بالنبيّ؟ قال لا، بل أحفظ حديثاً واحداً، لكن لا أحفظ أسانيده عن فلان وفلان. فقال له: كيف تكون من المجتهدين والمراجع، فأنا أحفظ ثلاثين ألف حديث؟ فقال له المجتهد: اعرض عليّ حديثاً من هذه الأحاديث الّتي تحفظها، فعرض عليه حديثا، فبدأ هذا المجتهد يناقش سند الحديث، ويناقش متن الحديث ودلالاته، حتّى وقف ذلك الشخص الحافظ للأحاديث حائراً مربوطاً، لا يقدر أن يعلّق على أيّ كلمة، باعتبار أنّ هذا العالم المجتهد حاصره في كلّ ما أثاره من أفكار ومفردات، عند ذلك تحدّث معه هذا المجتهد الكبير بطريقة النكتة، وقال له: إذا اجتمعت أنت وأنا، نصبح عالماً ممتازاً، بمعنى إذا كان لي حفظك، وكان لك عمقي واجتهادي، فيمكن أن نكون عالماً جيّداً.

لذلك، لم يكن المهمّ أن يحفظ الطالب، ولكن المهمّ أن يتعمّق الطالب وأن يفكّر وأن يحصل على شخصيّة عميقة في التّفكير، حتّى يستطيع أن يواجه كلّ التحدّيات في الأفكار، الّتي قد لا يكون له سابق عهد بها، وهذا ما يجعل من علماء الشّيعة علماء عميقين في المسألة العلميّة...
 
المصدر: كتاب "العلامة فضل الله وتحدّي الممنوع"
 
 
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية