نشأة السيّد فضل الله وبواكير حياته الفكريَّة

نشأة السيّد فضل الله وبواكير حياته الفكريَّة

وُلد السيّد محمّد حسين فضل الله العام 1935، في عائلة لباسها التقوى والتديّن، وثروتها العلم، فوالده السيّد عبد الرؤوف فضل الله الَّذي يعود بجذوره إلى النبي محمَّد، من خلال السلالة الشريفة الّتي ترقى إلى الإمام الحسن حفيد النبي، وكان يلقب بآية الله، ولد العام 1907 في قرية عيناثا اللبنانية الجنوبية. أما والدته الحاجة رؤوفة، فقد ولدت في بلدة بنت جبيل الجنوبية، المعروفة بكونها مركزاً للتعليم الديني، وهي سليلة عائلة وجيهة ومتنفذة، ابنة السياسي اللبناني المرموق الحاج حسن بزي، لكنّها لم تكن مثقّفة كزوجها العلامة والد السيد فضل الله، بل تلقّت تعليماً عادياً، وهذا راجع إلى البيئة المتديّنة والريفيّة التي نشأت فيها.

تلقّى السيد عبد الرؤوف تربيته في كنف والده آية الله السيد نجيب (1863-1916 أو 17)، أحد كبار المجتهدين اللامعين في منطقة جبل عامل ذات الغالبية الشيعية في جنوب لبنان، وكان له مكانة نافذة في مسقط رأسه بنت جبيل، وكان مؤسس إحدى المدارس الدينية التي تخرّج فيها العديد من علماء الشيعة ومديرها.

فقد السيد عبد الرؤوف والده وهو في العاشرة من عمره، حين بدأ مرحلة التعليم الديني الابتدائي في مدرسة في بنت جبيل، حيث درس القرآن والحديث ونهج البلاغة، وحفظ القرآن والنهج غيباً.. في العام 1927، وهو في الثامنة والعشرين من عمره، سافر السيد عبد الرؤوف، كمن سبقه من العلماء الطامحين، إلى مدينة النجف، لمتابعة دراسته الشرعية الشيعية العليا، وبقي هناك حتى العام 1955.

درس والد السيد محمد حسين فضل الله على أخيه الأكبر آية الله محمد سعيد فضل الله (1898 - 1954)، مرحلة المقدّمات ثم مرحلة السطوح، وعندما أنهى المرحلتين الأولى والمتوسطة، انتقل إلى التعليم العالي المتقدم للدراسة، وهي مرحلة بحث الخارج، وقد لازم حلقات الدراسة العالية، وتابع محاضرات أخيار المرجعية الشيعية، ومنهم السيد عبد الحسين الأصفهاني (1860- 1945)، السيد محمود الشهرودي (1882-1974)، والسيد عبد الهادي الشيرازي (1887- 1962).

وبعد أن تمكَّن من العلوم الشرعيّة والدينيّة على المذهب الشّيعي، وبرز في علوم البحث والفكر والجدل الفلسفي، حاز السيد عبد الرؤوف لقب المجتهد، وصار مؤهّلاً لممارسة الاجتهاد، وكذلك التعليم الديني العالي.. وقد تبيّن، حسب مصادر سيرته، أنَّ اثني عشر طالباً شيعياً على الأقل، تلقوا إما قسطاً من دراستهم أو دراستهم الشرعية التقليدية كلها، على يدي هذا العلامة، فور حصوله على لقب آية الله، وتخرجوا لاحقاً علماء وفقهاء.. من بين هؤلاء الخريجين، كان السيد محمد حسين فضل الله، وشقيقاه محمد جواد (1938-1975)، ومحمد علي (1939- ...)، وزميله الشيخ محمد مهدي شمس الدين (1936- 2001)، الرئيس السابق للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان.

تتّسم طفولة السيّد محمد حسين فضل الله، وهو الأكبر بين خمسة ذكور وخمس إناث، بكونها غارقة في جو ديني طابعه الزهد والتبحّر العلمي، في بيئة يسودها شظف العيش وقسوة المناخ الطبيعي.

عندما يستذكر تلك المرحلة، يروي السيد فضل الله كيف كان سكان مدينة طفولته يلجأون عندما تهب الرياح الموسمية الخانقة إلى السراديب التي كانوا يحفرونها، وإلى الأقبية الرطبة، ويتذكر أيضاً الظروف الاقتصادية الصعبة التي واجهتها أسرته، ومعاناة طلاب الشريعة في مدينة النجف.. وهو يصف كيف أن الفقر كاد يودي بأهله إلى حافة الجوع، ويذكر هنا أن أنفة والده منعته من التماس العون من الأغنياء لفكّ ضيقته، لئلا يكون ذلك على حساب كبريائه وكرامة أسرته...

طبعت تلك المحنة في نفس السيد فضل الله اتجاهين؛ الأول: تولّد لديه نفور من الثراء، وعدم رغبة في عيش الأثرياء المترف، والثاني: بسبب البيئة الفكريّة الدينيّة والظرف الاقتصادي الصّعب، حُرم السيّد فضل الله من مباهج الحياة التي غالباً ما تغمر عمر الطفولة، وهذا ما ولّد لديه أيضاً مشاعر الاهتمام بالفقراء والمحرومين، وارتبط بواقعهم وبمعاناتهم لمدة طويلة.

إنَّ نشأة السيد فضل الله في النجف، ورؤيته مجالس العزاء بالإمام الحسين، التي غالباً ما تُقام لمناسبة ذكرى استشهاد النجل الثاني للإمام علي، والحزن الجماعي الذي يتخذ مظهر اللطم والنزف، والرثاء المجروح في يوم عاشوراء، أي في العاشر من محرّم، وهو الشهر الأول من السنة القمرية.. كلّ هذه المظاهر أثّرت في شخصيّته، واتخذ منها موقفاً، معتبراً إيّاها تصرفات غير لائقة، وطقوساً غير معبّرة فعلاً عن الحزن، لأنّ ضرب الرأس بالسّيف، والجلد بالجنازير، الذي كثيراً ما يسبّب جروحاً بالغة، وأحياناً مميتة، ليس هو الأسلوب الأمثل والمعبر بطريقة حضارية.

شجّع هذا الموقف الإصلاحيّين من المجتهدين والمثقّفين على المعارضة صراحة، لتنقية الممارسات الدينيّة من العادات التي دخلت بطريقة غير مبرّرة تاريخياً، بل هي رواسب تقليديّة غير شرعيّة.

إنّ جوّ المنزل الّذي ترعرع فيه السيّد فضل الله، وتنشئته، وثقافته، ووضعه المادّيّ الضعيف، والاهتمام بالعلم، أملت عليه نمط التربية التي تلقاها، وأثرت فيما بعد في عمله المهني أيضاً، لأسباب ماليّة ودينيّة.

لم ينتسب السيّ فضل الله في صغره إلى المدارس الحكوميّة الحديثة، بل تلقّى مبادئ التعليم في أحد الكتاتيب، الّذي هو حلقة لتعليم القرآن وعلومه، في مسجد كاشف الغطاء، حيث كان يتولّى التعليم شيخ قاسٍ محدود الثقافة، يقتصر تعليمه على القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم.. لذلك، انتقل لاحقاً إلى كتّاب آخر، حيث كان هناك معلّم أكثر كفاية في علوم القرآن، في مقام الإمام عليّ، الذي هو صرحٌ كبير في مدينة النجف.

لكن سرعان ما انتقل السيّد فضل الله إلى إحدى مدارس النجف الدينية الحديثة، التي أسّستها وكانت تديرها مجموعة من العلماء النيّرين، والتابعة لجمعية منتدى النشر.. هذه الجمعية التي هدفت أوّلاً إلى رأب الصّدع الحاصل بين نظام التعليم الرسمي الحديث ونظام تعليم الحوزة.. كان السيّد فضل الله في العاشرة من عمره عندما امتحنت معلوماته، وتقرر وضعه في الصف الثالث الابتدائي، وبسبب اجتهاده المميّز، رُفِّع إلى الصف الرابع..

ولكن، ولأسباب مجهولة في ذلك الوقت، لم يتمكَّن من متابعة دراسته في هذه المدرسة الحديثة التي استقطبت العديد من التلاميذ اللامعين من الشيعة في المدن المقدّسة، ومن بين زملائه اللامعين، كان السيّد محمد باقر الصدر (1935-1980)، الذي درس في مدرسة جمعية المنتدى في الكاظمية، والذي صار صديقاً وزميلاً حميماً للسيّد فضل الله.. رغم عودة السيّد فضل الله إلى نظام التعليم في الحوزة، فإنه كان يتردّد من حين إلى آخر إلى جمعيّة المنتدى في أوائل العام 1946، مُظهراً اهتماماً بالنّشاط الثقافي والأدبي المتوافر فيها.

خلال تلك الفترة، قرّر السيد فضل الله أن يمتهن الصّحافة. من أجل ذلك، تعاون مع قريبه وصديقه الحميم محمد مهدي الحكيم، ابن المرجع آية الله العظمى السيّد محمد محسن الحكيم، وقد أصدرا معاً دورية تسمى "مجلة الأدب"، كتب في إصداراتها الأربعة أو الخمسة التي صدرت من 1945 إلى 1946، وحسب بعض المصادر الأخرى، من 1949 إلى 1950، وهو في الثانية عشرة أو يزيد.

ونشرت مقالاته في المجلات الصادرة في مصر والهلال الخصيب في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين.. تبع ذلك مساهمته بنكهة خاصّة معمّقة في دورية أخرى تسمى "الرّسالة"، لصاحبها الصحافي المصري المشهور أحمد حسن الزيّات (1855-1968)، وساهم كذلك في مجلتي الثقافة والمصوّر المصريتين، وفي مجلة الكتاب لعلي غضبان، وفي الكتاب المصري، وفي أدب الكتاب للكاتب والناقد المصري الشّهير طه حسين (1889-1973).. ويعتبر السيّد فضل الله أنّ طه حسين كان عنصراً مؤثّراً في تطوير نهجه الأدبي.

عندما صدرت مجلّة الأدب التي لم تعمّر طويلاً، وكان السيّد فضل الله في العاشرة من عمره، اكتشف إمكاناته الفائقة في كتابة الشّعر، ولعلّ الأبيات الأولى التي كتبها، أظهرت وعياً في نظرته إلى العالم، ورفضاً للثّراء والبذخ الأرستقراطي، وعزماً على انتهاج طريق العفاف والانضباط الذّاتيّ.. لذلك، كان تألّقه كشاعر موهوب سابقاً بمدّة طويلة لبروزه كفقيه مؤثّر في المسائل الدينيّة، وكناشط سياسيّ مرموق.. ومع اكتشاف السيّد فضل الله ميلاً طبيعياً في نفسه إلى كتابة الشّعر، التي يصفها بأنها تتدفّق منه بصورة عفوية، بدأ مساهمته في إحياء الاحتفالات الدينيّة والاجتماعيّة، التي كانت تُقام بشكل منتظم في النجف الأشرف.

ونتيجةً لهذه المساهمة الشعريّة في التجمعات العامة، برزت الموهبة الشعرية لدى السيد فضل الله، ونال إعجاب الناس وهو في سنّ مبكرة. لم ينحصر بزوغ شهرة السيّد الشاب في حدود مدينة النجف، بل تعداها إلى عدد من المدن الصغيرة في مقاطعة الناصرية الجنوبية، حيث شارك في احتفالين إسلاميين، وهو يتلو قصائده التي عزم على نشرها.

شجّع هذا النجاح السيد فضل الله على المضي قدماً في عالم الأدب، فأسس مع عدد من أصدقائه "أسرة الأدب اليقظ"، التي تبنّت تيار الشعر الحديث، فأحدثت تحوّلاً جذريّاً في صوغ القصائد الشعرية.. لاقى هذا الأمر مقاومة ضارية من قِبَل أتباع المذهب التقليدي في الشعر، ما دفع السيد فضل الله وزملاءه إلى استخدام أسماء مستعارة، لنشر أعمالهم الأدبية الراديكالية في الصحف العراقية..

وفي الخمسينات، بدأ السيد فضل الله يعبّر عن نفسه عندما أطلّ على عالم الشعر الحديث، من خلال ما نُشر له من أعمال متتالية في مجلة الأدب الواسعة الانتشار في تلك المرحلة، وقد تأثر بالشاعر بدر شاكر السيّاب، الذي بدوره تأثر بالشعر الإنكليزي الحديث، كما تأثر بالكاتب المصري طه حسين، وبالشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة، وقد نالت قصائد السيّاب، السياسية والاجتماعية، إعجاباً واسعاً، حيث شخّص واقع المجتمع العربي المريض، ناسجاً من آلامه ومشاعره أبياتاً تفيض بالحسرات، مع ما يصبو إليه من مثالية في آماله السياسية والاجتماعية.

في الأربعينات، نقّب السيد فضل الله في نتاج الشعراء التقليديين المعاصرين، وأشهرهم أحمد شوقي وحافظ إبراهيم من مصر، ومحمد مهدي الجواهري من النجف، وإلياس أبو شبكة وخليل مطران من لبنان، وقد اعترف السيد فضل الله بتأثره العميق بالشاعر محمد مهدي الجواهري ( 1899-1997)، وأحمد شوقي (1868-1932) الملقّب بأمير الشعراء، وبدرجة أقل بالشاعرين اللبنانيين الأخطل الصغير، وإلياس أبو شبكة..

لقد كتب أحمد شوقي قصائد طويلة تتناول المواضيع الوطنية والدينية والقضايا السياسية المعاصرة التي أيقظت الشعور بالحسرة على الواقع، كما يعتبر محمد مهدي الجواهري من أكثر الشعراء الكلاسيكيين الحديثين عاطفةً، حيث ألّبت قصائده المشاعر حول مجمل القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العراق والعالم العربي شكل عام.

ولما رأى بعض علماء النجف انشغال السيد فضل الله بالشعر عن التعلم الأكاديمي، نصحوه بترك الشعر تماماً.. هنا، واجه السيد فضل الله معضلة مربكة، إما الاستمرار في الشعر، متغاضياً عما بلغه من استياء بعض كبار علماء المعهد الشرعي، وإما الموافقة على ما يرونه واجباً.. اختار السيد فضل الله الحلّ الأول، مع قناعته بقدرته على متابعة دراسته الدينية الشرعية بشكلٍ كافٍ، إلى جانب استمراره في نظم الشعر..

لذلك، نشد دعم عمه الوقور آية الله السيد محمد سعيد فضل الله، إضافةً إلى تأييد آية الله العظمى السيد عبد الهادي الشيرازي، مرشد والده. هكذا، استأنف السيد فضل الله نشاطه الشعري، معتمداً على دعم السيدين، ولكن بتحفّظ، متخذاً اسماً مستعاراً هو أبو علي، يوقّع به كل قصيدة كانت تنشرها في أواخر الخمسينات والستينات مجلة الأضواء الإسلاميّة.

لم يتوقّف السيد فضل الله عند حدّ كتابة الشعر، بل اكتشف لاحقاً، ومن خلال مراسلاته مع بعض أقاربه في جنوب لبنان، موهبته في الكتابة المبدعة والنقدية في آن واحد، وعندما انتخب مندوباً للمجمع الثقافي لمنتدى النشر، طُلب إليه أن يكتب بحثاً موسَّعاً حول مشكلات الأدب العربي التّقليدي في النجف، وقد اعتُبر بعد ذلك في الدّوائر الأدبيّة للمدينة المقدَّسة كاتباً مميّزاً.

بدا السيّد فضل الله واثقاً بنفسه، قادراً على متابعة نشاطه الشعري، ومزاولة عمله الشرعي والعلمي، فأنهى بنجاح ما بدأ والده بتعليمه إيّاه، وهو دراسة مرحلتي المقدّمات، ثم السطوح في الحوزة.

درس السيد فضل الله بعد ذلك النصوص التقليديّة للنحو والقواعد والبلاغة والمنطق والفقه الإسلامي والتفسير القرآني وأدب الحديث، ثم انكبّ على دراسة المرحلة المتقدمة في حلقات الدّراسة والمناقشات مع أعمق المجتهدين علماً وأكثرهم وقاراً، آية الله العظمى السيّد أبو القاسم الخوئي (1899-1992)، وآية الله العظمى السيّد محسن الحكيم (1889-1970)، وآية الله العظمى محمود البدقوبي (1882-1974)، والشيخ حسين الحلي، والملا صدر البوكوني..

وقد تمكَّن السيّد فضل الله وهو في مرحلة دراسة البحث الخارجي، من تولّي مسؤوليّة تعليم تلاميذ المراحل الأولى، وهذا أمر شائع، حيث يتولّى الطلاب المتقدّمون في الدراسات العليا، الذين سيصبحون علماء، تعليم طلاب المراحل الأولى.. لذلك، نال بعد اثنتين وعشرين سنة شهادة الاجتهاد من مرشده ومعلمه السيد الخوئي، الذي عيّنه لاحقاً وكيلاً له في لبنان.

*من كتاب "مسيرة قائد شيعي"، جمال سنكري.


وُلد السيّد محمّد حسين فضل الله العام 1935، في عائلة لباسها التقوى والتديّن، وثروتها العلم، فوالده السيّد عبد الرؤوف فضل الله الَّذي يعود بجذوره إلى النبي محمَّد، من خلال السلالة الشريفة الّتي ترقى إلى الإمام الحسن حفيد النبي، وكان يلقب بآية الله، ولد العام 1907 في قرية عيناثا اللبنانية الجنوبية. أما والدته الحاجة رؤوفة، فقد ولدت في بلدة بنت جبيل الجنوبية، المعروفة بكونها مركزاً للتعليم الديني، وهي سليلة عائلة وجيهة ومتنفذة، ابنة السياسي اللبناني المرموق الحاج حسن بزي، لكنّها لم تكن مثقّفة كزوجها العلامة والد السيد فضل الله، بل تلقّت تعليماً عادياً، وهذا راجع إلى البيئة المتديّنة والريفيّة التي نشأت فيها.

تلقّى السيد عبد الرؤوف تربيته في كنف والده آية الله السيد نجيب (1863-1916 أو 17)، أحد كبار المجتهدين اللامعين في منطقة جبل عامل ذات الغالبية الشيعية في جنوب لبنان، وكان له مكانة نافذة في مسقط رأسه بنت جبيل، وكان مؤسس إحدى المدارس الدينية التي تخرّج فيها العديد من علماء الشيعة ومديرها.

فقد السيد عبد الرؤوف والده وهو في العاشرة من عمره، حين بدأ مرحلة التعليم الديني الابتدائي في مدرسة في بنت جبيل، حيث درس القرآن والحديث ونهج البلاغة، وحفظ القرآن والنهج غيباً.. في العام 1927، وهو في الثامنة والعشرين من عمره، سافر السيد عبد الرؤوف، كمن سبقه من العلماء الطامحين، إلى مدينة النجف، لمتابعة دراسته الشرعية الشيعية العليا، وبقي هناك حتى العام 1955.

درس والد السيد محمد حسين فضل الله على أخيه الأكبر آية الله محمد سعيد فضل الله (1898 - 1954)، مرحلة المقدّمات ثم مرحلة السطوح، وعندما أنهى المرحلتين الأولى والمتوسطة، انتقل إلى التعليم العالي المتقدم للدراسة، وهي مرحلة بحث الخارج، وقد لازم حلقات الدراسة العالية، وتابع محاضرات أخيار المرجعية الشيعية، ومنهم السيد عبد الحسين الأصفهاني (1860- 1945)، السيد محمود الشهرودي (1882-1974)، والسيد عبد الهادي الشيرازي (1887- 1962).

وبعد أن تمكَّن من العلوم الشرعيّة والدينيّة على المذهب الشّيعي، وبرز في علوم البحث والفكر والجدل الفلسفي، حاز السيد عبد الرؤوف لقب المجتهد، وصار مؤهّلاً لممارسة الاجتهاد، وكذلك التعليم الديني العالي.. وقد تبيّن، حسب مصادر سيرته، أنَّ اثني عشر طالباً شيعياً على الأقل، تلقوا إما قسطاً من دراستهم أو دراستهم الشرعية التقليدية كلها، على يدي هذا العلامة، فور حصوله على لقب آية الله، وتخرجوا لاحقاً علماء وفقهاء.. من بين هؤلاء الخريجين، كان السيد محمد حسين فضل الله، وشقيقاه محمد جواد (1938-1975)، ومحمد علي (1939- ...)، وزميله الشيخ محمد مهدي شمس الدين (1936- 2001)، الرئيس السابق للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان.

تتّسم طفولة السيّد محمد حسين فضل الله، وهو الأكبر بين خمسة ذكور وخمس إناث، بكونها غارقة في جو ديني طابعه الزهد والتبحّر العلمي، في بيئة يسودها شظف العيش وقسوة المناخ الطبيعي.

عندما يستذكر تلك المرحلة، يروي السيد فضل الله كيف كان سكان مدينة طفولته يلجأون عندما تهب الرياح الموسمية الخانقة إلى السراديب التي كانوا يحفرونها، وإلى الأقبية الرطبة، ويتذكر أيضاً الظروف الاقتصادية الصعبة التي واجهتها أسرته، ومعاناة طلاب الشريعة في مدينة النجف.. وهو يصف كيف أن الفقر كاد يودي بأهله إلى حافة الجوع، ويذكر هنا أن أنفة والده منعته من التماس العون من الأغنياء لفكّ ضيقته، لئلا يكون ذلك على حساب كبريائه وكرامة أسرته...

طبعت تلك المحنة في نفس السيد فضل الله اتجاهين؛ الأول: تولّد لديه نفور من الثراء، وعدم رغبة في عيش الأثرياء المترف، والثاني: بسبب البيئة الفكريّة الدينيّة والظرف الاقتصادي الصّعب، حُرم السيّد فضل الله من مباهج الحياة التي غالباً ما تغمر عمر الطفولة، وهذا ما ولّد لديه أيضاً مشاعر الاهتمام بالفقراء والمحرومين، وارتبط بواقعهم وبمعاناتهم لمدة طويلة.

إنَّ نشأة السيد فضل الله في النجف، ورؤيته مجالس العزاء بالإمام الحسين، التي غالباً ما تُقام لمناسبة ذكرى استشهاد النجل الثاني للإمام علي، والحزن الجماعي الذي يتخذ مظهر اللطم والنزف، والرثاء المجروح في يوم عاشوراء، أي في العاشر من محرّم، وهو الشهر الأول من السنة القمرية.. كلّ هذه المظاهر أثّرت في شخصيّته، واتخذ منها موقفاً، معتبراً إيّاها تصرفات غير لائقة، وطقوساً غير معبّرة فعلاً عن الحزن، لأنّ ضرب الرأس بالسّيف، والجلد بالجنازير، الذي كثيراً ما يسبّب جروحاً بالغة، وأحياناً مميتة، ليس هو الأسلوب الأمثل والمعبر بطريقة حضارية.

شجّع هذا الموقف الإصلاحيّين من المجتهدين والمثقّفين على المعارضة صراحة، لتنقية الممارسات الدينيّة من العادات التي دخلت بطريقة غير مبرّرة تاريخياً، بل هي رواسب تقليديّة غير شرعيّة.

إنّ جوّ المنزل الّذي ترعرع فيه السيّد فضل الله، وتنشئته، وثقافته، ووضعه المادّيّ الضعيف، والاهتمام بالعلم، أملت عليه نمط التربية التي تلقاها، وأثرت فيما بعد في عمله المهني أيضاً، لأسباب ماليّة ودينيّة.

لم ينتسب السيّ فضل الله في صغره إلى المدارس الحكوميّة الحديثة، بل تلقّى مبادئ التعليم في أحد الكتاتيب، الّذي هو حلقة لتعليم القرآن وعلومه، في مسجد كاشف الغطاء، حيث كان يتولّى التعليم شيخ قاسٍ محدود الثقافة، يقتصر تعليمه على القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم.. لذلك، انتقل لاحقاً إلى كتّاب آخر، حيث كان هناك معلّم أكثر كفاية في علوم القرآن، في مقام الإمام عليّ، الذي هو صرحٌ كبير في مدينة النجف.

لكن سرعان ما انتقل السيّد فضل الله إلى إحدى مدارس النجف الدينية الحديثة، التي أسّستها وكانت تديرها مجموعة من العلماء النيّرين، والتابعة لجمعية منتدى النشر.. هذه الجمعية التي هدفت أوّلاً إلى رأب الصّدع الحاصل بين نظام التعليم الرسمي الحديث ونظام تعليم الحوزة.. كان السيّد فضل الله في العاشرة من عمره عندما امتحنت معلوماته، وتقرر وضعه في الصف الثالث الابتدائي، وبسبب اجتهاده المميّز، رُفِّع إلى الصف الرابع..

ولكن، ولأسباب مجهولة في ذلك الوقت، لم يتمكَّن من متابعة دراسته في هذه المدرسة الحديثة التي استقطبت العديد من التلاميذ اللامعين من الشيعة في المدن المقدّسة، ومن بين زملائه اللامعين، كان السيّد محمد باقر الصدر (1935-1980)، الذي درس في مدرسة جمعية المنتدى في الكاظمية، والذي صار صديقاً وزميلاً حميماً للسيّد فضل الله.. رغم عودة السيّد فضل الله إلى نظام التعليم في الحوزة، فإنه كان يتردّد من حين إلى آخر إلى جمعيّة المنتدى في أوائل العام 1946، مُظهراً اهتماماً بالنّشاط الثقافي والأدبي المتوافر فيها.

خلال تلك الفترة، قرّر السيد فضل الله أن يمتهن الصّحافة. من أجل ذلك، تعاون مع قريبه وصديقه الحميم محمد مهدي الحكيم، ابن المرجع آية الله العظمى السيّد محمد محسن الحكيم، وقد أصدرا معاً دورية تسمى "مجلة الأدب"، كتب في إصداراتها الأربعة أو الخمسة التي صدرت من 1945 إلى 1946، وحسب بعض المصادر الأخرى، من 1949 إلى 1950، وهو في الثانية عشرة أو يزيد.

ونشرت مقالاته في المجلات الصادرة في مصر والهلال الخصيب في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين.. تبع ذلك مساهمته بنكهة خاصّة معمّقة في دورية أخرى تسمى "الرّسالة"، لصاحبها الصحافي المصري المشهور أحمد حسن الزيّات (1855-1968)، وساهم كذلك في مجلتي الثقافة والمصوّر المصريتين، وفي مجلة الكتاب لعلي غضبان، وفي الكتاب المصري، وفي أدب الكتاب للكاتب والناقد المصري الشّهير طه حسين (1889-1973).. ويعتبر السيّد فضل الله أنّ طه حسين كان عنصراً مؤثّراً في تطوير نهجه الأدبي.

عندما صدرت مجلّة الأدب التي لم تعمّر طويلاً، وكان السيّد فضل الله في العاشرة من عمره، اكتشف إمكاناته الفائقة في كتابة الشّعر، ولعلّ الأبيات الأولى التي كتبها، أظهرت وعياً في نظرته إلى العالم، ورفضاً للثّراء والبذخ الأرستقراطي، وعزماً على انتهاج طريق العفاف والانضباط الذّاتيّ.. لذلك، كان تألّقه كشاعر موهوب سابقاً بمدّة طويلة لبروزه كفقيه مؤثّر في المسائل الدينيّة، وكناشط سياسيّ مرموق.. ومع اكتشاف السيّد فضل الله ميلاً طبيعياً في نفسه إلى كتابة الشّعر، التي يصفها بأنها تتدفّق منه بصورة عفوية، بدأ مساهمته في إحياء الاحتفالات الدينيّة والاجتماعيّة، التي كانت تُقام بشكل منتظم في النجف الأشرف.

ونتيجةً لهذه المساهمة الشعريّة في التجمعات العامة، برزت الموهبة الشعرية لدى السيد فضل الله، ونال إعجاب الناس وهو في سنّ مبكرة. لم ينحصر بزوغ شهرة السيّد الشاب في حدود مدينة النجف، بل تعداها إلى عدد من المدن الصغيرة في مقاطعة الناصرية الجنوبية، حيث شارك في احتفالين إسلاميين، وهو يتلو قصائده التي عزم على نشرها.

شجّع هذا النجاح السيد فضل الله على المضي قدماً في عالم الأدب، فأسس مع عدد من أصدقائه "أسرة الأدب اليقظ"، التي تبنّت تيار الشعر الحديث، فأحدثت تحوّلاً جذريّاً في صوغ القصائد الشعرية.. لاقى هذا الأمر مقاومة ضارية من قِبَل أتباع المذهب التقليدي في الشعر، ما دفع السيد فضل الله وزملاءه إلى استخدام أسماء مستعارة، لنشر أعمالهم الأدبية الراديكالية في الصحف العراقية..

وفي الخمسينات، بدأ السيد فضل الله يعبّر عن نفسه عندما أطلّ على عالم الشعر الحديث، من خلال ما نُشر له من أعمال متتالية في مجلة الأدب الواسعة الانتشار في تلك المرحلة، وقد تأثر بالشاعر بدر شاكر السيّاب، الذي بدوره تأثر بالشعر الإنكليزي الحديث، كما تأثر بالكاتب المصري طه حسين، وبالشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة، وقد نالت قصائد السيّاب، السياسية والاجتماعية، إعجاباً واسعاً، حيث شخّص واقع المجتمع العربي المريض، ناسجاً من آلامه ومشاعره أبياتاً تفيض بالحسرات، مع ما يصبو إليه من مثالية في آماله السياسية والاجتماعية.

في الأربعينات، نقّب السيد فضل الله في نتاج الشعراء التقليديين المعاصرين، وأشهرهم أحمد شوقي وحافظ إبراهيم من مصر، ومحمد مهدي الجواهري من النجف، وإلياس أبو شبكة وخليل مطران من لبنان، وقد اعترف السيد فضل الله بتأثره العميق بالشاعر محمد مهدي الجواهري ( 1899-1997)، وأحمد شوقي (1868-1932) الملقّب بأمير الشعراء، وبدرجة أقل بالشاعرين اللبنانيين الأخطل الصغير، وإلياس أبو شبكة..

لقد كتب أحمد شوقي قصائد طويلة تتناول المواضيع الوطنية والدينية والقضايا السياسية المعاصرة التي أيقظت الشعور بالحسرة على الواقع، كما يعتبر محمد مهدي الجواهري من أكثر الشعراء الكلاسيكيين الحديثين عاطفةً، حيث ألّبت قصائده المشاعر حول مجمل القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العراق والعالم العربي شكل عام.

ولما رأى بعض علماء النجف انشغال السيد فضل الله بالشعر عن التعلم الأكاديمي، نصحوه بترك الشعر تماماً.. هنا، واجه السيد فضل الله معضلة مربكة، إما الاستمرار في الشعر، متغاضياً عما بلغه من استياء بعض كبار علماء المعهد الشرعي، وإما الموافقة على ما يرونه واجباً.. اختار السيد فضل الله الحلّ الأول، مع قناعته بقدرته على متابعة دراسته الدينية الشرعية بشكلٍ كافٍ، إلى جانب استمراره في نظم الشعر..

لذلك، نشد دعم عمه الوقور آية الله السيد محمد سعيد فضل الله، إضافةً إلى تأييد آية الله العظمى السيد عبد الهادي الشيرازي، مرشد والده. هكذا، استأنف السيد فضل الله نشاطه الشعري، معتمداً على دعم السيدين، ولكن بتحفّظ، متخذاً اسماً مستعاراً هو أبو علي، يوقّع به كل قصيدة كانت تنشرها في أواخر الخمسينات والستينات مجلة الأضواء الإسلاميّة.

لم يتوقّف السيد فضل الله عند حدّ كتابة الشعر، بل اكتشف لاحقاً، ومن خلال مراسلاته مع بعض أقاربه في جنوب لبنان، موهبته في الكتابة المبدعة والنقدية في آن واحد، وعندما انتخب مندوباً للمجمع الثقافي لمنتدى النشر، طُلب إليه أن يكتب بحثاً موسَّعاً حول مشكلات الأدب العربي التّقليدي في النجف، وقد اعتُبر بعد ذلك في الدّوائر الأدبيّة للمدينة المقدَّسة كاتباً مميّزاً.

بدا السيّد فضل الله واثقاً بنفسه، قادراً على متابعة نشاطه الشعري، ومزاولة عمله الشرعي والعلمي، فأنهى بنجاح ما بدأ والده بتعليمه إيّاه، وهو دراسة مرحلتي المقدّمات، ثم السطوح في الحوزة.

درس السيد فضل الله بعد ذلك النصوص التقليديّة للنحو والقواعد والبلاغة والمنطق والفقه الإسلامي والتفسير القرآني وأدب الحديث، ثم انكبّ على دراسة المرحلة المتقدمة في حلقات الدّراسة والمناقشات مع أعمق المجتهدين علماً وأكثرهم وقاراً، آية الله العظمى السيّد أبو القاسم الخوئي (1899-1992)، وآية الله العظمى السيّد محسن الحكيم (1889-1970)، وآية الله العظمى محمود البدقوبي (1882-1974)، والشيخ حسين الحلي، والملا صدر البوكوني..

وقد تمكَّن السيّد فضل الله وهو في مرحلة دراسة البحث الخارجي، من تولّي مسؤوليّة تعليم تلاميذ المراحل الأولى، وهذا أمر شائع، حيث يتولّى الطلاب المتقدّمون في الدراسات العليا، الذين سيصبحون علماء، تعليم طلاب المراحل الأولى.. لذلك، نال بعد اثنتين وعشرين سنة شهادة الاجتهاد من مرشده ومعلمه السيد الخوئي، الذي عيّنه لاحقاً وكيلاً له في لبنان.

*من كتاب "مسيرة قائد شيعي"، جمال سنكري.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية