الإمام زين العابدين(ع): إمامته وشهادات معاصريه

الإمام زين العابدين(ع): إمامته وشهادات معاصريه

بدأ الإمام زين العابدين(ع) حركة إمامته، فعمل على أن يحيط بالمشكلة الموجودة في الواقع الإسلامي من كل جوانبها، وكانت المسألة المطروحة في الساحة الإسلامية منذ بداية الحكم الأموي، هي إبعاد المسلمين عن الأسس الإسلامية الفكرية الثقافية للعقيدة وللشريعة، وللمفاهيم العامة للإسلام، وللمنهج في التفكير والمنهج في السلوك والمنهج في حركة المسؤولية.

كان الحكم الأموي يريد أن يبعد الناس عن الجانب الثقافي، ولذلك، عندما ندرس عهد معاوية وعهد يزيد، ومرحلة ما بعدهم، فإننا لا نجد أنّ هناك تخطيطاً ثقافياً للدولة، بحيث إنها تشجّع الحركة الثقافية الحضارية، لذلك استطاع الأمويون بفعل هذا النوع من الحصار الثقافي، جعل عقول المسلمين فارغة، حتى إن الكثيرين منهم نسوا الثقافة التي كان يثقفهم بها أمير المؤمنين علي(ع)، الذي كان يتألم لأنه يملك العلم كلّه، لقوله: "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، يفتح لي من كلّ باب ألف باب"، والذي قال رسول الله فيه: "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها"، وكان هو نفسه يقول: "سلوني قبل أن تفقدوني، فإني بطرق السماء أعرف مني بطرق الأرض"، وينطلق إنسان تافه ليقول له: كم شعرة في رأسي؟ وكان يقول وهو يخرج إلى ظهر الكوفة، ويتألم ويتأوّه: "إنّ ها هنا" ويشير إلى صدره "لعلماً جماً لو وجدت له حملة".

أرجع فأقول: كانت الخطة هي تجهيل المسلمين، لأنّ أمثال معاوية وأمثال يزيد لا يمكن أن يسيطروا على مجتمع يملك وعي العلم وسعة المعرفة وعمق التقوى وأصالة المسؤولية وامتدادها.. لذلك، بدأ الإمام زين العابدين(ع) حركته الفكرية العلمية كأوسع ما تكون الحركة، مما يبعد الفكرة التي تقول إنّ أسلوب زين العابدين(ع) كان أسلوب الدّعاء فحسب.

شهادات معاصريه:

لنقرأ شهادات الذين كانوا في عصره أو قريباً من عصره، قال (الزهري)، وهو من كبار رجال الثقافة في ذلك العصر، ولم يكن شيعياً، وكان مصاحباً للإمام زين العابدين(ع)، حتى إنه يروي عنه الكثير، قال الزهري: "ما رأيت هاشمياً أفضل من عليّ بن الحسين ولا أفقه منه"، وقال في كلام آخر: "ما رأيت قرشيّاً أفضل منه"، وقال الإمام مالك: "سمي زين العابدين لكثرة عبادته"، وقال سفيان بن عيينة: "ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه". وعدّ الإمام الشافعي علي بن الحسين "أفقه أهل المدينة". حتى إن بعض خلفاء بني أمية قالوا، كما ذكر ذلك عن عبد الملك بن مروان وهو يخاطب الإمام زين العابدين: "ولقد أوتيت من العلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك قبلك، إلا من مضى من سلفك من أجدادك وآبائك".

كما نجد أنّ بعض القرّاء يقول: "كان القرّاء لا يخرجون إلى مكّة إلا إذا خرج معهم زين العابدين، وانتظروه في وقت حتى خرج، فخرج معه ألف راكب من القرّاء". لذلك لم نجد في مجتمعه أو في مرحلته أي شخص يمكن أن يتحدث عنه بطريقة سلبية. وقد ذكر عنه الزهري، وقد سأله شخص: هل لقيت علي بن الحسين(ع)؟ يقول: "لقيت علي بن الحسين، وما لقيت أحداً أفضل منه، والله ما علمت له صديقاً في السرّ ولا عدواً في العلانية، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأني لم أجد أحداً وإن كان يحبّه، إلا وهو لشدّة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه، إلا وهو لشدّة مداراته له يداريه".

تراثه المتنوّع:

كما لاحظنا من خلال التراث الذي تركه الإمام زين العابدين(ع) في مختلف ألوان المعرفة في ذلك العصر، سواء في جوانب العقيدة، أو في جوانب الفقه وفي الجوانب الأخلاقية، وفيما كان يُثار من بعض المشاكل والمفاهيم القلقة في الواقع الإسلامي، لقد ملأ الحياة الإسلامية علماً، وإذا كنّا نحدّق بالناس الذين رووا عنه وأخذوا منه، فإننا نرى أن فيهم المؤرخين ومنهم (الطبري)، وأنّ هناك المؤلفين في المواعظ، وأنّ هناك الكثير من الفقهاء، حتى قال (الشيخ المفيد): "لقد أخذ الفقهاء من عليّ بن الحسين ما لم يحصَ من الفقه"، ما يعني أننا لو أردنا أن ندرس حجم تلامذته، فإننا نجد أنهم كانوا يمثلون النخبة في تلك المرحلة من ناحية فنون المعرفة الإسلامية، ولذلك استطاع الإمام أن يقوم بثورة ثقافية ـ كما نعبّر هذه الأيام، بحيث استطاع أن يجعل المجتمع الإسلامي يختزن ثقافة الإسلام من جديد، وبذلك كان الامتداد لآبائه في هذا الاتجاه.

ولاحظ(ع) من خلال التجربة التي عاشها مع الإمام الحسين(ع) في كربلاء، مع هؤلاء الذين أعطوه مواثيقهم وجرّدوا سيوفهم ليقتلوه، حيث عبّر عنهم الفرزدق أبلغ تعبير وقال: "إنّ قلوبهم معك وسيوفهم عليك"، لماذا ذلك إذا كانت قلوبهم معك، فكيف سمحت قلوبهم لسيوفهم أن تجرّد لتقتل هذا المحبوب الذي يعيش في أعماق القلب حباً؟ ليس ذلك إلا لأنّ الشيطان أعمى بصيرتهم، ولأن أطماعهم جعلتهم يفضلون شهواتهم ورغباتهم على مبادئهم، وليس ذلك إلا من جهة أنهم {نسوا الله فأنساهم أنفسهم}، وإلا من جهة أنهم ابتعدوا عن خطّ التقوى، وأنهم لم يعيشوا روحانية الإسلام، ولم يعيشوا معنى الابتهال لله والذّوبان له والإحساس بحضوره سبحانه وتعالى.

منهج الدّعاء:

وبذلك، كان الدّعاء هو المنهج الذي تركه الإمام زين العابدين(ع)، وكان يمارسه أمام الناس. هناك فرق بين أن تكتب دعاءً وتقدمه للناس، وبين أنك تعيش هذا الدعاء في نفسك وتتحدّث وتبتهل إلى الله به والناس من حولك، إنك بذلك تعطيهم إيحاءً من خلال هذا الجوّ الروحاني الذي ينطلق من دعاء شخص كزين العابدين(ع)، كيف يكون دعاؤه كدعاء أبيه عندما دعا في يوم عرفة.. وقال الراوي: لقد شعرنا بأن كل من حولنا وما حولنا يبكي خوفاً من الله سبحانه وتعالى، ولذلك استطاع الإمام زين العابدين(ع) أن يموّن تلك المرحلة بهذه الثروة الدعائية المتنوعة التي تقتحم على الإنسان كلّ حياته، فنراه، في أية حالة فردية أو اجتماعية عامّة أو خاصّة، يدعو الله سبحانه وتعالى.

ونجد في (الصحيفة السجادية)، وفيما تركه الإمام زين العابدين(ع) من الدعاء خارج الصحيفة السجادية، كدعاء أبي حمزة الثمالي وما إلى ذلك، نجد أنّ هذا الدعاء يشمل كلّ ما يحتاجه الإنسان وما يطلبه من الله سبحانه وتعالى، ولو قرأنا أدعية الإمام زين العابدين، لرأينا أنها ليست مجرّد أدعية ابتهالية روحية في المطلق، ولكنّها أدعية مثقّفة، باعتبار أنها تشتمل على الكثير من المفاهيم الإسلاميّة في الواقع الداخلي للإنسان، وفي الواقع الخارجي له، وفي علاقته بأقرب الناس إليه، وبأبعد الناس عنه، في نظرته إلى المال، وفي وظيفته، ونظرته إل أهل المال ومكانتهم، ونظرته إلى الفقراء وإلى الأغنياء، ونظرته إلى قضيّة العدل والظلم، ونظرته إلى التخطيط في الزمن، كيف يكون زمناً إسلامياً، ونظرته إلى حالة الصراع بين المسلمين وغيرهم، فيقف من أجل أن يدعو لأهل الثغور، بالرغم من أنهم لم يكونوا من شيعته، لأن قضية الإسلام كانت كل قضيته.

ومن هنا، ملأ الإمام زين العابدين(ع) هذا الفراغ الروحي بكلّ هذا الامتلاء والغنى الروحي، ولانزال نتغذى من مائدة هذا الإمام العظيم في الصحيفة السجادية وغيرها، ونشعر كما لو كانت هذه الأدعية هي أدعية مرحلتنا، لأنها ليست أدعية زمن معيّن أو شخص معيّن، ولكنها أدعية الإنسان كله والحياة كلها.

رسالة الحقوق:

وقد عاش الإمام زين العابدين(ع) في مجتمعه، فرأى أن مشكلة المجتمع هو أن الله فرض حقوقاً للناس وفرض حقوقاً على الناس، سواء في المستويات العامة أو الخاصة، كحقوق الحاكم والمحكوم، وحقوق الأب والأم والأولاد، وحقوق الجسد في كل حواسّه، وحقوق المجتمع في حركته الثقافية، كحقوق المعلم والمتعلم والقاضي.

وقد أراد(ع) أن يثقف الأمة بالحقوق الشرعية التي تترتب على كل إنسان تجاه الإنسان الآخر، حتى يتوازن الناس في علاقاتهم ببعضهم البعض، بحيث يعرف كل إنسان عندما يعيش مع أبيه وأمه، ومع أولاده وزوجته، والزوجة مع زوجها، والمحكوم مع الحاكم ومع القاضي، والمعلم والمتعلم والمسلمين كافة، ومع أهل الذمة، حتى يعرف الإنسان ما له وما عليه.

ولعلّ مشكلة الناس ـ أيها الأحبة ـ في العالم على مستوى الدول والشعوب والعلاقات الفردية، هي أنهم لا يعيشون التوازن فيما لهم وفيما عليهم، لأن بعض الناس يرى أن له الحق على الناس وليس للناس حق عليه، ومن هنا يبدأ الاهتزاز.

ففي الحياة الزوجية، قد يعتقد الزوج أن له كل الحق على زوجته، وليس لزوجته حق عليه، وبذلك يختلّ التوازن، وقد يتصوّر الأب أن له كل الحق على أولاده، وليس لأولاده الحق عليه، أو يتصوّر الحاكم أن له كل الحق على شعبه، وليس لشعبه حق عليه. وما إلى ذلك. فمشكلة الإنسانية ـ منذ أن كانت ولحدّ الآن ـ هي مشكلة الناس الذين يعتبرون أنّ لهم وحدهم الحقّ وليس عليهم أيّ حقّ.

وعلى هذا، كان الإمام زين العابدين(ع) يحدّد في (رسالة الحقوق) لكل إنسان ما له من الحق وما عليه من الحق، وأعتقد أنّ من الضروري لكل إنسان ـ ولا أقول لكلّ مسلم أو شيعي ـ أن يعتبر رسالة الحقوق رسالته التي يقرأ فيها صباح مساء، حتى يوازن حركته في المجتمع أو مع نفسه، وقبل ذلك، حركته مع ربه، ليعرف حقّ ربّه عليه، وحقه الذي فرضه الله على نفسه له، وحقّ جسده عليه وما إلى ذلك.

قرآن يتحرك:

وكان الإمام زين العابدين(ع) قرآناً يتحرك، فكان يحدّث عن العفو، وكان يمارس العفو كأصفى وأعمق ما يكون، وكان يتحدث عن عتق العبيد وتحريرهم، وكان يبذل أكثر ماله في ذلك بعد أن يربيهم تربية إسلامية، وبعد أن يرتفع بإنسانيّتهم، وبعد أن يشعرهم بأنه هو وإياهم سواء، ليس له أية ميزة عليهم، وهو الذي له الميزة كلها وعلى الناس كافة من خلال قربه من الله تعالى.

أيها الأحبة، إن زين العابدين(ع) استطاع أن يملأ المرحلة التي عاشها علماً وروحاً وثقافةً وأخلاقاً وقدوةً، بحيث كان التجسيد للإسلام كله، حتى إنه عندما أرادنا أن نحبّه وأن نحبّ أهل بيته، قال: "أحبّونا حبّ الإسلام". وبذلك نستطيع أن نقول إنّ الإمام زين العابدين(ع) استطاع أن يملأ مرحلته الثقافية والروحية والفقهية والحركية بما مهّد لمرحلة الإمامين الباقر والصادق(ع)، فلم يأتِ الإمام الباقر(ع) من فراغ، ولم يأتِ الإمام الصادق(ع) من فراغ، بل جاءا وقد فرش لهما الإمام زين العابدين(ع) الأرض كلها، بما يجعل مهمتهم أكثر سهولةً وواقعيةً وامتداداً، فلا تتصوّروا الإمام زين العابدين(ع) في موقع الإنسان الذي لا يعرف إلا أن يبكي، ولكن في موقع الإنسان الذي يعرف القيام بالمسؤولية كلّها.

وفي نهاية المطاف، قولوا للذين يتحدثون عن زين العابدين(ع) بلهجة الذلّ، إنه كان يقول: "ما أحبّ أن يكون لي بذلّ نفسي حمر النعم"، فلقد كان العزيز بعزّة الله، وهو القائل: "واعصمني من أن أظنّ بذي عدم خساسة، أو أظنّ بصاحب ثروة فضلاً، فإنّ الشريف من شرّفته طاعتك، والعزيز من أعزّته عبادتك".

ونبقى مع زين العابدين(ع) ومع أهل البيت(ع)، لأنهم أهل بيت النبوّة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي والتنزيل، ولأنهم الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً. فتعالوا لنعيش معهم جميعاً، حتى نذهب عن عقولنا الكثير من رجس الباطل، وعن قلوبنا الكثير من رجس الحقد، وعن حياتنا الكثير من رجس المعصية لله، لنعيش طهارة الإسلام في طهارتهم.

*كتاب النّدوة ، ج 4.

بدأ الإمام زين العابدين(ع) حركة إمامته، فعمل على أن يحيط بالمشكلة الموجودة في الواقع الإسلامي من كل جوانبها، وكانت المسألة المطروحة في الساحة الإسلامية منذ بداية الحكم الأموي، هي إبعاد المسلمين عن الأسس الإسلامية الفكرية الثقافية للعقيدة وللشريعة، وللمفاهيم العامة للإسلام، وللمنهج في التفكير والمنهج في السلوك والمنهج في حركة المسؤولية.

كان الحكم الأموي يريد أن يبعد الناس عن الجانب الثقافي، ولذلك، عندما ندرس عهد معاوية وعهد يزيد، ومرحلة ما بعدهم، فإننا لا نجد أنّ هناك تخطيطاً ثقافياً للدولة، بحيث إنها تشجّع الحركة الثقافية الحضارية، لذلك استطاع الأمويون بفعل هذا النوع من الحصار الثقافي، جعل عقول المسلمين فارغة، حتى إن الكثيرين منهم نسوا الثقافة التي كان يثقفهم بها أمير المؤمنين علي(ع)، الذي كان يتألم لأنه يملك العلم كلّه، لقوله: "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، يفتح لي من كلّ باب ألف باب"، والذي قال رسول الله فيه: "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها"، وكان هو نفسه يقول: "سلوني قبل أن تفقدوني، فإني بطرق السماء أعرف مني بطرق الأرض"، وينطلق إنسان تافه ليقول له: كم شعرة في رأسي؟ وكان يقول وهو يخرج إلى ظهر الكوفة، ويتألم ويتأوّه: "إنّ ها هنا" ويشير إلى صدره "لعلماً جماً لو وجدت له حملة".

أرجع فأقول: كانت الخطة هي تجهيل المسلمين، لأنّ أمثال معاوية وأمثال يزيد لا يمكن أن يسيطروا على مجتمع يملك وعي العلم وسعة المعرفة وعمق التقوى وأصالة المسؤولية وامتدادها.. لذلك، بدأ الإمام زين العابدين(ع) حركته الفكرية العلمية كأوسع ما تكون الحركة، مما يبعد الفكرة التي تقول إنّ أسلوب زين العابدين(ع) كان أسلوب الدّعاء فحسب.

شهادات معاصريه:

لنقرأ شهادات الذين كانوا في عصره أو قريباً من عصره، قال (الزهري)، وهو من كبار رجال الثقافة في ذلك العصر، ولم يكن شيعياً، وكان مصاحباً للإمام زين العابدين(ع)، حتى إنه يروي عنه الكثير، قال الزهري: "ما رأيت هاشمياً أفضل من عليّ بن الحسين ولا أفقه منه"، وقال في كلام آخر: "ما رأيت قرشيّاً أفضل منه"، وقال الإمام مالك: "سمي زين العابدين لكثرة عبادته"، وقال سفيان بن عيينة: "ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه". وعدّ الإمام الشافعي علي بن الحسين "أفقه أهل المدينة". حتى إن بعض خلفاء بني أمية قالوا، كما ذكر ذلك عن عبد الملك بن مروان وهو يخاطب الإمام زين العابدين: "ولقد أوتيت من العلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك قبلك، إلا من مضى من سلفك من أجدادك وآبائك".

كما نجد أنّ بعض القرّاء يقول: "كان القرّاء لا يخرجون إلى مكّة إلا إذا خرج معهم زين العابدين، وانتظروه في وقت حتى خرج، فخرج معه ألف راكب من القرّاء". لذلك لم نجد في مجتمعه أو في مرحلته أي شخص يمكن أن يتحدث عنه بطريقة سلبية. وقد ذكر عنه الزهري، وقد سأله شخص: هل لقيت علي بن الحسين(ع)؟ يقول: "لقيت علي بن الحسين، وما لقيت أحداً أفضل منه، والله ما علمت له صديقاً في السرّ ولا عدواً في العلانية، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأني لم أجد أحداً وإن كان يحبّه، إلا وهو لشدّة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه، إلا وهو لشدّة مداراته له يداريه".

تراثه المتنوّع:

كما لاحظنا من خلال التراث الذي تركه الإمام زين العابدين(ع) في مختلف ألوان المعرفة في ذلك العصر، سواء في جوانب العقيدة، أو في جوانب الفقه وفي الجوانب الأخلاقية، وفيما كان يُثار من بعض المشاكل والمفاهيم القلقة في الواقع الإسلامي، لقد ملأ الحياة الإسلامية علماً، وإذا كنّا نحدّق بالناس الذين رووا عنه وأخذوا منه، فإننا نرى أن فيهم المؤرخين ومنهم (الطبري)، وأنّ هناك المؤلفين في المواعظ، وأنّ هناك الكثير من الفقهاء، حتى قال (الشيخ المفيد): "لقد أخذ الفقهاء من عليّ بن الحسين ما لم يحصَ من الفقه"، ما يعني أننا لو أردنا أن ندرس حجم تلامذته، فإننا نجد أنهم كانوا يمثلون النخبة في تلك المرحلة من ناحية فنون المعرفة الإسلامية، ولذلك استطاع الإمام أن يقوم بثورة ثقافية ـ كما نعبّر هذه الأيام، بحيث استطاع أن يجعل المجتمع الإسلامي يختزن ثقافة الإسلام من جديد، وبذلك كان الامتداد لآبائه في هذا الاتجاه.

ولاحظ(ع) من خلال التجربة التي عاشها مع الإمام الحسين(ع) في كربلاء، مع هؤلاء الذين أعطوه مواثيقهم وجرّدوا سيوفهم ليقتلوه، حيث عبّر عنهم الفرزدق أبلغ تعبير وقال: "إنّ قلوبهم معك وسيوفهم عليك"، لماذا ذلك إذا كانت قلوبهم معك، فكيف سمحت قلوبهم لسيوفهم أن تجرّد لتقتل هذا المحبوب الذي يعيش في أعماق القلب حباً؟ ليس ذلك إلا لأنّ الشيطان أعمى بصيرتهم، ولأن أطماعهم جعلتهم يفضلون شهواتهم ورغباتهم على مبادئهم، وليس ذلك إلا من جهة أنهم {نسوا الله فأنساهم أنفسهم}، وإلا من جهة أنهم ابتعدوا عن خطّ التقوى، وأنهم لم يعيشوا روحانية الإسلام، ولم يعيشوا معنى الابتهال لله والذّوبان له والإحساس بحضوره سبحانه وتعالى.

منهج الدّعاء:

وبذلك، كان الدّعاء هو المنهج الذي تركه الإمام زين العابدين(ع)، وكان يمارسه أمام الناس. هناك فرق بين أن تكتب دعاءً وتقدمه للناس، وبين أنك تعيش هذا الدعاء في نفسك وتتحدّث وتبتهل إلى الله به والناس من حولك، إنك بذلك تعطيهم إيحاءً من خلال هذا الجوّ الروحاني الذي ينطلق من دعاء شخص كزين العابدين(ع)، كيف يكون دعاؤه كدعاء أبيه عندما دعا في يوم عرفة.. وقال الراوي: لقد شعرنا بأن كل من حولنا وما حولنا يبكي خوفاً من الله سبحانه وتعالى، ولذلك استطاع الإمام زين العابدين(ع) أن يموّن تلك المرحلة بهذه الثروة الدعائية المتنوعة التي تقتحم على الإنسان كلّ حياته، فنراه، في أية حالة فردية أو اجتماعية عامّة أو خاصّة، يدعو الله سبحانه وتعالى.

ونجد في (الصحيفة السجادية)، وفيما تركه الإمام زين العابدين(ع) من الدعاء خارج الصحيفة السجادية، كدعاء أبي حمزة الثمالي وما إلى ذلك، نجد أنّ هذا الدعاء يشمل كلّ ما يحتاجه الإنسان وما يطلبه من الله سبحانه وتعالى، ولو قرأنا أدعية الإمام زين العابدين، لرأينا أنها ليست مجرّد أدعية ابتهالية روحية في المطلق، ولكنّها أدعية مثقّفة، باعتبار أنها تشتمل على الكثير من المفاهيم الإسلاميّة في الواقع الداخلي للإنسان، وفي الواقع الخارجي له، وفي علاقته بأقرب الناس إليه، وبأبعد الناس عنه، في نظرته إلى المال، وفي وظيفته، ونظرته إل أهل المال ومكانتهم، ونظرته إلى الفقراء وإلى الأغنياء، ونظرته إلى قضيّة العدل والظلم، ونظرته إلى التخطيط في الزمن، كيف يكون زمناً إسلامياً، ونظرته إلى حالة الصراع بين المسلمين وغيرهم، فيقف من أجل أن يدعو لأهل الثغور، بالرغم من أنهم لم يكونوا من شيعته، لأن قضية الإسلام كانت كل قضيته.

ومن هنا، ملأ الإمام زين العابدين(ع) هذا الفراغ الروحي بكلّ هذا الامتلاء والغنى الروحي، ولانزال نتغذى من مائدة هذا الإمام العظيم في الصحيفة السجادية وغيرها، ونشعر كما لو كانت هذه الأدعية هي أدعية مرحلتنا، لأنها ليست أدعية زمن معيّن أو شخص معيّن، ولكنها أدعية الإنسان كله والحياة كلها.

رسالة الحقوق:

وقد عاش الإمام زين العابدين(ع) في مجتمعه، فرأى أن مشكلة المجتمع هو أن الله فرض حقوقاً للناس وفرض حقوقاً على الناس، سواء في المستويات العامة أو الخاصة، كحقوق الحاكم والمحكوم، وحقوق الأب والأم والأولاد، وحقوق الجسد في كل حواسّه، وحقوق المجتمع في حركته الثقافية، كحقوق المعلم والمتعلم والقاضي.

وقد أراد(ع) أن يثقف الأمة بالحقوق الشرعية التي تترتب على كل إنسان تجاه الإنسان الآخر، حتى يتوازن الناس في علاقاتهم ببعضهم البعض، بحيث يعرف كل إنسان عندما يعيش مع أبيه وأمه، ومع أولاده وزوجته، والزوجة مع زوجها، والمحكوم مع الحاكم ومع القاضي، والمعلم والمتعلم والمسلمين كافة، ومع أهل الذمة، حتى يعرف الإنسان ما له وما عليه.

ولعلّ مشكلة الناس ـ أيها الأحبة ـ في العالم على مستوى الدول والشعوب والعلاقات الفردية، هي أنهم لا يعيشون التوازن فيما لهم وفيما عليهم، لأن بعض الناس يرى أن له الحق على الناس وليس للناس حق عليه، ومن هنا يبدأ الاهتزاز.

ففي الحياة الزوجية، قد يعتقد الزوج أن له كل الحق على زوجته، وليس لزوجته حق عليه، وبذلك يختلّ التوازن، وقد يتصوّر الأب أن له كل الحق على أولاده، وليس لأولاده الحق عليه، أو يتصوّر الحاكم أن له كل الحق على شعبه، وليس لشعبه حق عليه. وما إلى ذلك. فمشكلة الإنسانية ـ منذ أن كانت ولحدّ الآن ـ هي مشكلة الناس الذين يعتبرون أنّ لهم وحدهم الحقّ وليس عليهم أيّ حقّ.

وعلى هذا، كان الإمام زين العابدين(ع) يحدّد في (رسالة الحقوق) لكل إنسان ما له من الحق وما عليه من الحق، وأعتقد أنّ من الضروري لكل إنسان ـ ولا أقول لكلّ مسلم أو شيعي ـ أن يعتبر رسالة الحقوق رسالته التي يقرأ فيها صباح مساء، حتى يوازن حركته في المجتمع أو مع نفسه، وقبل ذلك، حركته مع ربه، ليعرف حقّ ربّه عليه، وحقه الذي فرضه الله على نفسه له، وحقّ جسده عليه وما إلى ذلك.

قرآن يتحرك:

وكان الإمام زين العابدين(ع) قرآناً يتحرك، فكان يحدّث عن العفو، وكان يمارس العفو كأصفى وأعمق ما يكون، وكان يتحدث عن عتق العبيد وتحريرهم، وكان يبذل أكثر ماله في ذلك بعد أن يربيهم تربية إسلامية، وبعد أن يرتفع بإنسانيّتهم، وبعد أن يشعرهم بأنه هو وإياهم سواء، ليس له أية ميزة عليهم، وهو الذي له الميزة كلها وعلى الناس كافة من خلال قربه من الله تعالى.

أيها الأحبة، إن زين العابدين(ع) استطاع أن يملأ المرحلة التي عاشها علماً وروحاً وثقافةً وأخلاقاً وقدوةً، بحيث كان التجسيد للإسلام كله، حتى إنه عندما أرادنا أن نحبّه وأن نحبّ أهل بيته، قال: "أحبّونا حبّ الإسلام". وبذلك نستطيع أن نقول إنّ الإمام زين العابدين(ع) استطاع أن يملأ مرحلته الثقافية والروحية والفقهية والحركية بما مهّد لمرحلة الإمامين الباقر والصادق(ع)، فلم يأتِ الإمام الباقر(ع) من فراغ، ولم يأتِ الإمام الصادق(ع) من فراغ، بل جاءا وقد فرش لهما الإمام زين العابدين(ع) الأرض كلها، بما يجعل مهمتهم أكثر سهولةً وواقعيةً وامتداداً، فلا تتصوّروا الإمام زين العابدين(ع) في موقع الإنسان الذي لا يعرف إلا أن يبكي، ولكن في موقع الإنسان الذي يعرف القيام بالمسؤولية كلّها.

وفي نهاية المطاف، قولوا للذين يتحدثون عن زين العابدين(ع) بلهجة الذلّ، إنه كان يقول: "ما أحبّ أن يكون لي بذلّ نفسي حمر النعم"، فلقد كان العزيز بعزّة الله، وهو القائل: "واعصمني من أن أظنّ بذي عدم خساسة، أو أظنّ بصاحب ثروة فضلاً، فإنّ الشريف من شرّفته طاعتك، والعزيز من أعزّته عبادتك".

ونبقى مع زين العابدين(ع) ومع أهل البيت(ع)، لأنهم أهل بيت النبوّة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي والتنزيل، ولأنهم الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً. فتعالوا لنعيش معهم جميعاً، حتى نذهب عن عقولنا الكثير من رجس الباطل، وعن قلوبنا الكثير من رجس الحقد، وعن حياتنا الكثير من رجس المعصية لله، لنعيش طهارة الإسلام في طهارتهم.

*كتاب النّدوة ، ج 4.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية