العلاقة مع الله

العلاقة مع الله

لقد مثّل الإمام الحسن (ع) الكمال النبوي والعَلوي والفاطمي، بحيث كان روحاً تتحرّك في الواقع.. وتعالوا نستمع إلى بعض حالاته الروحية الّتي يحدّثنا بها بعض المؤرخين، فقد ورد عنه أنّه كان إذا توضَّأ ارتعدت فرائصه واصفرَّ لونه، وقيل له في ذلك، فقال: حقٌ على كُلِّ مَنْ وقف بين يدي ربِّ العرش أن يصفرّ لونه وترتعد فرائصه.

وكان إذا دخل المسجد ووقف ببابه مستأذناً، رفع رأسه وقال: «ضيفُك ببابك، يا محسنُ قد أتاكَ المَسيء، فتجاوزْ عن قَبيحِ ما عندَنا بجميلِ ما عندَك يا كرَيم».

وكان (ع) عندما يرى الناس يتطلّبون الهيبة باستعراضات العضلات، واستعراضات الناس الذين يمشون خلفهم، أو الذين يريدون العزّة بالكافرين والمنافقين، والقُربَ من الطغاة والمستكبرين، كان يقول لهم: «مَنْ أراد عِزّاً بلا عشيرة وهيبةً بلا سلطانٍ، فلينتقلْ من ذلّ معصيةِ اللَّهِ إلى عزِّ طاعته»، أي كن المطيع لله، ليعطك الله هيبةً من هيبته، وكن المتقي لله ليعطيك الله عزّاً من عزته.

هذا ما عبّر عنه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع)، حيث علمهم واحد وخطُّهم واحد، فكان يقول:

«واعصمني يا ربّ من أن أظنَّ بِذي عَدَم _ أي فقير _ خَسَاسةً، أو أظنَّ بصاحب ثروة فَضْلاً، فإنَّ الشريفَ من شرَّفَته طاعتك، والعزيز مَنْ أعزّته عبادتُك».

فالذي يطيعك يقرُب إليك ويكون عزيزاً عندك، وأي عِزٍّ أعظمُ من أن تكون قريباً لربِّ العالمين، وأيُّ شرَفٍ أعظمُ من أن تكون حبيباً لربِّ العالمين، فالله يحبُّ الذي يطيعونه {قًلْ إنْ كُنْتُمْ تُحبُّون الله فاتّبعوني _ في رسالة الله وطاعته _يُحْبِبْكُمْ الله} (آل عمران/31).

ومَنْ حصل على حبِّ الله ربِّ العالمين المهيمن على الأمر كلِّه الّذي هو على كُلِّ شيء قدير، فأيُّ عزيز أعزُّ منه، فالبعيدون عن حبِّه ورحمته، قال فيهم تعالى:

{بَشِّرِ المنافقينَ بأنَّ لَهُمْ عَذاباً أليماً* الذين يتَّخذون الكافرِين أولياءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنين أيَبْتَغُون عِنْدَهُم العِزَّةَ فإنَّ العِزَّةَ لله جميعاً} (النساء/138-139).

فلا عزَّ إلاَّ من خلال عزِّ الله.

لننظر إلى صورة موجزة عن الإمام الحسن (ع)، حيث يصوّره ابن أخيه الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) من خلال ما رواه الصادق، عن أبيه الباقر، عن أبيه علي بن الحسين (ع)، ومن الطبيعي أن الإمام زين العابدين عندما يصف عمه، فإنها الصورة الصادقة الّتي تجعلك تتصوّره كما لو كنت تراه، فكيف وصَفَه؟

يقول الإمام زين العابدين (ع):

«كان أعبدَ الناسِ في زمانِه وأزهدَهم وأفضلَهم، كان إذا حجّ حجّ ماشياً، وربّما مشَى حافياً، وكان إذا ذَكَر الموتَ بكى، وإذا ذَكَر القبرَ بكى، وإذا ذَكر البعثَ والنشورَ بكى، وإذا ذَكر الممرَّ على الصراط بَكى، وإذا ذَكَر العَرضَ على اللَّهَ تعالى ذِكرُه شَهقَ شَهقةً يُغشى عليهِ منها.

وكان إذا قامَ في صلاتهِ ترتعدُ فرائِصُهُ بينَ يدي ربِّه عزّ وجلّ، وكان إذا ذكَر الجنّةَ والنارَ اضطربَ اضطرابَ السليمِ وسألَ اللَّهَ الجنّةَ وتعوّذ منَ النارِ، وكان لا يقرأ منْ كتابِ اللَّهِ عزّ وجلّ: {يا أيها الذين آمنوا} إلاّ قال: لبّيك اللّهمّ لبّيك _ لأنّه يتحسس أن الله يناديه كما لو كان يلقي النداء إليه الآن _ ولم يُرَ في شيء من أحوالِه إلاّ ذاكِراً للَّهِ سبحانه».

إنّ هذه الصورة المتمثّلة في هذا الحديث تنفتح بنا على عمق الجانب الروحي في علاقة الإمام (ع) بالله، بحيث تتحوَّل العبادة لديه في معناها الواسع العميق الّذي يمتد إلى كل حياة الإنسان لتكون ذكراً لله: في الكلمة تارةً، وفي الصلاة والصوم والحج تارةً، وفي المواقف الصعبة الّتي تجسّد التضحية في سبيل الله بكلِّ شيء، والمواجهة الصلبة لكل التحديات المتحركة ضد الإسلام بكلِّ قوة، والعطاء الّذي يشمل كل ما يملك، حتّى إنه خرج من ماله مرتين، وقاسم الله تعالى ماله ثلاث مرات.

وكذلك التحرّك في حلِّ مشاكل الناس وقضاء حاجاتهم وهداية ضالهّم، وتعليم جاهلهم وتقوية ضعيفهم، فإنّ ذلك كلّه يمثّل معنى العبادة في سرِّ الخضوع لله في كلِّ شيء، بحيث يرى الله أمامه ليطيعهُ في ما يأمره به، أو ينهاه عنه وليبلغ بذلك رضوانه.

لقد كان الإمام الحسن (ع) يريد أن يعرِّف الناس من خلال البكاء هنا والبكاء هنا، أنّ على الإنسان إذا تذكّر الموت أن لا يتذكّره تذكّر الغافلين، وإذا ذكر القبر أن لا يتذكّره تذكّر اللامبالين، وإذا ذكر المرور على الصراط والوقوف بين يدي الله والجنة أو الناس أن لا يمرّ على ذلك مرور الكرام، أن يبكي بكاء الوعي لا بكاء السقوط.

كان (ع) يريد للناس أن يعيشوا مع أنفسهم عندما يتذكَّرون النهاية والمصير، وهذا ما علّمنا الله إياه وذكّرنا به: {يا أيَّها النّاسُ اتّقُوا ربَّكم إنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَة شيءٌ عظيمٌ* يوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أرْضَعَتْ وتَضَعُ كُلُّ ذات حَمْلٍ حَمْلَها وترى النَّاسَ سُكارى وما هُمْ بِسُكَارى ولَكِنَّ عَذابَ الله شديدٌ} (الحج/1-2).

وهكذا علينا إذا قرأنا القرآن في يا أيُّها الذين أمنوا، ويا أيِّها الناس، أن نتصوّر أن الله يخاطبنا كما لو كان ينـزل الوحي علينا.

لنتصوّر أنّ الله ينادينا: {يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا اتّقُوا الله ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قدَّمَتْ لغَد} (الحشر/18).

{يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا قُوا أنْفُسَكم وأهْليكُمْ ناراً وقُودُها النَّاسُ والحِجارة} (التحريم/6).

لنقل لربّنا بكلِّ وعي عقولنا ونبضات قلوبنا: لَبّيكَ اللّهمّ لبّيكَ، لبيك لا شريك لك لَبّيك، إننا سوف نستجيب لك قولاً وعملاً ومنهجاً في كل ما تنادينا به، ذلك هو ما يريدنا أهل البيت أن نعيشه في أنفسنا وحياتنا، وذلك هو خط أهل البيت (ع).

وهكذا كان الإمام الحسن (ع) يتمثّل رحلة الإنسان إلى الآخرة في وجدانه، ليذكّر الناس من حوله بها، ابتداءً من الموت الّذي يمثّل نهاية الحياة، والّتي تجسّد نهاية العمل الّذي يعني انتهاء الفرصة الّتي كان الإنسان يملكها في خط الحصول على رضا الله، ومن ثم النشور في يوم الحشر، {يوم يفرّ المرء من أخيه* وأُمه وأبيه* وصاحبته وبنيه* لكلِّ امرىءٍ منهم يومئذٍ شأن يغنيه} (عبس/34-37).

{يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلاّ* من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء/88-89).

{واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئاً} (لقمان/33).

{يومَ لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً والأمرُ يومئذ لله} (الانفطار/19).

إلى المرور على الصراط الّذي يمثل الامتحان في القدرة على اجتيازه من خلال الصالحات من أعماله، إلى العرض على الله، فينطلق النداء من قبل الله تعالى في ذلك الموقف: {وَقِفوهم إنهم مسؤولون} (الصافات/24). {يومَ تأتي كلُّ نفسٍ تُجادل عن نفسها وتُوَفّى كل نفس ما عَمِلَت وهم لا يظلمون} (النحل/111).

فيبكي أمام هذهِ المواقع الّتي تقرر مصير الإنسان، ليتحوَّل البكاء إلى حالة من التأمل والتدبر في مصيره يوم الآخرة، ليستعدَّ لذلك بالإيمان والعمل الصالح والجد والاجتهاد في طاعة الله والانفتاح عليه، فلا يُرضي مخلوقاً بسخط الخالق، ولا يطيع أحداً في معصية الله، بل يكون كلُّ شعاره ما قاله رسول الله (ص): «إنْ لم يكُنْ بكَ غضبٌ عليّ فلا أبالي».

ثم ينطلق ليعيش معنى عمق النداء الإلهي للمؤمنين {يا أيها الذين آمنوا}، فيشعر بأنّ النداء موجَّه إليه، فيدخل في عقله وقلبه وحياته ليصرخ بكل أعماقه: لَبّيكَ اللّهمّ لَبّيكَ، في عملية إيحائية نفسية بالعزم على الاستجابة العملية في حركة الحياة، في الخط الإلهي المستقيم، في قراءته للقرآن في حالة وعي وتدبر وانفتاح على آياته، بالدرجة الّتي يتجسّد فيها القرآن في كلّ كيانه، فكراً وعملاً وامتزاجاً في كلِّ الخطوط القرآنية في الإنسان والحياة، ويبقى ذكر الله تعالى في الوعي وفي اللسان هو الهاجس في كلِّ حياته.

إنّ الإمام الحسن (ع) ينطلق في ذلك كلِّه، من أجل الإيحاء للناس جميعاً، بأنّ الحياة لا بدَّ من أن تتحرك في واقع الإنسان المسلم، بحيث يعيش الإنسان مسؤوليته في الدنيا والآخرة كَهَمٍّ دائمٍ مستمرٍّ، وينطلق مع الله في حالة إحساسٍ بحضورهِ وبوجوده كما لو كان يراه ويتحسّسهُ أمامه، ليكون ذلك وسيلةً من وسائل الارتباط به، في كلِّ حياته، ليكون الله الأول والآخر في كلِّ مجالاتها وأوضاعها الخاصة والعامة.

وفي هذا الجوّ، نعرف أنّ الإمام الحسن (ع) لم يكن الإنسان الّذي تشغله لذائذ الحياة وشهواتها، بل كان الإنسان الّذي يعيش التوازن الأخلاقي الإسلامي في الحياة، فلا يحرم نفسهُ طيبات الحياة الدنيا، ولا يستغرق فيها، بل يأخذ منها بالمقدار المتوازن.

وعلى ضوء هذا، فإننا لا نتّفق مع بعض الرواة الذين تحدّثوا عن كثرة زوجاته بشكلٍ خيالي، من هؤلاء الذين لا يملكون الوثاقة في السلوك ممن يستغلّهم السلطان لتشويه الصورة بطريقة وبأخرى، كما كان الحكم الأموي الّذي أراد أن يصوّر الإمام الحسن (ع) بالشخص الّذي يستسلم للشهوات، بحيث يعيش حياته ليتزوّج هذه ويطلّق تلك بشكل عشوائي مزاجي، ليقدّم معاوية في مقابله شخصاً جاداً في الموقع القيادي المميّز الّذي يتحرك من أجل إدارة شؤون الناس.

لقد كان الإمام الحسن (ع) يعيش في الموقع الأعلى من السلوك الإسلامي، المشغول بالله وبرضوانه، وبالانفتاح عليه وبالدعوة إليه، وكانت زيجاته في هذه الدائرة الطبيعية الّتي كانت محدودةً بحدود الظروف التي عاشها الواقع آنذاك، مما يسير عليه الناس بشكل طبيعي، ولو كان الأمر كما يقولون لكان أولاده بالمئات، بينما لم يُذكر من أولاده إلاّ ثلاثة عشر ممن يمكن أن يولدوا من أُم واحدة.

ومن خلال ذلك كله، لا بد من التدقيق في الروايات الّتي يرويها لنا المؤرِّخون، فقد تكون من وضع الرواة غير الموثوقين، الذين كانوا يضعون الحديث لإرضاء شهوات السلطات الحاكمة، من خلال ما يدفعونه من أثمان، تماماً كما هي الأخبار الّتي تنقلها الوكالات الإعلامية الّتي تخضع لأكثر من سلطة أو جهاز مخابرات.

السلوك التربوي الرفيع

روي أنّ الحسن والحسين (ع) مرّا على شيخ يتوضأ ولا يحسن الوضوء، فأظهرا تنازعاً يقول كل منهما للآخر: أنت لا تحسن الوضوء، قالا: أيها الشيخ كن حكماً بيننا، أينا يحسن الوضوء؟ فقال الشيخ: كلاكما يحسن الوضوء، لكن هذا الشيخ الجاهل _ وهو يشير إلى نفسه _ هو الّذي لا يحسن الوضوء وقد تعلّم منكما، وتاب على يديكما ببركتكما وشفقتكما على أُمةِ جدكما.

إنّنا نلاحظ في هذه الحادثة، أنّ الإمامين الحسنين (عليهما السلام) كانا يفكران عند رؤيتهما هذا الشيخ الّذي لا يحسن الوضوء مع كبر سنّه، أنّ هذا الرجل لم تسنح له الفرصة للتعلّم بحكم ظروفه البيئية، فأرادا أن يعلّماه وهو لا يعرفهما في البداية من دون إساءةٍ إلى مشاعره، فلم يعنّفاه على إهماله للتعلّم، كما يفعل البعض من الناس في مثل هذهِ الحالة، فما كان منهما إلاّ أن أوحيا له بالاحترام، وطلبا منه أن يكون حَكَماً ليختار بينهما الأفضل منهما في طريقة الوضوء، ما جعله في ملاحظته الدقيقة من خلال شخصه الحَكَم، يفهم أنّ المسألة ليست مسألة خلاف بينهما، بل هي مسألة الأسلوب الحكيم المنفتح على احترام إنسانية الإنسان الآخر في مشروع التربية.

إنّ علينا أن نتعلّم من هذا الأسلوب التربوي الإسلامي في كلِّ مشاريعنا التربوية مع أطفالنا وطلابنا، ومع الناس الذين نتولّى وعظهم وهدايتهم وإرشادهم في المسألة الدينية العقيدية والسلوكية، وفي المسألة السياسية والاجتماعية والثقافية، باعتبار أنّ الإساءة إلى كرامة الإنسان، تجعله يعيش العقدة الّتي تمنعه من الانفتاح على الفكرة التي يُراد هدايتهُ بها.

وروي أنّ الإمام الحسن (ع) مرّ على فقراء وقد وضعوا كسيرات على الأرض وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها، فقالوا له: هلمَّ يابن بنت رسول الله إلى الغداء، فنـزل وقال: «إنّ اللَّهَ لا يُحبُّ المتكبِّرين»، وجعل يأكل معهم، ثم دعاهم إلى ضيافته وأطعمهم وكساهم.

إنّنا نجد في هذا السلوك الأخلاقي الحسنيّ القمة في التواضع، فقد كان الإمام الحسن (ع) في الواقع الاجتماعي في الدرجة العالية من الشرف. فقد روى محمد بن إسحاق قال: ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله (ص) ما بلغ الحسن بن علي، كان يُبسط له على باب داره فإذا خرج وجلس انقطع الطريق، فما يمرّ أحدٌ من خلق الله إجلالاً له، فإذا علم قام ودخل بيته فيمرّ الناس.

قال الراوي: ولقد رأيته في طريق مكة نزل عن راحلته فمشى، فما من خلق الله أحدٌ إلاّ نزل ومشى، حتّى رأيت سعد بن أبي وقاص قد نزل ومشى إلى جنبه.

ومن خلال هذهِ الصورة الّتي تمثلّ مهابة الإمام في نفوس الناس بشكل عام، نعرف كيف كان الإمام يجسّد القيمة الإسلامية العليا في التواضع للفقراء، فيجلس معهم على الأرض ليأكل معهم احتراماً لهم في إيمانهم وإنسانيتهم، تحت تأثير الفكرة الإسلامية الّتي ترى في الشعور بالعلوّ على أمثال هؤلاء من خلال الموقع الاجتماعي، لوناً من ألوان التكبّر، الّذي لا يحب الله الذين يعيشونه في روحية الاستعلاء على الناس. ثم يدعوهم (ع) إلى بيته بكل إكرامٍ وإعزازٍ، للإيحاء إليهم بأنهم لا يفقدون معنى القيمة من خلال فقرهم، بل يتحركون فيها من خلال إنسانيتهم وإيمانهم، وصفاتهم الطيبة في أوضاعهم الخاصة، فيطعمهم ويكسوهم ليدفع عنهم ضائقة الحرمان.

إنّ علينا أن نتعلّم ذلك من الإمام (ع)، لنعيش القيمة الإسلامية في الإحساس بإنسانية الإنسان، لا سيما إذا كان فقيراً مستضعفاً مؤمناً، لأنّ ذلك هو الّذي يجعل المجتمع ينتفع بإحساسهِ بالإنسان الآخر، وابتعاده عن الطبقية الاجتماعية الاستكبارية، الّتي تضطهد الإنسان لفقره ولوِضاعة نسبه وحقارة موقعه، فَتُسقط إنسانيته وتُسيء إلى روحه، وتدفع به إلى الضياع والسقوط.

إنّ علينا أن نتعلّم أنّ ذلك التواضع في قيمة الإنسانية لا ينـزل بموقع الإنسان، بل يرتفع به، لأنّه يوحي إليه بأنّه في قيمته الروحية أكبر من المال والجاه والنسب من حيث إنّه يعيش العمق الإنساني في خصائصه الذاتية.

سَعَة الصدر

وممّا ترويه السيرة عن أخلاقه (ع)، أنَّ شامياً ممن ثقّفهم معاوية على بُغض عليّ وأهل بيته (ع)، وركّز في نفوسهم سبَّ ولعنَ أمير المؤمنين (ع)، وفرضَ على أئمة الجمعة التابعين له هذا الأمر، حيث كان من تقاليد صلاة الجمعة أن يبدأ الخطيب وينتهي بسبِّ عليِّ (ع)، ليقتلوا حبّه من قلوب النّاس، ولكنهم لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً.

وقد قال بعض أئمة المذاهب الأربعة: ما أقول في رجل جَهِد محبُّوه في إخفاء فضائله خوفاً، وجَهِد مُبْغضُوه في إخفاء فضائله حَسَداً، فظهر من بين ذَيْنِ ما ملأ الخافِقَين.

من هؤلاء المبغضين، هذا الشاميُّ الّذي رأى الإمام الحسن (ع) في الطريق، فجعل يلعنه ويشتمه، والحسن (ع) لا يردُّ عليه، فلما فرغ من سبابه وشتائمه، أقبل إليه الحسن وهو مملوء بخطاب الله: {وإذا خاطبهم الجاهِلُون قَالُوا سَلاماً} (الفرقان/63)، فسلَّمَ عليه وتبسّم في وجهه، وقال له: «أيها الشيخ _ ويبدو أنّه كان كبيراً في السن _لو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حمّلناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كانت لك حاجةٌ قضيناها لك، فلو حرّكت رَحْلَكَ إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعودَ عليك، لأنَّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً».

فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنَّك خليفة الله في أرضه، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وحوَّل رحله إليه، وكان ضيفَه إلى أن ارتحل.

لم ينطلق الإمام مع هذا الرجل من موقع ضعف لأنّه كان في موقع قوة وكان الرجل في موقع ضعف، وعرف الإمام أنّ هذا الرجل هو من الناس الذين غُسل دماغهم، لأنّ بعض الناس قد يسبّونك ويشتمونك ويعادونك وليس لديهم عداوة شخصية معك، ولكن بعض الناس قد نقلوا لهم كلاماً كاذباً عنك وشوّهوا لهم فكرتهم، كما كان معاوية يقول لأهل الشام نحن نقاتل علياً لأنه لا يصلّي.

والتاريخ يعيد نفسه في كثير من الحالات عندما يتحدّث أهل السوء أو الحاقدون أو المعقّدون، عن كثير من الناس الذين يتحرّكون في خط الهدى، بالكلمات الّتي تشوّه الصورة، حتّى يعاديه الناس باسم القربى إلى الله.

لذلك كان من ديدن الأئمة (ع) أن يصبروا على هؤلاء الناس حتّى يصحّحوا لهم الصورة الّتي في ذهنهم، وعندما يكتشف الناس الصورة جيداً يتراجعون عن كل سبابهم وحقدهم وعداوتهم.

وهذا أُسلوب من أساليب السلوك الأخلاقي الّذي لا يستهدف العفو عمَّن أساء إليك فحسب، ولكنه يستهدف أيضاً تربية وتوعية من أساء إليك وجعله يترك ما هو فيه.

هذه هي الروح الرسولية النبوية القرآنية: {ادْفَعْ بالَّتي هي أحْسَنُ فإذا الَّذي بَيْنَك وبَيْنَهُ عَدَاوةٌ كأنَّهُ وليٌّ حميمٌ} (فصِّلت/34).

فلا نرد السُّباب والشتائم بالسُّباب والشتائم والمقاطعة، قد يكون لك حقٌّ في ذلك: {فمَنِ اعْتدى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُم} (البقرة/194)، ولكنَّ الله تعالى يقول: {وأنْ تَعْفُوا أقْرَبُ للتقوى} (البقرة/237).

وقد قال عليٌّ (ع): «فلا يكن أفضلَ ما نلت من دنياك بلوغَ لذّةٍ وشفاءَ غيظٍ _ لا يكن كلّ طموحك في الحياة البحث عن شفاء غيظك _، ولكن إطفاء باطل وإحياء حقٍّ».

فإذا ربحتَ عدوَّك وحوّلته إلى صديق، أو ربحت إنساناً منحرفاً فحوّلته إلى مستقيم، فأيُّ ربحٍ أفضل من هذا الربح، وهذا هو خطُّ الإسلام في البرنامج الأخلاقي، وهذا هو خطُّ أئمة أهل البيت (ع) الذين نحبّهم ونواليهم، لأنهم جسّدوا الإسلام فكراً وسلوكاً في كلِّ مجالٍ من مجالات الحياة.

وإذا كنّا نتّبع أهل البيت (ع)، فإنَّ اتّباعنا لهم يجب أن ينطلق على أساس أن نتحرّك كما تحرّكوا، وننفتح على الله كما انفتحوا..

لقد مثّل الإمام الحسن (ع) الكمال النبوي والعَلوي والفاطمي، بحيث كان روحاً تتحرّك في الواقع.. وتعالوا نستمع إلى بعض حالاته الروحية الّتي يحدّثنا بها بعض المؤرخين، فقد ورد عنه أنّه كان إذا توضَّأ ارتعدت فرائصه واصفرَّ لونه، وقيل له في ذلك، فقال: حقٌ على كُلِّ مَنْ وقف بين يدي ربِّ العرش أن يصفرّ لونه وترتعد فرائصه.

وكان إذا دخل المسجد ووقف ببابه مستأذناً، رفع رأسه وقال: «ضيفُك ببابك، يا محسنُ قد أتاكَ المَسيء، فتجاوزْ عن قَبيحِ ما عندَنا بجميلِ ما عندَك يا كرَيم».

وكان (ع) عندما يرى الناس يتطلّبون الهيبة باستعراضات العضلات، واستعراضات الناس الذين يمشون خلفهم، أو الذين يريدون العزّة بالكافرين والمنافقين، والقُربَ من الطغاة والمستكبرين، كان يقول لهم: «مَنْ أراد عِزّاً بلا عشيرة وهيبةً بلا سلطانٍ، فلينتقلْ من ذلّ معصيةِ اللَّهِ إلى عزِّ طاعته»، أي كن المطيع لله، ليعطك الله هيبةً من هيبته، وكن المتقي لله ليعطيك الله عزّاً من عزته.

هذا ما عبّر عنه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع)، حيث علمهم واحد وخطُّهم واحد، فكان يقول:

«واعصمني يا ربّ من أن أظنَّ بِذي عَدَم _ أي فقير _ خَسَاسةً، أو أظنَّ بصاحب ثروة فَضْلاً، فإنَّ الشريفَ من شرَّفَته طاعتك، والعزيز مَنْ أعزّته عبادتُك».

فالذي يطيعك يقرُب إليك ويكون عزيزاً عندك، وأي عِزٍّ أعظمُ من أن تكون قريباً لربِّ العالمين، وأيُّ شرَفٍ أعظمُ من أن تكون حبيباً لربِّ العالمين، فالله يحبُّ الذي يطيعونه {قًلْ إنْ كُنْتُمْ تُحبُّون الله فاتّبعوني _ في رسالة الله وطاعته _يُحْبِبْكُمْ الله} (آل عمران/31).

ومَنْ حصل على حبِّ الله ربِّ العالمين المهيمن على الأمر كلِّه الّذي هو على كُلِّ شيء قدير، فأيُّ عزيز أعزُّ منه، فالبعيدون عن حبِّه ورحمته، قال فيهم تعالى:

{بَشِّرِ المنافقينَ بأنَّ لَهُمْ عَذاباً أليماً* الذين يتَّخذون الكافرِين أولياءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنين أيَبْتَغُون عِنْدَهُم العِزَّةَ فإنَّ العِزَّةَ لله جميعاً} (النساء/138-139).

فلا عزَّ إلاَّ من خلال عزِّ الله.

لننظر إلى صورة موجزة عن الإمام الحسن (ع)، حيث يصوّره ابن أخيه الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) من خلال ما رواه الصادق، عن أبيه الباقر، عن أبيه علي بن الحسين (ع)، ومن الطبيعي أن الإمام زين العابدين عندما يصف عمه، فإنها الصورة الصادقة الّتي تجعلك تتصوّره كما لو كنت تراه، فكيف وصَفَه؟

يقول الإمام زين العابدين (ع):

«كان أعبدَ الناسِ في زمانِه وأزهدَهم وأفضلَهم، كان إذا حجّ حجّ ماشياً، وربّما مشَى حافياً، وكان إذا ذَكَر الموتَ بكى، وإذا ذَكَر القبرَ بكى، وإذا ذَكر البعثَ والنشورَ بكى، وإذا ذَكر الممرَّ على الصراط بَكى، وإذا ذَكَر العَرضَ على اللَّهَ تعالى ذِكرُه شَهقَ شَهقةً يُغشى عليهِ منها.

وكان إذا قامَ في صلاتهِ ترتعدُ فرائِصُهُ بينَ يدي ربِّه عزّ وجلّ، وكان إذا ذكَر الجنّةَ والنارَ اضطربَ اضطرابَ السليمِ وسألَ اللَّهَ الجنّةَ وتعوّذ منَ النارِ، وكان لا يقرأ منْ كتابِ اللَّهِ عزّ وجلّ: {يا أيها الذين آمنوا} إلاّ قال: لبّيك اللّهمّ لبّيك _ لأنّه يتحسس أن الله يناديه كما لو كان يلقي النداء إليه الآن _ ولم يُرَ في شيء من أحوالِه إلاّ ذاكِراً للَّهِ سبحانه».

إنّ هذه الصورة المتمثّلة في هذا الحديث تنفتح بنا على عمق الجانب الروحي في علاقة الإمام (ع) بالله، بحيث تتحوَّل العبادة لديه في معناها الواسع العميق الّذي يمتد إلى كل حياة الإنسان لتكون ذكراً لله: في الكلمة تارةً، وفي الصلاة والصوم والحج تارةً، وفي المواقف الصعبة الّتي تجسّد التضحية في سبيل الله بكلِّ شيء، والمواجهة الصلبة لكل التحديات المتحركة ضد الإسلام بكلِّ قوة، والعطاء الّذي يشمل كل ما يملك، حتّى إنه خرج من ماله مرتين، وقاسم الله تعالى ماله ثلاث مرات.

وكذلك التحرّك في حلِّ مشاكل الناس وقضاء حاجاتهم وهداية ضالهّم، وتعليم جاهلهم وتقوية ضعيفهم، فإنّ ذلك كلّه يمثّل معنى العبادة في سرِّ الخضوع لله في كلِّ شيء، بحيث يرى الله أمامه ليطيعهُ في ما يأمره به، أو ينهاه عنه وليبلغ بذلك رضوانه.

لقد كان الإمام الحسن (ع) يريد أن يعرِّف الناس من خلال البكاء هنا والبكاء هنا، أنّ على الإنسان إذا تذكّر الموت أن لا يتذكّره تذكّر الغافلين، وإذا ذكر القبر أن لا يتذكّره تذكّر اللامبالين، وإذا ذكر المرور على الصراط والوقوف بين يدي الله والجنة أو الناس أن لا يمرّ على ذلك مرور الكرام، أن يبكي بكاء الوعي لا بكاء السقوط.

كان (ع) يريد للناس أن يعيشوا مع أنفسهم عندما يتذكَّرون النهاية والمصير، وهذا ما علّمنا الله إياه وذكّرنا به: {يا أيَّها النّاسُ اتّقُوا ربَّكم إنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَة شيءٌ عظيمٌ* يوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أرْضَعَتْ وتَضَعُ كُلُّ ذات حَمْلٍ حَمْلَها وترى النَّاسَ سُكارى وما هُمْ بِسُكَارى ولَكِنَّ عَذابَ الله شديدٌ} (الحج/1-2).

وهكذا علينا إذا قرأنا القرآن في يا أيُّها الذين أمنوا، ويا أيِّها الناس، أن نتصوّر أن الله يخاطبنا كما لو كان ينـزل الوحي علينا.

لنتصوّر أنّ الله ينادينا: {يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا اتّقُوا الله ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قدَّمَتْ لغَد} (الحشر/18).

{يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا قُوا أنْفُسَكم وأهْليكُمْ ناراً وقُودُها النَّاسُ والحِجارة} (التحريم/6).

لنقل لربّنا بكلِّ وعي عقولنا ونبضات قلوبنا: لَبّيكَ اللّهمّ لبّيكَ، لبيك لا شريك لك لَبّيك، إننا سوف نستجيب لك قولاً وعملاً ومنهجاً في كل ما تنادينا به، ذلك هو ما يريدنا أهل البيت أن نعيشه في أنفسنا وحياتنا، وذلك هو خط أهل البيت (ع).

وهكذا كان الإمام الحسن (ع) يتمثّل رحلة الإنسان إلى الآخرة في وجدانه، ليذكّر الناس من حوله بها، ابتداءً من الموت الّذي يمثّل نهاية الحياة، والّتي تجسّد نهاية العمل الّذي يعني انتهاء الفرصة الّتي كان الإنسان يملكها في خط الحصول على رضا الله، ومن ثم النشور في يوم الحشر، {يوم يفرّ المرء من أخيه* وأُمه وأبيه* وصاحبته وبنيه* لكلِّ امرىءٍ منهم يومئذٍ شأن يغنيه} (عبس/34-37).

{يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلاّ* من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء/88-89).

{واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئاً} (لقمان/33).

{يومَ لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً والأمرُ يومئذ لله} (الانفطار/19).

إلى المرور على الصراط الّذي يمثل الامتحان في القدرة على اجتيازه من خلال الصالحات من أعماله، إلى العرض على الله، فينطلق النداء من قبل الله تعالى في ذلك الموقف: {وَقِفوهم إنهم مسؤولون} (الصافات/24). {يومَ تأتي كلُّ نفسٍ تُجادل عن نفسها وتُوَفّى كل نفس ما عَمِلَت وهم لا يظلمون} (النحل/111).

فيبكي أمام هذهِ المواقع الّتي تقرر مصير الإنسان، ليتحوَّل البكاء إلى حالة من التأمل والتدبر في مصيره يوم الآخرة، ليستعدَّ لذلك بالإيمان والعمل الصالح والجد والاجتهاد في طاعة الله والانفتاح عليه، فلا يُرضي مخلوقاً بسخط الخالق، ولا يطيع أحداً في معصية الله، بل يكون كلُّ شعاره ما قاله رسول الله (ص): «إنْ لم يكُنْ بكَ غضبٌ عليّ فلا أبالي».

ثم ينطلق ليعيش معنى عمق النداء الإلهي للمؤمنين {يا أيها الذين آمنوا}، فيشعر بأنّ النداء موجَّه إليه، فيدخل في عقله وقلبه وحياته ليصرخ بكل أعماقه: لَبّيكَ اللّهمّ لَبّيكَ، في عملية إيحائية نفسية بالعزم على الاستجابة العملية في حركة الحياة، في الخط الإلهي المستقيم، في قراءته للقرآن في حالة وعي وتدبر وانفتاح على آياته، بالدرجة الّتي يتجسّد فيها القرآن في كلّ كيانه، فكراً وعملاً وامتزاجاً في كلِّ الخطوط القرآنية في الإنسان والحياة، ويبقى ذكر الله تعالى في الوعي وفي اللسان هو الهاجس في كلِّ حياته.

إنّ الإمام الحسن (ع) ينطلق في ذلك كلِّه، من أجل الإيحاء للناس جميعاً، بأنّ الحياة لا بدَّ من أن تتحرك في واقع الإنسان المسلم، بحيث يعيش الإنسان مسؤوليته في الدنيا والآخرة كَهَمٍّ دائمٍ مستمرٍّ، وينطلق مع الله في حالة إحساسٍ بحضورهِ وبوجوده كما لو كان يراه ويتحسّسهُ أمامه، ليكون ذلك وسيلةً من وسائل الارتباط به، في كلِّ حياته، ليكون الله الأول والآخر في كلِّ مجالاتها وأوضاعها الخاصة والعامة.

وفي هذا الجوّ، نعرف أنّ الإمام الحسن (ع) لم يكن الإنسان الّذي تشغله لذائذ الحياة وشهواتها، بل كان الإنسان الّذي يعيش التوازن الأخلاقي الإسلامي في الحياة، فلا يحرم نفسهُ طيبات الحياة الدنيا، ولا يستغرق فيها، بل يأخذ منها بالمقدار المتوازن.

وعلى ضوء هذا، فإننا لا نتّفق مع بعض الرواة الذين تحدّثوا عن كثرة زوجاته بشكلٍ خيالي، من هؤلاء الذين لا يملكون الوثاقة في السلوك ممن يستغلّهم السلطان لتشويه الصورة بطريقة وبأخرى، كما كان الحكم الأموي الّذي أراد أن يصوّر الإمام الحسن (ع) بالشخص الّذي يستسلم للشهوات، بحيث يعيش حياته ليتزوّج هذه ويطلّق تلك بشكل عشوائي مزاجي، ليقدّم معاوية في مقابله شخصاً جاداً في الموقع القيادي المميّز الّذي يتحرك من أجل إدارة شؤون الناس.

لقد كان الإمام الحسن (ع) يعيش في الموقع الأعلى من السلوك الإسلامي، المشغول بالله وبرضوانه، وبالانفتاح عليه وبالدعوة إليه، وكانت زيجاته في هذه الدائرة الطبيعية الّتي كانت محدودةً بحدود الظروف التي عاشها الواقع آنذاك، مما يسير عليه الناس بشكل طبيعي، ولو كان الأمر كما يقولون لكان أولاده بالمئات، بينما لم يُذكر من أولاده إلاّ ثلاثة عشر ممن يمكن أن يولدوا من أُم واحدة.

ومن خلال ذلك كله، لا بد من التدقيق في الروايات الّتي يرويها لنا المؤرِّخون، فقد تكون من وضع الرواة غير الموثوقين، الذين كانوا يضعون الحديث لإرضاء شهوات السلطات الحاكمة، من خلال ما يدفعونه من أثمان، تماماً كما هي الأخبار الّتي تنقلها الوكالات الإعلامية الّتي تخضع لأكثر من سلطة أو جهاز مخابرات.

السلوك التربوي الرفيع

روي أنّ الحسن والحسين (ع) مرّا على شيخ يتوضأ ولا يحسن الوضوء، فأظهرا تنازعاً يقول كل منهما للآخر: أنت لا تحسن الوضوء، قالا: أيها الشيخ كن حكماً بيننا، أينا يحسن الوضوء؟ فقال الشيخ: كلاكما يحسن الوضوء، لكن هذا الشيخ الجاهل _ وهو يشير إلى نفسه _ هو الّذي لا يحسن الوضوء وقد تعلّم منكما، وتاب على يديكما ببركتكما وشفقتكما على أُمةِ جدكما.

إنّنا نلاحظ في هذه الحادثة، أنّ الإمامين الحسنين (عليهما السلام) كانا يفكران عند رؤيتهما هذا الشيخ الّذي لا يحسن الوضوء مع كبر سنّه، أنّ هذا الرجل لم تسنح له الفرصة للتعلّم بحكم ظروفه البيئية، فأرادا أن يعلّماه وهو لا يعرفهما في البداية من دون إساءةٍ إلى مشاعره، فلم يعنّفاه على إهماله للتعلّم، كما يفعل البعض من الناس في مثل هذهِ الحالة، فما كان منهما إلاّ أن أوحيا له بالاحترام، وطلبا منه أن يكون حَكَماً ليختار بينهما الأفضل منهما في طريقة الوضوء، ما جعله في ملاحظته الدقيقة من خلال شخصه الحَكَم، يفهم أنّ المسألة ليست مسألة خلاف بينهما، بل هي مسألة الأسلوب الحكيم المنفتح على احترام إنسانية الإنسان الآخر في مشروع التربية.

إنّ علينا أن نتعلّم من هذا الأسلوب التربوي الإسلامي في كلِّ مشاريعنا التربوية مع أطفالنا وطلابنا، ومع الناس الذين نتولّى وعظهم وهدايتهم وإرشادهم في المسألة الدينية العقيدية والسلوكية، وفي المسألة السياسية والاجتماعية والثقافية، باعتبار أنّ الإساءة إلى كرامة الإنسان، تجعله يعيش العقدة الّتي تمنعه من الانفتاح على الفكرة التي يُراد هدايتهُ بها.

وروي أنّ الإمام الحسن (ع) مرّ على فقراء وقد وضعوا كسيرات على الأرض وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها، فقالوا له: هلمَّ يابن بنت رسول الله إلى الغداء، فنـزل وقال: «إنّ اللَّهَ لا يُحبُّ المتكبِّرين»، وجعل يأكل معهم، ثم دعاهم إلى ضيافته وأطعمهم وكساهم.

إنّنا نجد في هذا السلوك الأخلاقي الحسنيّ القمة في التواضع، فقد كان الإمام الحسن (ع) في الواقع الاجتماعي في الدرجة العالية من الشرف. فقد روى محمد بن إسحاق قال: ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله (ص) ما بلغ الحسن بن علي، كان يُبسط له على باب داره فإذا خرج وجلس انقطع الطريق، فما يمرّ أحدٌ من خلق الله إجلالاً له، فإذا علم قام ودخل بيته فيمرّ الناس.

قال الراوي: ولقد رأيته في طريق مكة نزل عن راحلته فمشى، فما من خلق الله أحدٌ إلاّ نزل ومشى، حتّى رأيت سعد بن أبي وقاص قد نزل ومشى إلى جنبه.

ومن خلال هذهِ الصورة الّتي تمثلّ مهابة الإمام في نفوس الناس بشكل عام، نعرف كيف كان الإمام يجسّد القيمة الإسلامية العليا في التواضع للفقراء، فيجلس معهم على الأرض ليأكل معهم احتراماً لهم في إيمانهم وإنسانيتهم، تحت تأثير الفكرة الإسلامية الّتي ترى في الشعور بالعلوّ على أمثال هؤلاء من خلال الموقع الاجتماعي، لوناً من ألوان التكبّر، الّذي لا يحب الله الذين يعيشونه في روحية الاستعلاء على الناس. ثم يدعوهم (ع) إلى بيته بكل إكرامٍ وإعزازٍ، للإيحاء إليهم بأنهم لا يفقدون معنى القيمة من خلال فقرهم، بل يتحركون فيها من خلال إنسانيتهم وإيمانهم، وصفاتهم الطيبة في أوضاعهم الخاصة، فيطعمهم ويكسوهم ليدفع عنهم ضائقة الحرمان.

إنّ علينا أن نتعلّم ذلك من الإمام (ع)، لنعيش القيمة الإسلامية في الإحساس بإنسانية الإنسان، لا سيما إذا كان فقيراً مستضعفاً مؤمناً، لأنّ ذلك هو الّذي يجعل المجتمع ينتفع بإحساسهِ بالإنسان الآخر، وابتعاده عن الطبقية الاجتماعية الاستكبارية، الّتي تضطهد الإنسان لفقره ولوِضاعة نسبه وحقارة موقعه، فَتُسقط إنسانيته وتُسيء إلى روحه، وتدفع به إلى الضياع والسقوط.

إنّ علينا أن نتعلّم أنّ ذلك التواضع في قيمة الإنسانية لا ينـزل بموقع الإنسان، بل يرتفع به، لأنّه يوحي إليه بأنّه في قيمته الروحية أكبر من المال والجاه والنسب من حيث إنّه يعيش العمق الإنساني في خصائصه الذاتية.

سَعَة الصدر

وممّا ترويه السيرة عن أخلاقه (ع)، أنَّ شامياً ممن ثقّفهم معاوية على بُغض عليّ وأهل بيته (ع)، وركّز في نفوسهم سبَّ ولعنَ أمير المؤمنين (ع)، وفرضَ على أئمة الجمعة التابعين له هذا الأمر، حيث كان من تقاليد صلاة الجمعة أن يبدأ الخطيب وينتهي بسبِّ عليِّ (ع)، ليقتلوا حبّه من قلوب النّاس، ولكنهم لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً.

وقد قال بعض أئمة المذاهب الأربعة: ما أقول في رجل جَهِد محبُّوه في إخفاء فضائله خوفاً، وجَهِد مُبْغضُوه في إخفاء فضائله حَسَداً، فظهر من بين ذَيْنِ ما ملأ الخافِقَين.

من هؤلاء المبغضين، هذا الشاميُّ الّذي رأى الإمام الحسن (ع) في الطريق، فجعل يلعنه ويشتمه، والحسن (ع) لا يردُّ عليه، فلما فرغ من سبابه وشتائمه، أقبل إليه الحسن وهو مملوء بخطاب الله: {وإذا خاطبهم الجاهِلُون قَالُوا سَلاماً} (الفرقان/63)، فسلَّمَ عليه وتبسّم في وجهه، وقال له: «أيها الشيخ _ ويبدو أنّه كان كبيراً في السن _لو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حمّلناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كانت لك حاجةٌ قضيناها لك، فلو حرّكت رَحْلَكَ إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعودَ عليك، لأنَّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً».

فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنَّك خليفة الله في أرضه، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وحوَّل رحله إليه، وكان ضيفَه إلى أن ارتحل.

لم ينطلق الإمام مع هذا الرجل من موقع ضعف لأنّه كان في موقع قوة وكان الرجل في موقع ضعف، وعرف الإمام أنّ هذا الرجل هو من الناس الذين غُسل دماغهم، لأنّ بعض الناس قد يسبّونك ويشتمونك ويعادونك وليس لديهم عداوة شخصية معك، ولكن بعض الناس قد نقلوا لهم كلاماً كاذباً عنك وشوّهوا لهم فكرتهم، كما كان معاوية يقول لأهل الشام نحن نقاتل علياً لأنه لا يصلّي.

والتاريخ يعيد نفسه في كثير من الحالات عندما يتحدّث أهل السوء أو الحاقدون أو المعقّدون، عن كثير من الناس الذين يتحرّكون في خط الهدى، بالكلمات الّتي تشوّه الصورة، حتّى يعاديه الناس باسم القربى إلى الله.

لذلك كان من ديدن الأئمة (ع) أن يصبروا على هؤلاء الناس حتّى يصحّحوا لهم الصورة الّتي في ذهنهم، وعندما يكتشف الناس الصورة جيداً يتراجعون عن كل سبابهم وحقدهم وعداوتهم.

وهذا أُسلوب من أساليب السلوك الأخلاقي الّذي لا يستهدف العفو عمَّن أساء إليك فحسب، ولكنه يستهدف أيضاً تربية وتوعية من أساء إليك وجعله يترك ما هو فيه.

هذه هي الروح الرسولية النبوية القرآنية: {ادْفَعْ بالَّتي هي أحْسَنُ فإذا الَّذي بَيْنَك وبَيْنَهُ عَدَاوةٌ كأنَّهُ وليٌّ حميمٌ} (فصِّلت/34).

فلا نرد السُّباب والشتائم بالسُّباب والشتائم والمقاطعة، قد يكون لك حقٌّ في ذلك: {فمَنِ اعْتدى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُم} (البقرة/194)، ولكنَّ الله تعالى يقول: {وأنْ تَعْفُوا أقْرَبُ للتقوى} (البقرة/237).

وقد قال عليٌّ (ع): «فلا يكن أفضلَ ما نلت من دنياك بلوغَ لذّةٍ وشفاءَ غيظٍ _ لا يكن كلّ طموحك في الحياة البحث عن شفاء غيظك _، ولكن إطفاء باطل وإحياء حقٍّ».

فإذا ربحتَ عدوَّك وحوّلته إلى صديق، أو ربحت إنساناً منحرفاً فحوّلته إلى مستقيم، فأيُّ ربحٍ أفضل من هذا الربح، وهذا هو خطُّ الإسلام في البرنامج الأخلاقي، وهذا هو خطُّ أئمة أهل البيت (ع) الذين نحبّهم ونواليهم، لأنهم جسّدوا الإسلام فكراً وسلوكاً في كلِّ مجالٍ من مجالات الحياة.

وإذا كنّا نتّبع أهل البيت (ع)، فإنَّ اتّباعنا لهم يجب أن ينطلق على أساس أن نتحرّك كما تحرّكوا، وننفتح على الله كما انفتحوا..

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية