في الخامس عشر من شهر رمضان، نلتقي بالإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) الّذي وُلِد في السنة الثانية من الهجرة في المدينة، وكان أول وليد لفاطمة ولعليّ (ع)، وقد حضنه رسول الله، كما حضن بعده الحسين (ع).
إن الحديث عن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) سرُّ الروح في آفاقها الواسعة الصافية النقية المنفتحة على الله، وعمق الإنسانية المتحركة بالخير كله والحق كله والعدل كله.. ومعنى الحكمة في مواجهة حركة الواقع في سلبياته وإيجابياته، وشمولية العطاء في رعاية المحرومين من حوله، وسموّ الأخلاق الّتي تحتضن كل مشاعر الناس بكل اللهفة الحانية في مشاعرها، وتتحرك في مواقع العصمة في سلوكه في نفسه ومع ربه ومع الناس ومع الحياة.
مع رسول الله (ص)
عاش الإمام الحسن (ع) مع رسول الله (ص) في طفولته الأولى، ليحتضنه الرسول، فيُلقي إليه في كلِّ يوم من عقله عقلاً ومن روحه روحاً ومن خُلقه خُلقاً ومن هيبته وسؤددِه هيبةً.
تذكر كتب السيرة أنَّ الحسن (ع) كان يحضر في مسجد رسول الله (ص) وعمره سبع سنين، وكان يستمع إلى جدّه ويحفظ ذلك كلَّه، ويأتي إلى أمه فاطمة (ع) يحدّثها بذلك، وكان عليٌّ (ع) يأتي إلى البيت ويجد كلَّ ما تحدّث به رسول الله إلى المسلمين في المسجد عند فاطمة، فيقول لها: من أين لك ذلك؟ فكانت تقول: إنَّه من ولدي الحسن (ع)، ما يدلُّ أنَّهُ كان ينفتح على علم رسول الله، ويعيش اهتماماته به.
وتحدّثنا السيرة أيضاً أنَّ رسول الله (ص) كان يلاعب الحسن والحسين ويحملهما على ظهره، ويرفق بهما بكلِّ محبة واحتضان، لذلك عاشت كل روحيّة رسول الله في روحيتهما.
وجاء في كتب السيرة أنَّ الحسن (ع) كان أشبهَ الناس برسول الله خَلْقاً وخُلُقاً، وكان الناس إذا اشتاقوا إلى رسول الله (ص) بعد غيبته، فإنَّهم كانوا ينظرون إلى الحسن (ع) ليجدوا فيه شمائل رسول الله.
وتذكر كتب السيرة أن الرسول (ص) لم يفصل بينهما في الفضل والمحبة، فقد كان (ص) يقول _ في ما رواه السنّة والشعية _: «الحسنُ والحسينُ سيِّدا شبابِ أهل الجنّة». وكان يقول وهو يشير إليهما: «اللهمَّ أبغضْ من يبغضهما». وهكذا كان يقول: «من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني».
وهذا ما انطلق في وجدان المسلمين، فقد كانوا يرون رسول الله (ص) يرعاهما ويحضنهما ويصبر عليهما، وحين كان أحداهما يصعد على ظهره وهو ساجد كان يطيل السجود، فيقال له: يا رسول الله هل نزل عليك الوحي؟ فيقول لهم: لا، ولكنني أحببت أن لا أزعج ابني في ذلك حتّى ينـزل عن ظهري، إيحاءً للعاطفة الّتي تشده إليه.
ويروي رواة السنّة والشيعة أنّ رسول الله (ص) قال: «الحسنُ والحسينُ سَيِّدا شبابِ أهل الجنة». وعندما نستنطق هذه الكلمة، فإنها تعني أنّ كلّ ما قام به الإمام الحسن (ع) فإنه يمثل الشرعية الإسلامية بكل مفرداتها، وأنّ كل ما قام به الإمام الحسين (ع) يمثل الخطّ الإسلاميّ بكل استقامته، لأنّ من كان سيّداً لشباب أهل الجنّة، لا بدّ أن يكون معصوماً في فكره وفي حركته وفي كلّ منطلقاته، وفي الجنّة يوجد الذين اصطفاهم الله تعالى للقرب منه.
ومن هنا فإننا لا نحتاج إلى الكثير من التحليل لنعرف شرعية صلح الإمام الحسن (ع) في دائرة الظروف الّتي عاشها، وثورة الإمام الحسين (ع) في دائرة التحديات الّتي واجهها.
في هذا الجوّ، نستطيع أن نطلّ على هذين الشخصين اللذين لم تنطلق كلمات رسول الله (ص) من إحساس عاطفي في احتضان الجدّ لسبطيه، لأنّه كما قال الله تعالى: {وما ينطِقُ عن الهوى* إن هو إلاّ وحي يُوحي} (النجم/3-4).
فللنبيّ إحساسه العاطفي، والعاطفة هي من صفات الإنسان في عمق إنسانيته، ولكنّ تقييم الأشخاص لا يمكن أن ينطلق من عاطفة نبيّ أراد الله أن يقول الحقّ حتّى في أقرب الناس إليه، وقد قال الحقّ مما أوحاه الله إليه في عمّه أبي لهب {تَبَّت يدا أبي لهبِ وتبّ} (المسد/1).
لذلك فعندما يتحدّث النبي (ص) عن سبطيه بحديث فيه القيمة كأرفع القيمة، وفيه المحبّة كأعمق المحبّة، فإننا لا نجد في ذلك إلاّ معنى الحقيقة في معناه، وإلاّ عاطفة الحقّ في عاطفته.
مع أمّه الزهراء (ع)
وعاش الحسن (ع) مع أُمّه الزهراء (ع) المعصومة بشخصيتها، وبالإيمان العميق، وبالمعرفة الواسعة، وبالأخلاق العالية، وبالروحانية الصافية، والإرادة الصلبة، والشجاعة الجريئة.. فأخذ منها ذلك كلها مما كانت ترضعه إيّاه من لبن الروح والجسد، وكان يناجيها وهو يتطلّع إليها بكلِّ صفاء طفولته ونقاء روحه، وهي تقوم الليل حتّى تتورم قدماها، وكانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وينطلق الحسن ليقول لها: يا أُمّاهِ لِمَ لا تدعين لنفسك؟ فتقول يا بُنيّ الجار ثم الدار.
ويختزن الحسن (ع) هذه الروح المنفتحة على الناس في كلِّ همومهم وفي كل آلامهم، وفي كل أحلامهم وفي كل قضاياهم، قبل الانفتاح على النفس، وذلك هو سرُّ الزهراء (ع)، وذلك هو سرُّ أهل البيت (عليهم السلام) الذين يعيشون للناس قبل أن يعيشوا لأنفسهم.
مع أبيه الإمام علي (ع)
وانطلق مع أبيه (ع)، القمة في العلم والفكر والروح والإيمان والزهد والتقوى والشجاعة والرسالية الممتدّة في كل مجالات حياته، والمحبة لله ولرسوله، والانفتاح على الإسلام والمسلمين بكل عناصر شخصيته، أمين الله في أرضه وحجته على عباده، في كل ما عاشه وفي كل ما انطلق فيه، فقد باع نفسه لله، وكان يقول للناس: «ليس أمري وأمركم واحداً، إني أُريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم».
وكان يقول وهو يحدّق في حركة المسلمين في كلِّ أوضاعهم المعقَّدة: «لأسلمنَّ ما سلمتْ أُمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلاّ عليَّ خاصّة»، وكان يقول: «ما تَركَ لي الحقّ من صَدِيق».
وهكذا عاش الحسن معه، ابناً يتعهّده بكلِّ وصاياه ويرعاه بكل روحانيته، ويتحرك معه بكلِّ ما ينفع مستواه وينمّي عقله، ويغذي روحه ويركز موقعه ويثبت موقفه، وصديقاً يسير معه أينما يسير، ويناجيه بكل أسراره في الليل والنهار، ويدفعه إلى أن يتحمّل المسؤولية معه في خارج الحكم وداخله، ويعتمد عليه في إفتاء الناس بكلِّ ما يشكل عليهم أمره من أحكام الله تعالى، لأنّه يريد أن يعرف الناس بأنه الحجة بعده، والعالم بالإسلام كله، فلا يخطئ في حكم، ولا ينحرف في فتوى، لأنّ قوله قوله وفعله فعله.
وكان يعيش عظمة أبيه (ع) من خلال التجربة الحيّة الّتي عاشها معه، ومن خلال المعرفة الواسعة الّتي استطاع أن يحصل عليها في كلِّ تحديقه وفي كل انفتاحه عليه. فنحن نجده يتحدّث لأهل الكوفة عن أبيه عندما بعثه لحل المشاكل المعقَّدة فيها فقال:
«أيها الناسُ، إنّا جئِنا ندعوكُم إلى اللَّهِ وكتابِه وسنّةِ رسولِه، وإلى أفقه من تفقّه من المسلمين، وأعدل من تعدلون، وأفضل مَن تفضلون، وأوفى مَن تبايعون، مَن لم يعيه القرآن، ولم تجهله السنّة، ولم يعقد به السابقة، إلى من قرَّبه الله تعالى ورسوله قرابتين؛ قرابة الدين وقرابة الرحم، إلى من سبق الناس إلى كلّ مأثرة، وإلى من كفى الله به رسوله والناس متخاذلون، فقرب منه وهم متباعدون، وصلّى معه وهم مشركون، وقاتل معه وهم منهزمون، وبارز معه وهم محجمون، وصدَّقه وهم يكذّبون، إلى من لم تُرد له ولا تكافأ لهُ سابقة».
لقد عاش الإمام الحسن (ع) مع أبيه حياةً استطاع من خلالها أن يأخذ كلّ عليّ في عقله، وأن يأخذ كلّ عليّ في قلبه، وأن يأخذ كلّ عليّ في روحه وفي شجاعته وفي أخلاقه، حتى مضى عليّ (ع) إلى رحاب ربّه، وتسلّم الخلافة في ظروف من أصعب الظروف الّتي تمرّ على إنسان.
فلقد كانت الساحة مزروعةً بالألغام كما يُقال في هذه الأيام، وكانت الساحة النفسية والساحة الاجتماعية والساحة السياسية لا تملك الكثير من عمق الوعي المسؤول، ولا تملك الكثير من الرسالية المنفتحة على الله، بل كانت ساحةً استطاعت أن تزحف إليها كلّ الطفيليات، وأن تسيطر عليها كلّ الانحرافات، فواجه الموقف بكلّ قوّة.
فقد جاء عن السيوطي في تدريب الراوي، أنّه كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم، فكرههُ كثيرٌ منهم وأباحها طائفة وفعلوها، منهم عليٌّ وابنه الحسن عليهما السلام.
إنّ المشكلة الّتي أُثيرت في عهد عمر بن الخطاب أنّه منع الناس من كتابة حديث رسول الله (ص) بحجة الخوف من الخلط بينه وبين القرآن، وبذلك خسر الناس الكثير من تراث الرسول (ص) مما ضاع في صدور الناس الذين فارقوا الدنيا دون أن يُدوِّنوا ما حفظوه عنه.
ولكنَّ عليّاً وولده الحسن (ع) رأيا أنّ في ذلك خطراً على الإسلام والمسلمين، لأنّ سنّة الرسول تمثّل عِدل كتاب الله في القاعدة الإسلامية على مستوى العقيدة، ففيها تفصيل ما أجمله القرآن، وفيها توضيح ما أبهمه، لذلك كانت كتابة السنّة الثابتة عن الرسول (ص) تمثل توثيقاً للإسلام في عقيدته وشريعته، بالدرجة الّتي يمكن أن يجد فيها المسلمون ما يعينهم على حلِّ الخلافات والمنازعات الناشئة من ضياع بعض أحاديث رسول الله (ص)، وهذا هو الخط الإسلامي في حركة الثقافة في حياة الإنسان المسلم.
فلا بدّ للناس من الكتابة والتوثيق لكلِّ النصوص والأفكار والآراء الّتي ترتكز عليها العامة في أصالتها وحركيتها وامتدادها، ليرجع الناس إليها في الصراع الفكري، ولتنطلق في نطاق المنهج، لأنّ ضياع الكثير مما فكّر به المفكّرون وبحثه الباحثون، يعطّل الكثير من عملية النموّ العلمي والثقافي، لا سيما في الواقع الإسلامي الفكري الّذي قد يكون بحاجة ماسة إلى الكثير من الثروة العلمية الّتي يعنى بها العلماء، فإذا ماتوا ماتت بغيابهم، بينما تبقى بالكتابة والتوثيق زاداً للمستقبل بما تثيرهُ من النقد والتحليل والإبداع.
وهكذا انطلق الإمام الحسن (ع) مع أخيه الحسين (ع)، في انفتاح روحي وفكري وعملي، في كلِّ قضاياهما ومشاعرهما وتطلعاتهما وحربهما وسلمهما، فهما يمثلان معنىً واحداً في وجودين، وخطاً واحداً في اثنين، وروحاً واحدةً في شخصيتين، وذلك من خلال هذه الوحدة الرسالية الروحية الّتي انطلقت مع جدّهما وأمهما وأبيهما (ع)، في ذلك البيت الّذي هو بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الوحي والتنـزيل، وتحت ذلك الكساء الطاهر الّذي جلّلهم به رسول الله (ص) ودعا ربه قائلاً: «اللّهمَّ هؤلاء أهلُ بيتي فأذهِبْ عنهمُ الرجسَ وطهِّرهُم تَطهيراً»، فنـزلت الآية الكريمة: {إنّما يُرِيدُ اللَّهُ ليُذهِبَ عنكمُ الرجسَ أهلَ البَيتِ ويُطَهِّرَكم تطهيراً} (الأحزاب/33).
وانطلقت كلمة أهل البيت (ع) من خلال هذه الآية لتبقى عنواناً لهذه الفئة الطاهرة من خلال ما تعنيه من القاعدة الّتي تنطلق منها، من حيث هو بيت الرسالة الّذي يعيش فيه الرساليون الأُمناء على وحي الله وسنّة رسوله، المعصومون في معنى الحق في خط الرسالة في الفكر والكلمة والمنهج والموقع.
في مواقع المسؤولية
قلنا أنّ الحسن (ع) كان يتقلّب في أحضان عليّ وفاطمة (ع)، وعندما يكون الأستاذان المربّيان مثلَ عليّ وفاطمة، فإنّنا نعرف طبيعة الإنسان الّذي يعيش في حضنيهما، فعاش مع أمه فترة صباه الأولى، ورأى كلَّ الأحداث الّتي حصلت في بيت أمه وأبيه وذاق مرارتها.
ثم عاش مع أبيه عليّ، ورأى كيف أُبْعِدَ (ع) عن موقعه الّذي جعله الله فيه، وكيف صَبَرَ صَبْرَ الأحرار من أجل قضية الإسلام والمسلمين، حيث كان يسمع أباه يقول: «لأسلمنَّ ما سلمتْ أُمور المسلمين ولم يكن فيها جَوْرٌ إلاَّ عليَّ خاصة».
فاختزن الحسن (ع) كلَّ ذلك، حتّى إذا انطلق شابّاً في خطِّ المسؤولية مع أبيه، أرسله _ وهو يثق بعقله وعلمه وروحيته وإخلاصه ولباقته _ إلى الكوفة من أجل أن يَحِلَّ المشاكل الّتي حدثت على أيدي بعض الناس المعارضين لعليٍّ، وقام بالمهمة خير قيام.
وكان الناس يسألون عليّاً عن كثير من أمور الإسلام في مفاهيمه وأحكامه، فكان يقول لهم: اسألوا ابني الحسن، فإنَّ لديه ما يحلّ مشاكلكم ويعرّفكم الحقَّ كما هو.