من عادة الحكّام العباسيّين عندما يتحسّسون الخطر من أيِّ شخص، ولا سيما إذا كان من بني عليٍّ(ع)، ممن يعتقد فريقٌ من الأمة بإمامته، أنَّهم كانوا يضيّقون عليه ويضيّقون على هذا الفريق، لأنّهم يعرفون عمقَ انتماء هذا الفريق من الأمة لأئمتهم(ع)، لذلك كانوا يحاصرون حركتهم ويصادرون حرّيتهم ويوظّفون المخابرات لرصد أعمالهم، وكان بعض الأئمة(ع) يعيشون هذا الواقع، لأنهم يملكون امتداداً روحياً ينفتح على امتدادٍ سياسيّ معرفيّ يحمله الناسُ في نفوسهم لأئمة أهل البيت(ع)، لأنّهم يعتبرونهم في موقع الإمامة، ويرون أنَّ لهم الشرعيّة في موقع السلطة.
وتنفيذاً لهذه السياسة، حُوصِر الإمام العسكري(ع) في عهد المتوكّل، واعتقل مرّات عدّة في عهد من جاء بعده، من المستعين إلى المعتزّ إلى المهتدي إلى المعتمد.
فكان العباسيّون يحقدون على الإمام(ع)، لأنَّهم كانوا يخافون منه على سلطانهم، كما أنَّه كان هناك بعض النّاس المعقّدين منه، وهذا ما نجده في كلِّ زمانٍ ومكان، عندما ينطلق المعقّدون ضدّ الذين يتحرّكون في الحياة من أجل الخير كلِّه والحقِّ كلِّه.
وفي زمن المعتزّ، أُدخل الإمام العسكريُّ(ع) إلى السجن، فـ"دخل العباسيّون على صالح بن وصيف وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية ـ أي ناحية الأئمة من مخالفيهم ـ عندما حُبس أبو محمد(ع) (العسكري) فقالوا له: ضيّق عليه ولا توسّع، فقال لهم صالح: ما أصنع به، وقد وكّلتُ به رجلين شرَّ مَن قَدِرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم.. ثم أمر بإحضار الموكّلين، فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟ فقالا له: ما تقول في رجلٍ يصوم نهاره ويقوم ليلَه كلَّه، لا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلما سمع ذلك العبّاسيون انصرفوا خاسئين"(1).
وهذا يدلُّ على مدى قوّة التأثير الروحيّ الذي كان الإمام العسكري(ع) يتمتع به من دون أن يتكلّم مع الآخرين، أو أن يدخل معهم في أيِّ حوار، وتلك هي خصوصيّة أهل البيت(ع) الذين يملكون من الملكات القدسيّة التي حباهم الله إيَّاها ما يفيضون به على كلِّ النّاس الذين يعيشون معهم بكلِّ المعرفة لله والروحانية والخُلُق العالي الذي يجتذبون الناس به إلى الخطِّ الأصيل الذي يمثّلونه، وهو خطُّ الإسلام في منهج أهل البيت(ع).
وينقل لنا التاريخ أيضاً كيف كان تأثير الإمام(ع) في السجن، ففي الرواية عن عليّ بن محمد عن محمّد بن إسماعيل العلويّ قال: "حُبس أبو محمد العسكري عند عليّ بن أوتامش، وهو أنصب الناس وأشدّهم على آل أبي طالب، وقيل له: افعل به وافعل، فما أقام عنده يوماً حتى وضع خدّيه له ـ كنايةً عن الخضوع والتذلّل ـ وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً، فخرج من عنده، وهو أحسن النّاس بصيرةً وأحسن الناس فيه قولاً"(2).
وقد كان تأثير الإمام العسكري(ع) الروحيّ على هذا الرجل قويّاً وصل إلى درجةٍ استطاع فيها أن يغيّر تفكيره كلَّه ووجدانه كلَّه، وإذا به يتحوّل من عدوٍّ لدود إلى صديق حميم.
ومن كراماته(ع) أنَّه كان يعرف ما في نفوس النّاس من دون أن يخبروه، فقد جاء في الرواية »عن إسحاق بن محمد النخعي قال: حدّثني إسماعيل بن محمد بن عليّ بن إسماعيل بن عليّ بن عبد الله بن العباس قال: قعدت لأبي محمد(ع) على ظهر الطريق، فلما مرَّ بي شكوتُ إليه الحاجة، وحلفتُ أنَّه ليس عندي درهمٌ فما فوقه ولا غداء ولا عشاء، قال، فقال(ع): "تحلف بالله كاذباً، وقد دفنت مائتي دينار، وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطيّة، أعطهِ يا غلامُ ما معك"، فأعطاني غلامه مائة دينار، ثم أقبل عليَّ فقال لي: "إنَّك تُحْرَمُ الدنانير التي دفنتَها أحوجَ ما تكون إليها"(3). فالله تعالى يُلهم أنبياءه وأولياءه كلَّ ما يحتاجون إليه، مما يُثبت كرامتهم وقربهم إلى الله وحبوتهم عنده، وهذا لا يختصُّ بالإمام العسكري(ع) فقط، فعندما ندرس حياة كلِّ إمام من أئمة أهل البيت(ع)، فإننا نجد الكثير من هذه الكرامات التي لولا الإيمان بالله، ولولا المعرفة بأولياء الله، لما كان يصدّقها أحد.
المصادر:
(1) الكافي، ج:1، ص:512.
(2) الكافي، ج:1، ص:584.
(3) الإرشاد، ص:332.
من عادة الحكّام العباسيّين عندما يتحسّسون الخطر من أيِّ شخص، ولا سيما إذا كان من بني عليٍّ(ع)، ممن يعتقد فريقٌ من الأمة بإمامته، أنَّهم كانوا يضيّقون عليه ويضيّقون على هذا الفريق، لأنّهم يعرفون عمقَ انتماء هذا الفريق من الأمة لأئمتهم(ع)، لذلك كانوا يحاصرون حركتهم ويصادرون حرّيتهم ويوظّفون المخابرات لرصد أعمالهم، وكان بعض الأئمة(ع) يعيشون هذا الواقع، لأنهم يملكون امتداداً روحياً ينفتح على امتدادٍ سياسيّ معرفيّ يحمله الناسُ في نفوسهم لأئمة أهل البيت(ع)، لأنّهم يعتبرونهم في موقع الإمامة، ويرون أنَّ لهم الشرعيّة في موقع السلطة.
وتنفيذاً لهذه السياسة، حُوصِر الإمام العسكري(ع) في عهد المتوكّل، واعتقل مرّات عدّة في عهد من جاء بعده، من المستعين إلى المعتزّ إلى المهتدي إلى المعتمد.
فكان العباسيّون يحقدون على الإمام(ع)، لأنَّهم كانوا يخافون منه على سلطانهم، كما أنَّه كان هناك بعض النّاس المعقّدين منه، وهذا ما نجده في كلِّ زمانٍ ومكان، عندما ينطلق المعقّدون ضدّ الذين يتحرّكون في الحياة من أجل الخير كلِّه والحقِّ كلِّه.
وفي زمن المعتزّ، أُدخل الإمام العسكريُّ(ع) إلى السجن، فـ"دخل العباسيّون على صالح بن وصيف وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية ـ أي ناحية الأئمة من مخالفيهم ـ عندما حُبس أبو محمد(ع) (العسكري) فقالوا له: ضيّق عليه ولا توسّع، فقال لهم صالح: ما أصنع به، وقد وكّلتُ به رجلين شرَّ مَن قَدِرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم.. ثم أمر بإحضار الموكّلين، فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟ فقالا له: ما تقول في رجلٍ يصوم نهاره ويقوم ليلَه كلَّه، لا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلما سمع ذلك العبّاسيون انصرفوا خاسئين"(1).
وهذا يدلُّ على مدى قوّة التأثير الروحيّ الذي كان الإمام العسكري(ع) يتمتع به من دون أن يتكلّم مع الآخرين، أو أن يدخل معهم في أيِّ حوار، وتلك هي خصوصيّة أهل البيت(ع) الذين يملكون من الملكات القدسيّة التي حباهم الله إيَّاها ما يفيضون به على كلِّ النّاس الذين يعيشون معهم بكلِّ المعرفة لله والروحانية والخُلُق العالي الذي يجتذبون الناس به إلى الخطِّ الأصيل الذي يمثّلونه، وهو خطُّ الإسلام في منهج أهل البيت(ع).
وينقل لنا التاريخ أيضاً كيف كان تأثير الإمام(ع) في السجن، ففي الرواية عن عليّ بن محمد عن محمّد بن إسماعيل العلويّ قال: "حُبس أبو محمد العسكري عند عليّ بن أوتامش، وهو أنصب الناس وأشدّهم على آل أبي طالب، وقيل له: افعل به وافعل، فما أقام عنده يوماً حتى وضع خدّيه له ـ كنايةً عن الخضوع والتذلّل ـ وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً، فخرج من عنده، وهو أحسن النّاس بصيرةً وأحسن الناس فيه قولاً"(2).
وقد كان تأثير الإمام العسكري(ع) الروحيّ على هذا الرجل قويّاً وصل إلى درجةٍ استطاع فيها أن يغيّر تفكيره كلَّه ووجدانه كلَّه، وإذا به يتحوّل من عدوٍّ لدود إلى صديق حميم.
ومن كراماته(ع) أنَّه كان يعرف ما في نفوس النّاس من دون أن يخبروه، فقد جاء في الرواية »عن إسحاق بن محمد النخعي قال: حدّثني إسماعيل بن محمد بن عليّ بن إسماعيل بن عليّ بن عبد الله بن العباس قال: قعدت لأبي محمد(ع) على ظهر الطريق، فلما مرَّ بي شكوتُ إليه الحاجة، وحلفتُ أنَّه ليس عندي درهمٌ فما فوقه ولا غداء ولا عشاء، قال، فقال(ع): "تحلف بالله كاذباً، وقد دفنت مائتي دينار، وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطيّة، أعطهِ يا غلامُ ما معك"، فأعطاني غلامه مائة دينار، ثم أقبل عليَّ فقال لي: "إنَّك تُحْرَمُ الدنانير التي دفنتَها أحوجَ ما تكون إليها"(3). فالله تعالى يُلهم أنبياءه وأولياءه كلَّ ما يحتاجون إليه، مما يُثبت كرامتهم وقربهم إلى الله وحبوتهم عنده، وهذا لا يختصُّ بالإمام العسكري(ع) فقط، فعندما ندرس حياة كلِّ إمام من أئمة أهل البيت(ع)، فإننا نجد الكثير من هذه الكرامات التي لولا الإيمان بالله، ولولا المعرفة بأولياء الله، لما كان يصدّقها أحد.
المصادر:
(1) الكافي، ج:1، ص:512.
(2) الكافي، ج:1، ص:584.
(3) الإرشاد، ص:332.