قد ذكر في تاريخ الإمام العسكريّ (ع)، أنّ الخليفة العباسي حبسه، ونحن نعرف أنّ الأئمّة (ع) كانوا يُسجنون في عهد بني العبّاس، حيث كان هؤلاء يعرفون أنّ الأئمة من أهل البيت (ع) يملكون امتداداً روحيّاً ينفتح على امتداد سياسيّ معرفيّ، يحمله النّاس في نفوسهم لأهل البيت (ع)، لأنهم يعتبرونهم في موقع الإمامة، وربّما يرون أنَّ لهم الشرعيّة في موقع السّلطة، ولذلك، كانوا يوكّلون عناصر مخابراتهم لرصد حركة كلّ إمام، بغية محاصرته، مخافة انفتاحه على المجتمع، وتخويف النّاس من اللّقاء به، وربّما كانوا بين وقت وآخر يعملون على إيذاء هذا الإمام أو ذاك، بزجّه في السّجن.
وهنا، ينقل التّاريخ لنا كيف كان تأثير الإمام (ع) في السِّجن، ففي الرّواية عن عليّ بن محمد عن محمد بن إسماعيل العلوي، قال: "حُبس أبو محمد عند علي بن نارمش، وهو أنصب الناس وأشدّهم على آل أبي طالب، وقيل له: افعل به وافعل، فما أقام عنده إلا يوماً، حتى وضع خدّيه له ـ كناية عن الخضوع والتذلّل ـ وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً، فخرج من عنده وهو أحسن النّاس بصيرةً، وأحسنهم فيه قولاً".
وقد كان تأثير الإمام العسكريّ (ع) الرّوحيّ في هذا الرّجل قويّاً، ووصل إلى درجة أنّه استطاع فيها أن يقلب تفكيره كلّه ووجدانه كلّه، وإذا به يتحوَّل من عدوٍّ لدود إلى صديق حميم، بل تحوَّل إلى داعية إلى الإمام (ع).
خرج في بعض توقيعاته عند اختلاف قومٍ من شيعته في أمره ـ وانظروا كيف كان الإمام (ع) يعيش المرارة من الذين يحيطون به، أو ممن يحسبون من أتباع أهل البيت (ع) ـ قال (ع): "ما مُني أحدٌ من آبائي بمثل ما مُنيت به من شكّ هذه العصابة فيَّ، فإن كان هذا الأمر أمراً اعتقدتموه، ودنتم به إلى وقت ثم ينقطع، فللشكّ موضع ـ فقد تحصل لدى البعض شبهات وشكّ في بعض الأمور، لكنَّه يحاول أن يتحرَّك من أجل أن يزيل الشّكّ ليلتقي بالحقيقة ـ وإن كان متَّصلاً ما اتَّصلت أمور الله، فما معنى هذا الشّكّ؟"، لأنّ الشّكّ لا ينطلق من قاعدة.
وقال لشيعته وهو يوصيهم، والوصيّة هي للشّيعة في الخطِّ الإسلامي، لأنّ التشيّع ليس شيئاً زائداً عن الإسلام، بل هو الخطّ الأصيل للإسلام، وهذه الوصيَّة مرويَّة أيضاً عن الإمام الصَّادق (ع)، مع بعض التّغيير في الألفاظ: "أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله ـ في معرفته وطاعته وعبادته ـ وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برٍّ أو فاجر، وطول السّجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمّد (ص).
صلّوا في عشائرهم ـ يعني هؤلاء الّذين يجاورونكم وتختلفون معهم في المذهب ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنَّ الرّجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدَّى الأمانة، وحسَّن خلقه مع النّاس، قيل هذا شيعي، فيسرّني ذلك ـ لأنّه سائر على الحقّ والاستقامة في خطِّ الإسلام ـ اتّقوا الله وكونوا زيناً ـ نتزيَّن به ـ ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كلَّ مودّة ـ اجعلوا النّاس يحبّوننا، فلا تتحدَّثوا مع النّاس بالحقد والبغضاء والسّباب وما إلى ذلك ـ وادفعوا عنّا كلّ قبيح، فإنّه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوءٍ فما نحن كذلك، لنا حقّ في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلا كذّاب".
ويذكر المؤرِّخون أنّه عندما أعلنت وفاته، ضجَّت سامرّاء ضجَّةً واحدة، وانطلق كلّ النّاس في تشييعه، وأرسل الخليفة إلى بيته من يفحص هل له ولد، ويفحص جواريه هل إنَّ إحداهنّ حامل، لأنهم كانوا يريدون أن يطمئنوا لانقطاع الإمامة، ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ أخفى وليّه بالطَّريقة التي حفظ بها هذا الوليّ الّذي ينتظره العالم كلّه، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً.
وصلّى الله على الإمام الحسن العسكريّ (ع)، وعلى آبائه (ع)، وعلى ولده (ع)؛ حجَّة الله في الأرض، سائلين الله أن ينفعنا ببركته وبركة آبائه، وأن يرزقنا شفاعتهم، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
وهذه هي بعض آثار الإمام العسكريّ (ع)، الّتي نريد أن ننفتح عليها، لنـزداد علماً من علمه، ووعياً مما يعطينا من عناصر الوعي.
وقد كنت، ولاأزال، أقول لكم: لا تقتصروا في علاقاتكم بالأئمَّة من أهل البيت (ع) على جانب المأساة، ولكن انطلقوا إلى جانب العلم الذي علّموه، والهدي الّذي أرادوا لنا الاهتداء به، والنّهج الذي نسير عليه: "أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا"، أن نتعلّم علومهم، وأن ننهج نهجهم، وأن نطلق سيرتهم كلّها للعالم كلّه، ولا سيَّما العالم المعاصر، ليعرف من هم أهل البيت (ع)، لأنَّ الكثيرين، حتى ممن ينتمون إلى أهل البيت (ع)، لا يعرفون من هم أهل البيت (ع) علماً وروحانيّةً وحركةً ومنهجاً.
*من فكر وثقافة، ندوة الشام الأسبوعية، تاريخ 8 ربيع الأوّل 1421هـ .
قد ذكر في تاريخ الإمام العسكريّ (ع)، أنّ الخليفة العباسي حبسه، ونحن نعرف أنّ الأئمّة (ع) كانوا يُسجنون في عهد بني العبّاس، حيث كان هؤلاء يعرفون أنّ الأئمة من أهل البيت (ع) يملكون امتداداً روحيّاً ينفتح على امتداد سياسيّ معرفيّ، يحمله النّاس في نفوسهم لأهل البيت (ع)، لأنهم يعتبرونهم في موقع الإمامة، وربّما يرون أنَّ لهم الشرعيّة في موقع السّلطة، ولذلك، كانوا يوكّلون عناصر مخابراتهم لرصد حركة كلّ إمام، بغية محاصرته، مخافة انفتاحه على المجتمع، وتخويف النّاس من اللّقاء به، وربّما كانوا بين وقت وآخر يعملون على إيذاء هذا الإمام أو ذاك، بزجّه في السّجن.
وهنا، ينقل التّاريخ لنا كيف كان تأثير الإمام (ع) في السِّجن، ففي الرّواية عن عليّ بن محمد عن محمد بن إسماعيل العلوي، قال: "حُبس أبو محمد عند علي بن نارمش، وهو أنصب الناس وأشدّهم على آل أبي طالب، وقيل له: افعل به وافعل، فما أقام عنده إلا يوماً، حتى وضع خدّيه له ـ كناية عن الخضوع والتذلّل ـ وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً، فخرج من عنده وهو أحسن النّاس بصيرةً، وأحسنهم فيه قولاً".
وقد كان تأثير الإمام العسكريّ (ع) الرّوحيّ في هذا الرّجل قويّاً، ووصل إلى درجة أنّه استطاع فيها أن يقلب تفكيره كلّه ووجدانه كلّه، وإذا به يتحوَّل من عدوٍّ لدود إلى صديق حميم، بل تحوَّل إلى داعية إلى الإمام (ع).
خرج في بعض توقيعاته عند اختلاف قومٍ من شيعته في أمره ـ وانظروا كيف كان الإمام (ع) يعيش المرارة من الذين يحيطون به، أو ممن يحسبون من أتباع أهل البيت (ع) ـ قال (ع): "ما مُني أحدٌ من آبائي بمثل ما مُنيت به من شكّ هذه العصابة فيَّ، فإن كان هذا الأمر أمراً اعتقدتموه، ودنتم به إلى وقت ثم ينقطع، فللشكّ موضع ـ فقد تحصل لدى البعض شبهات وشكّ في بعض الأمور، لكنَّه يحاول أن يتحرَّك من أجل أن يزيل الشّكّ ليلتقي بالحقيقة ـ وإن كان متَّصلاً ما اتَّصلت أمور الله، فما معنى هذا الشّكّ؟"، لأنّ الشّكّ لا ينطلق من قاعدة.
وقال لشيعته وهو يوصيهم، والوصيّة هي للشّيعة في الخطِّ الإسلامي، لأنّ التشيّع ليس شيئاً زائداً عن الإسلام، بل هو الخطّ الأصيل للإسلام، وهذه الوصيَّة مرويَّة أيضاً عن الإمام الصَّادق (ع)، مع بعض التّغيير في الألفاظ: "أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله ـ في معرفته وطاعته وعبادته ـ وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برٍّ أو فاجر، وطول السّجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمّد (ص).
صلّوا في عشائرهم ـ يعني هؤلاء الّذين يجاورونكم وتختلفون معهم في المذهب ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنَّ الرّجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدَّى الأمانة، وحسَّن خلقه مع النّاس، قيل هذا شيعي، فيسرّني ذلك ـ لأنّه سائر على الحقّ والاستقامة في خطِّ الإسلام ـ اتّقوا الله وكونوا زيناً ـ نتزيَّن به ـ ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كلَّ مودّة ـ اجعلوا النّاس يحبّوننا، فلا تتحدَّثوا مع النّاس بالحقد والبغضاء والسّباب وما إلى ذلك ـ وادفعوا عنّا كلّ قبيح، فإنّه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوءٍ فما نحن كذلك، لنا حقّ في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلا كذّاب".
ويذكر المؤرِّخون أنّه عندما أعلنت وفاته، ضجَّت سامرّاء ضجَّةً واحدة، وانطلق كلّ النّاس في تشييعه، وأرسل الخليفة إلى بيته من يفحص هل له ولد، ويفحص جواريه هل إنَّ إحداهنّ حامل، لأنهم كانوا يريدون أن يطمئنوا لانقطاع الإمامة، ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ أخفى وليّه بالطَّريقة التي حفظ بها هذا الوليّ الّذي ينتظره العالم كلّه، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً.
وصلّى الله على الإمام الحسن العسكريّ (ع)، وعلى آبائه (ع)، وعلى ولده (ع)؛ حجَّة الله في الأرض، سائلين الله أن ينفعنا ببركته وبركة آبائه، وأن يرزقنا شفاعتهم، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
وهذه هي بعض آثار الإمام العسكريّ (ع)، الّتي نريد أن ننفتح عليها، لنـزداد علماً من علمه، ووعياً مما يعطينا من عناصر الوعي.
وقد كنت، ولاأزال، أقول لكم: لا تقتصروا في علاقاتكم بالأئمَّة من أهل البيت (ع) على جانب المأساة، ولكن انطلقوا إلى جانب العلم الذي علّموه، والهدي الّذي أرادوا لنا الاهتداء به، والنّهج الذي نسير عليه: "أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا"، أن نتعلّم علومهم، وأن ننهج نهجهم، وأن نطلق سيرتهم كلّها للعالم كلّه، ولا سيَّما العالم المعاصر، ليعرف من هم أهل البيت (ع)، لأنَّ الكثيرين، حتى ممن ينتمون إلى أهل البيت (ع)، لا يعرفون من هم أهل البيت (ع) علماً وروحانيّةً وحركةً ومنهجاً.
*من فكر وثقافة، ندوة الشام الأسبوعية، تاريخ 8 ربيع الأوّل 1421هـ .