في ذكرى وفاة الإمام العسكري(ع): المسؤوليَّة عن تصحيح المسار

في ذكرى وفاة الإمام العسكري(ع): المسؤوليَّة عن تصحيح المسار

في الثّامن من ربيع الأوّل، كانت وفاة الإمام الحادي عشر من أئمّة أهل البيت(ع)، وهو الإمام الحسن بن عليّ العسكري(ع).

وعندما ندرس حياة هذا الإمام، فإنّنا لا نجد الكثير من تفاصيلها بالدّرجة التي يمكن للإنسان أن يحيط بها، ليتعرّف إلى عناصر العظمة التي يختزنها في شخصيّته في الجانب الروحي الذي ينفتح على آفاق واسعة لا تنحصر في الفكر أو الجانب العلميّ وحدهما، بل في كلّ الجوانب التي استطاعت أن تفرض شخصيّته على مجتمعه، بحيث ينقل كتّاب سيرته أنَّ أعداءه وأصدقاءه أجمعوا على تعظيمه وتقديره وإكباره.

شهادة من متعصّب

فنحن نقرأ فيما ينقله مؤرّخو سيرته، عن شخص كان ممّن يضمر العداوة له ولكلّ أهل البيت(ع)، وهو (أحمد بن عبد الله بن خاقان)، حيث يقول: "ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى من العلويّة مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا في هدوئه وسكونه وعفافه ونبله وكبرته عند أهل بيته وبني هاشم كافّةً، وتقديمهم إيّاه على ذوي السنّ منهم والخطر، وكذلك كانت حاله عند القوّاد والوزراء وعوام الناس"[1].

وقال له أبوه، كما يقول هذا الرّجل الّذي رأى أباه يقدّم الإمام العسكري(ع)، حتى إنّه لم يلتفت إلى زيارة وليّ العهد له، فلقد كان هذا الرّجل من كبار القوم، وقد استغرب ابنه المعقَّد منه ذلك، وسأله عن سبب اهتمامه بالإمام، فقال له: "يا بنيّ، لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العبّاس، ما استحقّها أحد من بني هاشم غيره، فإنّه يستحقّها في فضله وعفافه وهديه وصيانة نفسه وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه"[2].

ثم يقول هذا المتعصّب كما يصفه كتّاب السيرة: "فما سألت أحداً من بني هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر النّاس، إلاّ وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحلّ الرّفيع والقول الجميل، والتّقديم له على جميع أهل بيته ومشائخه، فعظم قدره عندي، ولم أرَ له وليّاً ولا عدوّاً إلاّ وهو يحسن القول فيه والثّناء عليه"[3].

ولسنا نريد من خلال هذه الشّهادة أن ندخل في تقييم الإمام(ع)، لمجرَّد أنّ هذا الرجل شهد له، فالإمام يتميّز بموقع إمامته بالدّرجة الرّفيعة عند الله، وبالمحلّ الكبير في الواقع الإسلاميّ كلّه، لكنّنا نريد أن نأخذ من هذه الشّهادة التي تنفتح على شهادات متنوّعة لكلّ طبقات المجتمع المميّز، إضافةً إلى المجتمع العادي الذي كان يعيش فيه النّاس، فنجد أنّ هذا يمثّل الدّلالة على أنّ الإمام الحسن العسكري(ع) قد استطاع أن يدخل في مجتمعه علماً وفضلاً وحركة ومنهجاً وزهداً وعبادة، بحيث أخذ بكلّ عقول مجتمعه وبكلّ قلوبهم، حتى أصبح في موقع القيمة المميّزة التي يخشع لها العدوّ والصديق. وإنّنا نرى أنّ ما من شخصيّة كبيرة وفاعلة في المجتمع، إلاّ وهناك من يسيء القول فيها، وهناك مَن يحسن القول فيها، لكن أن تجد في مجتمع، هو من الناحية الرسميّة يقف بشدّة ضدّ هذا الخطّ من أهل البيت(ع)، ليحاصره وليضيّق عليه، وليعمل كلّ ما من شأنه أن ينقص قدره، أن تجد شهادة الأولياء والأعداء لمثل هؤلاء، فإنّك تستطيع أن تأخذ من هذه الشهادة اختصاراً لكلّ نشاطه المتحرّك في الدّخول إلى عقول الناس علماً، وإلى قلوب الناس روحانيّة، وإلى واقع الناس حركة، وقد تختصر بعض الشّهادات كلّ واقع هذا الإنسان في كلّ حياته.

شهادة أخرى

وهناك شهادة أخرى لسجّانه (صالح بن وصيف)، وقد حبسه خليفة زمانه آنذاك من بني العباس، وجاء الحاقدون من بني العباس ومن غيرهم يطلبون من هذا السجّان الذي أُوكل إليه أمر سجنه، أن يضيّق عليه غاية التّضييق، وربّما يتوسّلون بذلك إلى أن ينتهي التّضييق عليه إلى إنهاء حياته، فقال لهم: "وما أصنع وقد وكّلت به رجلين من أشرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصَّلاة والصّيام إلى أمر عظيم، فقلت لهما: ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجل يصوم النّهار ويقوم اللّيل كلّه، لا يتكلّم ولا يتشاغل، وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا، ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا"[4]، بحيث استطاع أن يؤثّر فيهما بقوّة شخصيّته الروحية، وبهذا الجوّ الرّوحاني الذي لم يجدا مثله. فالإنسان ـــ في العادة ـــ يعيش في السّجن حالة نفسية صعبة، ولكنّهما وجداه في أعلى درجات الفرح الرّوحيّ بالله، وفي أعمق مواقع الإخلاص له سبحانه وتعالى.

هذه هي الصّورة التي نستطيع أن نأخذها ممّا ذكره المؤرّخون في حياته، وهي ـــ كما ذكرنا ـــ تختصر في دلالاتها وفي خلفياتها الكثير ممّا يوحي إلينا بعظمته. ونحن نحبّ أن نطلّ على بعض ما صدر عن هذا الإمام، ممّا وصل إلينا فيما نقله الرّواة، فنجد أنَّ هناك من ينقل عنه مسألة تتَّصل بالقرآن، في ظلّ النشاط الثقافي المضادّ والمنحرف الذي كان يتمثّل ببعض الرموز الثقافية الموجودة في زمنه.

درس في العمل الحركي

ينقل (أبو القاسم الكوفي) في كتاب (التبديل): "إنّ اسحق الكندي، وهو فيلسوف العراق في زمانه"، وقد يناقش البعض في هل إنّ المراد هو إسحق أو غيره، إلاّ أنَّ المهمّ لدينا أنّ الرجل يملك ثقافة عميقة، حيث كان أستاذاً من أساتذة الفلسفة والثّقافة في ذلك العصر.

وفي تتمّة الرواية، أنّه "أخذ في تأليف كتاب في تناقض القرآن، وشغل نفسه بذلك، وتفرّد به في منزله ـــ أي أعطاه كلّ وقته ـــ وأنّ بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام الحسن العسكري(ع)، فقال له (أبو محمد)، وهذه هي كنية الإمام الحسن العسكري: أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكنديّ عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟ فقال التّلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال أبو محمد(ع) أتؤدّي ما ألقيه إليك؟ قال: نعم. قال: فصِرْ إليه، وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأنسة في ذلك، فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنّه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلّم بالقرآن ـــ أيّاً كان المتكلّم به، سواء كان النبيّ(ص) أو أيّ شخص آخر ـــ هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم به منه غير المعاني التي قد ظننت أنّك ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول إنّه من الجائز"، لأنّه رجل يفهم إذا سمع ما أوجب ذلك ـــ لأنّ الناس قد يختلفون في فهم ما تقوله لهم، وليس من الضروري أن يكون فهمهم لما تقول واحداً، وهذا أمر يحدث بين الناس فيما يقرأون من كتب أو فيما يسمعون، ثم مضى يعلّمه: "فقل له: فما يدريك، لعلّه أراد غير الّذي ذهبت أنتَ إليه، فتكون واضعاً لغير معانيه".

"فصار الرّجل إلى الكنديّ، وتلطّف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة، فقال له: أعد عليّ، فأعاد عليه، فتفكّر في نفسه، ورأى ذلك محتملاً في اللّغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت عليك إلاّ أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلاّ، ما مثلك اهتدى إلى هذا ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرّفني من أين لك هذا؟ فقال أمرني به أبو محمد(ع)، فقال: الآن جئتَ به، وما كان ليخرج مثل هذا إلاّ من ذلك البيت، ثم إنّه دعا بالنّار وأحرق جميع ما كان ألّفه"[5].

دلالات القصّة

فما هي دلالات هذه القصّة؟

الدلالة الأولى: هي أنّ الإمام الحسن العسكري(ع) كان يتابع حركة الثقافة في زمانه، وكان يتحرّك على كل الاتجاهات المضادّة التي تنطلق في مواجهة الإسلام، فلم يكن خارج نطاق الواقع الثقافي، وهذا ينطلق من مسؤوليّة الإمام عن تصحيح المسار الإسلامي في كلّ ما يمكن أن يعرض عليه من الانحرافات، ويرى أنَّ عليه أن يقوم بالمبادرة الفعلية في ذلك، إمّا بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. وهذا هو ما نرصده في سيرة أئمة أهل البيت(ع)، فنحن عندما نقرأ كلّ التراث الذي نقله لنا المؤرّخون والباحثون، فإنّنا نرى أنّ كلّ إمام من الأئمّة، يواجه كلّ التيارات التي تتحرّك في داخل الواقع الإسلاميّ، عندما يعيش المسلمون الخلاف الكلاميّ تارةً، والفقهيّ تارة أخرى، فيتمذهب كلّ واحد منهم بمذهب معيّن، وينطلقون إلى الواقع الإسلاميّ ليديروا الحوار حول هذه القضايا، حتى يصحّحوا ما فسد، ويقوّموا ما انحرف، ويلتفتوا إلى الواقع الإسلاميّ عندما تفد عليه التيّارات اللاإسلاميّة، فيجلسوا مع الزنادقة ومع الملاحدة ومع اليهود والنصارى والمجوس وأهل الفلسفات، ليديروا الحوار معهم بكل العقل المنفتح على الإنسان الآخر، في كلّ ما هو فيه، وبكلّ لسان لا ينطلق إلاّ بالتي هي أحسن، وبكلّ أسلوب لا يتحرّك إلاّ بالتي هي أحسن.

خطٌّ متَّصل الحلقات

وهذا ما تمثّل في تأريخ الإمام جعفر الصّادق(ع)، عندما كان يجلس في المسجد الحرام، والناس يطوفون، فيما هو يناقش (عبد الله بن المقفّع) وأبا شاكر الدّيصاني، وغيرهما ممّن يطلق عليهم أنّهم من زنادقة ذلك الزّمان، ومن أساتذة الثقافة في ذلك العصر، وكان الإمام الصادق(ع) يتكلّم بكلّ لطف، ويحاورهم بكلّ عمق، حتى قال أحدهم، وأظنّه ابن المقفّع: "ولا واحد من هؤلاء يستحقّ اسم الإنسانيّة إلا هذا الشّيخ الجالس ـ وأشار إلى جعفر بن محمّد ـ "، فقام آخر وتحدّث معه، ثم رجع إلى صاحبه وقال: "ما هذا ببشر. إن كان في الدّنيا روحانيّ يتجسّد إذا شاء ظاهراً، أو يتروّح إذا شاء باطناً، فهو هذا"[6].

ولذلك استطاع الإمام الصادق(ع) أن يملأ كلّ المرحلة التي عاشها في تقويم المسار الإسلاميّ، بالفكر الإسلامي في مواجهة الفكر غير الإسلامي. وعندما ندرس تأريخ أبيه محمد الباقر(ع)، وتأريخ ولده موسى الكاظم(ع)، والإمام الرضا(ع)، فإنّنا نجد أنّ أي تبار جديد يفرض نفسه على الواقع، إلاّ والأئمة أوّل من يتصدّى له، وفي ذلك درس، وهو أنّ العلماء لا يجوز أن ينعزلوا في دائرة خاصّة، بل لا بدَّ لهم من أن ينفتحوا على كلّ الدوائر الثقافية التي تفرض نفسها على الواقع الإسلاميّ لتنحرف به عن مسيرته تارة ولتصادر حقائقه أخرى، وأنّ عليهم أن ينزلوا إلى السّاحة ميدانياً، ليواجهوا كلّ الاتجاهات المادية والعلمانية، والانحرافات التي تطرأ على الفكر الإسلامي، ولا سيّما في هذا العصر الذي استطاع من خلال المستوى العلميّ الكبير، أن يخترق كلّ ساحاتنا، وأن يواجه كلّ أفكارنا وكلّ قِيَمِنا ليناقشها، فلا بدَّ لنا من أن نردّ العلم بالعلم، ونعالج الكلمة بالكلمة، وأن ننفتح على كلّ الواقع، لأنّنا مسؤولون عن حماية السّاحة الإسلاميّة ثقافياً، كما نحن مسؤولون عن حمايتها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، لأنّ الكفر كلّه قد برز إلى الإسلام كلّه، ولا بدَّ للإسلام كلّه من أن يبرز إلى الكفر كلّه، وعليّ(ع) الّذي قال رسول الله(ص) فيه عندما برز إلى عمرو بن عبد ودّ: "برز الإيمان كلّه إلى الشّرك كلّه"[7]، فإنّه لم يبرز بسيفه فحسب، ولكنّه برز بفكره وقوّة إيمانه.

ولو درسنا (نهج البلاغة)، لعرفنا كيف استطاع عليّ(ع) أن يعالج كلّ الواقع الإسلاميّ في كلّ اتجاهاته، وأن يعالج الواقع غير الإسلاميّ الذي فرض نفسه على الواقع الإسلامي، ولو درسنا الإمام عليّ(ع) دراسة معمّقة في أسلوبه وفي منهجه ومفردات فكره، وفي حركته المضادّة للانحرافات، لاستطعنا أن نحصل على علم كبير واسع، وعلى أفضل المناهج والأساليب في الحوار، لكنّ مشكلتنا أنّنا قد نكون كأولئك الّذين قال لهم: "سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السَّماء أعْرَف منّي بطرق الأرض"[8]، فسأله شخص: كم شعرة في رأسي؟!.. والكثيرون منّا يسألون عليّاً عن كثير من الشعرات الشخصية والاجتماعية، ولكنّهم لا يسألونه عن عقل الفكر، وعن قلب المحبّة، وعن حركة الواقع كلّه.

وقد قال ذلك الألماني: لو كان عليّ موجوداً، لرأيتَ مسجد الكوفة مملوءاً بالقبّعات الأوروبيّة، ولن تجد فيه موطئ قدم لعربي واحد. فماذا نعرف عن ثقافة عليّ وفكر عليّ وقِيَم عليّ؟.. إنّكم تتحمَّسون عندما يقال ضرب (مرحب) وقدَّه نصفين، وضرب (عمرو بن عبد ودّ) فقطع ساقه واحتزّ رأسه، فيما قدَّ أكثر من مرحب ثقافي وأكثر من عمرو بن عبد ودّ فكريّ، قدّه نصفين، عندما سلّط الحقيقة على كلّ هؤلاء. ولقد قال(ع) وهو يناجي ربّه بكلّ مرارة الإنسان الغريب في مجتمعه: "اللّهمّ إنّك لتعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك... اللّهمّ إنّي أوّل مَن سمع وأجاب"[9].

الرّفق في الحوار

الدلالة الثانية: كما نستوحي من هذه القصّة، أنّك عندما تريد أن تحاور إنساناً وتجادله، فلا يكن العنف سبيلك إلى ذلك، ولا يكن القلب القاسي وسيلتك إلى الانفتاح عليه، بل حاول أن تتلطَّف به أوّلاً، وأن تؤانسه ثانياً، حاول أن تربح قلبه قبل أن تخاطب عقله، لأنّ أقرب طريق إلى عقل الإنسان هو قلبه، لذلك حاول أن تدخل إلى قلبه وإحساسه شعورياً، ثم خاطب عقله، فإنّ العقل يرقّ ويلين، ويفتح لك أبوابه من خلال المحبّة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[10]، وهكذا كان رسول الله(ص) ينفتح على الناس برسالته، من خلال قلب رؤوف حنون، ولسان ليّن لطيف عذب. وهذا ما يجب أن نتعلّمه ـــ أيّها الأحبّة ـــ نحن الذين نختلف مذهبيّاً في مجتمعاتنا، ونختلف دينياً في أوسع من مجتمعاتنا، ونختلف سياسياً واجتماعياً وثقافياً، فنحن لا نتقن أن نتحدّث بمحبّة، ولا نتقن أن نحبّ الذين يخالفوننا، فيما نحن بحاجة إلى أن نحبّهم لنهديهم، كما علينا أن نحبّ الذين يتّفقون معنا لنلتقي معهم في موقع المحبّة، ونحبّ الذين لا يلتقون معنا من أجل أن تكون المحبّة هي الوسيلة للهداية. هكذا ينبغي لنا أن ننفتح على الناس الذين نريد أن نحاورهم.

الانفتاح على فكر الآخر

الدلالة الثالثة: هي هذا الأسلوب الذي اتّبعه الإمام العسكري(ع) في مخاطبة هذا الإنسان العالم، فلقد انفتح على علمه، لأنّه يرى أنّه حتى لو كان مسيئاً، لكنّه عالم يفكّر ولا يعيش العقدة، ولذلك ألقى إليه الفكرة على سبيل الاحتمال ليدفعه إلى التفكير، وهذا أمر نحتاجه كما يحتاجه العلماء والمثقّفون، وذلك بأن لا ينطلقوا من العقدة المستحكمة في نفوسهم عندما يريدون مواجهة العالم الآخر، فعلى العالم أن يخلص للعلم، أن يناقش كلّ شيء مع الآخر، وأن لا يتعصّب لخطئه إذا أخطأ، ولباطله إذا التزم الباطل، بل أن ينفتح كما انفتح هذا الفيلسوف عندما كان مخلصاً للعلم، فمشكلتنا أنّ بعضنا يخلص لذاته أكثر من إخلاصه للثقافة، ويخلص لشخصه أكثر ممّا يخلص للعلم، ولذلك فإنّه يسقط علمه وثقافته على مذبح ذاته، فيتعصّب للباطل حتى لو رأى الحقّ.

الثّقة العلميّة العالية بالأئمّة:

الدّلالة الرابعة: هي أنّ هذا الرجل الذي سمع من تلميذه أنّ هذا الأسلوب كان من قبل الإمام العسكري(ع)، قال: "لقد علمت أنّه لا يخرج هذا إلاّ من أهل هذا البيت"، وبذلك نعرف كم هي الثقة العلميّة التي كان يحملها الفلاسفة والمثقّفون في علم أهل البيت(ع)، ما يوحي بأنّهم قد بلغوا القمّة في العلم، حتى خضع الآخرون لعلمهم، وانحنوا لهذا المستوى الكبير من الثّقافة.

أيّها الأحبّة، عندما نملك مثل هذه الرّموز الروحيّة العلميّة التي اقتربت من الله كأفضل ما يكون القرب، واقتربت من الناس في خطّ المسؤوليّة كأفضل ما يكون الاقتراب، وانفتحت على كلّ الواقع، ولاحقت كلّ الاتجاهات، فإنّ مسؤوليّتنا عندما ننتمي إلى هؤلاء العظماء، وإلى هذه الثروة الكبيرة من العلم والروحانيّة والجهاد والحركة، أن نتساءل: هل نحن نتحرّك في طريقهم؟! أخشى أنّنا نعطيهم نبضات قلوبنا، وخفقات مشاعرنا، ودموع عيوننا، ثم نقول لهم: هذا يكفيكم منّا، أمّا علمكم، فنحن في شغل عنه، وأمّا روحانيّتكم، فلا علاقة لنا بها، إنّنا نحبّكم في التأريخ، ولكن إيّاكم أن تقتربوا إلينا،لأنّنا سوف نواجهكم كما واجهكم الذين في عهدكم.. إنّ مشكلتنا أنّ عليّاً(ع) لو جاءنا الآن، فمن الصعب أن ينجح في الانتخابات، لأنّنا لن نعطيه أصواتنا عندما يحملنا على المحجّة البيضاء، لأنّ أكثر من تلميذ لعليّ يتحرّك باسم عليّ وبمنطق عليّ، لكنّ الناس يرجمونه بالحجارة الكلاميّة وغير الكلاميّة.

أيّها الأحبّة، كونوا مع عليّ الذي كان مع الإسلام، ومع أبنائه الذين عاشوا الإسلام فكراً وحركة وجهاداً ومنهجاً، إنّهم يطلّون علينا من التأريخ، وعلينا أن نغتني بذلك كلّه أمام الفقر الذي نعيشه.

وسلام الله على أبي محمد الحسن العسكري، وسلام الله على ولده الّذي ننتظره ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً.

والحمد لله ربِّ العالمين.

  فكر وثقافة، ج3، المحاضرة الحادية والعشرون، بتاريخ: 8 ربيع الأوَّل/1418 هـ. 


[1] أعيان الشّيعة، محسن الأمين، ج2، ص40.

[2] م.ن.

[3] الكافي، الكليني، ج1، ص504.

[4] الكافي، ج4، ص512.

[5] مناقب آل أبي طالب، ج3، ص526.

[6] الإمام جعفر الصادق، عبد الحليم الجندي، ص286.

[7] بحار الأنوار، المجلسي، ج20، ص215.

[8] نهج البلاغة، ص280.

[9] نهج البلاغة، الخطبة: 131.

[10] سورة آل عمران، الآية: 159.

في الثّامن من ربيع الأوّل، كانت وفاة الإمام الحادي عشر من أئمّة أهل البيت(ع)، وهو الإمام الحسن بن عليّ العسكري(ع).

وعندما ندرس حياة هذا الإمام، فإنّنا لا نجد الكثير من تفاصيلها بالدّرجة التي يمكن للإنسان أن يحيط بها، ليتعرّف إلى عناصر العظمة التي يختزنها في شخصيّته في الجانب الروحي الذي ينفتح على آفاق واسعة لا تنحصر في الفكر أو الجانب العلميّ وحدهما، بل في كلّ الجوانب التي استطاعت أن تفرض شخصيّته على مجتمعه، بحيث ينقل كتّاب سيرته أنَّ أعداءه وأصدقاءه أجمعوا على تعظيمه وتقديره وإكباره.

شهادة من متعصّب

فنحن نقرأ فيما ينقله مؤرّخو سيرته، عن شخص كان ممّن يضمر العداوة له ولكلّ أهل البيت(ع)، وهو (أحمد بن عبد الله بن خاقان)، حيث يقول: "ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى من العلويّة مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا في هدوئه وسكونه وعفافه ونبله وكبرته عند أهل بيته وبني هاشم كافّةً، وتقديمهم إيّاه على ذوي السنّ منهم والخطر، وكذلك كانت حاله عند القوّاد والوزراء وعوام الناس"[1].

وقال له أبوه، كما يقول هذا الرّجل الّذي رأى أباه يقدّم الإمام العسكري(ع)، حتى إنّه لم يلتفت إلى زيارة وليّ العهد له، فلقد كان هذا الرّجل من كبار القوم، وقد استغرب ابنه المعقَّد منه ذلك، وسأله عن سبب اهتمامه بالإمام، فقال له: "يا بنيّ، لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العبّاس، ما استحقّها أحد من بني هاشم غيره، فإنّه يستحقّها في فضله وعفافه وهديه وصيانة نفسه وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه"[2].

ثم يقول هذا المتعصّب كما يصفه كتّاب السيرة: "فما سألت أحداً من بني هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر النّاس، إلاّ وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحلّ الرّفيع والقول الجميل، والتّقديم له على جميع أهل بيته ومشائخه، فعظم قدره عندي، ولم أرَ له وليّاً ولا عدوّاً إلاّ وهو يحسن القول فيه والثّناء عليه"[3].

ولسنا نريد من خلال هذه الشّهادة أن ندخل في تقييم الإمام(ع)، لمجرَّد أنّ هذا الرجل شهد له، فالإمام يتميّز بموقع إمامته بالدّرجة الرّفيعة عند الله، وبالمحلّ الكبير في الواقع الإسلاميّ كلّه، لكنّنا نريد أن نأخذ من هذه الشّهادة التي تنفتح على شهادات متنوّعة لكلّ طبقات المجتمع المميّز، إضافةً إلى المجتمع العادي الذي كان يعيش فيه النّاس، فنجد أنّ هذا يمثّل الدّلالة على أنّ الإمام الحسن العسكري(ع) قد استطاع أن يدخل في مجتمعه علماً وفضلاً وحركة ومنهجاً وزهداً وعبادة، بحيث أخذ بكلّ عقول مجتمعه وبكلّ قلوبهم، حتى أصبح في موقع القيمة المميّزة التي يخشع لها العدوّ والصديق. وإنّنا نرى أنّ ما من شخصيّة كبيرة وفاعلة في المجتمع، إلاّ وهناك من يسيء القول فيها، وهناك مَن يحسن القول فيها، لكن أن تجد في مجتمع، هو من الناحية الرسميّة يقف بشدّة ضدّ هذا الخطّ من أهل البيت(ع)، ليحاصره وليضيّق عليه، وليعمل كلّ ما من شأنه أن ينقص قدره، أن تجد شهادة الأولياء والأعداء لمثل هؤلاء، فإنّك تستطيع أن تأخذ من هذه الشهادة اختصاراً لكلّ نشاطه المتحرّك في الدّخول إلى عقول الناس علماً، وإلى قلوب الناس روحانيّة، وإلى واقع الناس حركة، وقد تختصر بعض الشّهادات كلّ واقع هذا الإنسان في كلّ حياته.

شهادة أخرى

وهناك شهادة أخرى لسجّانه (صالح بن وصيف)، وقد حبسه خليفة زمانه آنذاك من بني العباس، وجاء الحاقدون من بني العباس ومن غيرهم يطلبون من هذا السجّان الذي أُوكل إليه أمر سجنه، أن يضيّق عليه غاية التّضييق، وربّما يتوسّلون بذلك إلى أن ينتهي التّضييق عليه إلى إنهاء حياته، فقال لهم: "وما أصنع وقد وكّلت به رجلين من أشرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصَّلاة والصّيام إلى أمر عظيم، فقلت لهما: ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجل يصوم النّهار ويقوم اللّيل كلّه، لا يتكلّم ولا يتشاغل، وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا، ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا"[4]، بحيث استطاع أن يؤثّر فيهما بقوّة شخصيّته الروحية، وبهذا الجوّ الرّوحاني الذي لم يجدا مثله. فالإنسان ـــ في العادة ـــ يعيش في السّجن حالة نفسية صعبة، ولكنّهما وجداه في أعلى درجات الفرح الرّوحيّ بالله، وفي أعمق مواقع الإخلاص له سبحانه وتعالى.

هذه هي الصّورة التي نستطيع أن نأخذها ممّا ذكره المؤرّخون في حياته، وهي ـــ كما ذكرنا ـــ تختصر في دلالاتها وفي خلفياتها الكثير ممّا يوحي إلينا بعظمته. ونحن نحبّ أن نطلّ على بعض ما صدر عن هذا الإمام، ممّا وصل إلينا فيما نقله الرّواة، فنجد أنَّ هناك من ينقل عنه مسألة تتَّصل بالقرآن، في ظلّ النشاط الثقافي المضادّ والمنحرف الذي كان يتمثّل ببعض الرموز الثقافية الموجودة في زمنه.

درس في العمل الحركي

ينقل (أبو القاسم الكوفي) في كتاب (التبديل): "إنّ اسحق الكندي، وهو فيلسوف العراق في زمانه"، وقد يناقش البعض في هل إنّ المراد هو إسحق أو غيره، إلاّ أنَّ المهمّ لدينا أنّ الرجل يملك ثقافة عميقة، حيث كان أستاذاً من أساتذة الفلسفة والثّقافة في ذلك العصر.

وفي تتمّة الرواية، أنّه "أخذ في تأليف كتاب في تناقض القرآن، وشغل نفسه بذلك، وتفرّد به في منزله ـــ أي أعطاه كلّ وقته ـــ وأنّ بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام الحسن العسكري(ع)، فقال له (أبو محمد)، وهذه هي كنية الإمام الحسن العسكري: أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكنديّ عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟ فقال التّلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال أبو محمد(ع) أتؤدّي ما ألقيه إليك؟ قال: نعم. قال: فصِرْ إليه، وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأنسة في ذلك، فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنّه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلّم بالقرآن ـــ أيّاً كان المتكلّم به، سواء كان النبيّ(ص) أو أيّ شخص آخر ـــ هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم به منه غير المعاني التي قد ظننت أنّك ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول إنّه من الجائز"، لأنّه رجل يفهم إذا سمع ما أوجب ذلك ـــ لأنّ الناس قد يختلفون في فهم ما تقوله لهم، وليس من الضروري أن يكون فهمهم لما تقول واحداً، وهذا أمر يحدث بين الناس فيما يقرأون من كتب أو فيما يسمعون، ثم مضى يعلّمه: "فقل له: فما يدريك، لعلّه أراد غير الّذي ذهبت أنتَ إليه، فتكون واضعاً لغير معانيه".

"فصار الرّجل إلى الكنديّ، وتلطّف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة، فقال له: أعد عليّ، فأعاد عليه، فتفكّر في نفسه، ورأى ذلك محتملاً في اللّغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت عليك إلاّ أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلاّ، ما مثلك اهتدى إلى هذا ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرّفني من أين لك هذا؟ فقال أمرني به أبو محمد(ع)، فقال: الآن جئتَ به، وما كان ليخرج مثل هذا إلاّ من ذلك البيت، ثم إنّه دعا بالنّار وأحرق جميع ما كان ألّفه"[5].

دلالات القصّة

فما هي دلالات هذه القصّة؟

الدلالة الأولى: هي أنّ الإمام الحسن العسكري(ع) كان يتابع حركة الثقافة في زمانه، وكان يتحرّك على كل الاتجاهات المضادّة التي تنطلق في مواجهة الإسلام، فلم يكن خارج نطاق الواقع الثقافي، وهذا ينطلق من مسؤوليّة الإمام عن تصحيح المسار الإسلامي في كلّ ما يمكن أن يعرض عليه من الانحرافات، ويرى أنَّ عليه أن يقوم بالمبادرة الفعلية في ذلك، إمّا بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. وهذا هو ما نرصده في سيرة أئمة أهل البيت(ع)، فنحن عندما نقرأ كلّ التراث الذي نقله لنا المؤرّخون والباحثون، فإنّنا نرى أنّ كلّ إمام من الأئمّة، يواجه كلّ التيارات التي تتحرّك في داخل الواقع الإسلاميّ، عندما يعيش المسلمون الخلاف الكلاميّ تارةً، والفقهيّ تارة أخرى، فيتمذهب كلّ واحد منهم بمذهب معيّن، وينطلقون إلى الواقع الإسلاميّ ليديروا الحوار حول هذه القضايا، حتى يصحّحوا ما فسد، ويقوّموا ما انحرف، ويلتفتوا إلى الواقع الإسلاميّ عندما تفد عليه التيّارات اللاإسلاميّة، فيجلسوا مع الزنادقة ومع الملاحدة ومع اليهود والنصارى والمجوس وأهل الفلسفات، ليديروا الحوار معهم بكل العقل المنفتح على الإنسان الآخر، في كلّ ما هو فيه، وبكلّ لسان لا ينطلق إلاّ بالتي هي أحسن، وبكلّ أسلوب لا يتحرّك إلاّ بالتي هي أحسن.

خطٌّ متَّصل الحلقات

وهذا ما تمثّل في تأريخ الإمام جعفر الصّادق(ع)، عندما كان يجلس في المسجد الحرام، والناس يطوفون، فيما هو يناقش (عبد الله بن المقفّع) وأبا شاكر الدّيصاني، وغيرهما ممّن يطلق عليهم أنّهم من زنادقة ذلك الزّمان، ومن أساتذة الثقافة في ذلك العصر، وكان الإمام الصادق(ع) يتكلّم بكلّ لطف، ويحاورهم بكلّ عمق، حتى قال أحدهم، وأظنّه ابن المقفّع: "ولا واحد من هؤلاء يستحقّ اسم الإنسانيّة إلا هذا الشّيخ الجالس ـ وأشار إلى جعفر بن محمّد ـ "، فقام آخر وتحدّث معه، ثم رجع إلى صاحبه وقال: "ما هذا ببشر. إن كان في الدّنيا روحانيّ يتجسّد إذا شاء ظاهراً، أو يتروّح إذا شاء باطناً، فهو هذا"[6].

ولذلك استطاع الإمام الصادق(ع) أن يملأ كلّ المرحلة التي عاشها في تقويم المسار الإسلاميّ، بالفكر الإسلامي في مواجهة الفكر غير الإسلامي. وعندما ندرس تأريخ أبيه محمد الباقر(ع)، وتأريخ ولده موسى الكاظم(ع)، والإمام الرضا(ع)، فإنّنا نجد أنّ أي تبار جديد يفرض نفسه على الواقع، إلاّ والأئمة أوّل من يتصدّى له، وفي ذلك درس، وهو أنّ العلماء لا يجوز أن ينعزلوا في دائرة خاصّة، بل لا بدَّ لهم من أن ينفتحوا على كلّ الدوائر الثقافية التي تفرض نفسها على الواقع الإسلاميّ لتنحرف به عن مسيرته تارة ولتصادر حقائقه أخرى، وأنّ عليهم أن ينزلوا إلى السّاحة ميدانياً، ليواجهوا كلّ الاتجاهات المادية والعلمانية، والانحرافات التي تطرأ على الفكر الإسلامي، ولا سيّما في هذا العصر الذي استطاع من خلال المستوى العلميّ الكبير، أن يخترق كلّ ساحاتنا، وأن يواجه كلّ أفكارنا وكلّ قِيَمِنا ليناقشها، فلا بدَّ لنا من أن نردّ العلم بالعلم، ونعالج الكلمة بالكلمة، وأن ننفتح على كلّ الواقع، لأنّنا مسؤولون عن حماية السّاحة الإسلاميّة ثقافياً، كما نحن مسؤولون عن حمايتها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، لأنّ الكفر كلّه قد برز إلى الإسلام كلّه، ولا بدَّ للإسلام كلّه من أن يبرز إلى الكفر كلّه، وعليّ(ع) الّذي قال رسول الله(ص) فيه عندما برز إلى عمرو بن عبد ودّ: "برز الإيمان كلّه إلى الشّرك كلّه"[7]، فإنّه لم يبرز بسيفه فحسب، ولكنّه برز بفكره وقوّة إيمانه.

ولو درسنا (نهج البلاغة)، لعرفنا كيف استطاع عليّ(ع) أن يعالج كلّ الواقع الإسلاميّ في كلّ اتجاهاته، وأن يعالج الواقع غير الإسلاميّ الذي فرض نفسه على الواقع الإسلامي، ولو درسنا الإمام عليّ(ع) دراسة معمّقة في أسلوبه وفي منهجه ومفردات فكره، وفي حركته المضادّة للانحرافات، لاستطعنا أن نحصل على علم كبير واسع، وعلى أفضل المناهج والأساليب في الحوار، لكنّ مشكلتنا أنّنا قد نكون كأولئك الّذين قال لهم: "سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السَّماء أعْرَف منّي بطرق الأرض"[8]، فسأله شخص: كم شعرة في رأسي؟!.. والكثيرون منّا يسألون عليّاً عن كثير من الشعرات الشخصية والاجتماعية، ولكنّهم لا يسألونه عن عقل الفكر، وعن قلب المحبّة، وعن حركة الواقع كلّه.

وقد قال ذلك الألماني: لو كان عليّ موجوداً، لرأيتَ مسجد الكوفة مملوءاً بالقبّعات الأوروبيّة، ولن تجد فيه موطئ قدم لعربي واحد. فماذا نعرف عن ثقافة عليّ وفكر عليّ وقِيَم عليّ؟.. إنّكم تتحمَّسون عندما يقال ضرب (مرحب) وقدَّه نصفين، وضرب (عمرو بن عبد ودّ) فقطع ساقه واحتزّ رأسه، فيما قدَّ أكثر من مرحب ثقافي وأكثر من عمرو بن عبد ودّ فكريّ، قدّه نصفين، عندما سلّط الحقيقة على كلّ هؤلاء. ولقد قال(ع) وهو يناجي ربّه بكلّ مرارة الإنسان الغريب في مجتمعه: "اللّهمّ إنّك لتعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك... اللّهمّ إنّي أوّل مَن سمع وأجاب"[9].

الرّفق في الحوار

الدلالة الثانية: كما نستوحي من هذه القصّة، أنّك عندما تريد أن تحاور إنساناً وتجادله، فلا يكن العنف سبيلك إلى ذلك، ولا يكن القلب القاسي وسيلتك إلى الانفتاح عليه، بل حاول أن تتلطَّف به أوّلاً، وأن تؤانسه ثانياً، حاول أن تربح قلبه قبل أن تخاطب عقله، لأنّ أقرب طريق إلى عقل الإنسان هو قلبه، لذلك حاول أن تدخل إلى قلبه وإحساسه شعورياً، ثم خاطب عقله، فإنّ العقل يرقّ ويلين، ويفتح لك أبوابه من خلال المحبّة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[10]، وهكذا كان رسول الله(ص) ينفتح على الناس برسالته، من خلال قلب رؤوف حنون، ولسان ليّن لطيف عذب. وهذا ما يجب أن نتعلّمه ـــ أيّها الأحبّة ـــ نحن الذين نختلف مذهبيّاً في مجتمعاتنا، ونختلف دينياً في أوسع من مجتمعاتنا، ونختلف سياسياً واجتماعياً وثقافياً، فنحن لا نتقن أن نتحدّث بمحبّة، ولا نتقن أن نحبّ الذين يخالفوننا، فيما نحن بحاجة إلى أن نحبّهم لنهديهم، كما علينا أن نحبّ الذين يتّفقون معنا لنلتقي معهم في موقع المحبّة، ونحبّ الذين لا يلتقون معنا من أجل أن تكون المحبّة هي الوسيلة للهداية. هكذا ينبغي لنا أن ننفتح على الناس الذين نريد أن نحاورهم.

الانفتاح على فكر الآخر

الدلالة الثالثة: هي هذا الأسلوب الذي اتّبعه الإمام العسكري(ع) في مخاطبة هذا الإنسان العالم، فلقد انفتح على علمه، لأنّه يرى أنّه حتى لو كان مسيئاً، لكنّه عالم يفكّر ولا يعيش العقدة، ولذلك ألقى إليه الفكرة على سبيل الاحتمال ليدفعه إلى التفكير، وهذا أمر نحتاجه كما يحتاجه العلماء والمثقّفون، وذلك بأن لا ينطلقوا من العقدة المستحكمة في نفوسهم عندما يريدون مواجهة العالم الآخر، فعلى العالم أن يخلص للعلم، أن يناقش كلّ شيء مع الآخر، وأن لا يتعصّب لخطئه إذا أخطأ، ولباطله إذا التزم الباطل، بل أن ينفتح كما انفتح هذا الفيلسوف عندما كان مخلصاً للعلم، فمشكلتنا أنّ بعضنا يخلص لذاته أكثر من إخلاصه للثقافة، ويخلص لشخصه أكثر ممّا يخلص للعلم، ولذلك فإنّه يسقط علمه وثقافته على مذبح ذاته، فيتعصّب للباطل حتى لو رأى الحقّ.

الثّقة العلميّة العالية بالأئمّة:

الدّلالة الرابعة: هي أنّ هذا الرجل الذي سمع من تلميذه أنّ هذا الأسلوب كان من قبل الإمام العسكري(ع)، قال: "لقد علمت أنّه لا يخرج هذا إلاّ من أهل هذا البيت"، وبذلك نعرف كم هي الثقة العلميّة التي كان يحملها الفلاسفة والمثقّفون في علم أهل البيت(ع)، ما يوحي بأنّهم قد بلغوا القمّة في العلم، حتى خضع الآخرون لعلمهم، وانحنوا لهذا المستوى الكبير من الثّقافة.

أيّها الأحبّة، عندما نملك مثل هذه الرّموز الروحيّة العلميّة التي اقتربت من الله كأفضل ما يكون القرب، واقتربت من الناس في خطّ المسؤوليّة كأفضل ما يكون الاقتراب، وانفتحت على كلّ الواقع، ولاحقت كلّ الاتجاهات، فإنّ مسؤوليّتنا عندما ننتمي إلى هؤلاء العظماء، وإلى هذه الثروة الكبيرة من العلم والروحانيّة والجهاد والحركة، أن نتساءل: هل نحن نتحرّك في طريقهم؟! أخشى أنّنا نعطيهم نبضات قلوبنا، وخفقات مشاعرنا، ودموع عيوننا، ثم نقول لهم: هذا يكفيكم منّا، أمّا علمكم، فنحن في شغل عنه، وأمّا روحانيّتكم، فلا علاقة لنا بها، إنّنا نحبّكم في التأريخ، ولكن إيّاكم أن تقتربوا إلينا،لأنّنا سوف نواجهكم كما واجهكم الذين في عهدكم.. إنّ مشكلتنا أنّ عليّاً(ع) لو جاءنا الآن، فمن الصعب أن ينجح في الانتخابات، لأنّنا لن نعطيه أصواتنا عندما يحملنا على المحجّة البيضاء، لأنّ أكثر من تلميذ لعليّ يتحرّك باسم عليّ وبمنطق عليّ، لكنّ الناس يرجمونه بالحجارة الكلاميّة وغير الكلاميّة.

أيّها الأحبّة، كونوا مع عليّ الذي كان مع الإسلام، ومع أبنائه الذين عاشوا الإسلام فكراً وحركة وجهاداً ومنهجاً، إنّهم يطلّون علينا من التأريخ، وعلينا أن نغتني بذلك كلّه أمام الفقر الذي نعيشه.

وسلام الله على أبي محمد الحسن العسكري، وسلام الله على ولده الّذي ننتظره ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً.

والحمد لله ربِّ العالمين.

  فكر وثقافة، ج3، المحاضرة الحادية والعشرون، بتاريخ: 8 ربيع الأوَّل/1418 هـ. 


[1] أعيان الشّيعة، محسن الأمين، ج2، ص40.

[2] م.ن.

[3] الكافي، الكليني، ج1، ص504.

[4] الكافي، ج4، ص512.

[5] مناقب آل أبي طالب، ج3، ص526.

[6] الإمام جعفر الصادق، عبد الحليم الجندي، ص286.

[7] بحار الأنوار، المجلسي، ج20، ص215.

[8] نهج البلاغة، ص280.

[9] نهج البلاغة، الخطبة: 131.

[10] سورة آل عمران، الآية: 159.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية