ينقل أبو القاسم الكوفي في كتاب (التبديل): "إنّ إسحق الكندي، وهو فيلسوف العراق في زمانه، أخذ في تأليف كتاب في تناقض القرآن، وشغل نفسه بذلك، وتفرّد به في منزله ـــ أي أعطاه كلّ وقته ـــ.
وإنّ بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام الحسن العسكري (ع)، فقال له (أبو محمد) - وهذه هي كنية الإمام الحسن العسكري (ع) -: أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟ فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال أبو محمد (ع): أتؤدّي ما ألقيه إليك؟ قال: نعم. قال: فصِرْ إليه، وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأنسة في ذلك، فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنّه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلّم بالقرآن ـــ أيّاً كان المتكلّم به النبيّ (ص) أو أي شخص آخر ـــ هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم به منه غير المعاني التي قد ظننت أنّك ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول إنّه من الجائز، لأنّه رجل يفهم إذا سمع ما أوجب ذلك - لأنّ الناس قد يختلفون في فهم ما تقوله لهم، وليس من الضروري أن يكون فهمهم لما تقول واحداً، وهذا أمر يحدث بين الناس فيما يقرأون من كتب أو فيما يسمعون، ثم مضى يعلّمه - فإذا أوجب ذلك، فقل له: فما يدريك، لعلّه أراد غير الذي ذهبت أنتَ إليه، فتكون واضعاً لغير معانيه!.
فصار الرجل إلى الكندي، وتلطّف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة، فقال له: أعد عليّ، فأعاد عليه، فتفكّر في نفسه، ورأى ذلك محتملاً في اللّغة، وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت عليك إلّا أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلّا، ما مثلك اهتدى إلى هذا ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرّفني من أين لك هذا؟ فقال أمرني به أبو محمد (ع)، فقال: الآن جئتَ به، وما كان ليخرج مثل هذا إلّا من ذلك البيت. ثم إنّه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه"1.
دلالات وأبعاد
فما هي دلالات هذه القصّة؟
الدلالة الأولى: هي أنّ الإمام الحسن العسكري (ع) كان يتابع حركة الثقافة في زمانه، وكان يتحرّك على كلّ الاتجاهات المضادّة التي تنطلق في مواجهة الإسلام، فلم يكن خارج نطاق الواقع الثقافي، وهذا ينطلق من مسؤوليّة الإمام عن تصحيح المسار الإسلاميّ في كلّ ما يمكن أن يعرض عليه من الانحرافات، ويرى أنَّ عليه أن يقوم بالمبادرة الفعليّة في ذلك، إمّا بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر.
وهذا هو ما نرصده في سيرة أئمة أهل البيت (ع)، فنحن عندما نقرأ كلّ التراث الذي نقله لنا المؤرّخون والباحثون، فإنّنا نرى أنّ كلّ إمام من الأئمة يواجه كلّ التيارات التي تتحرّك في داخل الواقع الإسلاميّ، عندما يعيش المسلمون الخلاف الكلاميّ تارةً، والفقهيّ تارة أخرى، فيتمذهب كلّ واحد منهم بمذهب معيّن، وينطلقون إلى الواقع الإسلاميّ ليديروا الحوار حول هذه القضايا، حتى يصحّحوا ما فسد ويقوّموا ما انحرف، ويلتفتون إلى الواقع الإسلاميّ عندما تفد عليه التيارات اللا إسلاميّة، فيجلسون مع الزنادقة ومع الملاحدة ومع اليهود والنصارى والمجوس وأهل الفلسفات، ليديروا الحوار معهم بكلّ العقل المنفتح على الإنسان الآخر في كلّ ما هو فيه، وبكلّ لسان لا ينطلق إلّا بالتي هي أحسن وبكلّ أسلوب لا يتحرّك إلاّ بالتي هي أحسن.
الدلالة الثانية: كما نستوحي من هذه القصة، أنّك عندما تريد أن تحاور إنساناً وتجادله، فلا يكن العنف سبيلك إلى ذلك، ولا يكن القلب القاسي وسيلتك إلى الانفتاح عليه، بل حاول أن تتلطَّف به أوّلاً، وأن تؤانسه ثانياً، حاول أن تربح قلبه قبل أن تخاطب عقله، لأنّ أقرب طريق إلى عقل الإنسان هو قلبه، لذلك، حاول أن تدخل إلى قلبه وإحساسه شعورياً، ثم خاطب عقله، فإنّ العقل يرقّ ويلين ويفتح لك أبوابه من خلال المحبّة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159]. وهكذا كان رسول الله (ص) ينفتح على الناس برسالته، من خلال قلب رؤوف حنون، ولسان ليّن لطيف عذب.
وهذا ما يجب أن نتعلّمه ـــ أيّها الأحبّة ـــ نحن الذين نختلف مذهبيّاً في مجتمعاتنا، ونختلف دينياً في أوسع من مجتمعاتنا، ونختلف سياسياً واجتماعياً وثقافياً، فنحن لا نتقن أن نتحدّث بمحبّة، ولا نتقن أن نحبّ الذين يخالفوننا، فيما نحن بحاجة إلى أن نحبّهم لنهديهم، كما علينا أن نحبّ الذين يتّفقون معنا لنلتقي معهم في موقع المحبّة، ونحبّ الذين لا يلتقون معنا من أجل أن تكون المحبّة هي الوسيلة للهداية.
هكذا ينبغي لنا أن ننفتح على الناس الذين نريد أن نحاورهم.
الدّلالة الثالثة: هي هذا الأسلوب الذي اتّبعه الإمام العسكري (ع) في مخاطبة هذا الإنسان العالم، فلقد انفتح على علمه، لأنّه يرى أنّه حتى لو كان مسيئاً، لكنّه عالم يفكّر ولا يعيش العقدة، ولذلك ألقى إليه الفكرة على سبيل الاحتمال ليدفعه إلى التفكير، وهذا أمر نحتاجه كما يحتاجه العلماء والمثقّفون، وذلك بأن لا ينطلقوا من العقدة المستحكمة في نفوسهم عندما يريدون مواجهة العالِم الآخر، فعلى العالِم أن يخلص للعلم؛ أن يناقش كلّ شيء مع الآخر، وأن لا يتعصّب لخطئه إذا أخطأ، ولباطله إذا التزم الباطل، بل أن ينفتح كما انفتح هذا الفيلسوف عندما كان مخلصاً للعلم. فمشكلتنا أنّ بعضنا يخلص لذاته أكثر من إخلاصه للثقافة، ويخلص لشخصه أكثر ممّا يخلص للعلم، ولذلك، فإنّه يسقط علمه وثقافته على مذبح ذاته، فيتعصّب للباطل حتى لو رأى الحقّ.
الدّلالة الرابعة: هي أنَّ هذا الرجل الذي سمع من تلميذه أنَّ هذا الأسلوب كان من قبل الإمام العسكري (ع)، قال: "لقد علمت أنّه لا يخرج هذا إلّا من أهل هذا البيت". وبذلك نعرف كم هي الثقة العلمية التي كان يحملها الفلاسفة والمثقّفون في علم أهل البيت (ع)، ما يوحي بأنّهم قد بلغوا القمّة في العلم، حتى خضع الآخرون لعلمهم، وانحنوا لهذا المستوى الكبير من الثقافة.
* من كتاب "الندوة"، ج 3.
[1]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 50، ص 311.