أن يبرز اسم جبل عامل، فإنّك تتمثّل كلّ هذه المنطقة من لبنان التي كانت منطقة في مدى أكثر من قرن، تضجّ وتتحرّك بأكثر من خطّ ثقافيّ يتجاوزها إلى أن يتحرّك في أكثر من موقع في العالم، فعندما تذهب إلى العراق، نجد جبل عامل ينفتح على أكثر من نتاج علميّ يتحرَّك العلم من أجل أن يستزيد منه، وأن يبدع من خلاله.
وعندما تنطلق إلى إيران، فإنك تجد أكثر من اسم كبير، كان يملأ إيران بالثقافة في أكثر من موقع فقهيّ وأصوليّ وفلسفيّ، ويتجاوز ذلك إلى ما يتعارف عنه النّاس من علوم الفلك والحساب وما إلى ذلك.
فإذا وصلت إلى الهند، رأيت أنّ لجبل عامل أكثر من اسم هناك، من آل خاثون ومن علماء عيناثا وغيرها، ممّن استطاعوا أن يساهموا هناك في الثّقافة الإسلاميّة، لأن المسألة كانت أنّ هؤلاء العلماء كانوا لا يعيشون فكرة أن يستغرقوا داخل مواقعهم، بل أن ينفتحوا على أكثر من موقع، لينهلوا منه علماً وليعطوه علماً.
انفتاح الثّقافة
ولعلَّنا نجد في هذه الخصوصيّةِ العامليّة الخصوصيّةَ اللّبنانيّة، فنحن نعرف أنّ اللّبنانيّ، إلى أيّ موقع انتمى من لبنان، كان الإنسان الّذي يعيش سياحة العلم وسياحة المعرفة، ويحرك ثقافته في ثقافة الآخرين، لأنّ قصَّة أن تكون المثقّف، أن تكون المنفتحَ، وأن تكون الممتدَّ، وأن تكون الإنسان الّذي يعيش ثقافته في ثقافة الآخر، لأنَّه يعيش إنسانيَّته في إنسانيَّة الآخر.. الّذين يختبئون في داخل أفكارهم، والّذين يعيشون في داخل ذاتيَّاتهم، يملكون بعض المعلومات، ولكنّهم ليسوا مثقَّفين. الثّقافة ليست معلومات متناثرة تقبع في داخل فكرك، ولكنّ الثقافة أنت، عندما تنساب في داخل شخصيتك، لتكون دماً فكريّاً يعطي ذاتك عنواناً جديداً.
جبل عامل وظلم التّاريخ
ولعلّ مشكلة هذا التأريخ الثّقافي في لبنان، أنّ الذين كتبوا ثقافة لبنان، لم يعطوا جبل عامل إلّا بعض الإشارات الحيية الخجولة.
نحن نقرأ الكثير عن الشعراء والأدباء والمثقّفين من جبل لبنان أو بيروت، وربّما بعض البعض من الشّمال - ونحن لا نتحدّث بلغة طائفيّة - ولكنّنا عندما نقرأ عن تاريخ الثّقافة في لبنان، فإنّنا نجد هناك غياباً لعاملة فيما كتب، ولو درسنا ثقافة عاملة؛ الثّقافة الفقهيّة والدّينيّة والأدبيّة، ودرسنا الكثير من حركة الصراع السياسي التي كانت لا تنحصر في دائرة ضيّقة، بل كانت تمتدّ إلى ما وراء حدود لبنان، لرأينا أنّ تاريخ ثقافة لبنان قد خسر الكثير من مواقع الإشراق في الصّورة، وأتصوّر أنّه لا بدَّ من إعادة كتابة التأريخ الثقافي.
وجبل عامل، أيّها الأحبَّة، كان في هذه المنطقة، من أوائل البلدان الّتي انفتحت على قضايا المنطقة. فنحن نعرف أنَّ جبل عامل التقى بالقضيّة الفلسطينيّة منذ أواخر العشرينات أو أوائل الثَّلاثينات، ربَّما لم تكن فكرة الوحدة العربيَّة بمعانها الأيديولوجي ناضجة آنذاك، ولكن كانت تطرح في بنت جبيل والنبطية الوحدة السوريّة، على أساس أنّها كانت ضدّ تقسيم المنطقة وتحويلها إلى مزق متناثرة.
كان إنسان جبل عامل المثقّف آنذاك الإنسان الّذي يعيش السياسة، لكن لا على أساس أن تكون لعبة، بل على أساس أن تكون رسالة وقضيّة، ونحن نعرف أنّ الكثيرين ممن عاشوا هذا الامتداد السياسي على مستوى المنطقة، والّذين واجهوا الاستعمار بجميع أشكاله، دخلوا السّجون، واستشهد بعضهم هنا وهناك، ولم نجد فيما كتب من تاريخ لبنان ذكراً لعاملة.
إنّ مسألة أن يكون لبنان واحداً، هي مسألة أن تجمع كلّ لبنان الثقافي والسياسي والجهادي والاجتماعي، كلّ لبنان الإنسان، من أجل أن يتحسّس الإنسان في هذا البلد إنسانيّته ولا يعيش في صنميّة مناطقيّته، أو في وثنيّة طائفيّته، لأنّنا أصبحنا وثنيّين، نعبد ما صنعناه من صنم؛ نعبد الأرض، ونعبد الشخص، ونعبد الطائفيّة، ويُخيل إلينا أننا نعبد الله.
الشّهيد الثّاني وقلق المعرفة
ونحن هنا، في مدى هذا التّأريخ، نلتقي بهذه الشخصيّة التي عاشت الثّقافة منذ طفولتها قلَقاً، لأنّ الّذين يأخذون بأسباب الثّقافة على قسمين؛ فهناك شخص أخذ بأسباب الثّقافة، يدرس ويتعلّم لأنّ النّاس يتعلّمون، ولأنّه يريد أن يعيش من علمه... وهناك من يعيش قلق المعرفة، عندما يفتح عينيه على الحياة، القلق يهزّه، ويجعله يشعر بأنَّ هناك مشكلة تمنعه أن يرتاح في بيته وفي بلده.
والشَّهيد الثّاني كان العالم الذي بدأ حركته العلميَّة في قلق المعرفة، ففي الرّابعة عشرة من عمره، كان يهاجر من بلدته جباع إلى بلدة ميس الجبل، ونقول (يهاجر)، باعتبار أنّ المسافة كانت تحتاج إلى وقت، ويقرأ على عالم كبير من علمائها، وكان لا يسمع بعالم في أيّ منطقة إلا ويقصده، بعيداً من كلّ الذّاتيّات والمذهبيات والمناطقيات، وهو المسلم الشيعيّ، شعر بأنّ مصر تنتظره، وكم هي المسافة، لا سيّما في تلك الأوقات، بين جبل عامل ومصر!
الانفتاح على علماء السنّة
وذهب إلى مصر، وانفتح على علمائها، ودرس ما كانوا يأخذون به من علم، وشعر هو المسلم الشّيعيّ، بأنّه لا بدَّ أن يطّلع على كلّ التراث الإسلامي، فإذا كان قد اطّلع على التّراث الإسلاميّ في أحاديث الأئمَّة من أهل البيت (ع)، فإنّ عليه أن يقرأ التّراث الإسلاميّ في أحاديث المسلمين الرّواة من الصّحابة وغيرهم من أهل السنَّة. وهكذا درس على بعض العلماء صحيح البخاري وصحيح مسلم، وأخذ الإجازة بروايتهما.
وقد نفذ إليهم بالحوار، واستطاع أن يكسب ثقتهم، وأمام هذه التنوّعات المذهبيّة والدّينيّة، كان يفكر وهو في مصر بقلق؛ أنَّ الله أقام الحجّة على النّاس بما أعطاهم من عقل، أن يحرّكوا عقولهم في طلب الحقيقة من أجل المعرفة، فلماذا يتحرّك الناس في التزاماتهم الفكريّة الدينيّة والمذهبيّة وغيرها، على أساس أن يقلّدوا أو يتّبعوا؟ الاتباع ليس فكراً، التقليد ليس ثقافةً. أن تتّبع، أن تلغي عقلك، لأنّك عندما تتّبع مَنْ فكّر، فأنت تحاول أن تتقمّص شخصّيته، أو أن تكون ظلّاً له، أن تكون الصَّدى، والكثيرون من النّاس لا يحبون أن يكونوا الصّوت، إنّهم يريدون أن يكونوا الصّدى، لأنَّ الصّوت يتعب، وعندما يحمل الصوت مضموناً للتحدّي، فإنه يشكِّل خطراً، ومشكلة كلّ الذين عاشوا الأخطار في التأريخ وفي الواقع، أنهم تحمّلوا مسؤوليّة أن يكونوا الصّوت.
لذلك، كان الشّهيد الثّاني يفكّر، وحاول أن يفكّر بصوت مسموع مع أستاذه الشّيخ أبي الحسن البكري من علماء مصر...
حضّ العامّة على التّفكير
كان الشَّهيد يركّز على أن يكون العامَّة من النّاس في خطِّ التَّفكير، أن يحرّكوا فكرهم، أن لا يعطوا عقلهم إجازة، أن لا يكونوا الاتّباعيّين، أن يسألوا، أن يحاوروا. كان من فكر الشّيخ الشَّهيد أن يكون المجتمع كلّه مثقّفاً، ولكن بأحجام مختلفة. ليس من الطّبيعي أن نبقي أكثريّة النّاس على عواميَّتهم إذا صحَّ التَّعبير... الله جعل التعلّم مسؤوليَّة الجاهل، ونحن علينا أن لا نعطيهم معلومات، بل أن نعلِّمهم أن يناقشوا، وأن يحاوروا، وأن يعترضوا، وأن لا يقبلوا شيئاً في السياسة وفي الاجتماع وفي التّفاصيل الدّينيّة إلّا بعد أن يسألوا عنه.
ولكنّ بعضنا يريد أن يُجهّل الناس ليبقى الطاووس فيما بينهم، وعمليّة التجهيل سياسة ورثناها، ويحاول الكثيرون أن تظلّ طابعاً للواقع السياسي والاجتماعي والثّقافي...
إنَّ الشَّهيد كان يريد للظَّاهر أن ينفذ إلى الواقع، لأنَّ معنى أن تبقى في السّطح أنّك لا تحترم نفسك...
إنّ مشكلة الإنسان هي عندما يخنق عقله انحناءً لعقول الآخرين، وعندما يجمّد حركته لأنّه يريد أن يسير في خطى الآخرين، إنها مشكلة الإنسان كلّه في الحاضر والمستقبل.
السّفر إلى اسطنبول
وهكذا كان الشَّهيد الثّاني يقصد مصر ليتعلَّم، ثمّ يذهب إلى العراق، ثمّ يذهب إلى دمشق، ثمّ يقصد موقع مركز الخلافة آنذاك، وكان من التّقاليد المعروفة، أنّ أيّ إنسان يريد الذّهاب إلى اسطنبول، أن يأخذ تعريفاً من قاضي صيدا، ولكنّه رفض أن يأخذ تعريفاً، وأراد أن يعرّف نفسه بنفسه، وذهب إلى اسطنبول، وكتب عشر قضايا من قضايا التّحقيق، ثمّ قدّمها إلى العالم المسؤول الّذي سأله أين تعريفك، فقال له هذا تعريفي، فعظم في عينه، وقدَّره العلماء هناك، وكان له حظوة عندهم، وأعطي من قبل الخلافة مرسوم تدريسه، كما طلب، في المدرسة النّوريّة في بعلبك، وجاء ودرّس فيها المذاهب الخمسة.
الحرّية في الاختيار
كان الشَّهيد الثّاني لا يتعقَّد، وهو الفقيه الشّيعيّ، من درس المذاهب الأخرى، بل كان يريد للطلّاب جميعاً أن يتعلّموا كلّ المذاهب الإسلاميّة، ليكون خيارهم ناشئاً من موقع علم لا من موقع تقليد.
كان يريد للإنسان أن يجتهد، والاجتهاد لا بدَّ فيه أن يتحرَّك في مواقع التنوّع، لأنّك عندما تتحرَّك في موقع واحد، فأنت لا تستطيع أن تجتهد، لأنّك أغلقت كلّ النوافذ على عقلك.
لذلك، كان يفكّر بما نسمّيه في هذه الأيام "الحريّة". لم تكن هذه الكلمات شائعة آنذاك بالمعنى الثقافي، ولكنَّ الحريَّة الفكريَّة تعني أن تطلق كلّ الآراء لتأخذ حريَّتها، وأن تختار أن تناقشها نقاشاً علميّاً موضوعيّاً، وبذلك يغنى العلم حتّى علمك، فعلمك لا يغنى عندما تعيش في داخل زنزانتك، ولكنّه يغنى عندما يتحرّك في الهواء الطلق، ونحن شعب نحبّ الزنازين كثيراً، قد نرجم الزّنازين في السجون، ولكنّنا أدمنّا الزنازين الثّقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، لكلّ منا زنزانة يحبس فيها نفسه، حتى أدمنَّا ذلك في البيت والمحلّة وفي كلّ المواقع... وتمتدّ المسألة، ويقف الحاكم ليقول: لا كلمة لأحد، الكلمة كلمتي… ويرضخ النّاس في تربيتهم من البيت إلى المجتمع، ويأتي المحتلّ ويقول: لا كلمة للشّعب، وتتحرّك كلّ قابليّة الخضوع وكلّ قابليّة الاتّباع، وكلّ قابليّة اللا حريّة، لتخضع للمستعمر، وربما لا يحبّ بعض الناس أن ينسحب المستعمر، لأنهم تعوَّدوا أن يُرتّب لهم أمورهم، كما يقول مالك بن نبي: إنّ بعض الشعوب تختزن في داخلها قابليَّة الاستعمار.
بعض النّاس يقول الحريّة تنشر الضّلال، وتخرِّب العقائد. ولكنَّ ضغط الحريَّة في الواقع هو الّذي ينشر الضّلال، لأنّك عندما ضغطت حريّة فكر، حوَّلته شهيداً أمام العالم. ونحن عشنا ذلك في لبنان وفي مصر وفي أكثر من بلد، عندما ضغطت حريّة فكر أحدهم، انتشرت كتبه انتشار النّار في الهشيم، ولو أعطيت حريّته لما التفت إلى كتبه أحد...
لذلك، إذا كانت هناك بعض المفاهيم شائعة في موقع، فإن التطوّر الثقافي والسياسي والإعلامي أصبح لا يسمح بذلك، فلنعد النّظر في بعض المفاهيم.
مرجع النّاس
وهكذا رأينا أنّ الشّهيد الثّاني عاش حياته كإنسان عاديّ بسيط، لو قرأنا ما كتب عنه في عصره، لرأينا أنّه كان مرجع النّاس، وكان موضع تقدير العام والخاصّ، ولكنّه كان في اللّيل في جباع، عندما يهدأ النّاس، يذهب إلى الكرم في بلدته جباع ليحتطب لأهله، وكان يحرس الكرم من اللّصوص، وكان يصلّي في اللّيل، فإذا جاء الصّباح، صلّى الفجر، وبدأ يدرس ويدرِّس، وبدأ يجلس للنّاس ليحلّ مشاكلهم، وليقضي حوائجهم بقدر ما يستطيع.
كان المتواضع للنّاس، حتّى إنّه عندما كان يأخذ ببعض ثمار كرمه ليبيعها، كان يسير مع أصحاب الدوابّ كأيّ واحد منهم، فلم يكن يميّز نفسه عن أيّ أحد، كان يعيش إنسانيّته في تواضع العلم في شخصيّته، لأنّه كان يعرف أنَّ الإنسان عندما يتواضع للنَّاس، فإنّه يتواضع لله في ذلك، لأنّه يذكر الله عندما تنتفخ شخصيّته.
الفقيه الحرّ
وكان حرّ الفكر؛ كان عندما يبحث الفكرة، لا يلتفت إلى المشهور عند الفقهاء في الفكرة، لأنّه يرى أنَّ الفقهاء علماء كما هو عالم.
نحن نقرأ في فقهه، أنّ المشهور، بل كاد أن يكون إجماعاً، أنّ ذبائح أهل الكتاب ليست حلالاً، وأنّ الذّبيحة إذا ذبحها مسلم فهي حلال، ولكن لو ذبحها الكتابيّ، حتّى بشروط الذّباحة الإسلاميّة، لا تكون حلالاً، ولكنّه رأى أنّ القرآن لم يذكر أنَّ من الشّروط أن يكون الذّابح مسلماً، بل كلّ ما ذكره {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}، وقرأ أحاديث الأئمَّة من أهل البيت (ع)، ورأى أنَّ أكثر هذه الأحاديث تقول إنَّ هذه الذَّبيحة اسم، ولا يؤمَن عليها إلّا مسلم، ولم تكن هناك إلا رواية واحدة يُتَحدَّث فيها عن الإسلام، وهي ضعيفة، ولذلك أطلق الرَّأي في كتابه "المسالك"، بشكل استدلاليّ واضح، أنَّ القاعدة الفقهيَّة تقتضي حليَّة ذبائح أهل الكتاب إذا أطلقوا التَّسمية على الذَّبيحة. وتوقّف عن الفتيا، لأنَّ هناك شبهة إجماع، وكانوا يتوقّفون من جهة الإجماع، باعتبار كونه دليلاً من الأدلّة، لا بلحاظ أنّه فكر العلماء الآخرين.
وهكذا، كان المشهور أنّه في زمن الغيبة، فإنّ صلاة الجمعة ليست واجبة، وأطلق الرأي أنّ صلاة الجمعة واجبة وجوباً عينيّاً لا تشريعيّاً، وإن تحفَّظ في عمليّة الفتوى بسبب ما أشرنا إليه.
كان يبحث المسائل من موقع حريَّة الفكر للفقيه. وهكذا انطلق، وهو يرى كلّ هذه الفوضى الأخلاقيّة في الحوزات العلميّة، حيث لا يعيش المعلّم ولا المتعلّم أخلاقيّة العلم، ولا المفتي أخلاقيّة الإفتاء، فكتب كتاب "منية المريد في آداب المفيد والمستفيد"...
الثّقافة محور كلّ شيء
حتّى عندما كان يعيش مشكلة شخصيَّة كان يكتب، فهو لم يعش له ولد إلا في آخر حياته، وكتب كتاباً من أجل أن يعيش فكرة الصَّبر من موقع إسلاميّ أخلاقيّ "مسكّن الفؤاد في فقد الأحبّة والأولاد"، فكان يحاول أن يعالج حتَّى أحزانه الشّخصيّة بالثّقافة...
كان الإنسان الذي عاش عصره ومجتمعه، وكان مجتمعه مجتمعاً متعصِّباً، وكان يعمل على أن يطرد التّعصّب، وكان يعرف أنَّ التعصِّب يوحي بالجريمة، لأنَّ المتعصّبين ليسوا متديّنين، لأنّ التديّن يعطي رحابة الفكر... أن تتعامل مع الآخر من خلال الدّين والإنسانيّة، ولكنّه سقط شهيداً من خلال جريمة التعصّب الغبي الّذي لم يكن له معنى، مهما اختلفت الرّوايات في تفسير ذلك.
دعوة لدراسة الشّهيد
أنا أدعو إلى قراءة الشّهيد الثاني، أصولياً وحديثيّاً وفقهيّاً وثقافيّاً.. كان الرّجل ينقد المناهج العلميّة، كان ينقد المناهج الأصوليّة آنذاك، فكيف إذا جاء الشَّهيد الثاني إلى المناهج الأصوليَّة في هذه الأيَّام، حيث دخلت الفلسفة التجريديَّة في الأصول، فكم نضيّع من السِّنين وقتاً في بحثٍ لا علاقة له باستنباط الحكم الشّرعي! وكم أصبح هذا الوقت الضّائع ينطلق ليخرّب ذهنيّة الفقيه الّذي يحاول أن يفهم الكتاب والسنّة بالذهنيّة الفلسفيّة التجريديّة، لا بالذهنيّة الفقهيّة!
وهكذا رأيناه عندما يبحث قضايا العقائد، يبحث عنها بكلّ حريّة، ولو كان الشّهيد الثّاني في هذه الأيام، حيث يطلق الكثيرون، كباراً أو صغاراً، كلمات التكفير، لاندفع الكثيرون يكفّرونه، لأنّه قال كلاماً لو قاله بعض النّاس هنا، لسقطت السماوات على الأرض، كان مبتلى بالجهلة، ولايزال المصلحون والكثير من العلماء العلماء، ضحيّة كلمات التخلّف والجهل.
لنبعتد عن التّعصّب
أيّها الأحبّة: الشّهيد الثاني عنوان عامليّ لبنانيّ إسلامي عربي إنسانيّ، فتعالوا نعش الشّهادة لفكره ولعلمه، كما نعيش الشّهادة لدمه الذي سقط من خلال التعصّب، وماتزال دماؤنا تسيل من خلال التعصّب من خلال كلّ الفتن الطائفيّة، وكلّ الفتن المذهبيّة، وكلّ الخطّ الصهيوني الذي يمثّل التعصّب كلّه ضدّ الإنسان كلّه...
تعالوا، ونحن في منطقة تقتلها العصبيّات؛ العصبيّات الشخصانيّة، والعائليّة، والمناطقيّة، والقوميّة، والإقليميّة، والمذهبيّة والطّائفيّة، فإذا كان لا بدّ من التعصّب، فتعالوا لنعقلن التّعصّب، "عقلنوه"، وإن كان التعصّب لا يقبل أن يعقلَن في ذهن الإنسان.
مشكلتنا أنَّنا نعيش خارج ذواتنا.. ومشكلتنا أنّنا {وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}. عندما يولد الإنسان في مذهب أو دين، فلا بدّ أن يبقى في هذا الإطار حتى الوفاة، لتلاحقه الطّقوس نفسها من الولادة إلى الموت!
إنّنا إذا كنّا نريد أن نعيش مع الله، فالله محبَّة، حتى الأرض تعالوا لنؤنسنها، فلا نجعلها صنماً، تعالوا نلتزم الأشخاص ولا نحوّلهم أصناماً.. تعالوا لنفكّر، تعالوا لنتحاور، تعالوا لننفتح على العالم كلّه، أن لا نرجم العالم بالحجارة حتى وإن اختلفتا معه، أن نرجمه بالفكر، أن يكون هناك فكر بحاور فكراً.. ولكن آه!! إنّها الغريزة هي الّتي تحاور الفكرة، ولا بدّ من أن تغلب الغريزة الفكرة! ما أكثر الجهلة باسم العلم! وما أكثر المتخلّفين باسم التقدّم! وهذا هو سرّ مشكلتنا: "جادلت عالماً فغلبته، وجادلت جاهلاً فغلبني".
*مؤتمر إحياء تراث علماء جبل عامل في مجمع السيّدة فاطمة الزهراء (ع) في صيدا - 30 أيار 2001.