سيرة المحقِّق الشّيخ الكركي

سيرة المحقِّق الشّيخ الكركي

هو عليّ بن الحسين بن عليّ بن محمد بن عبد العال، المعروف بالمحقِّق الكركي، والمحقِّق الثّاني، أو عليّ بن العال. ولد في (كرك نوح) العام 868 هجريّة. و(كرك نوح) هي قرية ناحية بعلبكّ، كانت من المراكز العلميّة المعروفة في بلاد الشّام. وتوفّي زمن الشاه طهماسب في العام 940هـ، في النجف الأشرف، كما يروي بعض المؤرّخين.

ولا نعرف الكثير عن تاريخ عائلته ونشأته، سوى ما ذكره شيخه محمد الخاتوني العيناثي عن والده، حيث يصفه بالشّيخ الورع التقي النقي الزّاهد العابد.

وكغيره من العلماء الطّالبين للعلم، خرج من قريته (كرك نوح)، وتعني قرية نوح بالسريانية والعبرية، وفيها قبر يقال إنه قبر نوح، وهي من قرى بعلبك في البقاع في لبنان، طالباً للعلم، فتوجّه إلى جبل عامل التي كانت مقصداً للدراسة العلمية لكثير من العلماء، وحلّ في بلدة عيناثا، حيث قرأ على الشيخ ابن خاتون، ومن بعدها انتقل إلى جزين، التي كانت هي الأخرى مركزاً علمياً مرموقاً وناشطاً على الصّعد كافة، إلى جانب مشغرة.

بعدها، سافر إلى مصر، حيث أخذ علوم الفقه والحديث على مذاهب أهل السنة، وعلى يد كبار علمائها، وحصل منهم على إجازات علميّة، كإجازة أبي يحيي زكريا بن محمد بن أحمد الأنصاري، وعبد الرحمن بن الأنابة الأنصاري، كما سمع الحديث في دمشق (معظم مسند الشّافعي وصحيح مسلم).

دأب المحقّق الكركي على اتّباع سنّة علماء الشيعة الكبار ونهجهم في الانفتاح على كلّ المذاهب الإسلامية والأخذ منها، وهو ما يدلّ على روح علمية موضوعية وسعة ومقدرة فذّة لا تتأتّى إلا للكبار من العلماء، الذين أكّدوا بسيرتهم تلك نبذ التعصّب المذهبي، وسعة أفقهم، ورحابة صدرهم وانفتاحهم، والعمل قدر المستطاع قولاً وعملاً على تعزيز الوحدة الإسلاميّة وتكريسها في الواقع.

وفي العام 916 هجرية، عندما كان المحقّق الكركي يبلغ من العمر خمسةً وأربعين عاماً، قصد مدينة "هراة"، وهي تقع في غرب أفغانستان، واتّصل بالسّلطان إسماعيل الصوفي، فأكرمه أشدّ الإكرام لمكانته وقدره. بعدها، قصد أصفهان وقزوين في عهد السّلطان طهماسب بن إسماعيل الصّفوي، حيث عيّنه حاكماً شرعيّاً لإيران بأكملها، فقام المحقّق الكركي بتأسيس مدارس علميّة، ومارس النشاط الفتوائي، وعمل على نشر الفكر الإسلامي، وإحياء شعائر الإسلام، في عصر صاخب بالأحداث في إيران، وهو ما يدلّ على شجاعته وحكمته وتحمّله للمسؤوليّة العلميّة والدّعويّة.

كان للمحقّق الكركي مشايخ كثُر، حيث أشار الحرّ العاملي في كتابه "أمل الآمل" إلى ذلك بقوله: يروي عن الشيخ شمس الدّين محمد بن داود، ويروي عن الشيخ علي بن هلال الجزائري، وقال الأفندي في "رياض العلماء": "وقد قرأ(قده) وروى عن جماعة من علماء العامّة أيضاً، على ما صرّح به في إجازاته، منها ما قاله في إجازاته للمولى برهان الدّين أبي إسحاق الأصفهاني: "وأمّا كتب أهل السنّة في الفقه والحديث، فإني أروي الكثير منها عن مشايخنا وعن مشايخ أهل السنّة"، وبحسب البعض من المحقّقين، فإنّ مشايخه خمسة..

وترك الفقيه زين الدّين علي بن هلال الجزائري أثراً كبيراً في شخصيّة المحقّق الكركي، حيث لازمه مدّة طويلة، وقرأ عليه في الفقه والأصول والمنطق، ويقول عنه المحقّق الكركي: "ممّن قرأت عليه، وأخذت عنه، واتّصلت روايتي به، ولازمته دهراً طويلاً وأزمنة كثيرة، وهو أجلّ أشياخي وأمهرهم، هو شيخ الشّيعة الإماميّة غير منازع".

ولا ننسى أنّ المحقّق الكركي ذهب إلى العراق، وجالس العديد من العلماء في بغداد والحلّة. قال الأفندي في "رياض العلماء": "وله(قده) جماعة كثيرة من التلامذة من العرب والعجم في جبل عاملة، وفي العراق، وفي بلاد إيران، وغيرها، منهم السيّد الأمير محمد بن أبي طالب الأسترأبادي الحسيني، والسيد شرف الدين علي الحسيني الأسترأبادي النجفي". ومن تلامذته أيضاً، الشيخ علي بن عبد العالي الميسي، وابنه الشيخ إبراهيم، ومنهم الشيخ زين الدين الفقعاني، والشيخ أحمد بن أبي جامع العاملي، والشيخ أحمد بن محمد بن خاتون العاملي، والشيخ نعمة الله بن أحمد بن خاتون العاملي وغيرهم".

وللمحقق الكركي مصنّفات ومؤلّفات كثيرة، ولعلّ من أهمّها: كتابه الفقهي الجليل "جامع المقاصد في شرح القواعد"، وله أيضاً "النفحات"، و"الرّسالة الجعفريّة في الواجبات والمستحبّات من الصلوات اليوميّة"، فرغ منها في مشهد العام 917هـ، الرسالة الخراجيّة، وهي "قاطعة اللّجاج في تحقيق حلّ الخراج"، العام 916هـ، ورسالة الجمعة، فرغ منها سنة 912هـ.

وله كتب "حواشي مختلف الشيعة"، و"حواشي شرائع الإسلام"، و"حواشي كتاب إرشاد الأذهان"، و"أسرار اللاهوت في الجبت والطّاغوت"، وغيرها.. ثم قال الأفندي صاحب كتاب "رياض العلماء": "والظّاهر أنّ له حاشية، كالشرح على "اللّمعة".

حكى صاحب "روضات الجنّات" عن "حدائق المقربين" بالفارسية ما معناه: ورد سفير مقرّب من جهة سلطان الرّوم (الخلافة التركية العثمانية) على السلطان شاه طهماسب، فاتّفق أن اجتمع به يوماً جناب شيخنا المعظّم في مجلس الملك، فلما عرفه السفير المذكور، أراد أن يفتح عليه باب الجدل، فقال: يا شيخ، إنّ طريقتكم هذه "مذهب ناحق"، أي مذهب غير حقّ، وفيه إشارة إلى بطلان هذه الطّريقة، كما لا يخفى، فأُلهم جناب الشيخ في جواب ذلك الرّجل، بأن قال بديهةً وارتجالاً: بل نحن قوم العرب، وألسنتنا على لغتهم، لا على لغة العجم، وعليه، فمتى أضفت المذهب إلى ضمير المتكلّم، يصير الكلام: "مذهبنا حقّ"، فبُهت الّذي كفر، وبقي كأنما أُلقم الحجر.

كان المحقّق الكركي من العلماء المؤمنين بحقّ بروح الحوار والانفتاح على كلّ المذاهب، وهناك رواية حصلت بينه وبين الشّاه إسماعيل الصّفوي، وفحواها أنّ الشاه عندما أتمّ فتح "هراة"، وباتت الهضبة الإيرانيّة كلّها في حكمه، أمر الشّاه بقتل جماعة من فقهاء السنّة، من بينهم شيخ الإسلام فيها، أحمد بن يحيي الشّهير بأحمد الحفيد (كان حفيداً لسعد الدين التفتازاني الشهير). عندها، اتجه المحقّق الكركي إلى الشّاه مباشرة، وأنكر عليه ما فعله، وقال له: لو لم يُقتل، لأمكن أن يتمّ عليه بالحجج والبراهين أحقيّة مذهب الإماميّة، ويذعن بإلزامه جميع ما وراء النّهر وخراسان.

وطبيعي بمن كان بمستوى المحقّق الكركي علمياً، أن يكون محطّ ثناء العلماء ومدحهم، ولعلّ أوّل من ذكره من أرباب التواريخ والسّيَر، المؤرّخ الفارسي "خواند أمير"، في أواخر تاريخه "حبيب السّير"، في أثناء تعداد علماء دولة السلطان الشاه إسماعيل الصفوي، ما معناه: "إنّ من جملتهم الشيخ عبد العالي الكركي، وعلوّ مرتبة ذلك المتقي الورع في تحصيل العلم والفضيلة بمنزلة وصل بها إلى درجة الاجتهاد، وقد صار لغاية تبحّره في العلوم العقلية والنقلية، معتمداً لحكماء الإسلام، ومرجعاً للعلماء الواجبي الاحترام، وكان فصاحة بيانه، وطلاقة لسانه، خارجة عن درجة التوصيف، ونهاية تديّنه وتقواه عند الأكابر والأصاغر (معترفاً بها)، وفي هذا التاريخ، يعني سنة ثلاثين وتسعمائة، بلاد بغداد والحلّة والنجف معمورة بوجوده الشريف".

وذكره التفرشي في رجاله، فقال: "علي بن عبد العالي الكركي(قده)، شيخ الطائفة وعلاّمة وقته، صاحب التدقيق والتحقيق، كثير العلم، نقيّ الكلام، جيّد التصانيف، من أجلاّء هذه الطائفة".

وذكره الحرّ العاملي في "أمل الآمل"، فقال: "الشيخ الجليل علي بن عبد العالي العاملي الكركي، أمرة في الثّقة والعلم والفضل، وجلالة القدر وعظيم الشأن وكثرة التحقيق، أشهر من أن يُذكر"...

ثم نقل عن الشَّهيد الثاني أنّه أثنى عليه في بعض إجازاته، فقال عند ذكره: "الشيخ الإمام المحقّق المنقِّح، نادرة الزّمان ويتيمة الأوان".

وذكره العلامة المجلسي في أوّل "بحار الأنوار"، فقال فيه: "أفضل المحقّقين، مروِّج مذهب الأئمّة الطّاهرين، نور الدين علي بن عبد العالي الكركي، أجزل الله تشريفه، وحشره مع الأئمة الطاهرين، حقوقه على الإيمان وأهله أكثر من أن يُشكر على أقلّها، وتصانيفه في نهاية الرزانة والمتانة".. إلى غير ذلك من الثناء عليه، بالنظر إلى مساهماته في العلم والمعرفة.

اختلف في سنة وفاته، فمنهم من قال العام 937هـ، ومنهم من قال العام 938هـ، ومنهم العام 940هـ، وقيل إنه قضى مسموماً في النجف الأشرف، ولكنّ المسألة مختلف عليها بين الرواة والمحقّقين.

حاولنا تسليط الضّوء على حياة عالم من علماء الإسلام الكبار، الّذين قدّموا الكثير في سبيل نشر القيم الإسلامية والمعرفة الأصيلة، تأليفاً وتحقيقاً، وساهموا في تعزيز روح الانفتاح والعمل في سبيل الوحدة الإسلاميّة بمواقفهم وأقوالهم ومسيرتهم.

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .


هو عليّ بن الحسين بن عليّ بن محمد بن عبد العال، المعروف بالمحقِّق الكركي، والمحقِّق الثّاني، أو عليّ بن العال. ولد في (كرك نوح) العام 868 هجريّة. و(كرك نوح) هي قرية ناحية بعلبكّ، كانت من المراكز العلميّة المعروفة في بلاد الشّام. وتوفّي زمن الشاه طهماسب في العام 940هـ، في النجف الأشرف، كما يروي بعض المؤرّخين.

ولا نعرف الكثير عن تاريخ عائلته ونشأته، سوى ما ذكره شيخه محمد الخاتوني العيناثي عن والده، حيث يصفه بالشّيخ الورع التقي النقي الزّاهد العابد.

وكغيره من العلماء الطّالبين للعلم، خرج من قريته (كرك نوح)، وتعني قرية نوح بالسريانية والعبرية، وفيها قبر يقال إنه قبر نوح، وهي من قرى بعلبك في البقاع في لبنان، طالباً للعلم، فتوجّه إلى جبل عامل التي كانت مقصداً للدراسة العلمية لكثير من العلماء، وحلّ في بلدة عيناثا، حيث قرأ على الشيخ ابن خاتون، ومن بعدها انتقل إلى جزين، التي كانت هي الأخرى مركزاً علمياً مرموقاً وناشطاً على الصّعد كافة، إلى جانب مشغرة.

بعدها، سافر إلى مصر، حيث أخذ علوم الفقه والحديث على مذاهب أهل السنة، وعلى يد كبار علمائها، وحصل منهم على إجازات علميّة، كإجازة أبي يحيي زكريا بن محمد بن أحمد الأنصاري، وعبد الرحمن بن الأنابة الأنصاري، كما سمع الحديث في دمشق (معظم مسند الشّافعي وصحيح مسلم).

دأب المحقّق الكركي على اتّباع سنّة علماء الشيعة الكبار ونهجهم في الانفتاح على كلّ المذاهب الإسلامية والأخذ منها، وهو ما يدلّ على روح علمية موضوعية وسعة ومقدرة فذّة لا تتأتّى إلا للكبار من العلماء، الذين أكّدوا بسيرتهم تلك نبذ التعصّب المذهبي، وسعة أفقهم، ورحابة صدرهم وانفتاحهم، والعمل قدر المستطاع قولاً وعملاً على تعزيز الوحدة الإسلاميّة وتكريسها في الواقع.

وفي العام 916 هجرية، عندما كان المحقّق الكركي يبلغ من العمر خمسةً وأربعين عاماً، قصد مدينة "هراة"، وهي تقع في غرب أفغانستان، واتّصل بالسّلطان إسماعيل الصوفي، فأكرمه أشدّ الإكرام لمكانته وقدره. بعدها، قصد أصفهان وقزوين في عهد السّلطان طهماسب بن إسماعيل الصّفوي، حيث عيّنه حاكماً شرعيّاً لإيران بأكملها، فقام المحقّق الكركي بتأسيس مدارس علميّة، ومارس النشاط الفتوائي، وعمل على نشر الفكر الإسلامي، وإحياء شعائر الإسلام، في عصر صاخب بالأحداث في إيران، وهو ما يدلّ على شجاعته وحكمته وتحمّله للمسؤوليّة العلميّة والدّعويّة.

كان للمحقّق الكركي مشايخ كثُر، حيث أشار الحرّ العاملي في كتابه "أمل الآمل" إلى ذلك بقوله: يروي عن الشيخ شمس الدّين محمد بن داود، ويروي عن الشيخ علي بن هلال الجزائري، وقال الأفندي في "رياض العلماء": "وقد قرأ(قده) وروى عن جماعة من علماء العامّة أيضاً، على ما صرّح به في إجازاته، منها ما قاله في إجازاته للمولى برهان الدّين أبي إسحاق الأصفهاني: "وأمّا كتب أهل السنّة في الفقه والحديث، فإني أروي الكثير منها عن مشايخنا وعن مشايخ أهل السنّة"، وبحسب البعض من المحقّقين، فإنّ مشايخه خمسة..

وترك الفقيه زين الدّين علي بن هلال الجزائري أثراً كبيراً في شخصيّة المحقّق الكركي، حيث لازمه مدّة طويلة، وقرأ عليه في الفقه والأصول والمنطق، ويقول عنه المحقّق الكركي: "ممّن قرأت عليه، وأخذت عنه، واتّصلت روايتي به، ولازمته دهراً طويلاً وأزمنة كثيرة، وهو أجلّ أشياخي وأمهرهم، هو شيخ الشّيعة الإماميّة غير منازع".

ولا ننسى أنّ المحقّق الكركي ذهب إلى العراق، وجالس العديد من العلماء في بغداد والحلّة. قال الأفندي في "رياض العلماء": "وله(قده) جماعة كثيرة من التلامذة من العرب والعجم في جبل عاملة، وفي العراق، وفي بلاد إيران، وغيرها، منهم السيّد الأمير محمد بن أبي طالب الأسترأبادي الحسيني، والسيد شرف الدين علي الحسيني الأسترأبادي النجفي". ومن تلامذته أيضاً، الشيخ علي بن عبد العالي الميسي، وابنه الشيخ إبراهيم، ومنهم الشيخ زين الدين الفقعاني، والشيخ أحمد بن أبي جامع العاملي، والشيخ أحمد بن محمد بن خاتون العاملي، والشيخ نعمة الله بن أحمد بن خاتون العاملي وغيرهم".

وللمحقق الكركي مصنّفات ومؤلّفات كثيرة، ولعلّ من أهمّها: كتابه الفقهي الجليل "جامع المقاصد في شرح القواعد"، وله أيضاً "النفحات"، و"الرّسالة الجعفريّة في الواجبات والمستحبّات من الصلوات اليوميّة"، فرغ منها في مشهد العام 917هـ، الرسالة الخراجيّة، وهي "قاطعة اللّجاج في تحقيق حلّ الخراج"، العام 916هـ، ورسالة الجمعة، فرغ منها سنة 912هـ.

وله كتب "حواشي مختلف الشيعة"، و"حواشي شرائع الإسلام"، و"حواشي كتاب إرشاد الأذهان"، و"أسرار اللاهوت في الجبت والطّاغوت"، وغيرها.. ثم قال الأفندي صاحب كتاب "رياض العلماء": "والظّاهر أنّ له حاشية، كالشرح على "اللّمعة".

حكى صاحب "روضات الجنّات" عن "حدائق المقربين" بالفارسية ما معناه: ورد سفير مقرّب من جهة سلطان الرّوم (الخلافة التركية العثمانية) على السلطان شاه طهماسب، فاتّفق أن اجتمع به يوماً جناب شيخنا المعظّم في مجلس الملك، فلما عرفه السفير المذكور، أراد أن يفتح عليه باب الجدل، فقال: يا شيخ، إنّ طريقتكم هذه "مذهب ناحق"، أي مذهب غير حقّ، وفيه إشارة إلى بطلان هذه الطّريقة، كما لا يخفى، فأُلهم جناب الشيخ في جواب ذلك الرّجل، بأن قال بديهةً وارتجالاً: بل نحن قوم العرب، وألسنتنا على لغتهم، لا على لغة العجم، وعليه، فمتى أضفت المذهب إلى ضمير المتكلّم، يصير الكلام: "مذهبنا حقّ"، فبُهت الّذي كفر، وبقي كأنما أُلقم الحجر.

كان المحقّق الكركي من العلماء المؤمنين بحقّ بروح الحوار والانفتاح على كلّ المذاهب، وهناك رواية حصلت بينه وبين الشّاه إسماعيل الصّفوي، وفحواها أنّ الشاه عندما أتمّ فتح "هراة"، وباتت الهضبة الإيرانيّة كلّها في حكمه، أمر الشّاه بقتل جماعة من فقهاء السنّة، من بينهم شيخ الإسلام فيها، أحمد بن يحيي الشّهير بأحمد الحفيد (كان حفيداً لسعد الدين التفتازاني الشهير). عندها، اتجه المحقّق الكركي إلى الشّاه مباشرة، وأنكر عليه ما فعله، وقال له: لو لم يُقتل، لأمكن أن يتمّ عليه بالحجج والبراهين أحقيّة مذهب الإماميّة، ويذعن بإلزامه جميع ما وراء النّهر وخراسان.

وطبيعي بمن كان بمستوى المحقّق الكركي علمياً، أن يكون محطّ ثناء العلماء ومدحهم، ولعلّ أوّل من ذكره من أرباب التواريخ والسّيَر، المؤرّخ الفارسي "خواند أمير"، في أواخر تاريخه "حبيب السّير"، في أثناء تعداد علماء دولة السلطان الشاه إسماعيل الصفوي، ما معناه: "إنّ من جملتهم الشيخ عبد العالي الكركي، وعلوّ مرتبة ذلك المتقي الورع في تحصيل العلم والفضيلة بمنزلة وصل بها إلى درجة الاجتهاد، وقد صار لغاية تبحّره في العلوم العقلية والنقلية، معتمداً لحكماء الإسلام، ومرجعاً للعلماء الواجبي الاحترام، وكان فصاحة بيانه، وطلاقة لسانه، خارجة عن درجة التوصيف، ونهاية تديّنه وتقواه عند الأكابر والأصاغر (معترفاً بها)، وفي هذا التاريخ، يعني سنة ثلاثين وتسعمائة، بلاد بغداد والحلّة والنجف معمورة بوجوده الشريف".

وذكره التفرشي في رجاله، فقال: "علي بن عبد العالي الكركي(قده)، شيخ الطائفة وعلاّمة وقته، صاحب التدقيق والتحقيق، كثير العلم، نقيّ الكلام، جيّد التصانيف، من أجلاّء هذه الطائفة".

وذكره الحرّ العاملي في "أمل الآمل"، فقال: "الشيخ الجليل علي بن عبد العالي العاملي الكركي، أمرة في الثّقة والعلم والفضل، وجلالة القدر وعظيم الشأن وكثرة التحقيق، أشهر من أن يُذكر"...

ثم نقل عن الشَّهيد الثاني أنّه أثنى عليه في بعض إجازاته، فقال عند ذكره: "الشيخ الإمام المحقّق المنقِّح، نادرة الزّمان ويتيمة الأوان".

وذكره العلامة المجلسي في أوّل "بحار الأنوار"، فقال فيه: "أفضل المحقّقين، مروِّج مذهب الأئمّة الطّاهرين، نور الدين علي بن عبد العالي الكركي، أجزل الله تشريفه، وحشره مع الأئمة الطاهرين، حقوقه على الإيمان وأهله أكثر من أن يُشكر على أقلّها، وتصانيفه في نهاية الرزانة والمتانة".. إلى غير ذلك من الثناء عليه، بالنظر إلى مساهماته في العلم والمعرفة.

اختلف في سنة وفاته، فمنهم من قال العام 937هـ، ومنهم من قال العام 938هـ، ومنهم العام 940هـ، وقيل إنه قضى مسموماً في النجف الأشرف، ولكنّ المسألة مختلف عليها بين الرواة والمحقّقين.

حاولنا تسليط الضّوء على حياة عالم من علماء الإسلام الكبار، الّذين قدّموا الكثير في سبيل نشر القيم الإسلامية والمعرفة الأصيلة، تأليفاً وتحقيقاً، وساهموا في تعزيز روح الانفتاح والعمل في سبيل الوحدة الإسلاميّة بمواقفهم وأقوالهم ومسيرتهم.

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية