ليس سهلاً أن نتحدّث عن شخصيّة إسلاميّة بحجم السيّد محمد باقر الصّدر، الَّذي استطاع أن يفتح للتفكير الإسلامي أفقاً جديداً لم يُعهد من قبل في التفسير العميق للمفاهيم الإسلاميّة في حركة الإنسان في الحياة، وفي التّأصيل المنهجي للمذهب الاقتصادي في الإسلام، والانفتاح على واقع الإنسان كلّه، في عمليّة تزاوج حركي بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان في حركة الوجود، في مسؤوليّته الّتي يتكامل فيها تكويناً أو إرادةً بين يدي الله، واستخلاص المفهوم الّذي يحدّد للإنسان علاقته بالطّبيعة، ومنها الأرض، وعلاقته بالإنسان الآخر، وعلاقته بالله من خلال التّفاعل بين هاتين العلاقتين.
إنسان المسؤوليّة في الحياة
انطلق الشّهيد الصّدر ليكتشف السّنن التاريخيّة في القرآن، حيث يشعر الإنسان عندما ينطلق في حركة التّاريخ، بأنّه حتّى وهو يمارس الفوضى، لا يمكن للفوضى إلا أن تكون خاضعةً لنظام، باعتبار أنّ هناك سنناً تاريخيّة تحكم حركة الإنسان، وتمثّل الخطوط العامّة لحركته الإنسانيّة، بطريقة شعوريّة أو لا شعوريّة، لأنّ القوانين الحتميّة التي أودعها الله في الكون، وحرّكها في الحياة، ليست دائماً حالة شعوريّة في الكائن الحيّ، بل قد تنطلق لتحكمه من خلال نظام دقيق يمكن أن يكوّن للإرادة دوراً، بحيث يتحرّك في السنّة التاريخيّة لتكون إرادته جزءاً من هذه السنّة.
لقد اكتشف الشّهيد الصّدر بعضاً من هذه القوانين، وأصّلها، وبعبارة أخرى، استطاع أن يتحرّك بالاكتشاف نحو قاعدة للتّأصيل، وأن يُطلق القاعدة المؤصّلة من أجل اكتشافات جديدة. ومن هنا، فقد شعرنا، ونحن معه، ونحن بعده، بأنّ الفكر الإسلامي كان شيئاً قبل أن يجيء السيّد محمد باقر الصّدر، وصار شيئاً آخر بعد أن ودّع الحياة، محدثاً بذلك نقلة نوعيّة في عالم الفكر. ولم يكن السّيد محمد باقر الصّدر إنساناً يفكّر في المطلق، أو إنساناً يعيش في صومعة العلم، ليجلس بين مفرداته، ليكتشف منها ما يكتشف، وليؤصّل منها ما يؤصّل، ولكنّه كان إنسان المسؤوليّة في الحياة.
كان يرى أنّ الإسلام ليس مجرّد فكر يمكن لك أن تملأ به الكتب أو النّوادي العلميّة والثقافيّة، ولكنّ الإسلام انطلق منذ أن انطلق في قلب النبيّ محمد(ص) والصّحابة معه وأهل بيته، قرآناً يتحرّك في الوعي، ويُقرأ باللّسان، كما انطلق حركةً يتجسّد فيها القرآن في كلّ جوانب الحياة السلبيّة والإيجابيّة. ولهذا، كان القرآن كتاب الدّعوة الإسلاميّة والحركة الإسلاميّة، كان القرآن ينزل عند كلّ مشكلة تواجه المسلمين ليحلّها، بعد أن تتفاعل المشكلة في كيانهم، وكان القرآن يتابع كلّ حركة للمسلمين، سواء كانت حرباً أو سلماً، لينقد جانباً من التّجربة هنا، وليؤكّد جانباً من التّجربة هناك، وليستخلص العبرة من خلال إيجابيّة التجربة أو سلبيّتها، من أجل تجربة جديدة لمستقبل جديد.
ومن هنا، كنّا نقول دائماً، إنّ القرآن لا يفهمه فهماً واعياً حيّاً إلا الحركيّون. أمّا الذين يفهمون القرآن في القاموس أو في النظريّات الفلسفيّة، ولكنّهم لا يعيشون تجربة الحياة في حركيّتها، ولا يعيشون تحدّيات الحياة في خطّ المواجهة، فإنهم قد يفهمون لغة القرآن، ولكنّهم لا يفهمون روحه، لأنّ روحه تنطلق من خلال الواقع الّذي عاشه الحركيّون، الّذين قادهم رسول الله(ص) إلى النّصر، وإلى أن يواجهوا التّجربة بشكل حيّ.
هكذا بدأ حركيّاً
هكذا بدأ حركيّاً، فلم تكن حركيّة السيّد محمد باقر الصّدر في الخط الإسلامي السياسي، منطلقةً من حالة تقليدية ينتمي فيها إنسان إلى حركة إسلاميّة هنا أو هناك بشكل تقليدي، فقد كانت روحه حركة، ولذلك، عندما كنا معه، كان يعيش قلق المعرفة لمنهجية الحركية الإسلامية في الواقع، وكان يبحث عن خصائص الحركة الإسلاميّة، كيف يمكن أن تتجمّع في الواقع الّذي يعيش فيه، وكان يعيش قلق المعرفة لأساليب الحركة الإسلاميّة، كيف تواجه الواقع الجديد بطرق جديدة تختلف عمّا كان عليه الحركيّون الإسلاميّون منذ انطلاقة الدّعوة، لأنّنا عندما ننطلق في معطيات الواقع وفي خصوصيّاته، لا نستطيع أن ننقل كلّ المفردات والأساليب الّتي اتبعت في عهد الدّعوة، لنكرّرها في عهدنا الآن، لأنّ الأسلوب ليس فكراً في المطلق حتى نأخذه ونتحرّك به كما تحرّك المسلمون الأوائل في الحروب، أو في طريقة الدّعوة، أو في السّلم، أو في علاقاتهم، نحن نأخذ الخطوط العامّة، أمّا في التفاصيل، فلهم تفاصيلهم التي انطلقت من ظروفهم، ولنا تفاصيلنا التي تفرضها ظروفنا. ولهذا، قد يختلف أسلوب الكلمة عندنا عن أسلوب الكلمة عندهم، لأنّ الذهنيّة الثقافيّة في عهدهم، تختلف عن الذهنيّة الثقافيّة في عهدنا في نقاط الضّعف ونقاط القوّة.
وهكذا، كانت أدوات التحدّي هناك تختلف عن أدوات التحدّي هنا. في الماضي، لم نجد أناساً ينتظمون في نظام، ولم يأخذوا بالأساليب الحركيّة، بينما نواجه الآن أناساً يعيشون طريقة معيّنة في التنظيم، وفي الحركة، وفي أسلوب المخابرات، وفي أسلوب السياسة، وفي أسلوب الحرب والسّلم، تختلف تفاصيلها عن التفاصيل الأخرى. لذلك، من يريد أن يطلق حركة إسلاميّة في المرحلة الحاضرة، فإنّه لا يستطيع أن يبحث عن مفردات الحركة الإسلاميّة بجزئياتها في الماضي، ولكنه يأخذ الخطوط العامّة: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[1]، ولكن ماذا يختزن الأحسن والأسوأ؟ إن الأحسن هنا قد لا يكون مماثلاً لما هناك، وكذلك الأسوأ، فالخطوط العامة هي ما نستطيع أن نستهدي به في منهج الدعوة آنذاك. أمّا حركة التجربة وواقعها، فإن ذلك لا بدّ له من أن ينطلق من الواقع.
كان يعيش قلق المعرفة، وكان يحاول أن يقرأ المجتمع الذي كان يضجّ بالتحدّيات والمتغيّرات، وهو البعيد عنه، ولم يعش فيه التّجربة كمن عاشوا المجتمع وعرفوا مفرداته واتجاهاته، واطّلعوا على مفاهيمه في الواقع، لكنّه، وهو الّذي يملك الذهنيّة الحادّة، كان يلتقط الفكرة من بعيد، حتى كأنها تعيش بين يديه، ويلتقط الملاحظة الدقيقة، حتى كأنها بارزة للعيان. ومن هنا، كان السيد محمد باقر الصّدر لا يعيش فرقاً بين ما يقرأ وما يعيش الآخرون، فهو ينطلق بالقراءة؛ القراءة في الكتاب، أو القراءة من خلال الانطباعات التي يكوّنها الآخرون، ليفهم المجتمع كأفضل ما يكون الفهم. وهكذا، رسم ملامح الحركة الإسلامية، وبدأ التخطيط لها فكرياً، وحرّكها عملياً، وواجه التحديات من خلالها، فكانت شهادته قمة حركيّته، وكانت شهادته العنوان الكبير للإنسان الذي يفكّر من خلال حركة الحياة في الفكر، كما يجاهد من خلال حركة الفكر في الجهاد. وهكذا، كان الإنسان الّذي كتب المستقبل بدمه، بعد أن كتب الفكر الإسلامي بقلمه، وقلّة هم الذين يمتزج حبر دمائهم بحبر أقلامهم، لينطلقا معاً، لتكون حركة الحياة فكراً من جهة، ولتكون من جهةٍ أخرى، جهاداً ومستقبلاً حيّاً يؤذن بالنّصر، ولو من بعيد.
مناقشة بعض فكره
عندما نلتقي بذكرى شهادة السيّد الصّدر، نريد أن نعيش بعض فكره لنناقشه، لينطلق الجيل الجديد في الاتجاه الذي انطلق منه فكره، لأننا لا نريد أن نتجمّد عند الكبار من شخصيّاتنا، إننا نريدهم أن يكونوا المنطلق لإبداع جديد لجيل جديد، ولا نريد لهم أن يكونوا، في وعينا، النهاية لحركتنا في الفكر وفي الإبداع. لذلك، أطلق السيّد الشهيد الحركة والمسيرة في الأرض، وعلينا أن نتابعها بأساليب جديدة ومناهج جديدة. وقد أطلق الفكر الإسلامي في الوجدان الإسلامي، وعلينا أن ننطلق به في إبداع جديد وفي تجارب فكريّة جديدة.
ربما نطلّ على الفكر السياسي للسيّد محمد باقر الصّدر في أحدث مفرداته في التجربة الفكريّة التي أرادها عند ولادة الجمهوريّة الإسلاميّة، استجابةً لسؤال بعض العلماء الذين طلبوا منه أن يرسم خطوطاً لهذه الجمهوريّة الوليدة، وكانت له فكرته التاريخيّة في أنّ الله عندما خلق الإنسان، أعطاه دورين: الدّور الأوّل، هو دور الخلافة، فهو خليفة الله في الأرض: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[2]؛ خليفته على الأرض وعلى كلّ ما فيها، خليفته على الأرض كيف ينظّمها ويديرها، وخليفته على ما في الأرض كيف يركّز كلّ معطياته وكلّ عناصره، من أجل أن تكون الأرض جنّة الله الأولى التي يمكن للناس أن يعيشوا فيها نوعاً من السّعادة، يمثّل لهم ما ينتظرهم من السّعادة المطلقة في الآخرة، كان خليفة الله على الأرض وعلى مجتمعه، فالإنسان يعيش الخلافة حتى في موقعه من الإنسان الآخر.
والدور الثاني، هو دور الشّهادة، فالإنسان هو الشّهيد الذي يشهد غداً أمام الله، يوم يجمع الله النّاس يوم القيامة، وهو الشّهيد الذي يشهد على كلّ حركة التجربة الإنسانية في سلبياتها وإيجابياتها، وقد جمع الله هذه الشّهادة وهذه الخلافة لأنبيائه وللأصفياء من عباده، وكانت المسألة ـ ولا سيّما من خلال الفكر الإسلامي الشيعي ـ لمن الولاية في غيبة الّذين عيّنهم الله شهداء وخلفاء؛ هل تكون الولاية للأمّة أو أنها للفقيه؟! ونحن نعرف أنّ الفكر الإسلامي انطلق ليوازن بين نظرية ولاية الفقيه التي تجعل الولاية للفقيه، ونظرية الشورى التي تجعل الولاية للأمّة بطريقة من الطّرق.
ولاية الأمّة على نفسها
وفي هذا المجال، انطلق الشهيد الصدر في تفصيل جديد، فهو يرى أن هناك حالتين للأمّة؛ هناك حالة تملك فيها الأمّة حريتها الداخلية في وعيها للإسلام، وحريتها الخارجية أمام الطاغوت، وهناك حالة تعيش فيها الأمّة تحت تأثير الطاغوت الداخلي، من حيث هو طاغوت الفكر المنحرف، والطّاغوت الخارجي، وهو الحاكم المنحرف.
ففي الحالة التي تكون فيها الأمّة تحت تأثير الطاغوت، بحيث لا تملك حريّتها في إدارة نفسها، ولا تملك حريّتها في تقرير مصيرها وتولّي أمرها، فإنّ المرجعيّة المتمثّلة بالفقيه الواعي المنفتح على الإسلام في فكره وفقهه، والمنفتح على الواقع في وعيه وتجربته للواقع، هو الّذي يملك الخلافة في هذه الحال ليقود الأمّة، باعتبار كونه جزءاً من الأمّة، ولكنّه الجزء الواعي، ليتحرّك بالأمّة إلى التحرّر، فإذا تحرّرت الأمّة، أخذت ولايتها لتديرها بنفسها. ويبقى الوليّ في دور الشّهادة، لتكون للأمّة الخلافة، وليكون للفقيه الشّهادة التي يراقب من خلالها حركة الأمّة في مسيرتها، من حيث انسجامها مع الخطّ الإسلامي العام في حركتها في الخطوط التفصيليّة للإسلام، ومدى ما تختزنه في حركة التجربة من نقاط الضّعف ونقاط القوّة، ليكون الشهيد الذي ترجع إليه الأمّة، لتسأله عن شهادته في تجربتها، قبل أن يؤدّي شهادته إلى الله في ذلك، وليعطي الأمّة الوعي الذي تستطيع أن تكون فيها شهيدة على بعضها البعض، في تجربتها التي يمكن أن تتحرك من خلال توزيع الأدوار هنا وتوزيع الأدوار هناك.
وهو يستشهد في ذلك، في ولاية الأمّة على نفسها، بالآيتين الكريمتين، وهي قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[3]، حيث يستفيد منها ـ خلافاً لكثير من الفقهاء التقليديّين ـ أن مسألة الشورى، هي مسألة تعيش في عنوان الحكم وفي حركته، كما تعيش في حركة الواقع كلّه، فالشّورى هي العنوان التّشريعيّ لحركة الواقع الإسلامي كلّه، فلا بدَّ منها في أيّ موقع لم ينصّ الله عليه بنصّ معيّن، بل وفي كلّ موقع ترك بدون نصّ خاصّ، فإنّه لا بدّ للأمّة من أن تعيش الشّورى فيما يجتهد فيه المجتهدون، وفيما يجرّب فيه المجرّبون.
وهكذا يستدلّ بقوله سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[4]، فهو لا يعطي الولاية هنا معنى التعاون والتناصر، وإنما يعطيها المعنى الفقهي الّذي يجعل المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، فالجماعة الإسلاميّة من الرجال والنساء، لها ولاية على الجماعة الأخرى من الرّجال والنساء، وهكذا، تكون النّتيجة أنّ الأمّة برجالها ونسائها، تمثّل عنصر الولاية على نفسها.
ومن خلال ذلك، يمكن أن نستوحي من كلامه ـ وإن لم يصرّح بذلك ـ أنّ المرأة المسلمة في داخل الأمّة وفي داخل المجتمع، تعتبر جزءاً من الأمَّة؛ جزءاً فاعلاً يمارس عمليّة الولاية في داخل مهمّاته، وفي داخل أدواره، تماماً كما يمارسها الرّجل، لأنّ الآية لم تفرّق في الولاية بين المؤمنين والمؤمنات.
وأحبّ أن أقرأ بعض نصّه في هذا المجال بشكل سريع، حتّى نستطيع أن نأخذ الفكرة على الأساس الّذي تحدّثنا عنه. يقول الشّهيد الصّدر: "لا بدّ من أن تشترك المرجعيّة والأمّة في ممارسة الدّور الاجتماعي الربّاني بتوزيع خطّي الخلافة والشّهادة. والمرجع ليس شهيداً على الأمّة فقط، بل هو جزء منها، وهو عادة من أوعى أفراد الأمّة وأكثرها عطاءً ونزاهة. وعلى هذا الأساس، وبوصفه جزءاً من الأمّة، يحتلّ موقعاً من الخلافة العامّة للإنسان على الأرض، وله رأيه في المشاكل الزمنيّة لهذه الخلافة وأوضاعها السياسيّة، بقدر ما له من وجود في الأمّة وامتداد اجتماعي وسياسي في صفوفها"، ومن الطبيعيّ أنّه لا بدّ للفقيه عندما يأخذ هذا الدّور، من أن تكون له فاعلية الوجود في واقع الأمّة، ليكون وجوده السياسي والاجتماعي، إضافةً إلى وجوده الفكري، عنصراً مؤثّراً في حركة الأمّة، يجعله جزءاً فاعلاً وحيويّاً في واقع الأمّة.
ثم يقول في مقام تأصيل هذه الفكرة: "أمّا خطّ الخلافة، ما دامت الأمّة محكومة للطاغوت ومقصيّة عن حقّها في الخلافة العامة، فهذا الخطّ يمارسه المرجع، ويندمج الخطّان حينئذ ـ الخلافة والشّهادة ـ في شخص المرجع، وليس هذا الاندماج متوقّفاً على العصمة"، لأنّ خطّ الخلافة في هذه الحال، لا يتمثّل عمليّاً إلا في نطاق ضيّق، في نطاق المرحلة الطارئة التي فرضت أن يتسلّم هذا الدور، فهو كأنّه ـ وإن لم تكن القضيّة بهذه الدقة ـ "يتسلّم هذا الدّور بالوكالة عن الأمّة، لا من خلال أصالة الدور في شخصيّته وفي وجوده، وما دام صاحب الحقّ في الخلافة العام قاصراً عن ممارسة حقّه، نتيجة لنظام جبّار، فيتولى المرجع رعاية هذا الحقّ في الحدود الممكنة، ويكون مسؤولاً عن تربية هذا القاصر وقيادة الأمّة، لاجتيازها هذا القصور، وتسلّم حقها في الخلافة العامة".
فدور المرجع هو أن يقود الأمّة نحو التحرّر الذي يحرّر إرادتها ويحرّر واقعها من الخضوع لسلطة النظام الجبّار. وهكذا، يستدلّ على ذلك بما ذكرناه في مسألة: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}، ونلاحظ أنّه حتّى وهو يتحدّث عن النبيّ(ص) يقول: "لا بدّ للنبيّ من استشارة الجماعة"، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}، أمّا تأكيد البيعة، فهو تأكيد لشخصيّة الأمّة، وإشعارها بخلافتها العامّة، وأنها بالبيعة تحدّد مصيرها، وأنّ الإنسان حينما يبايع، يساهم في البناء، ويكون مسؤولاً عن الحفاظ عليه، وقد أصرّ الإسلام على البيعة للقائد المعصوم، واتخذها أسلوباً من التّعاقد بين القائد والأمّة، لكي يركّز نفسيّاً ونظريّاً مفهوم الخلافة للأمّة.
هكذا، يلخّص السيد الشهيد الصدر هذه النظرية في عالم التزاوج بين المرجعية والأمّة، ليرى أن دور المرجع هو دور الشهادة، ودور الأمّة هو دور الخلافة، وأن الأمّة إذا لم تكن قادرة على القيام بدورها في الخلافة، فإنّ المرجع يتسلّم ذلك، ليقود الأمّة إلى التّحرير، لتكون الولاية بعد ذلك للأمّة، تحت رقابة المرجعيّة، باعتبار أنّه يأخذ دور الشّاهد في ذلك كلّه.
الولاية بين الأمّة والفقيه
قد تكون هذه أحدث نظريّات السيّد الشّهيد في هذا المجال، ولكنّنا نجد أنّ هذه النظريّة لا تزال نظرية ضبابية في خطوطها التفصيليّة، لأنّ قضيّة ولاية الأمّة على نفسها، ربما تعني الأخذ برأي الأكثريّة، كما يصرّح السيّد الشّهيد في بعض كلماته. وفي هذا المجال، فإننا نلاحظ أنّ هذه الولاية بمعناها الفقهيّ العميق، إذا كانت تنطلق من فكرة الخلافة، فإنّنا لا نجد أنّ الأمَّة كانت تمارس دور الخلافة في أيِّ دور من الأدوار التاريخيَّة في حركة النبوّات، بل كان النبي هو من يمارس دور الخلافة، وكانت الأمّة تعيش العنصر المنفعل، حتّى والنبيّ يشاورها، فإنّ استشارة النبيّ كانت تنطلق ـ حتى من وجهة نظر السيّد الشهيد ـ من الخطة في تربية الأمّة على أن تفكر، وعلى أن يكون لها رأيها في الأمور. لكن أن تكون لها القيادة في هذا المجال، فنحن لا نشعر بوجود نصوص واضحة الدّلالة على أنّ للأمّة القيادة بالمعنى الفقهي للقيادة.
هناك فرق بين أن نقول إنّ للأمّة دوراً أو إنّ للأمّة القيادة، فالإسلام لا يمنع من وجود دور للأمّة، بل إنّه أكّد دورها في كلّ التجارب، وخصوصاً في تجارب النبي(ص) في حروبه وفي غيرها، بحيث إنّه كان يستشير الأمّة عندما يريد أن يدخل في حرب، وربما يوحي بأنّه يريد أن يتّخذ قراراً، ويستشير النّاس بعد ذلك، ويكون الرّأي على خلاف ما كان يوحي به من قرار، وإن كان لم يتّخذه، ما يوحي للآخرين بأنّه التزم قرارهم، وربما يخيّل إلى بعض الناس، أنّ النبي عدل عن قراره، ولكنّنا نفهم أنّ النبي كان يوحي بأنّه يريد أن يتّخذ قراراً، ليدفع الأمّة إلى أن تفكّر، فتشير ليتقبّل مشورتها. أمّا مسألة البيعة، فإنّ البيعة لا تعطي للنبيّ الذي يبايَع الشرعيّة، لأنّ شرعيّته من الله كنبيّ وكحاكم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}[5]، وهذا دليل الحاكميّة.
ولذلك، فإننا لا نشعر بأنّ للأمّة القيادة، بمعنى أنها هي الّتي تمثل دور الخلافة، أما في العهد الذي نعيشه، وهو ما يسمّى في المصطلح الإسلاميّ الشيعيّ في الفقه الجعفري، بعصر الغيبة، فالمسألة من خلال الخطّ الفكري، هي مسألة الإمام المعصوم الغائب، وفي الخطّ البياني، هي مسألة المرجعيّة كنيابة عن الإمام المعصوم، إن كان من ناحية الشّهادة، أو من ناحية الخلافة، ليس هناك نصّ محدّد. أنا لا أريد أن أنفي المسألة، ولكنّني أريد أن أقول إنّ ما استدلّ به، لا يصلح أن يكون دليلاً، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، هذه الآية نزلت في زمان النبي(ص)، وهي تؤكّد أنّ أمر المسلمين شورى بينهم، في الوقت الّذي لم يكن الحكم شورى في زمان النبيّ لهم، ولا يمكن أن تنزل لتكون في موضوع لا مصداق له في عهد النبوّة آنذاك، أو لا مصداق له حتى في عهد الإمامة بعد ذلك، من وجهة نظر التفكير الشيعي في هذا المجال.
لذلك نقول إنّ الشّورى تمثل الطابع الذي ينبغي أن تعيشه الأمّة عندما تمارس دورها الذي يعطى لها في التشريع الإسلامي، وفي ما تتحرّك فيه المسؤوليّة. وهكذا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}، إنّ الولاية هنا تعني التعاون والتناصر والتكامل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يمثّل الجانب التطبيقي الحركي، في ظلّ قيادة القائد، لتغيير الواقع السيّئ إلى واقع جيّد.
أما ما يحاول البعض أن يستفيده من قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} وما إلى ذلك، فإنّ هذه الآية هي ككلّ الآيات القرآنيّة التي تتوجّه إلى الناس، من خلال أنّ التكليف هو للناس جميعاً، وأنّ المسؤوليّة للناس جميعاً، أمّا أن يكون الناس هم القيادة الّتي يوكل إليها أمر هذا الموضوع، فهذا ما لم أجد هناك دليلاً عليه.
[1] (فصلت: 34).
[2] (البقرة: 30).
[3] (الشورى: 38).
[4] (التوبة: 71).
[5] (الأحزاب: 6).