الإنسان مصدر الصلاح والفساد الإصلاح يبدأ من تغيير الإنسان نفسه

الإنسان مصدر الصلاح والفساد الإصلاح يبدأ من تغيير الإنسان نفسه
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

الإنسان مصدر الصلاح والفساد الإصلاح يبدأ من تغيير الإنسان نفسه


الفساد من صنع الإنسان
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].يؤكد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية، أن ما يحدث في العالم الإنساني كله، من فساد اجتماعي واقتصادي وسياسي وأمني، على مستوى حركة الإنسان في كل معاملاته وعلاقاته، وعلى مستوى الآلام التي تعاني منها المجتمعات، والخسائر التي تصاب بها، والانهيارات التي تحدث فيها، يتحمل مسؤوليته الإنسان، لأن الله سبحانه وتعالى قد رسم للإنسان خطاً مستقيماً ينفتح على القيم الروحية التي تتحرك في خط تقوى الله ومحبته والإيمان به والخشية منه، وعلى القيم الأخلاقية التي تحكم حركة الإنسان في نفسه ومجتمعه وفي الأمة كلها...

فالإنسان هو المسؤول عن كل ما يحدث له في حياته العامة والخاصة من أوضاع. وعلى هذا الأساس، لا يمكننا ـ كما يفعل البعض ـ أن ننسب تلك الأحداث إلى الله بشكل مباشر، فالله سبحانه وتعالى هو وليّ الكون كله، وقد وضع للإنسان نظاماً يُصلح له حركته في الحياة، وأراد له أن يأخذ به ويلتزمه، ولكن الإنسان انحرف عنه، فكان نتيجة ذلك الفساد، مع علم الله سبحانه بما يحدث للإنسان.

مسؤولية التغيير والإصلاح
فالإنسان هو صانع الفساد، وهو صانع الصلاح، ولذلك كانت دعوة الأنبياء أممهم إلى أن يأخذوا بأسباب الصلاح والإصلاح، وهذا ما جاء في القرآن الكريم على لسان أحد الأنبياء(ع):{إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت} [هود:88]، فأنا أريد أن أُصلحكم، وأن أجعل الصلاح هو الذي يسيطر على كل مجتمعاتكم، لتكون مجتمعات خير وإنتاج وسلام. وهكذا عندما نستعيد عاشوراء، فإننا نقرأ أن الحسين(ع) انطلق في حركته من أجل الإصلاح في أمة جده.

وفي القرآن الكريم، نقرأ قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، ليعرفنا سبحانه أن الإنسان هو الذي يصنع التغيير، من خلال فكره الذي ينفتح على سلوكه وعلى علاقته بالناس وبالحياة كلها، حتى إن الله تعالى قد يقدّر سلب النعم عن الناس، سواء كانت نعماً في حياتهم الاقتصادية أو في حياتهم الأمنية أو الاجتماعية، في حال تغيّرت ممارساتهم العملية التابعة لأفكارهم، بحيث تصبح في خط الفساد وخط المآسي والانهيار، يقول تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53]. فالله يريد أن يقول للإنسان: غيّر نفسك تغيّر الواقع، لأن الواقع يتجسّد من خلال الفكرة الداخلية التي تحكم التخطيط الإنساني لطبيعة حركته في الحياة. وورد في هذا المجال أيضاً قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
وعلى ضوء هذا، لا بد لنا في عملية الإصلاح العملي الواقعي من أن نصلح العنصر الفكري للإنسان، بأن نغيّر الذهنية الإنسانية لتكون ذهنية خير لا ذهنية شر، ولتكون حركته حركة عدل لا حركة ظلم، وانطلاقته انطلاقة الاستقامة لا انطلاقة الانحراف.

تعطيل الحقّ وتحكيم الباطل
والله سبحانه يريد أن يبيّن أن من أسباب الانهيار العام للأمة هو في الاختلاف الذي يحصل في داخلها، كالاختلاف المذهبي في الدين الواحد، والاختلاف السياسي في الأمة الواحدة، والاختلاف الاجتماعي في المجتمع الواحد، بحيث يتحوّل الاختلاف إلى حالٍ من الضعف والسقوط الذي يبعد المؤمنين وأصحاب الحق عن عنصر القوة، وهذا ما أكده رسول الله(ص) في قوله: "ما اختلفت أمة بعد نبيّها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها"، لأن الاختلاف يشغل الأمة ويبعدها عن قضاياها الأساسية، فتفقد عناصر القوة في شخصيتها، وهذا ما واجهته الأمة الإسلامية التي اختلفت فيها القيادات، سواء الدينية أو السياسية أو الاجتماعية، من بعد ما جاءها العلم، من أجل تركيز مواقعها السلطوية والمالية والاجتماعية.

ونقرأ عن النبي (ص): "إن الله لا يعذّب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه ـ عندما ينتشر المنكر من خلال تحليل الحرام وارتكاب المعاصي، وإثارة الاختلافات التي تنشر العداوة والشحناء والبغضاء بين المؤمنين، مع وجود القيادات القادرة على أن تتحرك في الميدان من أجل توعية الناس على الحق لتغيير هذا الواقع، ولكنها لا تفعل، بل إنّ كل واحدٍ من هذه القيادات ينفرد بنفسه، ويفكر في مصالحه الخاصة بعيداً من المصلحة العامة، حتى إن بعض الذين يملكون موقعاً دينياً قد يرون أن مسؤولية الناس أن يأتوا إليهم.

ولذلك نلاحظ أن كثيراً من الشخصيات الدينية أو الثقافية الإسلامية عزلت نفسها عن التحرك في الواقع الإسلامي، وخصوصاً في واقع الخلافات التي تجعل المسلمين يلعنون بعضهم بعضاً، ويقتلون بعضهم بعضاً، وهذا ما نواجهه الآن في حركة التكفيريين الذين يشهدون الشهادتين، ولكنهم يقومون بالمجازر التفجيرية ضد المسلمين من زوّار الأئمة(ع)، بدلاً من أن يواجهوا الاحتلال الأمريكي والصهيوني، ونرى امرأةً منهم تندفع إلى مقام الإمام الكاظم(ع) لتفجّر نفسها بالزوّار، لأن دماغها قد غُسل بأنها إذا فعلت ذلك فستكون مع رسول الله في الجنة ـ فإذا فعلوا ذلك عذّب الله العامة والخاصة".

وفي الحديث عن رسول الله(ص)، وهو يفرّق بين من يعصي الله سراً ومن يعصيه علانيةً، وتأثير المعصية في المجتمع، يقول: "إن المعصية إذا عَمِل بها العبد سرّاً لم تضرّ إلا عاملها، وإذا عَمِل بها علانيةً ولم يغيّر عليه أضرّت بالعامة". كما إذا أكل شخص طعاماً فيه جراثيم فإنه يضرّ نفسه، أما إذا قدّم في مطعمه هذا الطعام فإنه يضرّ المجتمع كله.
  ونقرأ في حديث الإمام عليّ(ع) لأصحابه عندما كان يخبرهم عن غلبة جيش معاوية، قوله: "إني والله لأظنّ أن هؤلاء سيدالون منكم ـ سيتغلبون عليكم ـ باجتماعهم على باطلهم وتفرّقكم عن حقكم ـ لأنهم اجتمعوا على الباطل الذي يمثله معاوية وأصحابه، أما أنتم، فقد تفرقتم عن الحق الذي أمثله ـ وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم"، فهم يطبقون النظام الذي وضعه معاوية على أساس أنه نظام الصلاح، أما أنتم، فقد أفسدتم حياتكم من خلال مخالفتكم للنظام الحق الذي وضعته.

وعنه(ع) إلى أمراء الأجناد: "أما بعد، فإنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحق فاشتروه ـ والحق هو أمانة الناس عند المسؤولين، وعليهم أن يعطوهم حقهم من دون ثمن، فلما منعوا الناس حقّهم اشتروه من المسؤولين بالرُّشا والأموال، أي أنّهم لم يضعوا الأمور في مواضعها، ولا ولّوا الولايات مستحقّيها، وكانت أمورهم الدينية والدنيوية تجري وفق الهوى والأغراض الفاسدة ـ وأخذوهم بالباطل فاقتدوه"، أي حملوهم على الباطل وركزوه في حياتهم، بكل ما يعنيه الباطل في العقيدة والشريعة أو الحياة العامة، فجاء الخلف بعد السلف، فاقتدوا بآبائهم وأسلافهم في ارتكاب ذلك الباطل، ظناً منهم أنه الحق، ذلك لأنهم أَلِفوه ونشأوا وتربّوا عليه.

سلطة الفساد وأثرها
إننا عندما ندرس واقعنا الأمني والسياسي والاقتصادي، والواقع العالمي، نجد أن الأزمات التي تهزّ العالم من أقصاه إلى أقصاه سببها سيطرة الفساد في المواقع المتقدمة، فمثلاً عندما نواجه الأزمة المالية التي امتدت إلى جميع أنحاء العالم، نجد أن الفساد المستشري لدى الفاعليات الاقتصادية والسياسية في أمريكا هو المسؤول عن الأزمة التي حدثت فيها، حتى إن عجزها في أزمتها المالية قد يبلغ العشرات من التريليونات، وهكذا نجد أن أوروبا أصابتها هذه الأزمة أيضاً، حتى إنهم استعانوا بالأرصدة العربية، وللأسف خضع بعض الحكام العرب لرغباتهم وحرموا شعوبهم من هذه الخيرات.

وهكذا عندما ندرس واقع المشاكل في عالمنا العربي والإسلامي، ومنها الاحتلال اليهودي الصهيوني الذي يعاني منه بعض عالمنا، نجد أن فساد السياسيين أوجد حالاً من الضعف السياسي والأمني في مواجهة هذا العدو، وكذلك الأمر في الأزمة الاقتصادية التي تتحرك في بلدنا لبنان وفي بلاد أخرى، والتي تنطلق من أن كثيرين من الذين يسيطرون على الحكم يسرقون الأمة في خيراتها وثرواتها، من دون أن يجرؤ أحد على محاسبتهم، لأن القانون يُطبَّق على الفقراء والضعفاء، أما الأغنياء والمسؤولون فلا يحاسبهم أحد.

لذلك علينا أن ننطلق لنأمر بالمعروف بكل قوة، وننهى عن المنكر بكل قوة، ونأخذ بأسباب العزة والكرامة والقوة والحرية، لنواجه الظالم في ظلمه، والمنحرف في انحرافه، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} [التوبة:105].

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

غزّة: النموذج المقاوم الثاني بعد لبنان
يدخل العدوان الوحشي الإسرائيلي على غزة المجاهدة أسبوعه الثاني، حاصداً ما يقارب الثمانمائة شهيداً وأكثر من ثلاثة آلاف جريح، من دون أن يتمكّن من تحقيق أية أهداف كان يصبو إليها، أو أن ينال من عزيمة المقاومة التي قدّمت للعرب والمسلمين نموذجاً ثانياً بعد النموذج اللبناني في الثبات والصمود والإبداع الجهادي في خط كسر مخططات العدو والتأسيس للنصر.

ومع بروز الفشل الميداني الصهيوني أمام المقاومة وصعوده إلى الواجهة، وسّعت آلة القتل والإبادة الإسرائيلية من دائرة مجازرها، فلم توفّر المدارس التابعة للأمم المتحدة، في استعادة وحشية كاملة لمجزرة قانا، وفي تنافس متواصل بين قادة العدو حول من هو الأكثر ولوغاً بالدم العربي، وفي ملاحقة للنساء والأطفال والشيوخ، وإبادة متواصلة لعائلات بأكملها، وفي ظلّ استخدام لأكثر الأسلحة الأمريكية فتكاً، بما فيها الأسلحة الفسفورية المحرّمة دولياً.

ووسط هذا العجز الإسرائيلي أمام مقاومة أشبه بالأسطورة، وفي مواجهة مقاومين مجاهدين شيّدوا مجداً متصاعداً للمسلمين والعرب، عَمِل النظام العربي الرسمي على التواري خلف خطوط المذبحة، لا بل جعل من نفسه وسيطاً بين المقاومة والاحتلال، وعمل على طرح المبادرات الملغومة التي أُريد منها إحراج المقاومة تمهيداً لإخراجها من الساحة السياسية الفاعلة، ولم يُكلّف نفسه أن ينبس ببنت شفة عن الاحتلال الإسرائيلي كونه المشكلة الأساس والداء العضال الذي يصنع المذابح المتواصلة التي لا تهزُّ في معظم الحكام العرب ضميراً ولا وجداناً ولا إحساساً.

إننا في الوقت الذي نؤكد ـ من خلال ما نملكه من معلومات، وما نعرفه من صلابة المجاهدين في غزة ـ أن العدو عاجزٌ عن الانتصار على المقاومة الفلسطينية الباسلة، وأنه سيدفع الثمن السياسي لاحقاً، على الرغم من سعيه المتواصل لإخفاء خسائره وهزائمه الميدانية، ندعو الطلائع الحرة في الأمة إلى القيام بالمزيد من الخطوات العملية الضاغطة على الحكّام والسلطات وعلى كل ما يتصل بالعدو، وإلى المبادرة إلى كل ما من شأنه أن يمثل انتصاراً للشعب الفلسطيني ودعماً لمقاومته البطولية الرائعة، وعلى شعوبنا العربية والإسلامية أن تختزن في وجدانها الرفض الفعلي لأي سلام مع المتوحشين اليهود، وأي تعايش مع هؤلاء المغتصبين الحاقدين على مستوى الزمن كله، لأنهم يمثلون عنصر الجريمة الأكثر بشاعةً وفظاعةً وامتداداً وفساداً في الأرض.

إننا ندعو فصائل المقاومة في فلسطين، التي تعرضت وتتعرض لأقسى حالات الضغط من العدو والصديق، إلى أن تنتبه إلى أن الكثير من المواقع العربية الرسمية ليست حياديةً في مسألة الحرب عليهم، وهي تشكّل مع العدو غرفة عمليات سياسية واحدة للإطباق سياسياً على المقاومة الفلسطينية بعدما عجز العدو عن هزيمتها ميدانياً.

ونريد لشعوبنا العربية والإسلامية التي أثبتت إخلاصها وأصالة انتمائها، من خلال اندفاعها الوجداني والعملي مع المقاومة وخط الممانعة في الأمة، أن تواصل مسيرتها وحركتها في الشارع دونما كلل أو ملل، لأن الضغط على الأنظمة المتخاذلة هو ضغط غير مباشر على الاحتلال نفسه، وعلى هذه الشعوب أن تعرف ما معنى أمريكا الإسرائيلية في تغطيتها المتواصلة لأبشع المجازر الإسرائيلية، وتنكّرها لكل حقوق الإنسان وللمبادىء الإنسانية وللقانون الدولي، ولأبسط المفاهيم الإنسانية التي ظلّ الرئيس الأمريكي بوش يقدّم نفسه على مدى ثماني سنوات كرسول بعثه الله لتحقيق ذلك، ولتقديم نسخة أمريكية عن الديمقراطية التي يُرادُ للعالم العربي والإسلامي أن يسير في ركابها.

القرار 1860 فرصة إضافية لإسرائيل
إن السفير الأمريكي في الأمم المتحدة، والذي يحظى باحترام الكثير من المسؤولين العرب، هو يهودي أكثر من اليهود، وإسرائيلي أكثر من الإسرائيليين، وهو لا يحمل توجيهات من حكومته حول دوره في مجلس الأمن إلا تلك التي تمثل توجيهات مجلس الحرب الإسرائيلي المصغّر... ولذلك نحن نعتقد أن العرب الذين قدّموا للعدو أسبوعين كاملين للاستمرار في مجازره، عندما قرروا الذهاب إلى مجلس الأمن بعد كل المراوغة والمداهنة السياسية، كانوا يعرفون تماماً أنهم يذهبون إلى الحضن الأمريكي الذي يمثل المعقل الإسرائيلي، حيث لا أمم متحدة ولا من يتحدون. وعندما قرر المجلس في قراره الأخير الذي يحمل الرقم 1860 وقف إطلاق النار، جعل المسالة غير ملزمة للعدو، ليعطيه مزيداً من الوقت لتوسعة عدوانه، مع أن بعض العرب استعرضوا مجدداً وأوحوا بأنهم قاموا بواجبهم تجاه الفلسطينيين .

إننا نرى في كل ما يجري حرباً أمريكيةً على قوى المقاومة في فلسطين، تماماً كما كانت ـ ولا تزال ـ في لبنان، وكما أن أمريكا تمثل الذراع الدبلوماسية والسياسية والأمنية الداعمة لإسرائيل، فإن إسرائيل تمثل الذراع العسكرية الأمريكية ضد كل الأحرار، في كل حروبها ومجازرها، ولا يوجد في العالم موقعان حليفان في خط الشر والإرهاب والإبادة، كالحليفين الأمريكي والإسرائيلي.

وإن الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان يتغذى من الاحتلال الصهيوني في فلسطين، كما أن الاحتلال الإسرائيلي يتغذى من الاحتلال الأمريكي الذي يعمل على توطيد علاقاته بالنظام العربي الرسمي، كلما حاصرته المقاومة الشريفة في كل مواقع احتلاله في الأمة.

أما دول الاتحاد الأوروبي التي قدّمت ـ قبل بضعة أسابيع ـ هديةً سياسيةً خطيرةً لإسرائيل، حيث رفعت من درجة علاقاتها مع هذا الوحش، فقد علّقت على صدرها وساماً عدوانياً جديداً، وقد استمعنا إلى المسؤولين الفرنسيين والألمان والإنكليز وهم يتنكّرون لكل مبادىء حقوق الإنسان وعناوين الثورة الفرنسية وشعارات المقاومة ضد النازي، عندما حاولوا تحميل فصائل المقاومة في فلسطين مسؤولية المجازر الوحشية الكبرى التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل، بدلاً من أن يتحمّلوا وزر المسؤولية الأخلاقية والتاريخية في كل ما تسبّبوا به من مآسٍ للشعب الفلسطيني وشعوبنا كلها.

تحصين المقاومة ضرورة إنسانية
إن علينا جميعاً أن نعرف أن ما يجري ليس حرباً على غزة فحسب، ولكنه إغارة دولية شاملة على حركة التحرّر العربي والإسلامي بكل فصائلها وبمختلف روافدها، ولذلك فإن هذه الحركات مدعوّة إلى شدّ أزر بعضها بعضاً، لا بل أن تواصل السعي لإيجاد برنامج للمواجهة والمقاومة الشاملة، وأن تعمل الكوادر الثقافية والسياسية بمختلف أطيافها ومذاهبها وتنوعاتها على تركيز ثقافة المقاومة في الأمة، وعلى تحفيزها على الدخول في مسيرة الوعي التحريري الشامل، لتتحوّل مآسي الفلسطينيين الكبرى إلى فجرٍ للحرية والعزة والتحرير على مستوى الأمة كلها.

وعلينا في لبنان أن نستمر في احتضان المقاومة وخط الممانعة، في مواجهة ما تخطط له أمريكا الإسرائيلية لاستكمال حربها المتدرجة على المقاومة في لبنان والمنطقة، ليستمر لبنان في الموقع الداعم للقضية الفلسطينية، ولحق الفلسطينيين الشرعي والقانوني في العودة إلى أرضهم، لتكون فلسطين بكاملها، من النهر إلى البحر، أرضاً للدولة الفلسطينية التي لا بد من أن تقام على أنقاض الاحتلال وكيان الاغتصاب الذي مثّل العنوان الأبرز للجريمة عبر التاريخ.

كما علينا في لبنان أن نواجه المرحلة الصعبة والمعقّدة، بالمزيد من الوحدة الوطنية التي تُسقط كل من يحاول إثارة الفتن في أوساط الشعب، أو يحاول الانحراف بالمسيرة الداخلية عن خط التضامن والاحتضان للقضايا العربية والإسلامية الكبرى، وفي مقدمها القضية الفلسطينية.

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

الإنسان مصدر الصلاح والفساد الإصلاح يبدأ من تغيير الإنسان نفسه


الفساد من صنع الإنسان
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].يؤكد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية، أن ما يحدث في العالم الإنساني كله، من فساد اجتماعي واقتصادي وسياسي وأمني، على مستوى حركة الإنسان في كل معاملاته وعلاقاته، وعلى مستوى الآلام التي تعاني منها المجتمعات، والخسائر التي تصاب بها، والانهيارات التي تحدث فيها، يتحمل مسؤوليته الإنسان، لأن الله سبحانه وتعالى قد رسم للإنسان خطاً مستقيماً ينفتح على القيم الروحية التي تتحرك في خط تقوى الله ومحبته والإيمان به والخشية منه، وعلى القيم الأخلاقية التي تحكم حركة الإنسان في نفسه ومجتمعه وفي الأمة كلها...

فالإنسان هو المسؤول عن كل ما يحدث له في حياته العامة والخاصة من أوضاع. وعلى هذا الأساس، لا يمكننا ـ كما يفعل البعض ـ أن ننسب تلك الأحداث إلى الله بشكل مباشر، فالله سبحانه وتعالى هو وليّ الكون كله، وقد وضع للإنسان نظاماً يُصلح له حركته في الحياة، وأراد له أن يأخذ به ويلتزمه، ولكن الإنسان انحرف عنه، فكان نتيجة ذلك الفساد، مع علم الله سبحانه بما يحدث للإنسان.

مسؤولية التغيير والإصلاح
فالإنسان هو صانع الفساد، وهو صانع الصلاح، ولذلك كانت دعوة الأنبياء أممهم إلى أن يأخذوا بأسباب الصلاح والإصلاح، وهذا ما جاء في القرآن الكريم على لسان أحد الأنبياء(ع):{إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت} [هود:88]، فأنا أريد أن أُصلحكم، وأن أجعل الصلاح هو الذي يسيطر على كل مجتمعاتكم، لتكون مجتمعات خير وإنتاج وسلام. وهكذا عندما نستعيد عاشوراء، فإننا نقرأ أن الحسين(ع) انطلق في حركته من أجل الإصلاح في أمة جده.

وفي القرآن الكريم، نقرأ قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، ليعرفنا سبحانه أن الإنسان هو الذي يصنع التغيير، من خلال فكره الذي ينفتح على سلوكه وعلى علاقته بالناس وبالحياة كلها، حتى إن الله تعالى قد يقدّر سلب النعم عن الناس، سواء كانت نعماً في حياتهم الاقتصادية أو في حياتهم الأمنية أو الاجتماعية، في حال تغيّرت ممارساتهم العملية التابعة لأفكارهم، بحيث تصبح في خط الفساد وخط المآسي والانهيار، يقول تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53]. فالله يريد أن يقول للإنسان: غيّر نفسك تغيّر الواقع، لأن الواقع يتجسّد من خلال الفكرة الداخلية التي تحكم التخطيط الإنساني لطبيعة حركته في الحياة. وورد في هذا المجال أيضاً قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
وعلى ضوء هذا، لا بد لنا في عملية الإصلاح العملي الواقعي من أن نصلح العنصر الفكري للإنسان، بأن نغيّر الذهنية الإنسانية لتكون ذهنية خير لا ذهنية شر، ولتكون حركته حركة عدل لا حركة ظلم، وانطلاقته انطلاقة الاستقامة لا انطلاقة الانحراف.

تعطيل الحقّ وتحكيم الباطل
والله سبحانه يريد أن يبيّن أن من أسباب الانهيار العام للأمة هو في الاختلاف الذي يحصل في داخلها، كالاختلاف المذهبي في الدين الواحد، والاختلاف السياسي في الأمة الواحدة، والاختلاف الاجتماعي في المجتمع الواحد، بحيث يتحوّل الاختلاف إلى حالٍ من الضعف والسقوط الذي يبعد المؤمنين وأصحاب الحق عن عنصر القوة، وهذا ما أكده رسول الله(ص) في قوله: "ما اختلفت أمة بعد نبيّها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها"، لأن الاختلاف يشغل الأمة ويبعدها عن قضاياها الأساسية، فتفقد عناصر القوة في شخصيتها، وهذا ما واجهته الأمة الإسلامية التي اختلفت فيها القيادات، سواء الدينية أو السياسية أو الاجتماعية، من بعد ما جاءها العلم، من أجل تركيز مواقعها السلطوية والمالية والاجتماعية.

ونقرأ عن النبي (ص): "إن الله لا يعذّب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه ـ عندما ينتشر المنكر من خلال تحليل الحرام وارتكاب المعاصي، وإثارة الاختلافات التي تنشر العداوة والشحناء والبغضاء بين المؤمنين، مع وجود القيادات القادرة على أن تتحرك في الميدان من أجل توعية الناس على الحق لتغيير هذا الواقع، ولكنها لا تفعل، بل إنّ كل واحدٍ من هذه القيادات ينفرد بنفسه، ويفكر في مصالحه الخاصة بعيداً من المصلحة العامة، حتى إن بعض الذين يملكون موقعاً دينياً قد يرون أن مسؤولية الناس أن يأتوا إليهم.

ولذلك نلاحظ أن كثيراً من الشخصيات الدينية أو الثقافية الإسلامية عزلت نفسها عن التحرك في الواقع الإسلامي، وخصوصاً في واقع الخلافات التي تجعل المسلمين يلعنون بعضهم بعضاً، ويقتلون بعضهم بعضاً، وهذا ما نواجهه الآن في حركة التكفيريين الذين يشهدون الشهادتين، ولكنهم يقومون بالمجازر التفجيرية ضد المسلمين من زوّار الأئمة(ع)، بدلاً من أن يواجهوا الاحتلال الأمريكي والصهيوني، ونرى امرأةً منهم تندفع إلى مقام الإمام الكاظم(ع) لتفجّر نفسها بالزوّار، لأن دماغها قد غُسل بأنها إذا فعلت ذلك فستكون مع رسول الله في الجنة ـ فإذا فعلوا ذلك عذّب الله العامة والخاصة".

وفي الحديث عن رسول الله(ص)، وهو يفرّق بين من يعصي الله سراً ومن يعصيه علانيةً، وتأثير المعصية في المجتمع، يقول: "إن المعصية إذا عَمِل بها العبد سرّاً لم تضرّ إلا عاملها، وإذا عَمِل بها علانيةً ولم يغيّر عليه أضرّت بالعامة". كما إذا أكل شخص طعاماً فيه جراثيم فإنه يضرّ نفسه، أما إذا قدّم في مطعمه هذا الطعام فإنه يضرّ المجتمع كله.
  ونقرأ في حديث الإمام عليّ(ع) لأصحابه عندما كان يخبرهم عن غلبة جيش معاوية، قوله: "إني والله لأظنّ أن هؤلاء سيدالون منكم ـ سيتغلبون عليكم ـ باجتماعهم على باطلهم وتفرّقكم عن حقكم ـ لأنهم اجتمعوا على الباطل الذي يمثله معاوية وأصحابه، أما أنتم، فقد تفرقتم عن الحق الذي أمثله ـ وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم"، فهم يطبقون النظام الذي وضعه معاوية على أساس أنه نظام الصلاح، أما أنتم، فقد أفسدتم حياتكم من خلال مخالفتكم للنظام الحق الذي وضعته.

وعنه(ع) إلى أمراء الأجناد: "أما بعد، فإنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحق فاشتروه ـ والحق هو أمانة الناس عند المسؤولين، وعليهم أن يعطوهم حقهم من دون ثمن، فلما منعوا الناس حقّهم اشتروه من المسؤولين بالرُّشا والأموال، أي أنّهم لم يضعوا الأمور في مواضعها، ولا ولّوا الولايات مستحقّيها، وكانت أمورهم الدينية والدنيوية تجري وفق الهوى والأغراض الفاسدة ـ وأخذوهم بالباطل فاقتدوه"، أي حملوهم على الباطل وركزوه في حياتهم، بكل ما يعنيه الباطل في العقيدة والشريعة أو الحياة العامة، فجاء الخلف بعد السلف، فاقتدوا بآبائهم وأسلافهم في ارتكاب ذلك الباطل، ظناً منهم أنه الحق، ذلك لأنهم أَلِفوه ونشأوا وتربّوا عليه.

سلطة الفساد وأثرها
إننا عندما ندرس واقعنا الأمني والسياسي والاقتصادي، والواقع العالمي، نجد أن الأزمات التي تهزّ العالم من أقصاه إلى أقصاه سببها سيطرة الفساد في المواقع المتقدمة، فمثلاً عندما نواجه الأزمة المالية التي امتدت إلى جميع أنحاء العالم، نجد أن الفساد المستشري لدى الفاعليات الاقتصادية والسياسية في أمريكا هو المسؤول عن الأزمة التي حدثت فيها، حتى إن عجزها في أزمتها المالية قد يبلغ العشرات من التريليونات، وهكذا نجد أن أوروبا أصابتها هذه الأزمة أيضاً، حتى إنهم استعانوا بالأرصدة العربية، وللأسف خضع بعض الحكام العرب لرغباتهم وحرموا شعوبهم من هذه الخيرات.

وهكذا عندما ندرس واقع المشاكل في عالمنا العربي والإسلامي، ومنها الاحتلال اليهودي الصهيوني الذي يعاني منه بعض عالمنا، نجد أن فساد السياسيين أوجد حالاً من الضعف السياسي والأمني في مواجهة هذا العدو، وكذلك الأمر في الأزمة الاقتصادية التي تتحرك في بلدنا لبنان وفي بلاد أخرى، والتي تنطلق من أن كثيرين من الذين يسيطرون على الحكم يسرقون الأمة في خيراتها وثرواتها، من دون أن يجرؤ أحد على محاسبتهم، لأن القانون يُطبَّق على الفقراء والضعفاء، أما الأغنياء والمسؤولون فلا يحاسبهم أحد.

لذلك علينا أن ننطلق لنأمر بالمعروف بكل قوة، وننهى عن المنكر بكل قوة، ونأخذ بأسباب العزة والكرامة والقوة والحرية، لنواجه الظالم في ظلمه، والمنحرف في انحرافه، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} [التوبة:105].

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

غزّة: النموذج المقاوم الثاني بعد لبنان
يدخل العدوان الوحشي الإسرائيلي على غزة المجاهدة أسبوعه الثاني، حاصداً ما يقارب الثمانمائة شهيداً وأكثر من ثلاثة آلاف جريح، من دون أن يتمكّن من تحقيق أية أهداف كان يصبو إليها، أو أن ينال من عزيمة المقاومة التي قدّمت للعرب والمسلمين نموذجاً ثانياً بعد النموذج اللبناني في الثبات والصمود والإبداع الجهادي في خط كسر مخططات العدو والتأسيس للنصر.

ومع بروز الفشل الميداني الصهيوني أمام المقاومة وصعوده إلى الواجهة، وسّعت آلة القتل والإبادة الإسرائيلية من دائرة مجازرها، فلم توفّر المدارس التابعة للأمم المتحدة، في استعادة وحشية كاملة لمجزرة قانا، وفي تنافس متواصل بين قادة العدو حول من هو الأكثر ولوغاً بالدم العربي، وفي ملاحقة للنساء والأطفال والشيوخ، وإبادة متواصلة لعائلات بأكملها، وفي ظلّ استخدام لأكثر الأسلحة الأمريكية فتكاً، بما فيها الأسلحة الفسفورية المحرّمة دولياً.

ووسط هذا العجز الإسرائيلي أمام مقاومة أشبه بالأسطورة، وفي مواجهة مقاومين مجاهدين شيّدوا مجداً متصاعداً للمسلمين والعرب، عَمِل النظام العربي الرسمي على التواري خلف خطوط المذبحة، لا بل جعل من نفسه وسيطاً بين المقاومة والاحتلال، وعمل على طرح المبادرات الملغومة التي أُريد منها إحراج المقاومة تمهيداً لإخراجها من الساحة السياسية الفاعلة، ولم يُكلّف نفسه أن ينبس ببنت شفة عن الاحتلال الإسرائيلي كونه المشكلة الأساس والداء العضال الذي يصنع المذابح المتواصلة التي لا تهزُّ في معظم الحكام العرب ضميراً ولا وجداناً ولا إحساساً.

إننا في الوقت الذي نؤكد ـ من خلال ما نملكه من معلومات، وما نعرفه من صلابة المجاهدين في غزة ـ أن العدو عاجزٌ عن الانتصار على المقاومة الفلسطينية الباسلة، وأنه سيدفع الثمن السياسي لاحقاً، على الرغم من سعيه المتواصل لإخفاء خسائره وهزائمه الميدانية، ندعو الطلائع الحرة في الأمة إلى القيام بالمزيد من الخطوات العملية الضاغطة على الحكّام والسلطات وعلى كل ما يتصل بالعدو، وإلى المبادرة إلى كل ما من شأنه أن يمثل انتصاراً للشعب الفلسطيني ودعماً لمقاومته البطولية الرائعة، وعلى شعوبنا العربية والإسلامية أن تختزن في وجدانها الرفض الفعلي لأي سلام مع المتوحشين اليهود، وأي تعايش مع هؤلاء المغتصبين الحاقدين على مستوى الزمن كله، لأنهم يمثلون عنصر الجريمة الأكثر بشاعةً وفظاعةً وامتداداً وفساداً في الأرض.

إننا ندعو فصائل المقاومة في فلسطين، التي تعرضت وتتعرض لأقسى حالات الضغط من العدو والصديق، إلى أن تنتبه إلى أن الكثير من المواقع العربية الرسمية ليست حياديةً في مسألة الحرب عليهم، وهي تشكّل مع العدو غرفة عمليات سياسية واحدة للإطباق سياسياً على المقاومة الفلسطينية بعدما عجز العدو عن هزيمتها ميدانياً.

ونريد لشعوبنا العربية والإسلامية التي أثبتت إخلاصها وأصالة انتمائها، من خلال اندفاعها الوجداني والعملي مع المقاومة وخط الممانعة في الأمة، أن تواصل مسيرتها وحركتها في الشارع دونما كلل أو ملل، لأن الضغط على الأنظمة المتخاذلة هو ضغط غير مباشر على الاحتلال نفسه، وعلى هذه الشعوب أن تعرف ما معنى أمريكا الإسرائيلية في تغطيتها المتواصلة لأبشع المجازر الإسرائيلية، وتنكّرها لكل حقوق الإنسان وللمبادىء الإنسانية وللقانون الدولي، ولأبسط المفاهيم الإنسانية التي ظلّ الرئيس الأمريكي بوش يقدّم نفسه على مدى ثماني سنوات كرسول بعثه الله لتحقيق ذلك، ولتقديم نسخة أمريكية عن الديمقراطية التي يُرادُ للعالم العربي والإسلامي أن يسير في ركابها.

القرار 1860 فرصة إضافية لإسرائيل
إن السفير الأمريكي في الأمم المتحدة، والذي يحظى باحترام الكثير من المسؤولين العرب، هو يهودي أكثر من اليهود، وإسرائيلي أكثر من الإسرائيليين، وهو لا يحمل توجيهات من حكومته حول دوره في مجلس الأمن إلا تلك التي تمثل توجيهات مجلس الحرب الإسرائيلي المصغّر... ولذلك نحن نعتقد أن العرب الذين قدّموا للعدو أسبوعين كاملين للاستمرار في مجازره، عندما قرروا الذهاب إلى مجلس الأمن بعد كل المراوغة والمداهنة السياسية، كانوا يعرفون تماماً أنهم يذهبون إلى الحضن الأمريكي الذي يمثل المعقل الإسرائيلي، حيث لا أمم متحدة ولا من يتحدون. وعندما قرر المجلس في قراره الأخير الذي يحمل الرقم 1860 وقف إطلاق النار، جعل المسالة غير ملزمة للعدو، ليعطيه مزيداً من الوقت لتوسعة عدوانه، مع أن بعض العرب استعرضوا مجدداً وأوحوا بأنهم قاموا بواجبهم تجاه الفلسطينيين .

إننا نرى في كل ما يجري حرباً أمريكيةً على قوى المقاومة في فلسطين، تماماً كما كانت ـ ولا تزال ـ في لبنان، وكما أن أمريكا تمثل الذراع الدبلوماسية والسياسية والأمنية الداعمة لإسرائيل، فإن إسرائيل تمثل الذراع العسكرية الأمريكية ضد كل الأحرار، في كل حروبها ومجازرها، ولا يوجد في العالم موقعان حليفان في خط الشر والإرهاب والإبادة، كالحليفين الأمريكي والإسرائيلي.

وإن الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان يتغذى من الاحتلال الصهيوني في فلسطين، كما أن الاحتلال الإسرائيلي يتغذى من الاحتلال الأمريكي الذي يعمل على توطيد علاقاته بالنظام العربي الرسمي، كلما حاصرته المقاومة الشريفة في كل مواقع احتلاله في الأمة.

أما دول الاتحاد الأوروبي التي قدّمت ـ قبل بضعة أسابيع ـ هديةً سياسيةً خطيرةً لإسرائيل، حيث رفعت من درجة علاقاتها مع هذا الوحش، فقد علّقت على صدرها وساماً عدوانياً جديداً، وقد استمعنا إلى المسؤولين الفرنسيين والألمان والإنكليز وهم يتنكّرون لكل مبادىء حقوق الإنسان وعناوين الثورة الفرنسية وشعارات المقاومة ضد النازي، عندما حاولوا تحميل فصائل المقاومة في فلسطين مسؤولية المجازر الوحشية الكبرى التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل، بدلاً من أن يتحمّلوا وزر المسؤولية الأخلاقية والتاريخية في كل ما تسبّبوا به من مآسٍ للشعب الفلسطيني وشعوبنا كلها.

تحصين المقاومة ضرورة إنسانية
إن علينا جميعاً أن نعرف أن ما يجري ليس حرباً على غزة فحسب، ولكنه إغارة دولية شاملة على حركة التحرّر العربي والإسلامي بكل فصائلها وبمختلف روافدها، ولذلك فإن هذه الحركات مدعوّة إلى شدّ أزر بعضها بعضاً، لا بل أن تواصل السعي لإيجاد برنامج للمواجهة والمقاومة الشاملة، وأن تعمل الكوادر الثقافية والسياسية بمختلف أطيافها ومذاهبها وتنوعاتها على تركيز ثقافة المقاومة في الأمة، وعلى تحفيزها على الدخول في مسيرة الوعي التحريري الشامل، لتتحوّل مآسي الفلسطينيين الكبرى إلى فجرٍ للحرية والعزة والتحرير على مستوى الأمة كلها.

وعلينا في لبنان أن نستمر في احتضان المقاومة وخط الممانعة، في مواجهة ما تخطط له أمريكا الإسرائيلية لاستكمال حربها المتدرجة على المقاومة في لبنان والمنطقة، ليستمر لبنان في الموقع الداعم للقضية الفلسطينية، ولحق الفلسطينيين الشرعي والقانوني في العودة إلى أرضهم، لتكون فلسطين بكاملها، من النهر إلى البحر، أرضاً للدولة الفلسطينية التي لا بد من أن تقام على أنقاض الاحتلال وكيان الاغتصاب الذي مثّل العنوان الأبرز للجريمة عبر التاريخ.

كما علينا في لبنان أن نواجه المرحلة الصعبة والمعقّدة، بالمزيد من الوحدة الوطنية التي تُسقط كل من يحاول إثارة الفتن في أوساط الشعب، أو يحاول الانحراف بالمسيرة الداخلية عن خط التضامن والاحتضان للقضايا العربية والإسلامية الكبرى، وفي مقدمها القضية الفلسطينية.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية