ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الرسالات الإلهيّة جاءت لتأكيد العدل من يظلم عباد الله سيكون الله خصمه
منهج العدل:
منذُ وُجِدَ الإنسان في هذا الكون وهناك خطّان ترتبط حركته بهما: خطّ العدل، وينطلق من احترام الإنسان للإنسان الآخر ورعايته، وإعطائه حقه، بل وإعطاء الحق لكلِّ من له حق، لأنّ هناك حقّ الله على الناس، وهو أن يوحّدوه في الربوبية، والعبادة والطاعة، وهناك حقُّ الرسول(ص) في الإيمان بنبوَّته ورسالته والطاعة له في سنّته التي أراد الله تعالى له أن ينطلق بها في تفصيل ما أجمله القرآن، أو في ما لم يتحدث عنه القرآن، وهناك حقُّ الناس، فلكل إنسان حق وعليه مسؤولية، فهناك حق الأسرة، فللأب حقٌّ على أبنائه، وللأم حق على أبنائها، وللأبناء حقٌّ على آبائهم وأمَّهاتهم، وأيضاً للزوجة حقٌّ على زوجها، وللزوج حق على زوجته... وهكذا الأمر بالنسبة إلى علاقات النّاس بعضهم ببعض، سواء في الأمور الاجتماعية أو السياسيّة أو الاقتصادية، فلا يجوز للإنسان أن يأكل أموال النَّاس بالباطل، بل لا بدَّ من أن يعطي كلّ ذي حقّ حقَّه غير منقوص، وأن يفي بما عاهد النَّاس عليه: {إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}(الإسراء:34)، سواء كان من عاهده شخصاً أو جماعةً أو دولةً، فما دام الآخر يفي له بما عاهده عليه، فعليه أن يفي بعهده تجاهه. ولا بدّ أيضاً من العدل، وأن يكون الإنسان مع العادلين لا مع الظالمين.
الظلم صنيعة الإنسان
والخطّ الثاني هو خطّ الظلم، الذي ينطلق من عدم إعطاء الإنسان الآخر حقه، وتمتدُّ هذه المسألة إلى داخل العلاقات العائلية والزوجية وإلى كل العلاقات الإنسانية، سواء كانت علاقات اقتصاديةً أو سياسيةً أو أمنيةً، فهذا الخطّ هو الّذي ينطلق الإنسان من خلاله ليظلم الآخرين في حقوقهم. وهذه مسألة لا بدَّ للإنسان من أن يرفضها؛ أن يرفض ممارسة الظلم، وأن لا يعين الظالم ولا يرضى بظلمه، وقد ورد عن الإمام الصادق(ع) قوله: «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم».
وقد حدَّثنا القرآن الكريم في أكثر من آية عن نتائج الظلم، ومن هذه الآيات: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(آل عمران:57)، وقال تعالى: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}(الأنعام:21)، {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(لقمان:11)، {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}(هود:113)، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ}(القصص:17).
ومن أنواع الظّلم ظلم النفس، كما هو حال الَّذين يتناولون الأشياء المضرّة، كالذي يتناول المخدّرات، فإنه يسيء بذلك إلى نفسه ويظلمها، وأيضاً هناك الذين يظلمون أنفسهم بالتّدخين الذي يؤدِّي بحسب أهل الخبرة إلى سرطان الفم والحنجرة والرئتين. وهناك حالة أخرى يظلم الإنسان فيها نفسه، وهي معصية الله، بحيث يعرِّض نفسه للعذاب في جهنم يوم القيامة، أو كالذي يعاون الظالمين ويصوّت لهم ومعهم، وقد ورد في القرآن الكريم ما يؤكّد ظلم هؤلاء لأنفسهم: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(النّحل:118).وورد عن رسول الله(ص): «اتقوا الظلم فإنّه ظلمات يوم القيامة»، لأن الظالم يوم القيامة يتخبّط كما لو أنه في قلب الظلمة. وورد عن الإمام عليّ(ع): «مَن ظلم عباد الله ـ أيَّ ظلم، سواء في داخل البيت الواحد، أو في المجتمع أو في الأمة ـ كان الله خصمه دون عباده»، ومن كان الله خصمه، فأيُّ مصيرٍ أسود ينتظره يوم القيامة؟! وورد عنه(ع): «بئس الزاد إلى المعاد، العدوان على العباد»، فأيُّ زاد يمكن أن يحمله الإنسان إلى يوم القيامة أسوأ من الاعتداء على عباد الله، ولا سيما الضعفاء منهم؟!
وورد عن عنه(ع) وهو يتبرّأ من الظلم: «والله، لئن أبيت على حسك السعدان مسهّداً، أو أُجرَّ في الأغلال مصفّداً، أحبّ إليَّ أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفسٍ يُسرع إلى البِلى قفولُها، ويطول في الثرى حلولُها».
وعنه(ع):«ليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامةٍ على ظلم ـ فالظلم يسلب نعمة الله ـ فإن الله يسمع دعوة المضطهَدين، وهو للظالمين بالمرصاد».
أنواع الظّلم
وورد عنه(ع) في أنواع الظلم، قال: «الظلم ثلاثة: فظلم لا يُغفر، وظلم لا يُترك، وظلم مغفور لا يُطلب، فأما الظلم الذي لا يُغفر فالشرك بالله، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}(النّساء:48)، والله لا يُظلَم ظلم الغلبة، بل ظلم الشرك، لأن من حقّه على خلقه أن يوحِّدوه ـ وأما الظلم الذي يُغفر، فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات ـ أي المعاصي الصغيرة ـ وأمّا الظلم الذي لا يُترك، فظلم العباد بعضهم بعضاً، العقاب هناك شديد، ليس هو جرحاً بالمدى ـ ليس من نوع الجرح بالسكاكين ـ ولا ضرباً بالسياط، ولكنه ما يُستصغر ذلك معه».
وعنه(ع): «ظلم الضعيف أفحش الظلم». وعن رسول الله(ص): «اشتدَّ غضب الله على مَن ظَلَمَ مَن لا يجد ناصراً غير الله». وورد عن الإمام عليّ(ع) أيضاً: «اذكر عند الظلم عدلَ الله فيك، وعند القدرة قدرةَ الله عليك». وقد جاء في وصية أمير المؤمنين(ع) لولديه الحسن والحسين(ع) ولمن بلغه كتابه: «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً».
إنّنا نعيش في عالم يظلم فيه القويُّ الضعيف، سواء على مستوى الأسر أو الأفراد أو الدول، ولذلك علينا أن نعمل من أجل أن تكون الحياة كلّها عدلاً، لأنّ كلّ الرسالات جاءت لتأكيد مسألة العدل بين الناس، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ}(الحديد:25).
وفي عقيدتنا، نحن ننتظر آخر الزمان من أجل أن يسود العدل الشامل، عندما يأذن الله تعالى لوليّه(عج) بالظهور ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، ولذلك إذا كنّا ننتظره، فإنّ علينا أن نتحرك في خطّ العدل، فلا نظلم أحداً في حياتنا، ولا ننطلق مع الظالمين، بل أن نركِّز على أن يكون كل مكان موقعاً للعدل ولرفض الظلم. ذلك هو الخط الإسلامي؛ أن يكون العالم عالم العدل لا عالم الظلم، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ}(التوبة:105).
الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله؟
عدوان غزة: تشريع تلمودي
يواصل جيش العدو الإسرائيلي حرب الإبادة في غزّة، عملاً بفتوى كبير الحاخامات الذي وصف العرب بـ"الأفاعي والحشرات التي يجب التخلّص منها"، بينما يجد بعض علماء المسلمين أنّ نصرة أهل غزة ـ حتى على مستوى التظاهر ـ يمثل "عملاً غوغائياً".
وفي ظل هذا التواطؤ العربي والتراخي الإسلامي، تواصل آلة القتل الإسرائيلية، الأميركية الصنع، حصدها الأطفال والنساء والشيوخ، في محرقة بشرية تُستخدم فيها القنابل الفوسفورية وغيرها من الأسلحة المحرَّمة التي تجرّبها أمريكا مع إسرائيل باللحم الفلسطيني العاري، وبأجساد الطفولة الغضة البريئة على وجه الخصوص، عملاً بالتعاليم التلمودية الداعية إلى القضاء على الحجر والبشر، وتنفيذاً لما تعلّمه اليهود من جلادهم النازي...
إن محصّلة ما ألقته طائرات العدوّ على غزة يساوي في قوته التدميرية قنبلةً ذرّيةً كتلك التي أُلقيت على هيروشيما، في تفاخر صهيوني على الشركاء الأميركيين بأنهم لا يقلّون عنهم وحشيةً وقتلاً وتدميراً. وعلى الرغم من ذلك كله، فإننا نلمح مشاركةً أوروبيةً غير مباشرة في هذه الحرب، تجلّت في رفض مجلس حقوق الإنسان التابع لدول الاتحاد الأوروبي تشكيل لجنةً لتقصي الحقائق حول انتهاكات إسرائيل في عدوانها على غزة.
لقد كشفت هذه الدول مرةً أخرى عن وجهها الحقيقي، وعن ازدرائها حقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بإنساننا العربي والإسلامي وبالشعب الفلسطيني، واستخفافها بشعارات الحرية والديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وهي الشعارات التي تتغنى بها هذه الدول وتستهلكها في خطابها السياسي، ولكنّها تلفظها لفظ النواة عندما يتعلق الأمر بشعوبنا وقضايانا.
إننا أمام محرقة غربية إسرائيلية نازية تستهدف الشعب الفلسطيني في وجوده، وتريد معاقبته على صموده طوال هذه العقود في مواجهة المشروع الصهيوني الأكثر إجراماً في التاريخ المعاصر، وهو مشروع من نتاج غربي لا يزال يتلمّس الخطى لإنهاء القضية الفلسطينية بالكامل، والإجهاز على مشروع المقاومة والممانعة في المنطقة.
يتحرَّرون من القضية الفلسطينية
أما العرب في عروشهم السلطوية، فقد تركّز دورهم في مدى أكثر من عشرين يوماً الماضية على تمديد الحرب الصهيونية على غزة، وتوفير أكبر الفرص للعدو لكي يتمكّن من كسر شوكة المقاومة، ولو أمكن لبعض هؤلاء أن يترجموا رغباتهم، ويتجاوزوا الإحراج أمام شعوبهم، لذهبوا بعيداً في تأييد العدو علناً، وقد نقل بعض المسؤولين الأوروبيين تمنيات رئاسية عربية للإسرائيليين بكسر "حماس"، كما أن رئيس كيان العدو نقل عنهم أنهم يعتبرون حركة "حماس" كارثةً، ويريدون لإسرائيل أن تنقذهم من هذه الكارثة، مؤكداً أن كيانه يحارب بالنيابة عن أكثر الحكّام العرب. واللافت أننا لم نسمع أيّ نفي من هؤلاء لهذه التصريحات التي أدلى بها المجرم "بيريز"، صاحب مجزرة "قانا" الأولى... لقد لفظ العالم العربي أنفاسه الأخيرة في حركة الصراع، وتحوّل القائمون عليه إلى إنتاج صراعات داخلية في حركة الفتنة الداخلية التي يُراد لها أن تشغل الشعوب عن قضاياها المصيرية.
ومع ذلك، فقد أظهر هؤلاء الحكام مستوى غير معهود في المراوغة السياسية، ومحاولات الاحتيال على شعوبهم، إلى المستوى الذي لم يسمحوا معه بلقاء عربي على مستوى القمة حتى بعد أعقاب مرور عشرين يوماً على حرب العدو، وقد سعى هؤلاء لقطع الطريق على انعقاد القمة في قطر، ومارسوا ضغوطاً هائلةً على "حماس" لجعلها ترضخ لشروط العدو... ونحن نعتقد أن الشعوب العربية لن تغفر لهم، ونلمح دوراً كبيراً لها في العمل لجعل عروشهم تهتز في المرحلة القادمة.
السياسة الأمريكة صناعة إسرائيلية
أما أمريكا الإسرائيلية، فإنّ رئيس إدارتها المحافِظة الّذي ينهي مهمته التلمودية في خدمة الكيان الغاصب، أكّد في مواقفه الأخيرة أن الحرب على غزة هي جزء من مهمة أمريكية ـ إسرائيلية مشتركة، تدفع الرئيس الأميركي في بعض المحطات إلى قطع محاضرته للإجابة على الاتصال الهاتفي من المجرم أولمرت، ومن ثم الاتصال بوزيرة خارجيته لإبلاغها أن عليها الامتناع عن التصويت على قرار مجلس الأمن الذي صاغته بيدها، في إشارة أكيدة إلى أن السـياسة الأميركية تُصاغ في إسرائيل.
إننا ندعو الشعوب العربية والإسلامية وجماهير الحرية في العالم، إلى أن تبقى قويةً هادرةً في رفضها هذه الحرب الوحشية المجنونة، لأن مواقفها الرافضة هي التي تمنح قضايا الحرية في العالم قوّتها الحركية، وهي التي تنفتح على قضايا التغيير السياسية في إسقاط الأنظمة الخاضعة للاستكبار العالمي، الذليلة في التزامها بسياسته للحفاظ على مراكزها السلطوية، لا على شعوبها المستضعفة التي تضغط عليها بلقمة الخبز والدواء والمشاكل الاقتصادية.
لبنان: الانفتاح على الوحدة الوطنية ونبذ العصبية
أمّا لبنان، فإنّنا نريد له أن يرتفع إلى مستوى الوعي لقضايا الحرية والعزة والكرامة، وان ينفتح على وحدته الوطنية، ويبتعد عن العصبيات الطائفية والحساسيات المذهبية، وأن لا يتعصَّب للأنظمة التي هي الأساس لكلِّ مشاكل العالم العربي والإسلامي، بل أن تكون له شجاعة رفض الأخطاء السياسية والالتزامات الأجنبية، ليبقى مع الحق في مواقفه الإنسانية لا مع باطل الأنظمة المخذولة.
وعلى اللّبنانيين الذين كانوا يحملون هموم الأمة كلّها، ويعملون على حلّ مشاكل المنطقة بوسائلهم الثقافية والسياسية والإبداعية، أن لا تشغلهم الانتخابات الغارقة في اللَّعبة الطائفية والمذهبيَّة والزَّعامات الشَّخصيَّة، والأموال القادمة من الداخل والخارج، والتي تزوّر إرادة المستضعفين الباحثين عن لقمة الخبز، وعن أقساط المدارس، وعن وسائل التدفئة، وعن الخلاص من الظلام الممتد بسبب التقنين المتواصل للكهرباء، وعن كلّ حاجاتهم المعيشية، لتندفع إلى الأخذ بأسباب التجارة الرابحة، بشراء أصوات هؤلاء المستضعفين بأسعار متهاودة واستثمارها في صناديق الاقتراع، ليكون المجلس القادم في مجلس من يدفع أكثر ومن يضغط أكثر... ويحدّثونك بعد ذلك عن الديمقراطية اللبنانية التي لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، بل هي مجرد كرةٍ في الساحات الرياضية يتمثل فيها الوطن الذي تتقاذفه الأقدام وتتلاعب به مواقف الحكّام.
وتبقى للمرحلة أخطارها التي نخشى أن تمتد من غزة إلى أكثر من بلد في المنطقة، لأن استمرار هذا الوضع قد يدفع الناس إلى الثورة على هذا الواقع العربي لإحداث تغيير حقيقي على أكثر من مستوى، بما يعيد إلى قضايا الأمة أولوياتها بعدما عبث بها العابثون، وتلاعب بها الحاكمون.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الرسالات الإلهيّة جاءت لتأكيد العدل من يظلم عباد الله سيكون الله خصمه
منهج العدل:
منذُ وُجِدَ الإنسان في هذا الكون وهناك خطّان ترتبط حركته بهما: خطّ العدل، وينطلق من احترام الإنسان للإنسان الآخر ورعايته، وإعطائه حقه، بل وإعطاء الحق لكلِّ من له حق، لأنّ هناك حقّ الله على الناس، وهو أن يوحّدوه في الربوبية، والعبادة والطاعة، وهناك حقُّ الرسول(ص) في الإيمان بنبوَّته ورسالته والطاعة له في سنّته التي أراد الله تعالى له أن ينطلق بها في تفصيل ما أجمله القرآن، أو في ما لم يتحدث عنه القرآن، وهناك حقُّ الناس، فلكل إنسان حق وعليه مسؤولية، فهناك حق الأسرة، فللأب حقٌّ على أبنائه، وللأم حق على أبنائها، وللأبناء حقٌّ على آبائهم وأمَّهاتهم، وأيضاً للزوجة حقٌّ على زوجها، وللزوج حق على زوجته... وهكذا الأمر بالنسبة إلى علاقات النّاس بعضهم ببعض، سواء في الأمور الاجتماعية أو السياسيّة أو الاقتصادية، فلا يجوز للإنسان أن يأكل أموال النَّاس بالباطل، بل لا بدَّ من أن يعطي كلّ ذي حقّ حقَّه غير منقوص، وأن يفي بما عاهد النَّاس عليه: {إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}(الإسراء:34)، سواء كان من عاهده شخصاً أو جماعةً أو دولةً، فما دام الآخر يفي له بما عاهده عليه، فعليه أن يفي بعهده تجاهه. ولا بدّ أيضاً من العدل، وأن يكون الإنسان مع العادلين لا مع الظالمين.
الظلم صنيعة الإنسان
والخطّ الثاني هو خطّ الظلم، الذي ينطلق من عدم إعطاء الإنسان الآخر حقه، وتمتدُّ هذه المسألة إلى داخل العلاقات العائلية والزوجية وإلى كل العلاقات الإنسانية، سواء كانت علاقات اقتصاديةً أو سياسيةً أو أمنيةً، فهذا الخطّ هو الّذي ينطلق الإنسان من خلاله ليظلم الآخرين في حقوقهم. وهذه مسألة لا بدَّ للإنسان من أن يرفضها؛ أن يرفض ممارسة الظلم، وأن لا يعين الظالم ولا يرضى بظلمه، وقد ورد عن الإمام الصادق(ع) قوله: «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم».
وقد حدَّثنا القرآن الكريم في أكثر من آية عن نتائج الظلم، ومن هذه الآيات: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(آل عمران:57)، وقال تعالى: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}(الأنعام:21)، {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(لقمان:11)، {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}(هود:113)، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ}(القصص:17).
ومن أنواع الظّلم ظلم النفس، كما هو حال الَّذين يتناولون الأشياء المضرّة، كالذي يتناول المخدّرات، فإنه يسيء بذلك إلى نفسه ويظلمها، وأيضاً هناك الذين يظلمون أنفسهم بالتّدخين الذي يؤدِّي بحسب أهل الخبرة إلى سرطان الفم والحنجرة والرئتين. وهناك حالة أخرى يظلم الإنسان فيها نفسه، وهي معصية الله، بحيث يعرِّض نفسه للعذاب في جهنم يوم القيامة، أو كالذي يعاون الظالمين ويصوّت لهم ومعهم، وقد ورد في القرآن الكريم ما يؤكّد ظلم هؤلاء لأنفسهم: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(النّحل:118).وورد عن رسول الله(ص): «اتقوا الظلم فإنّه ظلمات يوم القيامة»، لأن الظالم يوم القيامة يتخبّط كما لو أنه في قلب الظلمة. وورد عن الإمام عليّ(ع): «مَن ظلم عباد الله ـ أيَّ ظلم، سواء في داخل البيت الواحد، أو في المجتمع أو في الأمة ـ كان الله خصمه دون عباده»، ومن كان الله خصمه، فأيُّ مصيرٍ أسود ينتظره يوم القيامة؟! وورد عنه(ع): «بئس الزاد إلى المعاد، العدوان على العباد»، فأيُّ زاد يمكن أن يحمله الإنسان إلى يوم القيامة أسوأ من الاعتداء على عباد الله، ولا سيما الضعفاء منهم؟!
وورد عن عنه(ع) وهو يتبرّأ من الظلم: «والله، لئن أبيت على حسك السعدان مسهّداً، أو أُجرَّ في الأغلال مصفّداً، أحبّ إليَّ أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفسٍ يُسرع إلى البِلى قفولُها، ويطول في الثرى حلولُها».
وعنه(ع):«ليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامةٍ على ظلم ـ فالظلم يسلب نعمة الله ـ فإن الله يسمع دعوة المضطهَدين، وهو للظالمين بالمرصاد».
أنواع الظّلم
وورد عنه(ع) في أنواع الظلم، قال: «الظلم ثلاثة: فظلم لا يُغفر، وظلم لا يُترك، وظلم مغفور لا يُطلب، فأما الظلم الذي لا يُغفر فالشرك بالله، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}(النّساء:48)، والله لا يُظلَم ظلم الغلبة، بل ظلم الشرك، لأن من حقّه على خلقه أن يوحِّدوه ـ وأما الظلم الذي يُغفر، فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات ـ أي المعاصي الصغيرة ـ وأمّا الظلم الذي لا يُترك، فظلم العباد بعضهم بعضاً، العقاب هناك شديد، ليس هو جرحاً بالمدى ـ ليس من نوع الجرح بالسكاكين ـ ولا ضرباً بالسياط، ولكنه ما يُستصغر ذلك معه».
وعنه(ع): «ظلم الضعيف أفحش الظلم». وعن رسول الله(ص): «اشتدَّ غضب الله على مَن ظَلَمَ مَن لا يجد ناصراً غير الله». وورد عن الإمام عليّ(ع) أيضاً: «اذكر عند الظلم عدلَ الله فيك، وعند القدرة قدرةَ الله عليك». وقد جاء في وصية أمير المؤمنين(ع) لولديه الحسن والحسين(ع) ولمن بلغه كتابه: «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً».
إنّنا نعيش في عالم يظلم فيه القويُّ الضعيف، سواء على مستوى الأسر أو الأفراد أو الدول، ولذلك علينا أن نعمل من أجل أن تكون الحياة كلّها عدلاً، لأنّ كلّ الرسالات جاءت لتأكيد مسألة العدل بين الناس، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ}(الحديد:25).
وفي عقيدتنا، نحن ننتظر آخر الزمان من أجل أن يسود العدل الشامل، عندما يأذن الله تعالى لوليّه(عج) بالظهور ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، ولذلك إذا كنّا ننتظره، فإنّ علينا أن نتحرك في خطّ العدل، فلا نظلم أحداً في حياتنا، ولا ننطلق مع الظالمين، بل أن نركِّز على أن يكون كل مكان موقعاً للعدل ولرفض الظلم. ذلك هو الخط الإسلامي؛ أن يكون العالم عالم العدل لا عالم الظلم، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ}(التوبة:105).
الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله؟
عدوان غزة: تشريع تلمودي
يواصل جيش العدو الإسرائيلي حرب الإبادة في غزّة، عملاً بفتوى كبير الحاخامات الذي وصف العرب بـ"الأفاعي والحشرات التي يجب التخلّص منها"، بينما يجد بعض علماء المسلمين أنّ نصرة أهل غزة ـ حتى على مستوى التظاهر ـ يمثل "عملاً غوغائياً".
وفي ظل هذا التواطؤ العربي والتراخي الإسلامي، تواصل آلة القتل الإسرائيلية، الأميركية الصنع، حصدها الأطفال والنساء والشيوخ، في محرقة بشرية تُستخدم فيها القنابل الفوسفورية وغيرها من الأسلحة المحرَّمة التي تجرّبها أمريكا مع إسرائيل باللحم الفلسطيني العاري، وبأجساد الطفولة الغضة البريئة على وجه الخصوص، عملاً بالتعاليم التلمودية الداعية إلى القضاء على الحجر والبشر، وتنفيذاً لما تعلّمه اليهود من جلادهم النازي...
إن محصّلة ما ألقته طائرات العدوّ على غزة يساوي في قوته التدميرية قنبلةً ذرّيةً كتلك التي أُلقيت على هيروشيما، في تفاخر صهيوني على الشركاء الأميركيين بأنهم لا يقلّون عنهم وحشيةً وقتلاً وتدميراً. وعلى الرغم من ذلك كله، فإننا نلمح مشاركةً أوروبيةً غير مباشرة في هذه الحرب، تجلّت في رفض مجلس حقوق الإنسان التابع لدول الاتحاد الأوروبي تشكيل لجنةً لتقصي الحقائق حول انتهاكات إسرائيل في عدوانها على غزة.
لقد كشفت هذه الدول مرةً أخرى عن وجهها الحقيقي، وعن ازدرائها حقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بإنساننا العربي والإسلامي وبالشعب الفلسطيني، واستخفافها بشعارات الحرية والديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وهي الشعارات التي تتغنى بها هذه الدول وتستهلكها في خطابها السياسي، ولكنّها تلفظها لفظ النواة عندما يتعلق الأمر بشعوبنا وقضايانا.
إننا أمام محرقة غربية إسرائيلية نازية تستهدف الشعب الفلسطيني في وجوده، وتريد معاقبته على صموده طوال هذه العقود في مواجهة المشروع الصهيوني الأكثر إجراماً في التاريخ المعاصر، وهو مشروع من نتاج غربي لا يزال يتلمّس الخطى لإنهاء القضية الفلسطينية بالكامل، والإجهاز على مشروع المقاومة والممانعة في المنطقة.
يتحرَّرون من القضية الفلسطينية
أما العرب في عروشهم السلطوية، فقد تركّز دورهم في مدى أكثر من عشرين يوماً الماضية على تمديد الحرب الصهيونية على غزة، وتوفير أكبر الفرص للعدو لكي يتمكّن من كسر شوكة المقاومة، ولو أمكن لبعض هؤلاء أن يترجموا رغباتهم، ويتجاوزوا الإحراج أمام شعوبهم، لذهبوا بعيداً في تأييد العدو علناً، وقد نقل بعض المسؤولين الأوروبيين تمنيات رئاسية عربية للإسرائيليين بكسر "حماس"، كما أن رئيس كيان العدو نقل عنهم أنهم يعتبرون حركة "حماس" كارثةً، ويريدون لإسرائيل أن تنقذهم من هذه الكارثة، مؤكداً أن كيانه يحارب بالنيابة عن أكثر الحكّام العرب. واللافت أننا لم نسمع أيّ نفي من هؤلاء لهذه التصريحات التي أدلى بها المجرم "بيريز"، صاحب مجزرة "قانا" الأولى... لقد لفظ العالم العربي أنفاسه الأخيرة في حركة الصراع، وتحوّل القائمون عليه إلى إنتاج صراعات داخلية في حركة الفتنة الداخلية التي يُراد لها أن تشغل الشعوب عن قضاياها المصيرية.
ومع ذلك، فقد أظهر هؤلاء الحكام مستوى غير معهود في المراوغة السياسية، ومحاولات الاحتيال على شعوبهم، إلى المستوى الذي لم يسمحوا معه بلقاء عربي على مستوى القمة حتى بعد أعقاب مرور عشرين يوماً على حرب العدو، وقد سعى هؤلاء لقطع الطريق على انعقاد القمة في قطر، ومارسوا ضغوطاً هائلةً على "حماس" لجعلها ترضخ لشروط العدو... ونحن نعتقد أن الشعوب العربية لن تغفر لهم، ونلمح دوراً كبيراً لها في العمل لجعل عروشهم تهتز في المرحلة القادمة.
السياسة الأمريكة صناعة إسرائيلية
أما أمريكا الإسرائيلية، فإنّ رئيس إدارتها المحافِظة الّذي ينهي مهمته التلمودية في خدمة الكيان الغاصب، أكّد في مواقفه الأخيرة أن الحرب على غزة هي جزء من مهمة أمريكية ـ إسرائيلية مشتركة، تدفع الرئيس الأميركي في بعض المحطات إلى قطع محاضرته للإجابة على الاتصال الهاتفي من المجرم أولمرت، ومن ثم الاتصال بوزيرة خارجيته لإبلاغها أن عليها الامتناع عن التصويت على قرار مجلس الأمن الذي صاغته بيدها، في إشارة أكيدة إلى أن السـياسة الأميركية تُصاغ في إسرائيل.
إننا ندعو الشعوب العربية والإسلامية وجماهير الحرية في العالم، إلى أن تبقى قويةً هادرةً في رفضها هذه الحرب الوحشية المجنونة، لأن مواقفها الرافضة هي التي تمنح قضايا الحرية في العالم قوّتها الحركية، وهي التي تنفتح على قضايا التغيير السياسية في إسقاط الأنظمة الخاضعة للاستكبار العالمي، الذليلة في التزامها بسياسته للحفاظ على مراكزها السلطوية، لا على شعوبها المستضعفة التي تضغط عليها بلقمة الخبز والدواء والمشاكل الاقتصادية.
لبنان: الانفتاح على الوحدة الوطنية ونبذ العصبية
أمّا لبنان، فإنّنا نريد له أن يرتفع إلى مستوى الوعي لقضايا الحرية والعزة والكرامة، وان ينفتح على وحدته الوطنية، ويبتعد عن العصبيات الطائفية والحساسيات المذهبية، وأن لا يتعصَّب للأنظمة التي هي الأساس لكلِّ مشاكل العالم العربي والإسلامي، بل أن تكون له شجاعة رفض الأخطاء السياسية والالتزامات الأجنبية، ليبقى مع الحق في مواقفه الإنسانية لا مع باطل الأنظمة المخذولة.
وعلى اللّبنانيين الذين كانوا يحملون هموم الأمة كلّها، ويعملون على حلّ مشاكل المنطقة بوسائلهم الثقافية والسياسية والإبداعية، أن لا تشغلهم الانتخابات الغارقة في اللَّعبة الطائفية والمذهبيَّة والزَّعامات الشَّخصيَّة، والأموال القادمة من الداخل والخارج، والتي تزوّر إرادة المستضعفين الباحثين عن لقمة الخبز، وعن أقساط المدارس، وعن وسائل التدفئة، وعن الخلاص من الظلام الممتد بسبب التقنين المتواصل للكهرباء، وعن كلّ حاجاتهم المعيشية، لتندفع إلى الأخذ بأسباب التجارة الرابحة، بشراء أصوات هؤلاء المستضعفين بأسعار متهاودة واستثمارها في صناديق الاقتراع، ليكون المجلس القادم في مجلس من يدفع أكثر ومن يضغط أكثر... ويحدّثونك بعد ذلك عن الديمقراطية اللبنانية التي لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، بل هي مجرد كرةٍ في الساحات الرياضية يتمثل فيها الوطن الذي تتقاذفه الأقدام وتتلاعب به مواقف الحكّام.
وتبقى للمرحلة أخطارها التي نخشى أن تمتد من غزة إلى أكثر من بلد في المنطقة، لأن استمرار هذا الوضع قد يدفع الناس إلى الثورة على هذا الواقع العربي لإحداث تغيير حقيقي على أكثر من مستوى، بما يعيد إلى قضايا الأمة أولوياتها بعدما عبث بها العابثون، وتلاعب بها الحاكمون.