الأذى و الإيذاء .. عواقب وأثار

الأذى و الإيذاء .. عواقب وأثار
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد ،محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما: 

الأذى و الإيذاء .. عواقب وأثار

ملازمة السّلام للإيمان
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}(الأحزاب:58).
يؤكّد المنهج الأخلاقي الإسلامي، أنه لا بدَّ للمسلم من أن لا يصدر عنه تجاه الناس إلاّ كلّ خير وكلّ سلام، وكلّ ما يجعلهم يشعرون بالخير في تعامله معهم ومعاشرته لهم، واحترامه لكلِّ أوضاعهم وخصوصياتهم. فالمسلم لا يكون إنساناً مؤذياً للآخرين، وقد ورد عن رسول الله(ص): "المسلم من سَلِم المسلمون من يده ولسانه"، فلا تتحرّك يده بما يسيء إلى الآخرين في أموالهم وأعراضهم، ولا يتحرّك لسانه بالإساءة إليهم بذكر عيوبهم, نتيجة عقدة نفسية، أو وضع اجتماعي معين.

وتؤكّد هذه الآية الكريمة الجانب السلبي الذي يتحرَّك به بعض الذين يعيشون في المجتمعات الإيمانية ويؤذون المؤمنين في أنفسهم وأهليهم وأوضاعهم العامة، بحيث يتحرَّكون بغيبة المؤمنين وبذكر عيوبهم والتّشهير بهم انطلاقاً من عقدة نفسية يعيشونها. ولم يفرّق الله تعالى في مسألة الأذيّة بين المؤمنين والمؤمنات، ولا بين قريب أو بعيد؛ فلا يجوز للإنسان أن يؤذي زوجته بضرب أو سبّ أو احتقار أو طرد من البيت، أو ما إلى ذلك مما يسيء إلى كرامتها، ولا يجوز للأب أو الأمّ إيذاء أولادهما بأيّ نوع من أنواع الإيذاء، كما في الذين يتدخّلون في شؤون أولادهم من الآباء والأمهات، فيربكون حياته، ويعقّدون علاقاتهم بأسرهم وزوجاتهم، كما لا يجوز للمرأة أن تعقّد علاقة زوجها بأهله وبكلِّ الناس الذين يحيطون به من المؤمنين. قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ـ فالأذيّة المقصودة في الآية ليست الّتي تنطلق من موقع الدفاع عن النفس، لأنّ الدفاع عن النفس حقّ شرعي ـفَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً ـ والبهتان هو أن ينسب الإنسان إلى الآخر ما لم يفعله ـوَإِثْماً مُبِينًا}(الأحزاب:58)، أي خطيئةً بيّنةً واضحةً.

الأذى ينفي الإيمان
وقد ورد عن رسول الله(ص): "من آذى مؤمناً فقد آذاني"، لأن النبي(ص) يعتبر نفسه مسؤولاً عن كلِّ المؤمنين والمؤمنات، فهم أسرته وأصحابه. وعن الإمام علي(ع): "لا يحلّ لمسلم أن يروِّع مسلماً"، أن يخيفه ويجعله يشعر بالأذى وعدم الأمان والاطمئنان. وعن الإمام الصادق(ع): "قال الله عزَّ وجل: ليأذن بحرب مني ـ وهذه كلمة صعبة جداً ـ من آذى عبدي المؤمن"، فالله تعالى يعلن الحرب على الإنسان الذي يؤذي عباد الله المؤمنين، ومن يتحمّل حرب الله؟

وورد عن رسول الله(ص) أيضاً: "من نظر إلى مؤمن نظرةً يخيفه بها ـ باعتبار أنه يملك القوّة ـ أخافه الله تعالى يوم لا ظلّ إلا ظلّه". وعنه(ص): "قال الله تبارك وتعالى: من أهان لي وليّاً ـ أي نظر إلى عباد الله المؤمنين المستضعفين نظرة احتقار ـ فقد أرصد لمحاربتي"، فهو كأنه يحارب الله، والله جعل العزّة للمؤمنين. وعنه(ص): "من أحزن مؤمناً ثم أعطاه الدنيا ـ كتعويض له ـ لم يكن ذلك كفَّارته ولم يؤجر عليه"، فلا شيء يعوّض له عن هذا الحزن.

وعن الإمام الصادق(ع): "فازوا والله الأبرار، أتدري من هم؟ هم الذين لا يؤذون الذر". وعن رسول الله(ص): "أذلّ الناس من أهان الناس"، فالذي يهين الناس في الدنيا هو أذلّ الناس يوم القيامة، لأنّ الله سوف يهينه في الآخرة بحيث يجعله في أحطِّ درجات الإذلال.

كفّ الأذى وثوابه
وفي توجيه من النبيّ(ص) للمسلمين،يبيّن فيه ثواب كفّ الأذى عن الناس، ومكانة ذلك عند الله، يقول(ص): "كفّ أذاك عن الناس، فإنه صدقة تصدّق بها على نفسك"، فمن الصَّدقات التي تتصدّق بها على نفسك امتناعك عن أذية الناس،والله يؤجرك على ذلك. وعن الإمام زين العابدين(ع): "كفُّ الأذى من كمال العقل ـ لأنَّ عقلك يقول لك إنك إذا آذيت الناس، فإنّك ستجلب لنفسك العداوة والحقد، وإذا كففت أذاك عن الناس ،فإنّك ستعيش معهم بأمن وسلام واطمئنان ـ وفيه راحة للبدن عاجلاً وآجلاً". وورد عن الإمام الصادق(ع): "من كفَّ يده عن الناس فإنّما يكفُّ عنهم يداً واحدةً ويكفّون عنه أيادي كثيرةً". وعن الإمام علي(ع): "المؤمن نفسه منه في تعب ـ يجاهد نفسه دائماً ـ والناس منه في راحة".

الصّبر على الأذى
 وهناك حالات يكون فيها الإنسان صاحب رسالة أو قضية ودين، وعندما يتحرَّك في الدعوة إلى رسالته وقضيته ودينه، فإنّه قد يتعرّض للأذى من الذين يعارضون رسالته أو قضيّته ويتعقّدون منها، فمنهم من يصبر على الأذى ومنهم لا يصبر. فكيف يصوّر الله تعالى لنا هذه الحالة، يقول تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}(العنكبوت:10). وفي آية أخرى، يصوّر فيها تعالى حال الذين تحمّلوا الأذى في جنبه، يقول سبحانه: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا ـ فرّوا بدينهم ـ وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا ـ فما هو جزاء هؤلاء؟ ـلأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَاب}(آل عمران:195). ومن هؤلاء،الذين يحملون رسالة الحق، ويؤذَون في الله من خلال بعض المحاور المتعصّبة التي تتعصّب ضد أتباع أهل البيت(ع)، فتضيّق عليهم وتحاصرهم وتؤذيهم في أنفسهم لأنهم وقفوا مع الحق، وهكذا بالنسبة إلى الذين يؤسرون من قبل الأعداء، كالأسرى الذين يؤسرون في فلسطين من قبل اليهود الذين غصبوا البلاد والعباد، أو الذين يؤسرون من قبل الحكّام الظالمين، فإنّهم مشمولون بهذه الآية إذا أخلصوا في معارضتهم وجهادهم.

وهناك آية موجّهة إلى النبي(ص)، الّذي كان يعيش كلّ أنواع الأذى من المشركين الّذين وقفوا ضدّ رسالته وحاصروه، قال تعالى:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ}(الأنعام:34). وورد في الحديث عنه(ص) : "ما أوذي أحد مثل ما أُوذيت في الله".إنّ المؤمنين في هذا العصر،عندما تنطلق منهم كلمة الحق، وعندما يتحرّكون في خطّ الجهاد، أو يقومون ضدّ المستكبرين والكافرين ليطالبوا بالعدالة للنَّاس كافةً، يواجهون بكلِّ أنواع الأذى من القوى الظالمة والمستكبرة، و عليهم أن يصبروا ويتحملوا الأذى ولا يسقطوا أمامه، لأن المؤمن هو القويّ والعزيز في إيمانه وموقفه ونفسه، وسوف يأتيه نصر الله تعالى في كلِّ ما يصمد فيه ويصبر عليه، والله يتحدث عن المؤمنين الذين زُلزلوا: {مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ}(البقرة:214). ولذلك علينا أن نصمد في قضايانا كلّها، وأن نصبر على الأذى كلّه، لأنّ الله مع الصابرين...

الخطبة الثانية

حكومة العدو الجديدة: تحريض ضدّ إيران
يستعجل العرب في كثير من نماذجهم الرسمية المعروفة فتح أبواب الحوار مع حكومة العدو الجديدة، وحتى مع رمز التطرّف والعدوان الأبرز فيها "ليبرمان"، حيث يهمس البعض منهم في الأذن الإسرائيلية مبدياً الاستعداد لنسيان كل شيء، بعد أن كان ليبرمان هدّد بتدمير السد العالي، وهاجم أحد الرؤساء العرب بشكل شخصي...

إنّها الأخلاق والشيم العربية التي تدفع بعضهم إلى مد اليد إلى الدبلوماسي الصهيوني الأول، الذي جدد الكلام عن ضرورة الاستعداد للحرب ورفض خريطة الطريق ومقررات "أنابوليس"، في الوقت الذي يواصل هؤلاء التحريض على إيران التي كان ذنبها الأول أنها أسقطت سفارة العدو ورفعت العلم الفلسطيني في طهران، وذنبها الثاني أنها دعمت الشعب الفلسطيني وتبنّت قضية العرب المركزية، وذنبها الثالث أنها وضعت كل ما توصلت إليه من تقدّم علمي، وخصوصاً في المجال النووي السلمي، في خدمة الدول العربية والإسلامية.

إنه لمن المفارقة العجيبة الغريبة أن يواصل العدو ـ من خلال رئيس حكومته الجديدة ـ التحريض ضد الجمهورية الإسلامية في إيران، ويعمل على إثارة ملفها النووي السلمي أمام المحافل الدولية وفي دول الاتحاد الأوروبي، ويحث الإدارة الأميركية على اتخاذ إجراءات معادية ضدها، فيما تواصل بعض الشخصيات العربية وبعض الأجهزة المرتبطة بها هجومها على إيران، غير آبهة بالمصالح العربية والإسلامية العليا، ومن دون دراسة عميقة للأوضاع والتطورات، ومع إصرار غريب على الارتماء في الحضن الأميركي الإسرائيلي مع كل ما أصاب العدو من خيبات أمل في السنوات الأخيرة، ومع المشاكل الكبيرة التي تعاني منها الولايات المتحدة الأميركية على غير صعيد.

لقد كنا نتوقع من العرب في مواقعهم الرسمية، ومجاراةً لبعض الأصوات العالمية التي بدأت تتحدث عن ضرورة التخلّص من الأسلحة النووية، ومن بينها حديث الرئيس الأميركي نفسه، أن يثيروا ـ من خلال خطة سياسية وإعلامية مدروسة ـ الحديث عن الترسانة النووية الإسرائيلية الضخمة التي تمثل تهديداً متواصلاً لأمنهم، وللأمن العالمي، وخصوصاً أنّ إسرائيل تواصل الأخذ بأسلوب القوة الضاربة في محيطها العربي، وتعرض عضلاتها العسكرية، وتجاربها الصاروخية، وتهدد وتتوعّد، من دون أن تستمع إلى كلمات الإدانة أو الاستنكار كتلك التي وُجّهت إلى كوريا الشمالية بعد تجربتها الصاروخية الأخيرة.

إسرائيل: دولة الحرب المتحركة
لقد آن الأوان للعرب والمسلمين، وللزعامات التي تجلس على عروشها في بلدانهم، أن يعرفوا أن إسرائيل هي دولة الحرب المتحركة من جيل إلى جيل، وأن مجتمعها لا يُنتج إلا القيادات التي تصنع الحرب في كل مرحلة من مراحل استراتيجيتها التي لا تفسح في المجال لولادة أية دولة فلسطينية، ولا تحترم أية مبادرة عربية، ولا تتعاطى مع العرب، وخصوصاً أولئك الذين يحرصون على خطب ودّها واحترامها، إلا بأسلوب الاحتقار، ولا تفهم إلا بلغة المقاومة التي لو أحسن العرب الاستفادة منها لكانت فلسطين في عهدة أهلها، ولكان العرب في موقع آخر على مستوى المنطقة كلها، ولما توسّلوا الآخرين أن يعطوهم من نفوذهم أو ألا يعملوا على مصادرة قرارهم.

لقد أسقطت الأنظمة العربية ـ بنماذجها المتعاقبة ـ ما يسمّى معاهدة الدفاع المشترك، لأنها لا تؤمن بالدفاع عن أراضيها، بما فيها الأرض المقدّسة في القدس، كما أسقطت بطريقة عملية مسألة المقاطعة للعدوّ، فاستقبلت أسواقُهم البضائع الإسرائيلية بطريقة مباشرة وغير مباشرة، وتحركت آلتهم المالية لدعم الاقتصاد الأميركي والأوروبي من خلال أرصدتهم التي جرى سحق معظمها في طاحونة نظام العولمة المتوحش، في الوقت الذي تقبع شعوبهم تحت نير الفقر والجوع والمأساة... وهكذا وصل الواقع العربي إلى المستوى الذي تتساقط فيه الأسهم المالية العربية كأوراق الخريف، تماماً كما تتساقط أسهمهم السياسية في البورصة السياسية العالمية، بعدما أبعدوا شعوبهم عن ساحة الجهاد والعطاء، وأخلدوا إلى سياسة الخنوع والخضوع التي لا تنتج إلا فشلاً وسقوطاً تحت وطأة ضغوط الآخرين، تماماً كما لا تُنتج الأنظمة الديكتاتورية إلا القمع وحالات الطوارئ المستمرة التي يُراد لها أن تحبس الأنفاس والأفكار في قمقم الظلم وأنفاق القمع.

إننا نريد للعرب أن ينطلقوا مع قضاياهم، ونريد للأنظمة أن تستمع إلى نبض شعوبها، وأن تبدأ رحلة الألف ميل في البحث عن وجودها وحالها ومستقبلها، قبل أن تتقاذفها أقدام الأمم التي لا تحسب إلا حساب مصالحها، ولا تنظر إلى الآخرين إلا بعيون تشخص إلى الأرقام والوقائع.

الجهل الشّعبيّ والأجساد الملغومة
ومن جانب آخر، فإن الأمة التي ابتُليت بنماذج فاسدة على مستوى الحكم، ابتُليت على المستوى الشعبي بنماذج جاهلة وعمياء من المخدوعين والحاقدين الذين يتجنّدون لتفجير أنفسهم بأهلهم وإخوتهم في المساجد والشوارع، تارة تحت العنوان المذهبي، وأخرى تحت العنوان السياسي، لتمتد المأساة من باكستان إلى العراق من خلال نسوة أو فتية أرادوا لأجسادهم الملغومة أن تتشظّى بالمصلّين في المساجد والحسينيات، بدلاً من أن تلاحق المحتل في مواقعه وآلياته ودورياته...

إننا نعتقد أن هذه المسألة هي من المسائل الخطيرة، ومن البلاءات العظيمة التي تستدعي حركةً كبرى من العلماء المسلمين على مختلف مذاهبهم واجتهاداتهم، للتصدّي لهذه الظاهرة التي من شأنها أن تحرق الأخضر واليابس في العالم الإسلامي، وأن تبقي بلداننا رهينةً لاحتلال الخارج وتمزقات الداخل.

رسائل أوباما المتعدّدة الاتجاهات في المنطقة
وفي اتجاه آخر، فإنّ زيارة الرئيس الأميركي إلى المنطقة، وخصوصاً إلى تركيا، تركت الكثير من الانطباعات، وأثارت الكثير من العناوين، في الرسائل التي بعث بها أوباما في أكثر من اتجاه، ونحن في الوقت الذي لا نزال ننتظر أفعالاً تؤكد الأقوال السابقة واللاحقة، نتساءل عما يقصده الرئيس الأميركي من أن السلام في المنطقة "يمكن أن يتحقق إذا قدّم الفريقان الفلسطيني والإسرائيلي التنازلات".

إن العالم بأسره يعلم أن الفلسطينيين والعرب قدّموا كل ما بجعبتهم من دون أن تقدّم إسرائيل شيئاً يُذكر، ومن دون أن يعترضها أحد في العالم الغربي الواسع، ويطالبها بالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وحتى من دون أن يُحرّك أحد في وجه حكومتها الجديدة عنوان الدولتين التي أعلنت مسبقاً أنها ترفضه، وأنها لا تقبل أن تتلقى التعليمات السياسية من إدارة أوباما أو غيرها.. لقد قدّم الفلسطينيون كل شيء، فهل يراد لهم أن يقدّموا حياتهم ووجودهم حتى يحصلوا على وسام جديد من الإدارة الأميركية الجديدة في أنهم معتدلون ومتسامحون؟!

لبنان: غيبّوبة اللعبة الانتخابية
أما في لبنان، فقد دخل اللبنانيون في غيّبوبة اللعبة الانتخابية التي يعرف الكثيرون وجهتها الحقيقية ونتائجها شبه الحاسمة، وخصوصاً أن المشرفين عليها من الزعامات الطائفية يملكون فرض المرشحين على الناس، ما قد يمنع الكثيرين من أصحاب الخبرة والمعرفة السياسية والحقوقية القانونية من الدخول إلى الساحة الانتخابية، الأمر الذي يجعل المجلس الجديد خاضعاً لأسماء معينة تتحكّم بقراراته التشريعية، في الوقت الذي يخضع بعض هؤلاء لمحاور إقليمية أو دولية تفرض عليهم بعض الترشيحات،  وتفرض سياساتها واستراتيجياتها. وهذا ما يجعل الواقع اللبناني يراوح مكانه في الذهنيات التي أدمنها أصحابها، أو التي تاهوا في حركتها السياسية التقليدية في التصريحات النيابية التي تردد بشكل ذليل فيما يراد لها أن تصرّح به... وسوف يبقى لبنان في تكوينه السياسي بلد التوترات والهواجس السياسية، بعيداً من هدأة البال والاستقرار ومن السلام الأهلي الذي سوف يواجه الاهتزاز، ولا سيما في السجالات حول الدخول في حكومة الوحدة القادمة أو عدمه، تبعاً للنتائج والمعطيات المتعددة... إن القضية أن اللغة التي تحكم التصريحات السياسية هي لغة لبنان الطوائف لا لبنان الوطن الذي حوّله النظام الطائفي إلى ولايات غير متحدة.

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد ،محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما: 

الأذى و الإيذاء .. عواقب وأثار

ملازمة السّلام للإيمان
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}(الأحزاب:58).
يؤكّد المنهج الأخلاقي الإسلامي، أنه لا بدَّ للمسلم من أن لا يصدر عنه تجاه الناس إلاّ كلّ خير وكلّ سلام، وكلّ ما يجعلهم يشعرون بالخير في تعامله معهم ومعاشرته لهم، واحترامه لكلِّ أوضاعهم وخصوصياتهم. فالمسلم لا يكون إنساناً مؤذياً للآخرين، وقد ورد عن رسول الله(ص): "المسلم من سَلِم المسلمون من يده ولسانه"، فلا تتحرّك يده بما يسيء إلى الآخرين في أموالهم وأعراضهم، ولا يتحرّك لسانه بالإساءة إليهم بذكر عيوبهم, نتيجة عقدة نفسية، أو وضع اجتماعي معين.

وتؤكّد هذه الآية الكريمة الجانب السلبي الذي يتحرَّك به بعض الذين يعيشون في المجتمعات الإيمانية ويؤذون المؤمنين في أنفسهم وأهليهم وأوضاعهم العامة، بحيث يتحرَّكون بغيبة المؤمنين وبذكر عيوبهم والتّشهير بهم انطلاقاً من عقدة نفسية يعيشونها. ولم يفرّق الله تعالى في مسألة الأذيّة بين المؤمنين والمؤمنات، ولا بين قريب أو بعيد؛ فلا يجوز للإنسان أن يؤذي زوجته بضرب أو سبّ أو احتقار أو طرد من البيت، أو ما إلى ذلك مما يسيء إلى كرامتها، ولا يجوز للأب أو الأمّ إيذاء أولادهما بأيّ نوع من أنواع الإيذاء، كما في الذين يتدخّلون في شؤون أولادهم من الآباء والأمهات، فيربكون حياته، ويعقّدون علاقاتهم بأسرهم وزوجاتهم، كما لا يجوز للمرأة أن تعقّد علاقة زوجها بأهله وبكلِّ الناس الذين يحيطون به من المؤمنين. قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ـ فالأذيّة المقصودة في الآية ليست الّتي تنطلق من موقع الدفاع عن النفس، لأنّ الدفاع عن النفس حقّ شرعي ـفَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً ـ والبهتان هو أن ينسب الإنسان إلى الآخر ما لم يفعله ـوَإِثْماً مُبِينًا}(الأحزاب:58)، أي خطيئةً بيّنةً واضحةً.

الأذى ينفي الإيمان
وقد ورد عن رسول الله(ص): "من آذى مؤمناً فقد آذاني"، لأن النبي(ص) يعتبر نفسه مسؤولاً عن كلِّ المؤمنين والمؤمنات، فهم أسرته وأصحابه. وعن الإمام علي(ع): "لا يحلّ لمسلم أن يروِّع مسلماً"، أن يخيفه ويجعله يشعر بالأذى وعدم الأمان والاطمئنان. وعن الإمام الصادق(ع): "قال الله عزَّ وجل: ليأذن بحرب مني ـ وهذه كلمة صعبة جداً ـ من آذى عبدي المؤمن"، فالله تعالى يعلن الحرب على الإنسان الذي يؤذي عباد الله المؤمنين، ومن يتحمّل حرب الله؟

وورد عن رسول الله(ص) أيضاً: "من نظر إلى مؤمن نظرةً يخيفه بها ـ باعتبار أنه يملك القوّة ـ أخافه الله تعالى يوم لا ظلّ إلا ظلّه". وعنه(ص): "قال الله تبارك وتعالى: من أهان لي وليّاً ـ أي نظر إلى عباد الله المؤمنين المستضعفين نظرة احتقار ـ فقد أرصد لمحاربتي"، فهو كأنه يحارب الله، والله جعل العزّة للمؤمنين. وعنه(ص): "من أحزن مؤمناً ثم أعطاه الدنيا ـ كتعويض له ـ لم يكن ذلك كفَّارته ولم يؤجر عليه"، فلا شيء يعوّض له عن هذا الحزن.

وعن الإمام الصادق(ع): "فازوا والله الأبرار، أتدري من هم؟ هم الذين لا يؤذون الذر". وعن رسول الله(ص): "أذلّ الناس من أهان الناس"، فالذي يهين الناس في الدنيا هو أذلّ الناس يوم القيامة، لأنّ الله سوف يهينه في الآخرة بحيث يجعله في أحطِّ درجات الإذلال.

كفّ الأذى وثوابه
وفي توجيه من النبيّ(ص) للمسلمين،يبيّن فيه ثواب كفّ الأذى عن الناس، ومكانة ذلك عند الله، يقول(ص): "كفّ أذاك عن الناس، فإنه صدقة تصدّق بها على نفسك"، فمن الصَّدقات التي تتصدّق بها على نفسك امتناعك عن أذية الناس،والله يؤجرك على ذلك. وعن الإمام زين العابدين(ع): "كفُّ الأذى من كمال العقل ـ لأنَّ عقلك يقول لك إنك إذا آذيت الناس، فإنّك ستجلب لنفسك العداوة والحقد، وإذا كففت أذاك عن الناس ،فإنّك ستعيش معهم بأمن وسلام واطمئنان ـ وفيه راحة للبدن عاجلاً وآجلاً". وورد عن الإمام الصادق(ع): "من كفَّ يده عن الناس فإنّما يكفُّ عنهم يداً واحدةً ويكفّون عنه أيادي كثيرةً". وعن الإمام علي(ع): "المؤمن نفسه منه في تعب ـ يجاهد نفسه دائماً ـ والناس منه في راحة".

الصّبر على الأذى
 وهناك حالات يكون فيها الإنسان صاحب رسالة أو قضية ودين، وعندما يتحرَّك في الدعوة إلى رسالته وقضيته ودينه، فإنّه قد يتعرّض للأذى من الذين يعارضون رسالته أو قضيّته ويتعقّدون منها، فمنهم من يصبر على الأذى ومنهم لا يصبر. فكيف يصوّر الله تعالى لنا هذه الحالة، يقول تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}(العنكبوت:10). وفي آية أخرى، يصوّر فيها تعالى حال الذين تحمّلوا الأذى في جنبه، يقول سبحانه: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا ـ فرّوا بدينهم ـ وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا ـ فما هو جزاء هؤلاء؟ ـلأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَاب}(آل عمران:195). ومن هؤلاء،الذين يحملون رسالة الحق، ويؤذَون في الله من خلال بعض المحاور المتعصّبة التي تتعصّب ضد أتباع أهل البيت(ع)، فتضيّق عليهم وتحاصرهم وتؤذيهم في أنفسهم لأنهم وقفوا مع الحق، وهكذا بالنسبة إلى الذين يؤسرون من قبل الأعداء، كالأسرى الذين يؤسرون في فلسطين من قبل اليهود الذين غصبوا البلاد والعباد، أو الذين يؤسرون من قبل الحكّام الظالمين، فإنّهم مشمولون بهذه الآية إذا أخلصوا في معارضتهم وجهادهم.

وهناك آية موجّهة إلى النبي(ص)، الّذي كان يعيش كلّ أنواع الأذى من المشركين الّذين وقفوا ضدّ رسالته وحاصروه، قال تعالى:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ}(الأنعام:34). وورد في الحديث عنه(ص) : "ما أوذي أحد مثل ما أُوذيت في الله".إنّ المؤمنين في هذا العصر،عندما تنطلق منهم كلمة الحق، وعندما يتحرّكون في خطّ الجهاد، أو يقومون ضدّ المستكبرين والكافرين ليطالبوا بالعدالة للنَّاس كافةً، يواجهون بكلِّ أنواع الأذى من القوى الظالمة والمستكبرة، و عليهم أن يصبروا ويتحملوا الأذى ولا يسقطوا أمامه، لأن المؤمن هو القويّ والعزيز في إيمانه وموقفه ونفسه، وسوف يأتيه نصر الله تعالى في كلِّ ما يصمد فيه ويصبر عليه، والله يتحدث عن المؤمنين الذين زُلزلوا: {مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ}(البقرة:214). ولذلك علينا أن نصمد في قضايانا كلّها، وأن نصبر على الأذى كلّه، لأنّ الله مع الصابرين...

الخطبة الثانية

حكومة العدو الجديدة: تحريض ضدّ إيران
يستعجل العرب في كثير من نماذجهم الرسمية المعروفة فتح أبواب الحوار مع حكومة العدو الجديدة، وحتى مع رمز التطرّف والعدوان الأبرز فيها "ليبرمان"، حيث يهمس البعض منهم في الأذن الإسرائيلية مبدياً الاستعداد لنسيان كل شيء، بعد أن كان ليبرمان هدّد بتدمير السد العالي، وهاجم أحد الرؤساء العرب بشكل شخصي...

إنّها الأخلاق والشيم العربية التي تدفع بعضهم إلى مد اليد إلى الدبلوماسي الصهيوني الأول، الذي جدد الكلام عن ضرورة الاستعداد للحرب ورفض خريطة الطريق ومقررات "أنابوليس"، في الوقت الذي يواصل هؤلاء التحريض على إيران التي كان ذنبها الأول أنها أسقطت سفارة العدو ورفعت العلم الفلسطيني في طهران، وذنبها الثاني أنها دعمت الشعب الفلسطيني وتبنّت قضية العرب المركزية، وذنبها الثالث أنها وضعت كل ما توصلت إليه من تقدّم علمي، وخصوصاً في المجال النووي السلمي، في خدمة الدول العربية والإسلامية.

إنه لمن المفارقة العجيبة الغريبة أن يواصل العدو ـ من خلال رئيس حكومته الجديدة ـ التحريض ضد الجمهورية الإسلامية في إيران، ويعمل على إثارة ملفها النووي السلمي أمام المحافل الدولية وفي دول الاتحاد الأوروبي، ويحث الإدارة الأميركية على اتخاذ إجراءات معادية ضدها، فيما تواصل بعض الشخصيات العربية وبعض الأجهزة المرتبطة بها هجومها على إيران، غير آبهة بالمصالح العربية والإسلامية العليا، ومن دون دراسة عميقة للأوضاع والتطورات، ومع إصرار غريب على الارتماء في الحضن الأميركي الإسرائيلي مع كل ما أصاب العدو من خيبات أمل في السنوات الأخيرة، ومع المشاكل الكبيرة التي تعاني منها الولايات المتحدة الأميركية على غير صعيد.

لقد كنا نتوقع من العرب في مواقعهم الرسمية، ومجاراةً لبعض الأصوات العالمية التي بدأت تتحدث عن ضرورة التخلّص من الأسلحة النووية، ومن بينها حديث الرئيس الأميركي نفسه، أن يثيروا ـ من خلال خطة سياسية وإعلامية مدروسة ـ الحديث عن الترسانة النووية الإسرائيلية الضخمة التي تمثل تهديداً متواصلاً لأمنهم، وللأمن العالمي، وخصوصاً أنّ إسرائيل تواصل الأخذ بأسلوب القوة الضاربة في محيطها العربي، وتعرض عضلاتها العسكرية، وتجاربها الصاروخية، وتهدد وتتوعّد، من دون أن تستمع إلى كلمات الإدانة أو الاستنكار كتلك التي وُجّهت إلى كوريا الشمالية بعد تجربتها الصاروخية الأخيرة.

إسرائيل: دولة الحرب المتحركة
لقد آن الأوان للعرب والمسلمين، وللزعامات التي تجلس على عروشها في بلدانهم، أن يعرفوا أن إسرائيل هي دولة الحرب المتحركة من جيل إلى جيل، وأن مجتمعها لا يُنتج إلا القيادات التي تصنع الحرب في كل مرحلة من مراحل استراتيجيتها التي لا تفسح في المجال لولادة أية دولة فلسطينية، ولا تحترم أية مبادرة عربية، ولا تتعاطى مع العرب، وخصوصاً أولئك الذين يحرصون على خطب ودّها واحترامها، إلا بأسلوب الاحتقار، ولا تفهم إلا بلغة المقاومة التي لو أحسن العرب الاستفادة منها لكانت فلسطين في عهدة أهلها، ولكان العرب في موقع آخر على مستوى المنطقة كلها، ولما توسّلوا الآخرين أن يعطوهم من نفوذهم أو ألا يعملوا على مصادرة قرارهم.

لقد أسقطت الأنظمة العربية ـ بنماذجها المتعاقبة ـ ما يسمّى معاهدة الدفاع المشترك، لأنها لا تؤمن بالدفاع عن أراضيها، بما فيها الأرض المقدّسة في القدس، كما أسقطت بطريقة عملية مسألة المقاطعة للعدوّ، فاستقبلت أسواقُهم البضائع الإسرائيلية بطريقة مباشرة وغير مباشرة، وتحركت آلتهم المالية لدعم الاقتصاد الأميركي والأوروبي من خلال أرصدتهم التي جرى سحق معظمها في طاحونة نظام العولمة المتوحش، في الوقت الذي تقبع شعوبهم تحت نير الفقر والجوع والمأساة... وهكذا وصل الواقع العربي إلى المستوى الذي تتساقط فيه الأسهم المالية العربية كأوراق الخريف، تماماً كما تتساقط أسهمهم السياسية في البورصة السياسية العالمية، بعدما أبعدوا شعوبهم عن ساحة الجهاد والعطاء، وأخلدوا إلى سياسة الخنوع والخضوع التي لا تنتج إلا فشلاً وسقوطاً تحت وطأة ضغوط الآخرين، تماماً كما لا تُنتج الأنظمة الديكتاتورية إلا القمع وحالات الطوارئ المستمرة التي يُراد لها أن تحبس الأنفاس والأفكار في قمقم الظلم وأنفاق القمع.

إننا نريد للعرب أن ينطلقوا مع قضاياهم، ونريد للأنظمة أن تستمع إلى نبض شعوبها، وأن تبدأ رحلة الألف ميل في البحث عن وجودها وحالها ومستقبلها، قبل أن تتقاذفها أقدام الأمم التي لا تحسب إلا حساب مصالحها، ولا تنظر إلى الآخرين إلا بعيون تشخص إلى الأرقام والوقائع.

الجهل الشّعبيّ والأجساد الملغومة
ومن جانب آخر، فإن الأمة التي ابتُليت بنماذج فاسدة على مستوى الحكم، ابتُليت على المستوى الشعبي بنماذج جاهلة وعمياء من المخدوعين والحاقدين الذين يتجنّدون لتفجير أنفسهم بأهلهم وإخوتهم في المساجد والشوارع، تارة تحت العنوان المذهبي، وأخرى تحت العنوان السياسي، لتمتد المأساة من باكستان إلى العراق من خلال نسوة أو فتية أرادوا لأجسادهم الملغومة أن تتشظّى بالمصلّين في المساجد والحسينيات، بدلاً من أن تلاحق المحتل في مواقعه وآلياته ودورياته...

إننا نعتقد أن هذه المسألة هي من المسائل الخطيرة، ومن البلاءات العظيمة التي تستدعي حركةً كبرى من العلماء المسلمين على مختلف مذاهبهم واجتهاداتهم، للتصدّي لهذه الظاهرة التي من شأنها أن تحرق الأخضر واليابس في العالم الإسلامي، وأن تبقي بلداننا رهينةً لاحتلال الخارج وتمزقات الداخل.

رسائل أوباما المتعدّدة الاتجاهات في المنطقة
وفي اتجاه آخر، فإنّ زيارة الرئيس الأميركي إلى المنطقة، وخصوصاً إلى تركيا، تركت الكثير من الانطباعات، وأثارت الكثير من العناوين، في الرسائل التي بعث بها أوباما في أكثر من اتجاه، ونحن في الوقت الذي لا نزال ننتظر أفعالاً تؤكد الأقوال السابقة واللاحقة، نتساءل عما يقصده الرئيس الأميركي من أن السلام في المنطقة "يمكن أن يتحقق إذا قدّم الفريقان الفلسطيني والإسرائيلي التنازلات".

إن العالم بأسره يعلم أن الفلسطينيين والعرب قدّموا كل ما بجعبتهم من دون أن تقدّم إسرائيل شيئاً يُذكر، ومن دون أن يعترضها أحد في العالم الغربي الواسع، ويطالبها بالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وحتى من دون أن يُحرّك أحد في وجه حكومتها الجديدة عنوان الدولتين التي أعلنت مسبقاً أنها ترفضه، وأنها لا تقبل أن تتلقى التعليمات السياسية من إدارة أوباما أو غيرها.. لقد قدّم الفلسطينيون كل شيء، فهل يراد لهم أن يقدّموا حياتهم ووجودهم حتى يحصلوا على وسام جديد من الإدارة الأميركية الجديدة في أنهم معتدلون ومتسامحون؟!

لبنان: غيبّوبة اللعبة الانتخابية
أما في لبنان، فقد دخل اللبنانيون في غيّبوبة اللعبة الانتخابية التي يعرف الكثيرون وجهتها الحقيقية ونتائجها شبه الحاسمة، وخصوصاً أن المشرفين عليها من الزعامات الطائفية يملكون فرض المرشحين على الناس، ما قد يمنع الكثيرين من أصحاب الخبرة والمعرفة السياسية والحقوقية القانونية من الدخول إلى الساحة الانتخابية، الأمر الذي يجعل المجلس الجديد خاضعاً لأسماء معينة تتحكّم بقراراته التشريعية، في الوقت الذي يخضع بعض هؤلاء لمحاور إقليمية أو دولية تفرض عليهم بعض الترشيحات،  وتفرض سياساتها واستراتيجياتها. وهذا ما يجعل الواقع اللبناني يراوح مكانه في الذهنيات التي أدمنها أصحابها، أو التي تاهوا في حركتها السياسية التقليدية في التصريحات النيابية التي تردد بشكل ذليل فيما يراد لها أن تصرّح به... وسوف يبقى لبنان في تكوينه السياسي بلد التوترات والهواجس السياسية، بعيداً من هدأة البال والاستقرار ومن السلام الأهلي الذي سوف يواجه الاهتزاز، ولا سيما في السجالات حول الدخول في حكومة الوحدة القادمة أو عدمه، تبعاً للنتائج والمعطيات المتعددة... إن القضية أن اللغة التي تحكم التصريحات السياسية هي لغة لبنان الطوائف لا لبنان الوطن الذي حوّله النظام الطائفي إلى ولايات غير متحدة.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية