ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الإسلام حُسْنُ الخُلُق
الأخلاق النبوية
يقول رسول الله(ص): "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
يمثّل الإسلام في كلّ مفاهيمه وتشريعاته، النظام الأخلاقي الذي يعيشه الإنسان في نفسه ومع الناس من حوله. ولعلّنا نستوحي من هذا الحديث، أنّ كل رسالات الأنبياء تمحورت حول هذا النظام الأخلاقي في حياة الناس، لأنه عندما تنتظم حياة الناس في نظام أخلاقي يحترم فيه الإنسان الإنسان، ويرحم فيه الإنسان الإنسان، ويعمل على أن يعيش من أجل أن يسرّ الناس ويقضي حاجاتهم ويتحمّل مسؤولياتهم، فإن ذلك هو الذي يبني الحياة.
وعندما ندرس مسيرة الأنبياء ومنطقهم وخطواتهم مع شعوبهم التي كانت تتمرّد عليهم وتسخر منهم وتعطّل رسالتهم من أن تنفتح على الناس كلّهم، فإنّنا نلاحظ أنّهم كانوا يمثلون أعلى درجات السموّ الأخلاقي، وكان النبيّ منهم عندما يُنـزِل الله تعالى العذاب على الأمّة التي تمرّدت عليه، لا يقف شامتاً بهم، بل يقف حزيناً متألماً لهم، وكان يقول لهم: {ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} [الأعراف:79].
وهذا ما يتمثّل بأعلى درجاته بنبيّنا محمّد(ص) الذي لم يتحدّث الله تعالى عن نبيّ في صفته الأخلاقية كما تحدّث عنه، فقد قال الله تعالى في كتابه المجيد: {وإنّك لعلى خلق عظيم} [القلم:4]. فهو سبحانه لم يكتفِ بأن يمدح النبيّ في خلقه، بل تحدّث عن هذا الخلق بأنّه يتميّز بالعظمة، مما لا يقترب منه أحد.
وقد كان النبي(ص) يعيش أخلاقيته مع كل الناس، حتى إنّ القرشيين المشركين، كانوا قبل أن يُبعث(ص) بالرسالة، لا يقولون: "جاء محمّد وذهب محمّد"، بل يقولون: "جاء الصادق الأمين، وذهب الصادق الأمين"، حتى غلبت صفته الأخلاقية على اسمه.
وكان النبيّ(ص) يرحم كل الناس القريبين والبعيدين، وكان يقول عندما يتحدث عن أهله وعياله: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، باعتبار أن النبي(ص) كان يراعي مشاعر أهله. وقد أنزل الله تعالى في سورة التحريم آيةً تتحدّث عن أنّ النبي(ص) كان يمنع نفسه من بعض الأمور التي يشتهيها ويحبّها، فقط لأنّ بعض زوجاته كنّ يكرهنها، كبعض الطيب أو بعض الأكلات. ونحن علينا أن نقتدي بالنبي(ص) في ملاحظة مشاعر أهلنا؛ بأن يراعي الإنسان مشاعر زوجته وأولاده ورغباتهم في بعض الأمور، والعكس أيضاً، وقد ورد في بعض الأحاديث أن "المؤمن يأكل بشهوة أهله، والمنافق يأكل أهله بشهوته"، فالمؤمن هو الذي يحترم مشاعر أهله، فتكون رغبتهم هي التي تفرض نفسها على رغبته.
وقد ورد في القرآن الكريم ما يبيِّن لنا طريقة النبي(ص) وأسلوبه في مخاطبة الناس والعيش معهم، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ـ كان الليّن في لسانه وقلبه ـ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً ـ فظّ اللسان ـ غَلِيظَ الْقَلْبِ ـ لا تحمل الرحمة للناس في قلبك ـ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ـ فبطيب كلامك ورقّة قلبك استطعت أن تجذب الناس إليك ـ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. وقد سئلت إحدى زوجاته(ص) عن أخلاقه، فقالت: "كان خلقه القرآن".
حُسن الخُلُق
وقد اختصر النبي(ص) الإسلام بقوله: "الإسلام حُسنُ الخُلُق". وورد عنه(ص): "ثلاثٌ من لم تكنّ فيه فليس مني ولا من الله عزّ وجلّ". قيل: يا رسول الله، وما هنّ؟ قال: "حِلمٌ يردُّ به جهل الجاهل، وحُسن خُلُق يعيش به في الناس ـ أن يتميّز بالأخلاق الحسنة التي يعيش فيها مع أهله ومع الناس الذين يعيشون معه ويتعامل معهم ـ وورعٌ يحجزه عن معاصي الله".
وعنه(ص): "من حَسَّن خُلُقَه، بلّغه الله درجة الصائم القائم"، فكأن الإنسان الذي يحسّن خلقه مع الناس، قريبين كانوا أو بعيدين، يساوي في درجته عند الله درجة الصائم القائم. وعنه(ص): "إنّ العبد ليبلغُ بحُسنِ خُلُقه درجات الآخرة وشرف المنازل وإنه لضعيف العبادة"، فقد يكون في عباداته ممّن يقتصر على الفرائض فقط، ولكنّ الله تعالى يشرّف منـزلته في الآخرة لأنه حسّن خلقه مع الناس.
وفي حديث عن النبي(ص): "أول ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة حُسنُ خُلقِه"، قبل الصلاة والصوم والحج وأي عبادة أخرى. فالله تعالى يريد للإنسان أن يعيش بين الناس ليكون خيراً لهم كلهم، وليكون منفتحاً على قضاء حوائجهم. وعنه(ص): "إن أحبّكم إليَّ وأقربكم مني يوم القيامة مجلساً، أحسنكم خُلُقاً، وأشدّكم تواضعاً". وهو ما نقرأه في دعاء كميل بن زياد: "وفي جميع الأحوال متواضعاً". وعنه(ص): "ألا أنبئكم بخياركم؟"، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً ـ المتواضعون ـ الذين يألفون ويؤلَفون". وعنه(ص): "جعل الله سبحانه مكارم الأخلاق صلةً بينه وبين عباده، فحسبُ أحدكم أن يتمسّك بخُلُقٍ متّصلٍ بالله".
من مكارم الأخلاق
وورد في الحديث عن الإمام عليّ(ع): "إنّ من مكارم الأخلاق أن تصل من قَطَعَك ـ سواء كان رحماً أو غير رحم؛ أن تبقي قلبك مفتوحاً لتصله حتى لو قطعك ـ وتعطي من حَرَمَك، وتعفو عمّن ظَلَمك". وعن الإمام الصادق(ع)، عندما سُئل عن حدّ حُسن الخُلق، قال: "تليّن جانبك، وتطيّب كلامك، وتلقى أخاك ببشر حَسَن"، بحيث عندما تنفتح على الناس تكون مبتسماً، وهذه من صفات النبي(ص)، أنه كان دائم التبسّم للناس، وهو ما مدح به الفرزدق الإمام زين العابدين(ع):
يُغضي حياءً ويُغضى من مهابته فلا يُكلّم إلا حيـن يبتسـم
وعن الإمام الصادق(ع): "كان فيما خاطب الله تعالى نبيّه أن قال له: يا محمد، {وإنّك لعلى خُلُق عظيم}، قال(ع): السخاء وحُسنُ الخُلق". ومن وصية الإمام عليّ(ع) لصاحبه كميل بن زياد: "يا كميل، مُرْ أهلك يروحوا في كسب المكارم، ويدلجوا في حاجة من هو نائم، فوالذي وَسِع سمعُه الأصوات، ما من أحدٍ أودعَ قلباً سروراً إلا وخلَقَ اللهُ له من ذلك السرور لطفاً، فإذا نزلت به نائبةٌ جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردَها عنه كما تُطردُ غريبةُ الإبل".
لذلك علينا كمسلمين، ونحن نعيش في عالم كلّه حقد وعداوة وبغضاء، أن ننطلق من خلال القيمة الأساسية للإسلام، وهي أن نأخذ بمكارم الأخلاق، لتنطلق بيننا المحبة والرحمة والتكافل والتواصل والتضامن في كلّ قضايانا العامة والخاصة، سواء اختلفنا في المذاهب الإسلامية أو في الأحزاب والقبائل والعشائر والأعراق، لأن الإسلام يريد منا أن نبني مجتمعاً يتحرك فيه الإنسان على أساس العدل والسلام، وقد اختصر الله تعالى طريق النجاح، فقال سبحانه: {والعصر* إنّ الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [سورة العصر]. هذا هو الخطّ الذي يجب أن نأخذ به في أنفسنا وأهلنا ومجتمعنا والناس من حولنا، وبذلك نقتدي برسول الله(ص) الذي هو أسوتنا وقدوتنا.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الأنظمة العربية و القضية الفلسطينية
تعيش الأنظمة العربية، المتهالكة للانفتاح على حكومة العدو الجديدة، حالاً من الاضطراب السياسي، في ظلّ المتغيّرات الدولية، وما أفرزته الحرب العدوانية على غزة من نتائج على المستوى العربي والإسلامي... ولذلك تسعى جهدها لتحريك بعض الملفات بطريقة إعلامية وسياسية باتت مكشوفةً وواضحةً للجميع...
إن المشكلة الكبرى التي تصيب الواقع العربي الرسمي، تتمثل بالعقدة من فلسطين؛ هذه القضية التي تأبى أن تموت، وهذا الحق الذي يتمرّد على كل محاولات التناسي والنسيان، ولذلك تستمر هذه العقدة في التعبير عن نفسها في سياقات مختلفة ومتعددة، تقف على رأسها محاولة الاقتصاص من المقاومة المجاهدة في لبنان وفلسطين، والتي فتحت أعين العرب على مرحلة جديدة أُعيدت فيها القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وباتت الشعوب تدرك واقعية الشعارات في مسألة هزيمة العدو... وتلك هي الجريمة التي ارتكبتها فصائل المقاومة في كونها وضعت العالم العربي أمام خيارين: خيار العمل لتحرير فلسطين، أو خيار السعي للتحرر من فلسطين، وهو الخيار الذي ترى فيه معظم هذه الأنظمة حياتها واستمرارها.
إنني أقول لفصائل المقاومة المجاهدة في لبنان وفلسطين: إنه لشرفٌ كبير لكم أن تلاحَقوا تحت عنوان دعمكم للشعب الفلسطيني، وتبنّي قضيته التي تمثل أنصع قضية من قضايا التحرر على مستوى العالم كله... لقد أصبحت فلسطين ـ منذ زمن ـ المعيار الذي يسقط تحت قبّته المتواطئون والمنحرفون، ويرتفع نحو هامته الصادقون والمخلصون، فطوبى للمخلصين لهذا العنوان لأنهم في امتحان سياسي وإعلامي وأمني عظيم.
القدس: تهويد تحت مظلّة خداع المؤتمرات
ومن رحم هذا العنوان، يتجدد الخطر الصهيوني على المسجد الأقصى، في الحفريات المتجددة تحت أعمدته، وفي تدنيس المستوطنين المستمر له، إلى جانب الخطط الصهيونية التي بدأ العدو تنفيذها لتهجير المقدسيين وتهويد المدينة، في ظل صمت عربي وتواطؤ مشهود من أولئك الذين ربطوا مصير عروشهم بعربة الاحتلال، وأرادوا للقدس أن تكون رهينةً في حسابات التسوية التي لا تأتي.
وفي ظل هذا الواقع، نلمح استجداءً متواصلاً من بعض العرب للحديث مع رئيس وزراء العدو، والاتصال به، سواء من رئيس السلطة الفلسطينية أو غيره، فيما تتواصل عملية الخداع اليهودي المستمر منذ ما قبل مؤتمر أوسلو، لتستمر عملية القضم التدريجي لما تبقى من الضفة في بحر المستوطنات الذي تحوّلت الضفة فيه إلى جزر جغرافيةً للفلسطينيين يُراد لها أن تكون سجوناً كبيرة لهم، إلى جانب سجن غزة الذي يمثل السجن الأكبر في العالم، في ظل الحصار الذي يتفرّج عليه العالم بأسره.
إننا نتساءل أمام تأكيدات "ليبرمان" بأن كيانه غير ملزَم بالعملية التي انطلقت في "أنابوليس"، وأمام خطة نتنياهو بالحديث عن الجانب الاقتصادي فحسب: ماذا سيبقى للفلسطينيين من طرح الدولتين الذي يطرحه "أوباما"، والذي لا يزال رئيس السلطة الفلسطينية يعوّل عليه إلى جانب بعض العرب الذين يتخدّرون بالتصريحات والمؤتمرات، وينامون على حرير الكلمات الاستهلاكية الطائرة في الهواء؟!
المبادرة العربية للسلام: تشريع ومصادقة أمريكية
ومن جانب آخر، فقد اجتمع بعض وزراء الخارجية العرب في عمان لتحرير رسالة بالإنكليزية من صفحتين للرئيس الأمريكي، تتحدث ببعض التفاصيل حول المبادرة العربية التي تجاهلتها إسرائيل، وبقيت فوق الطاولة في انتظار العطف الإسرائيلي للقبول ببعض بنودها أو للتفاوض عليها... صحيح أنهم هددوا بأنها لن تبقى طويلاً في هذا الموقع، لكنهم يخافون من إنزالها إلى تحت الطاولة، لأن ذلك يجعلهم وجهاً لوجه أمام الموقف الصعب في مواجهة التحديات الإسرائيلية لكل الواقع العربي في ضعفه وهزاله وتمزّقه، وهذا ما لا يريدونه، لأنهم وضعوا المقاومة وراء ظهورهم، واعتبروا ممارستها جريمة يعاقب عليها القانون...
ولقد هدف هذا الاجتماع إلى تفويض الملك الأردني باسم هؤلاء الوزراء، وسط وَهْم الحديث عن ضغط يمارسونه على أوباما بصفته زعيماً في بلد معنيّ بما يسمى عملية السلام، لتحقيق الفرصة للمبادرة العربية التي يُراد لها أن تحصل على مصادقة أميركية، ولو ضمنية، حتى يفسح ذلك في المجال أمام العرب لمحاورة "ليبرمان" و"نتنياهو" من الباب العريض، وتلك هي غاية العرب في أن يستمعوا إلى كلمات أمريكية جديدة، وإنْ كانت مشفوعة بوعود كاذبة، وبتأييد مستمر لإسرائيل ومصالحها الاستراتيجية، مهما تغيّرت الأسماء والعناوين في الإدارات الأميركية المتعاقبة.
علينا أخذ العبرة من الحرب الأهلية اللبنانية
وفي لبنان، تعود إلينا ذكرى الحرب الأهلية الوحشية المجنونة التي انطلقت فيها التفجيرات القاتلة للمدنيين، والذبح على الهوية، وتقسيم البلد إلى مناطق معادية بعضها لبعض على أساس طائفي يستمد خطوطه وتعليماته من خلفيات إقليمية، أو من خلفيات دولية من خلال الصراعات الدولية في مرحلة الحرب الباردة.
إن على اللبنانيين أن يأخذوا العبرة من هذه الحرب المشؤومة، ويدرسوا أسبابها التي كانت تتحرك في التعقيدات الطائفية والأحقاد الحزبية، حتى لا يعود مثل هذا الجنون الأمني الطائفي الخاضع لتخطيط الآخرين الذين استغلوا الحريات اللبنانية لإثارة الفوضى، التي تحوّلت الأمور فيها إلى حرية القتل والتدمير والتهجير والتفجير، ليستبدلوا الحقد بالمحبة، والطائفية بالمواطنة، والصراع المعقَّد بالتنافس الحركي، ويدرسوا قانون الانتخاب المرتكز على التمثيل الطائفي، ويختاروا بدلاً منه قانوناً يوحِّد اللبنانيين في دائرة واحدة على أساس النسبية. وعليهم أيضاً أن يَخلصوا إلى تأسيس المجلس الدستوري الذي يمثل المعيار لسلامة الانتخابات أو عدم سلامتها، إضافةً إلى قانون محاكمة الوزراء وقانون "من أين لك هذا"، ليعود لبنان دولةً حضاريةً ذات إشعاع روحي وفكري وسياسي وثقافي، وقوةً عادلةً قادرةً يحكمها القانون الذي يتساوى فيه الجميع في حقوقهم وواجباتهم، ويعود إليه الذين هاجروا منه ليجدوا فيه العيش الكريم والفرص العملية، وليثمروا فيه كل ما يملكون من القدرات العلمية التي اكتسبوها في بلاد الاغتراب.
إننا نريد لبنان الدولة لا لبنان المزرعة، ولبنان الوطن لا لبنان الزعامات الطائفية التي تنفّذ سياسات الآخرين في النطاقين الإقليمي والدولي، وذلك من خلال مصالحها الطائفية والشخصانية والحزبية، كما نريد لبنان الفرح في صناعة المستقبل، لا لبنان المأساة الغارق في عصبيات الماضي ومتاهات الحاضر.
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الإسلام حُسْنُ الخُلُق
الأخلاق النبوية
يقول رسول الله(ص): "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
يمثّل الإسلام في كلّ مفاهيمه وتشريعاته، النظام الأخلاقي الذي يعيشه الإنسان في نفسه ومع الناس من حوله. ولعلّنا نستوحي من هذا الحديث، أنّ كل رسالات الأنبياء تمحورت حول هذا النظام الأخلاقي في حياة الناس، لأنه عندما تنتظم حياة الناس في نظام أخلاقي يحترم فيه الإنسان الإنسان، ويرحم فيه الإنسان الإنسان، ويعمل على أن يعيش من أجل أن يسرّ الناس ويقضي حاجاتهم ويتحمّل مسؤولياتهم، فإن ذلك هو الذي يبني الحياة.
وعندما ندرس مسيرة الأنبياء ومنطقهم وخطواتهم مع شعوبهم التي كانت تتمرّد عليهم وتسخر منهم وتعطّل رسالتهم من أن تنفتح على الناس كلّهم، فإنّنا نلاحظ أنّهم كانوا يمثلون أعلى درجات السموّ الأخلاقي، وكان النبيّ منهم عندما يُنـزِل الله تعالى العذاب على الأمّة التي تمرّدت عليه، لا يقف شامتاً بهم، بل يقف حزيناً متألماً لهم، وكان يقول لهم: {ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} [الأعراف:79].
وهذا ما يتمثّل بأعلى درجاته بنبيّنا محمّد(ص) الذي لم يتحدّث الله تعالى عن نبيّ في صفته الأخلاقية كما تحدّث عنه، فقد قال الله تعالى في كتابه المجيد: {وإنّك لعلى خلق عظيم} [القلم:4]. فهو سبحانه لم يكتفِ بأن يمدح النبيّ في خلقه، بل تحدّث عن هذا الخلق بأنّه يتميّز بالعظمة، مما لا يقترب منه أحد.
وقد كان النبي(ص) يعيش أخلاقيته مع كل الناس، حتى إنّ القرشيين المشركين، كانوا قبل أن يُبعث(ص) بالرسالة، لا يقولون: "جاء محمّد وذهب محمّد"، بل يقولون: "جاء الصادق الأمين، وذهب الصادق الأمين"، حتى غلبت صفته الأخلاقية على اسمه.
وكان النبيّ(ص) يرحم كل الناس القريبين والبعيدين، وكان يقول عندما يتحدث عن أهله وعياله: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، باعتبار أن النبي(ص) كان يراعي مشاعر أهله. وقد أنزل الله تعالى في سورة التحريم آيةً تتحدّث عن أنّ النبي(ص) كان يمنع نفسه من بعض الأمور التي يشتهيها ويحبّها، فقط لأنّ بعض زوجاته كنّ يكرهنها، كبعض الطيب أو بعض الأكلات. ونحن علينا أن نقتدي بالنبي(ص) في ملاحظة مشاعر أهلنا؛ بأن يراعي الإنسان مشاعر زوجته وأولاده ورغباتهم في بعض الأمور، والعكس أيضاً، وقد ورد في بعض الأحاديث أن "المؤمن يأكل بشهوة أهله، والمنافق يأكل أهله بشهوته"، فالمؤمن هو الذي يحترم مشاعر أهله، فتكون رغبتهم هي التي تفرض نفسها على رغبته.
وقد ورد في القرآن الكريم ما يبيِّن لنا طريقة النبي(ص) وأسلوبه في مخاطبة الناس والعيش معهم، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ـ كان الليّن في لسانه وقلبه ـ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً ـ فظّ اللسان ـ غَلِيظَ الْقَلْبِ ـ لا تحمل الرحمة للناس في قلبك ـ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ـ فبطيب كلامك ورقّة قلبك استطعت أن تجذب الناس إليك ـ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. وقد سئلت إحدى زوجاته(ص) عن أخلاقه، فقالت: "كان خلقه القرآن".
حُسن الخُلُق
وقد اختصر النبي(ص) الإسلام بقوله: "الإسلام حُسنُ الخُلُق". وورد عنه(ص): "ثلاثٌ من لم تكنّ فيه فليس مني ولا من الله عزّ وجلّ". قيل: يا رسول الله، وما هنّ؟ قال: "حِلمٌ يردُّ به جهل الجاهل، وحُسن خُلُق يعيش به في الناس ـ أن يتميّز بالأخلاق الحسنة التي يعيش فيها مع أهله ومع الناس الذين يعيشون معه ويتعامل معهم ـ وورعٌ يحجزه عن معاصي الله".
وعنه(ص): "من حَسَّن خُلُقَه، بلّغه الله درجة الصائم القائم"، فكأن الإنسان الذي يحسّن خلقه مع الناس، قريبين كانوا أو بعيدين، يساوي في درجته عند الله درجة الصائم القائم. وعنه(ص): "إنّ العبد ليبلغُ بحُسنِ خُلُقه درجات الآخرة وشرف المنازل وإنه لضعيف العبادة"، فقد يكون في عباداته ممّن يقتصر على الفرائض فقط، ولكنّ الله تعالى يشرّف منـزلته في الآخرة لأنه حسّن خلقه مع الناس.
وفي حديث عن النبي(ص): "أول ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة حُسنُ خُلقِه"، قبل الصلاة والصوم والحج وأي عبادة أخرى. فالله تعالى يريد للإنسان أن يعيش بين الناس ليكون خيراً لهم كلهم، وليكون منفتحاً على قضاء حوائجهم. وعنه(ص): "إن أحبّكم إليَّ وأقربكم مني يوم القيامة مجلساً، أحسنكم خُلُقاً، وأشدّكم تواضعاً". وهو ما نقرأه في دعاء كميل بن زياد: "وفي جميع الأحوال متواضعاً". وعنه(ص): "ألا أنبئكم بخياركم؟"، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً ـ المتواضعون ـ الذين يألفون ويؤلَفون". وعنه(ص): "جعل الله سبحانه مكارم الأخلاق صلةً بينه وبين عباده، فحسبُ أحدكم أن يتمسّك بخُلُقٍ متّصلٍ بالله".
من مكارم الأخلاق
وورد في الحديث عن الإمام عليّ(ع): "إنّ من مكارم الأخلاق أن تصل من قَطَعَك ـ سواء كان رحماً أو غير رحم؛ أن تبقي قلبك مفتوحاً لتصله حتى لو قطعك ـ وتعطي من حَرَمَك، وتعفو عمّن ظَلَمك". وعن الإمام الصادق(ع)، عندما سُئل عن حدّ حُسن الخُلق، قال: "تليّن جانبك، وتطيّب كلامك، وتلقى أخاك ببشر حَسَن"، بحيث عندما تنفتح على الناس تكون مبتسماً، وهذه من صفات النبي(ص)، أنه كان دائم التبسّم للناس، وهو ما مدح به الفرزدق الإمام زين العابدين(ع):
يُغضي حياءً ويُغضى من مهابته فلا يُكلّم إلا حيـن يبتسـم
وعن الإمام الصادق(ع): "كان فيما خاطب الله تعالى نبيّه أن قال له: يا محمد، {وإنّك لعلى خُلُق عظيم}، قال(ع): السخاء وحُسنُ الخُلق". ومن وصية الإمام عليّ(ع) لصاحبه كميل بن زياد: "يا كميل، مُرْ أهلك يروحوا في كسب المكارم، ويدلجوا في حاجة من هو نائم، فوالذي وَسِع سمعُه الأصوات، ما من أحدٍ أودعَ قلباً سروراً إلا وخلَقَ اللهُ له من ذلك السرور لطفاً، فإذا نزلت به نائبةٌ جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردَها عنه كما تُطردُ غريبةُ الإبل".
لذلك علينا كمسلمين، ونحن نعيش في عالم كلّه حقد وعداوة وبغضاء، أن ننطلق من خلال القيمة الأساسية للإسلام، وهي أن نأخذ بمكارم الأخلاق، لتنطلق بيننا المحبة والرحمة والتكافل والتواصل والتضامن في كلّ قضايانا العامة والخاصة، سواء اختلفنا في المذاهب الإسلامية أو في الأحزاب والقبائل والعشائر والأعراق، لأن الإسلام يريد منا أن نبني مجتمعاً يتحرك فيه الإنسان على أساس العدل والسلام، وقد اختصر الله تعالى طريق النجاح، فقال سبحانه: {والعصر* إنّ الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [سورة العصر]. هذا هو الخطّ الذي يجب أن نأخذ به في أنفسنا وأهلنا ومجتمعنا والناس من حولنا، وبذلك نقتدي برسول الله(ص) الذي هو أسوتنا وقدوتنا.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الأنظمة العربية و القضية الفلسطينية
تعيش الأنظمة العربية، المتهالكة للانفتاح على حكومة العدو الجديدة، حالاً من الاضطراب السياسي، في ظلّ المتغيّرات الدولية، وما أفرزته الحرب العدوانية على غزة من نتائج على المستوى العربي والإسلامي... ولذلك تسعى جهدها لتحريك بعض الملفات بطريقة إعلامية وسياسية باتت مكشوفةً وواضحةً للجميع...
إن المشكلة الكبرى التي تصيب الواقع العربي الرسمي، تتمثل بالعقدة من فلسطين؛ هذه القضية التي تأبى أن تموت، وهذا الحق الذي يتمرّد على كل محاولات التناسي والنسيان، ولذلك تستمر هذه العقدة في التعبير عن نفسها في سياقات مختلفة ومتعددة، تقف على رأسها محاولة الاقتصاص من المقاومة المجاهدة في لبنان وفلسطين، والتي فتحت أعين العرب على مرحلة جديدة أُعيدت فيها القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وباتت الشعوب تدرك واقعية الشعارات في مسألة هزيمة العدو... وتلك هي الجريمة التي ارتكبتها فصائل المقاومة في كونها وضعت العالم العربي أمام خيارين: خيار العمل لتحرير فلسطين، أو خيار السعي للتحرر من فلسطين، وهو الخيار الذي ترى فيه معظم هذه الأنظمة حياتها واستمرارها.
إنني أقول لفصائل المقاومة المجاهدة في لبنان وفلسطين: إنه لشرفٌ كبير لكم أن تلاحَقوا تحت عنوان دعمكم للشعب الفلسطيني، وتبنّي قضيته التي تمثل أنصع قضية من قضايا التحرر على مستوى العالم كله... لقد أصبحت فلسطين ـ منذ زمن ـ المعيار الذي يسقط تحت قبّته المتواطئون والمنحرفون، ويرتفع نحو هامته الصادقون والمخلصون، فطوبى للمخلصين لهذا العنوان لأنهم في امتحان سياسي وإعلامي وأمني عظيم.
القدس: تهويد تحت مظلّة خداع المؤتمرات
ومن رحم هذا العنوان، يتجدد الخطر الصهيوني على المسجد الأقصى، في الحفريات المتجددة تحت أعمدته، وفي تدنيس المستوطنين المستمر له، إلى جانب الخطط الصهيونية التي بدأ العدو تنفيذها لتهجير المقدسيين وتهويد المدينة، في ظل صمت عربي وتواطؤ مشهود من أولئك الذين ربطوا مصير عروشهم بعربة الاحتلال، وأرادوا للقدس أن تكون رهينةً في حسابات التسوية التي لا تأتي.
وفي ظل هذا الواقع، نلمح استجداءً متواصلاً من بعض العرب للحديث مع رئيس وزراء العدو، والاتصال به، سواء من رئيس السلطة الفلسطينية أو غيره، فيما تتواصل عملية الخداع اليهودي المستمر منذ ما قبل مؤتمر أوسلو، لتستمر عملية القضم التدريجي لما تبقى من الضفة في بحر المستوطنات الذي تحوّلت الضفة فيه إلى جزر جغرافيةً للفلسطينيين يُراد لها أن تكون سجوناً كبيرة لهم، إلى جانب سجن غزة الذي يمثل السجن الأكبر في العالم، في ظل الحصار الذي يتفرّج عليه العالم بأسره.
إننا نتساءل أمام تأكيدات "ليبرمان" بأن كيانه غير ملزَم بالعملية التي انطلقت في "أنابوليس"، وأمام خطة نتنياهو بالحديث عن الجانب الاقتصادي فحسب: ماذا سيبقى للفلسطينيين من طرح الدولتين الذي يطرحه "أوباما"، والذي لا يزال رئيس السلطة الفلسطينية يعوّل عليه إلى جانب بعض العرب الذين يتخدّرون بالتصريحات والمؤتمرات، وينامون على حرير الكلمات الاستهلاكية الطائرة في الهواء؟!
المبادرة العربية للسلام: تشريع ومصادقة أمريكية
ومن جانب آخر، فقد اجتمع بعض وزراء الخارجية العرب في عمان لتحرير رسالة بالإنكليزية من صفحتين للرئيس الأمريكي، تتحدث ببعض التفاصيل حول المبادرة العربية التي تجاهلتها إسرائيل، وبقيت فوق الطاولة في انتظار العطف الإسرائيلي للقبول ببعض بنودها أو للتفاوض عليها... صحيح أنهم هددوا بأنها لن تبقى طويلاً في هذا الموقع، لكنهم يخافون من إنزالها إلى تحت الطاولة، لأن ذلك يجعلهم وجهاً لوجه أمام الموقف الصعب في مواجهة التحديات الإسرائيلية لكل الواقع العربي في ضعفه وهزاله وتمزّقه، وهذا ما لا يريدونه، لأنهم وضعوا المقاومة وراء ظهورهم، واعتبروا ممارستها جريمة يعاقب عليها القانون...
ولقد هدف هذا الاجتماع إلى تفويض الملك الأردني باسم هؤلاء الوزراء، وسط وَهْم الحديث عن ضغط يمارسونه على أوباما بصفته زعيماً في بلد معنيّ بما يسمى عملية السلام، لتحقيق الفرصة للمبادرة العربية التي يُراد لها أن تحصل على مصادقة أميركية، ولو ضمنية، حتى يفسح ذلك في المجال أمام العرب لمحاورة "ليبرمان" و"نتنياهو" من الباب العريض، وتلك هي غاية العرب في أن يستمعوا إلى كلمات أمريكية جديدة، وإنْ كانت مشفوعة بوعود كاذبة، وبتأييد مستمر لإسرائيل ومصالحها الاستراتيجية، مهما تغيّرت الأسماء والعناوين في الإدارات الأميركية المتعاقبة.
علينا أخذ العبرة من الحرب الأهلية اللبنانية
وفي لبنان، تعود إلينا ذكرى الحرب الأهلية الوحشية المجنونة التي انطلقت فيها التفجيرات القاتلة للمدنيين، والذبح على الهوية، وتقسيم البلد إلى مناطق معادية بعضها لبعض على أساس طائفي يستمد خطوطه وتعليماته من خلفيات إقليمية، أو من خلفيات دولية من خلال الصراعات الدولية في مرحلة الحرب الباردة.
إن على اللبنانيين أن يأخذوا العبرة من هذه الحرب المشؤومة، ويدرسوا أسبابها التي كانت تتحرك في التعقيدات الطائفية والأحقاد الحزبية، حتى لا يعود مثل هذا الجنون الأمني الطائفي الخاضع لتخطيط الآخرين الذين استغلوا الحريات اللبنانية لإثارة الفوضى، التي تحوّلت الأمور فيها إلى حرية القتل والتدمير والتهجير والتفجير، ليستبدلوا الحقد بالمحبة، والطائفية بالمواطنة، والصراع المعقَّد بالتنافس الحركي، ويدرسوا قانون الانتخاب المرتكز على التمثيل الطائفي، ويختاروا بدلاً منه قانوناً يوحِّد اللبنانيين في دائرة واحدة على أساس النسبية. وعليهم أيضاً أن يَخلصوا إلى تأسيس المجلس الدستوري الذي يمثل المعيار لسلامة الانتخابات أو عدم سلامتها، إضافةً إلى قانون محاكمة الوزراء وقانون "من أين لك هذا"، ليعود لبنان دولةً حضاريةً ذات إشعاع روحي وفكري وسياسي وثقافي، وقوةً عادلةً قادرةً يحكمها القانون الذي يتساوى فيه الجميع في حقوقهم وواجباتهم، ويعود إليه الذين هاجروا منه ليجدوا فيه العيش الكريم والفرص العملية، وليثمروا فيه كل ما يملكون من القدرات العلمية التي اكتسبوها في بلاد الاغتراب.
إننا نريد لبنان الدولة لا لبنان المزرعة، ولبنان الوطن لا لبنان الزعامات الطائفية التي تنفّذ سياسات الآخرين في النطاقين الإقليمي والدولي، وذلك من خلال مصالحها الطائفية والشخصانية والحزبية، كما نريد لبنان الفرح في صناعة المستقبل، لا لبنان المأساة الغارق في عصبيات الماضي ومتاهات الحاضر.